32/11/09


تحمیل
 كان الكلام في الدليل الذي أورده صاحب الجواهر (قده) حيث ذكر أن : " القضاء من مناصب السلطان الذي أمره الله تعالى بأن يقول : (لا أسألكم عليه أجراً) " وقد ناقشنا هذا الأمر .. ثم ذكر أن الله تعالى أوجب التأسّي بالنبي (صلى الله عليه وآله) وقد تُقرّب دلالة التأسّي على حرمة أخذ الأجرة في المقام ببيان أنه لا إشكال في كون النبي (صلى الله عليه وآله) قد مارس القضاء بين الناس كما لا إشكال أيضاً في كونه لم يأخذ أجراً عليه فوجوب التأسّي يقتضي أن نتأسّى به في هذا الأمر وهذا معناه أنه يجب علينا ترك أخذ الأجرة وهو يعني حرمة أخذ الأجرة على القضاء .
 ولكن من الواضح أنه لا يمكن الالتزام بهذا لأنه يؤدي إلى أن تنقلب كل المستحبات بل حتى المباحات التي يأتي بها النبي (صلى الله عليه وآله) إلى كونها واجبة علينا من باب التأسّي وهذا بيّن البطلان فلا بد أن يكون المقصود بالتأسّي هو اتّباع النبي (صلى الله عليه وآله) في العمل على الوجه الذي صدر منه فالعمل الذي صدر منه على وجه الوجوب - مثلاً - يفرض التأسّي علينا فيه أن نلتزم بهذا العمل ونعدّه واجباً ، والعمل الذي صدر منه على وجه الاستحباب فالتأسّي يفرض علينا أن نلتزم بكون هذا العمل مستحبّاً بغض النظر عن إتياننا به وعدمه فالمراد بالتأسّي بالنبي (صلى الله عليه وآله) إذاً هو اتّباعه في العمل على الوجه الذي صدر منه ، وكذا لو كان قد ترك عملاً مّا فالتأسّي به هو اتّباعه بالترك على الوجه الذي صدر منه هذا الترك فإذا ترك أخذ الأجرة على القضاء من باب أنه يحرم عليه أخذ الأجرة فلا إشكال أنه يُثبّت حرمة أخذ الأجرة غير أن هذا هو أول الكلام إذ من أين لنا أن نُثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) ترك أخذ الأجرة على القضاء لكونه حراماً فإن هذا هو محلّ النزاع ولا يمكن في البين إلا إثبات أنه (صلى الله عليه وآله) ترك أخذ الأجرة الذي هو أعمّ من الحرمة أو الجواز فيكون قد تركه تعفّفاً فالتأسّي لا يمكن أن يُثبَت به وجوب الفعل علينا إلا إذا أثبتنا أن الترك كان على وجه التحريم لا من باب التنزّه بل من باب الإلزام إلا أن إثبات هذا هو محلّ الكلام .
 وأما مسألة أن القضاء من المناصب الإلهية وأنه لا ينبغي أن يؤخَذ عليها الأجر فهذا الكلام يُستفاد من كلام الشيخ صاحب الجواهر وكذا السيد الماتن (قده) حيث ذكر هذا المعنى .
 وأقول : إنّا تارة نقول إن المقصود بالمناصب الإلهية المناصب التي جُعلت من قبل الشارع ولو بالواسطة عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله) أو أوليائه الكرام (عليهم السلام) بحسب الحاجة وأخرى نقول إن المقصود بها المناصب التي يُشترط فيها إذن الشارع .
