37/04/28
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية
كان الكلام في الإشكال الذي يرِد على التزام الفقهاء بلا إشكال بصحة عمل الجاهل في الفروع المتقدمة وفي نفس الوقت يلتزمون باستحقاقه للعقاب على ترك الواقع، فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين ؟
قلنا أنّ هذا له أجوبة، وكان الكلام في الجواب الثاني الذي كان هو مسألة الالتزام بالترتب، وقلنا أنّه أجيب عليه بوجوه:
الوجه الأول: هو الذي نقلناه عن المحقق النائيني(قدّس سره) ومرجعه إلى أنّ الأمر الترتّبي في المقام لا يُعقل وصوله إلى المكلف، وبالتالي لا يمكن جعله، وذلك باعتبار أنّ الأمر بالتمام في محل الكلام موضوعه الجاهل العاصي؛ لأنّ الأمر الترتّبي كما يقول المحقق النائيني(قدّس سره) مشروط بعصيان الأهم، فهو يختص بمن يعصي الأهم، وحيث أنّ المفروض أيضاً أنّ الأمر الترتّبي يختص بحالة الجهل بوجوب القصر، فيكون موضوع الأمر الترتّبي هو الجاهل بوجوب القصر العاصي له.[1]
المحقق النائيني(قدّس سره) يقول هذا غير معقول؛ لأنّ المكلّف حينما يخاطب بالأمر الترتّبي هو لا يخلو من أحد احتمالين لا ثالث لهما، هو إمّا أن نفترض أنه يلتفت إلى كونه عاصياً لوجوب القصر، وإما أن لا يلتفت إلى ذلك، إذا التفت إلى كونه عاصياً لوجوب القصر، فسوف يخرج عن كونه جاهلاً بوجوب القصر، سوف يلتفت إلى أنّ هناك وجوب للقصر وهو مكلف به وهو يعصي هذا الوجوب، وسوف يخرج عن كونه جاهلاً وصار عالماً بوجوب القصر، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يشمله الخطاب بوجوب التمام؛ لما قلناه من أنّ موضوع هذا الخطاب هو الجاهل بوجوب القصر، أمّا العالم به، فلا يسمله الخطاب. وإذا فرضنا أنه حين توجه الخطاب إليه بوجوب التمام هو غير ملتفت إلى عصيانه لوجوب القصر؛ حينئذٍ لا يمكن أن يوجّه إليه الخطاب بالتمام؛ لأنّ موضوع هذا الخطاب كما قلنا هو العاصي، وهذا الشخص لا يصدّق أنه عاصٍ إذا لم يكن ملتفتاً إلى عصيانه لوجوب القصر، كما إذا فرضنا أنّه كان معتقداً بأنّ التمام هو الذي يجب عليه، وهذه حالة شائعة وليست نادرة، والجاهل في هكذا حالة يُراد به من يعتقد بوجوب التمام عليه، بمعنى أنّه يرى أنّه لا فرق بين المسافر وبين الحاضر كما أنّ الحاضر يجب عليه التمام، هو يرى أنّ المسافر يجب عليه التمام، فإذا كان يعتقد بوجوب التمام ولا يلتفت إلى عصيانه لوجوب القصر، مثل هذا لا يمكن أن يوجه إليه الخطاب المختص بالعاصي؛ لأنّه لا يلتفت إلى أنه عاصٍ، يعني هو لا يصدّق أنه عاصٍ حتى يُخاطب بخطاب التمام المختص بالعاصي . ومن هنا يقول أنّ مثل هذا الخطاب لا يمكن أن يصل إلى مثل هذا المكلف، وبالتالي لا يمكن جعل مثل هذا الخطاب في محل الكلام.
