37/04/13
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية
كان الكلام في مقدار الفحص الواجب من ناحية الظهور والدلالة، ذكرنا أنّ الظاهر أنّ مقدار الفحص الواجب هو المقدار المتعارف في هذا المجال الذي يُكتفى فيه بإعمال الخبير نفسه خبراته العلمية وبذل جهده في هذا المجال لتشخيص الظهور، وقلنا قد يدخل في ذلك مراجعة خبرات من تقدّم عليه، أمّا ما هو أزيد من ذلك كما مثّلنا في الدرس السابق، بمعنى أنّه لو احتمل أنّه إذا راجع من هو أعلم منه لعلّه تتبيّن له بعض النكات المؤثرة في الاستظهار ممّا هو غافل عنها، فهل يجب عليه المراجعة بحيث يمتنع من إجراء البراءة إلى أن يراجع هذا الغير الذي يحتمل فيه ذلك، أو لا ؟ قلنا أنّ الظاهر عدم وجوب هذا المقدار. أمّا بناءً على أنّ الصل في وجوب الفحص هو ادعاء انصراف أدلة البراءة عمّا قبل الفحص للارتكاز العقلائي على ما تقدّم، فالاكتفاء بهذا المقدار من الفحص في مقام تشخيص الظهور والدلالة يكون واضحاً باعتبار أنّ العقلاء يكتفون في الفحص بهذا المقدار ولا يرون لزوم أكثر من هذا المقدار؛ فحينئذٍ يمكن الرجوع إلى إطلاق أدلة البراءة باعتبار أنّ المقيّد لإطلاق أدلة البراءة هو هذا الارتكاز، وهو الذي أوجب انصراف أدلّة البراءة عمّا قبل الفحص، فإذا قلنا أنّ ارتكازات العقلاء تكتفي بهذا المقدار من الفحص ولا ترى لزوم ما هو أكثر من ذلك؛ حينئذٍ يمكن الرجوع في ما هو أكثر من ذلك إلى أدلّة البراءة؛ لأنّ المانع من التمسك بإطلاق البراءة هو هذا الارتكاز، فإذا فرضنا أنّ الارتكاز يُكتفى فيه بهذا المقدار وقد جاء به؛ فحينئذٍ لا يجب عليه الفحص في ما زاد على ذلك بحسب الارتكاز ويجوز له التمسّك بإطلاق أدلّة البراءة في ذلك.
وأمّا بناءً على الوجه الثالث المتقدّم من وجوه قصور المقتضي لإثبات أصل وجوب الفحص، فأيضاً نقول الاكتفاء بهذا المقدار من ناحية الظهور والدلالة أيضاً يكفي، وذلك باعتبار ظهور حال النبي(صلّى الله عليه وآله) وظهور حال الأئمة(عليهم السلام) إنّما يقتضي الاهتمام بالوصول إلى الأحكام الشرعية بالنحو المتعارف أيضاً ولا يقتضي الاهتمام أكثر من ذلك، يقتضي الاهتمام بالوصول إلى الحكم الشرعي من ناحية السند والدلالة بالمقدار المتعارف، فإذا فرضنا أنّ المقدار المتعارف هو هذا الذي ذكرناه؛ فحينئذٍ يُكتفى بهذا المقدار من الفحص ولا يجب الفحص أكثر منه، باعتبار أنّ احتمال الاهتمام من قِبل الشارع بأكثر من ذلك المقدار غير معتبر، وهكذا بناءً على الوجه الثاني من وجوه بيان المانع الذي هو أخبار وجوب التعلّم التامّة على ما تقدّم سابقاً، هذا أيضاً نفس الكلام نقوله، باعتبار أنّ أخبار وجوب التعلّم والسؤال في الحقيقة تنصرف إلى السؤال والتعلّم المتعارف بالشكل المتعارف عنده بين العقلاء؛ ولذا قلنا أنّه يصدق على المجتهد الذي يفحص بالمقدار الذي ذكرناه ولا يرجع إلى الأعلم لاحتمال أنّه يبيّن له نكتة، يصدق عليه أنّه سأل وفحص وكل هذه العناوين تصدق في حقه ولا يتوقف صدقها على أن يراجع من هو أعلم منه لاحتمال أنّه ينبهه على نكتة.