 وعلى أحد هذين التفسيرين فلا إشكال في أن القضاء من جملة المناصب الإلهية لما سيأتي من أنه يُشترط فيه الإذن من قبل الشارع أو فقل إنه مجعول من قبل الله ولكن بوسائط إلا أن الكلام في إثبات أن المنصب الإلهي بهذا المعنى الوسيع - أي كونه مجعولاً من قبل الله تعالى ولو بوسائط أو مشروطاً بالإذن منه ولو ممثّلاً بالمجتهد الجامع للشرائط - لا بد أن يقع مجاناً ولا ينبغي أن يؤخذ عليه الأجر .. فهذه الكبرى الكلية ممنوعة خصوصاً ونحن نرى أن بعض المناصب بهذا المعنى يمكن أن نلتزم بجواز أخذ الأجرة عليها من قبيل الولاية على الحضانة التي هي أمر مشروط بإذن الشارع وكذا الولاية على بعض الأوقاف التي لا متولّي لها فهذا منصب مشروط بإذن الشارع أيضاً أو مجعول من قبله تعالى ولو بوسائط .. فإذا كان المقصود هذا المعنى فالقضاء وإن كان من المناصب الإلهية إلا أنه لا دليل على ضرورة أن تقع هذه المناصب بأحد المعنيين المتقدمين - مجاناً .
 وثالثة قد يُفسّر المنصب الإلهي بمعنى آخر وهو ما كان مجعولاً من قبل الله مباشرة كالنبوة والإمامة فهذه حتى لو سلّمنا أن هذه المناصب لا بد أن تقع مجاناً ولا ينبغي أن يؤخذ عليها الأجر إلا أن كون القضاء منها في حيّز المنع ، نعم .. القضاء من المناصب الشرعية التي يُشترط فيها الإذن ولكن ليس واضحاً أن المنصب الذي هو من هذا القبيل لا بد أن يقع مجاناً ولا يجوز أخذ الأجر عليه .
 إذاً هذا الدليل لا ينهض أيضاً لإثبات المدّعى .
 الدليل الرابع : رواية ليوسف بن جابر مروية في الباب الثامن الحديث الخامس من أبواب آداب القاضي ، وهذه الرواية يرويها الشيخ الطوسي (قده) بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد بن عيسى بن عبيد عن أحمد بن إبراهيم عن عبد الرحمن عن يوسف بن جابر : " قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه في امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إليه لفقهه [1] فسألهم الرشوة " [2] .
 والاستدلال بها في محلّ الكلام مستفاد من كلام الشيخ الأنصاري (قده) حيث يقول إن الرواية ظاهرة في تحريم أخذ الأجرة ولا علاقة لها بالرشوة - التي سيأتي الكلام عنها في المقام الثالث - وإن كانت قد وردت بهذا اللفظ .
 ولكنه (قده) لم يُبيّن ما هو الوجه في ذلك ولعله من جهة ما ورد في الرواية من قوله (عليه السلام) : (ورجلاً احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة) فإن الرشوة عادة لا تُسأل بل تُدفع ابتداءً من قبل الراشي وإن ما يسأله القاضي بحسب العادة هو الأجر على القضاء فالرشوة في الرواية يُراد بها على هذا هو الأجر .
 وأقول : لو تمّ هذا الاستظهار في هذه الرواية وأنها ناظرة إلى تحريم الأجرة على الشخص الذي يحتاج الناس إليه لفقهه الشامل لمحلّ الكلام لأنه لا بد في القضاء من الفقه والحكم الشرعي المستند إلى الأدلة الشرعية إلا أن الرواية من حيث السند غير تامة كما اعترف به الشيخ الأنصاري نفسه فلا يمكن الركون إليها لإثبات هذا المطلب ، نعم .. لو تم الاستظهار لكانت مؤيدة لما ذكرناه من حرمة أخذ الأجرة على القضاء .. وضعف سند الرواية هو من جهة يوسف بن جابر وأحمد بن إبراهيم فإنهما مجهولان وكون عبد الرحمن مردّداً بين الثقة وغيره .
 الدليل الخامس : وقد استدل به غير واحد من الفقهاء منهم الشيخ صاحب الجواهر (قده) وهو عبارة عن الأدلة الدالة على حرمة أخذ الرشوة على القضاء التي سيأتي استعراضها في المقام الثالث بناءً على أن الرشوة يراد بها مطلق ما يبذله المتحاكمان فتشمل الأجرة بل حتى الجعل لأنه أيضاً شيء يبذله المتخاصمان فإذا فسّرنا الرشوة بهذا التفسير العام فستكون الروايات الدالة على تحريم أخذ الرشوة على القضاء وعلى الحكم - كما سيأتي - دالة أيضاً على حرمة أخذ الرشوة على القضاء لأنها شيء يبذله المتخاصمان فتشمل الرشوة بالمعنى الاصطلاحي وتشمل الجعالة وتشمل الأجرة أيضاً وسيأتي في المقام الثالث تحقيق أن الرشوة هل هي بهذه السعة بحيث تشمل الجعالة والأجرة أم أنها معنى في قبالهما وسيتبيّن أن هذا الدليل ليس تاماً .