ويمكن أن يُضاف إلى ذلك محذور آخر غير ما ذكر: بناءً على رأيه من أنّ الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم؛ حينئذٍ يمكن أن يضاف محذور آخر وهو أنّه يلزم من توجيه الخطاب بالأمر الترتّبي إلى هذا المكلف طلب الحاصل، وذلك باعتبار أنّ عصيان الأمر بالقصر وفوات امتثاله إنما يكون بالإتيان بالتمام، ما دام الوقت باقياً لا يكاد يتحقق عصيان الأمر بالقصر، وإنّما يتحقق عصيان الأمر بالقصر مع فرض بقاء الوقت كما هو المفروض، إذا جاء بالتمام؛ فحينئذٍ لا يتمكن أن يستوفي تمام المصلحة الموجودة في وجوب القصر، فيفوت عليه القصر، فيكون عاصياً له، عصيان الأمر بالقصر إنما يتحقق بالإتيان بالصلاة التامة في الوقت، فإذا جاء بالصلاة التامة في الوقت؛ عندئذٍ يتحقق عصيان الأمر بالقصر، نحن لا نتكلّم في فرض خروج الوقت ولم يأتِ بصلاة القصر، فيتحقق عصيانها بخروج الوقت، وإنّما نتكلم في داخل الوقت، متى يعصي الأمر بالقصر ؟ إذا أتى بالتمام والوقت باقٍ فلا عصيان للأمر بالقصر، إنما يعصي الأمر بالقصر إذا جاء بالتمام وفوّت على نفسه إدراك المصلحة التامة الموجودة في القصر؛ عندئذٍ يكون عاصياً للأمر بالقصر ما دام الوقت باقياً. إذاً: عصيان الأمر بالقصر يتحقق بالإتيان بالصلاة التامة؛ وحينئذٍ يقال أنّ الأمر بالتمام مشروطاً بعصيان الأمر بالقصر هو طلب للحاصل وهو محال؛ لأنّ مرجع ذلك إلى أنّه يجب عليك الإتيان بالتمام إذا عصيت الأمر بالقصر، يعني إذا جئت بالصلاة التامّة يجب عليك التمام، وهذا طلب للحاصل وهو غير معقول، فيمكن أن يضاف محذور آخر إلى ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سره) بناءً على أنّ الأمر الترتّبي مشروط بعصيان الأمر بالأهم.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) لم يرتضِ هذا الوجه، وأجاب عنه،[2] ذكر بأنّ الأمر الترتّبي لا يتوقف على الالتزام بكونه مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم؛ بل يمكن أن نلتزم بالخطاب الترتبي مع كونه مشروطاً بترك الأهم لا بعصيانه، فيجب عليه التمام إذا ترك القصر وليس إذا عصا الأمر بالقصر، إذا عصا الأمر بالقصر ترِد المشكلة التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سره) بأنّ مثل هذا المكلف لا يلتفت إلى كونه عاصياً للأمر بالقصر، فهذا الخطاب لا يُعقل أن يكون شاملاً له؛ لأنّه لا يُصدّق أنّه عاصٍ إذا لم يلتفت إلى عصيانه، وإذا التفت يخرج عن كونه جاهلاً بوجوب القصر؛ بل يصبح عالماً به. إذاً: على كلا التقديرين الخطاب الترتبي لا يشمل هذا المكلف، فلا يُعقل جعله في المقام. ويقول: أنّ هذا كلّه مبني على افتراض أنّ الأمر الترتّبي مشروط بعصيان الأمر بالأهم، أمّا إذا قلنا بعدم اشتراط ذلك؛ بل يتحقق الأمر الترتّبي إذا كان مترتباً على ترك الأمر بالأهم؛ فحينئذٍ لا يرِد هذا الإشكال؛ لأنّ المكلف الجاهل بوجوب القصر يمكن فرض التفاته إلى ترك القصر، المكلف الجاهل بوجوب القصر لا يُعقل فرض التفاته إلى العصيان؛ لأنّه بمجرّد التفاته إلى عصيانه لوجوب القصر يخرج عن كونه جاهلاً، فلا يمكن الجمع بين جهله بوجوب القصر وبين التفاته إلى عصيانه له، بينما إذا قلنا أنّ الشرط هو ترك الأمر بالأهم؛ فحينئذٍ لا مشكلة في أن نجمع بين كونه جاهلاً بوجوب القصر وبين كونه ملتفتاً إلى أنّه تارك للقصر، فهذا مكلّف جاهل بوجوب القصر وملتفت إلى أنّه تارك للقصر، فيتوجه إليه خطاب الأمر الترتّبي، فيقال له أيها الجاهل التارك للقصر يجب عليك التمام، ولا يلزم من ذلك أن نفترض خروجه عن كونه جاهلا بوجوب القصر؛ لأنّ الجاهل بوجوب القصر يمكن أن يلتفت إلى أنّه تارك للقصر، فيتوجه إليه خطاب الأمر الترتّبي، خطاب وجوب التمام.