المطلب الأخير الذي ذكرناه هو مسألة أنّه في بعض الأحيان قد يحصل للمجتهد علم إجمالي بأنّه إذا راجع من هو أعلم منه في جميع المسائل الشرعية، فسوف يتبدّل رأيه في جملة من هذه المسائل؛ إذا حصل له مثل هذا العلم الإجمالي؛ حينئذٍ قد يقال بأنّ هذا يمنع من الرجوع إلى البراءة في كل مسألة؛ وذلك لأنّ كل مسألة تصبح طرفاً لهذا العلم الإجمالي؛ لأنّ كل مسألة هو يحتمل أنّها من المسائل التي علم بأنّه إذا رجع إلى من هو أعلم منه فسوف تتبدل فتواه ويتغيّر رأيه، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة؛ بل يجب عليه أن يبحث مع الأعلم حتى يزول هذا العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ يجوز له الرجوع إلى البراءة.
هذا الكلام إنّما يصح على تقدير أن يكون مثل هذا العلم الإجمالي مستكملاً لشرائط التنجيز، لكن الظاهر أنّه ليس كذلك لكون الشبهة غير محصورة؛ لأنّه يعلم بأنه لو راجع الأعلم لتبدل رأيه في جملة من المسائل التي تبدأ من بداية الطهارة إلى آخر الديّات، هذه شبهة غير محصورة و العلم الإجمالي فيها لا يكون منجزاً ولا مستكملاً لشرائط التنجيز، فالظاهر أنّه لا يمنع من إجراء البراءة. نعم، إذا استكمل شرائط التنجيز لا بأس بأن يقال أنّه يكون مانعاً من إجراء البراءة باعتبار أنّ كل مسألةٍ هي طرف من أطراف هذا العلم الإجمالي المنجّز بحسب الفرض.
الأمر الثاني: تبيّن مما تقدم أنّ البراءة لا تجري في الشبهات الحكمية قبل الفحص، الكلام يقع في أنّ هذا الأمر هل يسري إلى سائر الأصول العملية المؤمّنة، أو أنّ هذا الأمر يختص بالبراءة الشرعية ؟ من قبيل استصحاب عدم التكليف، هل يجوز للمجتهد أن يرجع الاستصحاب النافي للتكليف قبل الفحص، أو لا يجوز له ذلك ؟ كما هو الحال في البراءة ؟ وهكذا الكلام حتى في أصالة الطهارة أيضاً يجري هذا الكلام، أصالة الطهارة في الشبهات الحكمية هي أصل مؤمن نافي، فهل يشترط في جريان اصالة الطهارة في الشبهات الحكمية الفحص ولا يجوز إجراؤها قبل الفحص، أو لا ؟ وهكذا الحال في بعض الأصول الأخرى من قبيل أصالة التخيير الثابتة في موارد دوران الأمر بين المحذورين، أيضاً يقال هل يُشترط في جريانه الفحص، أو لا ؟
الظاهر أنّه لا إشكال عندهم في أنّ هذه الأصول المؤمنة كلها مشروطة بالفحص كما هو الحال في البراءة الشرعية. بالنسبة إلى أصالة التخيير هي أصل عقلي، فالحاكم بالتخيير هو العقل في موارد دوران الأمر بين المحذورين، وملاك حكم العقل بالتخيير هو عجز المكلف عن إحراز الامتثال القطعي؛ لأنّه إمّا يفعل أو يترك، إذا فعل لا يحرز الامتثال القطعي، وإذا ترك أيضاً لا يحرز الامتثال القطعي، فلا يمكن إحراز الامتثال القطعي، أمّا الامتثال الاحتمالي فلابدّ منه على كل حال، فباعتبار عجز المكلّف عن إحراز الامتثال القطعي يحكم العقل بالتخيير بين الأمرين. المكلّف قبل الفحص يحتمل قدرته على إحراز الامتثال القطعي؛ لأنّه يحتمل أنّه بالفحص سوف يعثر على دليل يُشخّص له ما هو التكليف، إمّا الوجوب أو الحرمة؛ وحينئذٍ إذا شخّص له التكليف بإمكانه أن يمتثله وبذلك يحرز الامتثال القطعي للتكليف. إذاً: هو قبل الفحص يحتمل القدرة على إحراز الامتثال، واحتمال القدرة على إحراز الامتثال احتمال منجّز، احتمال العجز عن إحراز الامتثال ليس مؤمّناً، فيجب على المكلّف حينئذٍ؛ لأنّه يحتمل القدرة على إحراز الامتثال بالفحص ولا يسوغ له بنظر العقل أن لا يجري الفحص ويتمسك بالتخيير.