 هذه هي أهم ما استُدلّ به على عدم الجواز في المقام .. ولا يخفى أن مقتضى إطلاق ما تمّ من هذه الأدلة عدم الفرق في التحريم بين تعيّن القضاء وعدم تعيّنه فلا يختصّ التحريم بصورة تعيّن القضاء بل حتى لو كان القضاء واجباً كفائياً فلا يجوز أخذ الأجرة عليه بمقتضى إطلاق ما تم من هذه الأدلة وهو معتبرة عمار بن مروان المتقدمة وإن كان الشيخ الأنصاري ادّعى بأن هذه الرواية منصرفة إلى صورة تعيّن القضاء بالخصوص فلا يمكن حينئذ التمسّك بها لإثبات الحرمة في صورة عدم التعيّن ولذا التزم بالحرمة في خصوص صورة التعيّن .. إلا أن هذا الانصراف المدّعى ليس بذلك الوضوح فإن الوارد في الرواية هو : (أجور القضاة) وليس ثمة نكتة في هذا التعبير تقتضي اختصاص هذا العنوان بالقضاة الذين تعيّن عليهم القضاء فلم يُفهم ما هو مقصود الشيخ من دعوى الانصراف في هذه الرواية .
 هذا وإن الشيخ (قده) قد عدّ رواية ابن مروان ضعيفة سنداً ولعله لبعض الملاحظات التي تقدّمت فيها والتي دفعناها كما تقدّم ومنها أن عمار بن مروان مشترك بين الثقة وغيره وهذه لعلها أهم ملاحظة عندهم بالنسبة إلى هذه الرواية إلا أننا أشرنا إلى أن هذا المطلب غير تام وأثبتنا في بحث مستقل أن الأمر ليس كذلك .. وعلى أية حال فالرواية معتبرة سنداً عندنا ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين صورة تعين القضاء وعدمه .
 هذا من جهة .. ومن جهة أخرى فالظاهر أن التحريم لا يختص بالأجرة في مقابل الجعل بل يشمل كلا الأمرين من الأجرة والجعل وإن كان الوارد هو أجور القضاة إلا أن الأجر بحسب ما يُفهم منه عرفاً أعم من الأجر الاصطلاحي ومن الجعل في باب الجعالة فالمقصود بأجور القضاة هو ما يأخذونه في مقابل القضاء أجرة كان أو جعلاً وإن تباين مفهومهما في الاصطلاح الفقهي .
 كما أن الظاهر أن الحكم مطلق من ناحية أخرى غير ما ذكرناه من التعيّن وعدمه وهي الحاجة وعدم الحاجة بمعنى أنه تارة يُفرض كون القاضي مستغنياً وأخرى يُفرض كونه محتاجاً فالتحريم ثابت في كلتا الحالتين ولا يختصّ بصورة الغنى وعدم الحاجة ويمكن إثبات هذا باعتبار إطلاق الدليل من غير وجود أدنى قرينة على تخصيص القضاة بالاحتياج فإن الحاجة لا تبرّر ارتكاب الحرام بناءً على عدم جواز أخذ الأجرة على القضاء - لأنه يمكن سدّ الحاجة وتأمينها من جهات أخرى أهمها مسألة الارتزاق من بيت المال بناءً على ما تقدّم من جوازه - .
 ويؤيد ما تقدّم شهرةُ الحكم بحرمة أخذ الأجرة على القضاء مطلقاً أي مع التعيّن وعدمه - بل ادُّعي عليه الإجماع كما حُكي عن الشيخ الطوسي (قده) في أكثر من كتاب له وإن كانت المسألة خلافية والتفصيلُ بين صورة التعيّن وعدمه قول معروف بينهم .