هذا الكلام للسيد الخوئي(قدّس سرّه) الظاهر أنّه لا يرفع الإشكال، يعني تبديل ما يؤخذ في موضوع خطاب التمام، أي خطاب المهم، من عنوان العصيان إلى عنوان الترك، الظاهر أنّه لا يرفع الإشكال، باعتبار أنّ الأمر بالتمام، سلّمنا أنّه مشروط بترك الأمر بترك القصر وليس بالعصيان، لكن هذا الأمر بالتمام المشروط بترك القصر إذا فرضنا أنّه وصل إلى المكلف، الظاهر أنّ لازم هذا أنّه يلتفت إلى أنّ هناك وظيفة أولية وما أُمر به مترتب على تركها؛ لأنّه وصل له الخطاب بالتمام وقيل له يجب عليك التمام إذا تركت القصر، هذا بمجرّد أن يصل إليه، الظاهر أنّه يلتفت إلى أنّ هناك وظيفة أولية وهي وجوب القصر، وأنّ وجوب التمام الذي وصل إليه هو مترتب على ترك هذه الوظيفة الأولية، بالنتيجة سوف يلتفت إلى وجوب القصر وإلى أنّ هناك وظيفة أولية تتعلق بالقصر بالنسبة إليه وهو مسافر، وبالتالي يلزم نفس المحذور وهو أنّه يخرج عن كونه جاهلاً بوجوب القصر، ويصبح عالماً به، فأيّ فرقٍ بين أن نقول أنّ الشرط هو عصيان الأمر بالقصر، أو نقول أنّ الشرط هو ترك القصر ؟! كلٌ منهما إذا وصل إلى المكلف سوف يلتفت إلى أنّ هناك واجب أولي ووظيفة أولية وهي وجوب القصر، وإذا التفت؛ حينئذٍ سوف يخرج عن كونه جاهلاً بوجوب القصر، ويصبح عالماً به؛ فحينئذٍ لا يتوجّه إليه هذا الخطاب ولا يمكن أن يكون هذا الخطاب داعياً له إلى الفعل؛ لأنّه أصبح عالماً بوجوب القصر، والعالم بوجوب القصر لا يُخاطب بوجوب التمام، فتبديل العنوان من العصيان إلى الترك الظاهر أنّه لا يدفع الإشكال.
ويمكن بيان هذا المطلب بعبارة أخرى: وهو أن يقال أنّ المقصود بالجاهل في محل الكلام الذي أُخذ في موضوع الأمر الترتّبي هو من يعتقد بوجوب التمام، وليس المقصود بالجاهل في المقام هو المتردد في أنّه هل يجب عليه القصر أو يجب عليه التمام، هذا ليس حكمه التمام، المسافر الذي يتردد الذي لا يعلم بأنّ حكمه وجوب القصر، أو أنّ وظيفته هي التمام، هذا المتردد لا يقال أنّه إذا صلّى تماماً تصح منه الصلاة، الذي تصح منه الصلاة إذا صلّى تماماً هو الجازم بأنّ وظيفته هي التمام، هذا هو المراد بالجاهل في محل الكلام، كما قلنا بأنّ هذا يعتقد بعدم الفرق بين حضوره وبين سفره، أو كما عبّرت الرواية(ما قرأت عليه آية التقصير)، هذا الجاهل المركب بوجوب القصر، يعني المعتقد بوجوب التمام، هذا هو الذي نقول إذا صلى تماماً يقال أنّ صلاته صحيحة ونتكلّم عنه في المقام، فبالتالي لابدّ من تقييد الأمر الترتّبي باعتقاد وجوب التمام، بمعنى أنّ هذا لابدّ من أخذه قيداً في موضوع الأمر الترتّبي، أصلاً موضوع الأمر الترتّبي هو الجاهل بوجوب القصر، يعني