 وعلى كل حال فما أدّى إليه النظر في هذا المقام هو الحرمة مطلقاً سواء مع التعيّن وعدمه أو مع الحاجة وعدمها .
 هذا كله في المقام الثاني .
 المقام الثالث : تحريم أخذ الرشوة على القضاء .
 وهذا الحكم مما اتّفق عليه علماء الفريقين ولا إشكال فيه عندهم بل هو على حدّ جعله من ضروريات الدين وممّا أطبق عليه الكل .. وهذا المقدار كافٍ في إثبات هذا الحكم فلا نحتاج في المقام إلى البحث عن أدلة مثبتة له وإن كانت الأدلة غير قاصرة لإثباته .
 هذا .. ومن جملة الأدلة التي ذُكرت - غير الروايات - قوله تعالى : (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) [3] فاستدلّ بهذه الآية غيرُ واحد من فقهائنا الأعلام .
 ووجه الاستدلال أن المقصود بالإدلاء بالأموال إلى الحكّام هو الرشوة على الحكم التي تكون سبباً في أكل الدافع لها أموالاً لا يستحقها حيث إن الضمير في (بها) يعود إلى الأموال والفعل (تُدلوا) معطوف على (تأكلوا) المنهي عنه بـ (لا) فيكون مثله منهياً عنه والمقصود بالحكّام هم القضاة والمراد بـ (فريقاً من أموال الناس) هو مقدار منها ، والمعنى إجمالاً هو النهي عن الإدلاء بالأموال إلى الحكّام لغرض أن يؤكل بها مقدار من أموال الناس من غير استحقاق ومعنى هذا تحريم الرشوة في القضاء وهو المطلوب .
 ويمكن أن يقال إنه يُفهم من الآية الشريفة أن الأموال التي تصل إلى الإنسان هي أموال محلّلة إلا في إحدى حالتين :
 الأولى : أن يأكلها بالباطل فنُهيَ في الآية المباركة عن أن يأكل أحدٌ أموال غيره من دون استحقاق فإنها أموال محرّمة لا تدخل في ملكه ولا يجوز له التصرف فيها .
 الثانية : الحصول على الأموال نتيجة الرشوة بأن يُعطي للحاكم مالاً لكي يحكم لصالحه من غير استحقاق فهذه الأموال التي يحصل عليها نتيجة الرشوة والإدلاء إلى الحكّام هي أموال محرّمة لا تدخل في ملك الراشي .
 وهذا السبب الثاني لأكل المال الحرام هو محلّ الكلام .
 هذا .. مضافاً إلى الروايات المستفيضة المتواترة - كما ادُّعي في تحريم الرشوة على القضاء :
 منها : معتبرة عمار بن مروان المتقدمة حيث يقول (عليه السلام) في ذيلها : " فأما الرشا يا عمار في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم ورسوله صلى الله عليه وآله " .
 ومنها : موثقة سماعة المروية في الباب الثامن من الوسائل في آداب القضاء الحديث الثالث : " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : الرشا في الحكم هو الكفر بالله " [4] .
 ومن هنا يظهر أنه لا إشكال في الحكم بالتحريم ولا يمكن التشكيك فيه ولا نحتاج كما ذكرنا إلى أدلة لإثباته وإنما عمدة الكلام هنا يقع في تحديد الموضوع وهو أنه ما هو المقصود بالرشوة التي لا إشكال في تحريمها فهل هي مختصّة بالحكم ولا تشمل غيره من الموارد ، وهل تشمل الجعالة والأجرة كما أشرنا إلى ذلك أم أن لها معنى آخر في قبال ذلك ، ثم هل يُعتبر فيها شيء ؟
 فالكلام تارة يقع في تحديد مفهوم الرشوة عرفاً واصطلاحاً بقطع النظر عن حكمها وهو الحرمة ، وأخرى يقع في تحديد المراد بالرشوة المحرّمة التي تم الاتفاق على تحريمها .
 
 


[1] هكذا في التهذيب ولكن في الوسائل (مج27 ص223) : لتفقّهه .
[2] التهذيب مج6 ص224 .
[3] البقرة / 188 .
[4] الوسائل مج27 ص222 .