نبدّل عبارة(الجاهل بوجوب القصر) بعبارة(المعتقد لوجوب التمام)، إذا قيدناه بذلك حينئذٍ يقال كبيانٍ آخر لما يريد أ، يقوله المحقق النائيني(قدّس سره): حينئذٍ لا يمكن أن يكون الأمر بالتمام محرّكاً لمثل هذا المكلّف؛ لأنّ الأمر الترتّبي بالتمام مقيّد باعتقاد وجوب التمام، هذا المكلّف بقطع النظر عن الأمر الترتبي هو يعتقد بوجوب التمام، هو يتحرّك عن اعتقاده بوجوب التمام، فهو يأتي بالتمام باعتبار أنّه يعتقد بوجوب التمام ويرى بأنّ وظيفته هي التمام، فهو يتحرك عن هذا الاعتقاد؛ حينئذٍ جعل وجوب ترتبي طولي عليه مقيّد باعتقاد وجوب التمام يصبح لغواً وبلا فائدة؛ وحينئذٍ يمكن أن يقال بأنّ جعل الأمر الترتّبي في المقام فيه هذا المحذور أيضاً، وهذا غير المحذور السابق، وخلاصة الكلام: لكي يتم كلام المحقق النائيني(قدّس سره) يمكن أن يقال أنّ شمول الأمر الترتبي للمقام فيه محاذير:
المحذور الأول: المحذور الذي هو ظاهر كلام المحقق النائيني(قدّس سره) وهو المحذور الذي يتلخّص بأنّ هذا المكلّف لا يمكن أن يكون خطاب الأمر الترتّبي شاملاً له؛ لأنّ هذا المكلف إن كان ملتفتاً إلى عصيانه للأمر بالقصر؛ فحينئذٍ سوف يخرج عن كونه جاهلاً ويصبح عالماً بوجوب القصر، فلا يشمله الخطاب الترتبي، فلا فائدة من جعله. وإن لم يكن ملتفتاً إلى عصيانه لوجوب القصر؛ حينئذٍ هو لا يصدّق أنّه عاصٍ لشيء ولا يرى نفسه عاصياً، فالخطاب لا يمكن أن يشمله؛ لأنّه لا يرى نفسه عاصياً ولا يصدّق أنّه عاصٍ، فإذاً: في كلتا الحالتين الخطاب الترتبي لا يشمله، فلا يُعقل جعله.
المحذور الثاني: هو محذور اللّغوية، إنّ جعل الخطاب الترتبي في حق هذا المكلّف المعتقد بوجوب التمام لتحريكه نحو التمام هو لغو؛ لأنّ اعتقاده وقطعه بوجوب التمام يحرّكه نحو الإتيان بالتمام بلا حاجة إلى جعل أمرٍ بالتمام مشروطٍ ومترتبٍ على ترك الأمر بالقصر.
المحذور الثالث: وهو محذور طلب الحاصل، أيضاً يمكن أن يجري في المقام حتى إذا قلنا أنّ الأمر الترتّبي ليس مشروطاً بالعصيان، وإنّما مشروط بترك القصر، نفس الكلام الذي قلناه في العصيان يأتي هنا أيضاً، ترك القصر يتحقق مع بقاء الوقت بالإتيان بالتمام؛ حينئذٍ يكون قد ترك القصر، فترك القصر لا يتحقق ما دام الوقت باقياً، وإنّما يتحقق بالإتيان بالتمام، فإذا كان وجوب التمام مشروطاً بترك القصر، يعني أنّه مشروط بالتمام، فيلزم من الأمر بالتمام المشروط بالتمام طلب الحاصل، فيلزم المحال.
إذاً: هناك ثلاثة محاذير على تطبيق فكرة الترتب في محل الكلام، وتبديل العنوان المأخوذ في موضوع الأمر الترتّبي من العصيان إلى الترك لا يكون نافعاً في دفع هذا المحذور.