بعبارةٍ أخرى: العقل لا يحكم بالتخيير في هذه الحالة قبل الفحص، وإنّما يحكم بالتخيير بعد الفحص وعدم العثور على ما يثبت التكليف؛ لأنّه قبل الفحص يحتمل القدرة على إحراز الامتثال القطعي وما دام هو يحتمل القدرة، احتمال القدرة في هذا المجال يكون منجزاً بنظر العقل؛ وحينئذٍ لا يجوز له أن يترك الفحص ويتمسك بأصالة التخيير؛ بل يجب عليه أن يفحص، فأن لم يصل إلى نتيجة؛ عندئذٍ يحكم العقل بالتخيير بملاك العجز، وأمّا قبل ذلك، فالعقل يقول ما دمت تحتمل القدرة على إحراز الامتثال القطعي؛ حينئذٍ يجب عليك الفحص ولا يجعل في حقه التخيير بين الأمرين، وإنّما يلزمه بالفحص والسؤال؛ بل يمكن أن يقال في جميع الأصول العقلية المؤمّنة أنّها لا تجري قبل الفحص، باعتبار أنّ الأصول العقلية المؤمّنة هي دائماً مقيّدة بعدم البيان؛ وحينئذٍ لا يمكن للمكلّف أن يحرز موضوع هذه القواعد العقلية والأصول العقلية المؤمّنة إلاّ بالفحص مع وضوح أنّ طريقة الشارع في تبليغ وإيصال الأحكام إلى المكلفين هي أن يجعلها في معرض الوصول لا أن يوصلها إلى مكلف مكلف، والمكلف قبل أن يفحص لا يمكنه أن يحرز عدم البيان على الحكم الشرعي، بينما إذا فحص ولم يجد يمكنه إحراز عدم البيان، وهذا معناه أنّ كل الأصول العقلية المؤمّنة التي هي مشروطة بعدم البيان لا تجري قبل الفحص لعدم إحراز موضوعها، وإنّما يمكن إحراز موضوعها الذي هو عدم البيان بعد الفحص. هذا بالنسبة إلى اصالة التخيير.
وأمّا بالنسبة إلى الاستصحاب النافي للتكليف، هل يجري أو لا يجري قبل الفحص ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) عنده عبارة ذكرها في ذيل الوجه الذي اختاره لإثبات وجوب الفحص وعدم جواز إجراء البراءة الشرعية قبل الفحص، قال:(وبما ذكرناه ظهر اختصاص أدلة الاستصحاب أيضاً بما بعد الفحص).[1] فكأنه نفس السبب الذي أوجب اشتراط الفحص في إجراء البراءة الشرعية هو أيضاً يوجب اشتراط الفحص في التمسك بخطاب الاستصحاب النافي للتكليف. الوجه الذي ذكره سابقاً كان عبارة عن دعوى أنّ أخبار وجوب التوقف بعضها مطلقة، لكن بعضها مختصة بما قبل الفحص، هذه الأخبار المختصة التي تأمر بالتوقف قبل الفحص نسبتها إلى أخبار البراءة في البحث السابق وأخبار الاستصحاب في محل كلامنا نسبة الخاص إلى العام؛ لأنّ أخبار البراءة تقتضي إجراء البراءة قبل الفحص وبعد الفحص، وأخبار الاستصحاب أيضاً مطلقة تشمل ما قبل الفحص وما بعد الفحص، بينما أخبار التوقف تقول في ما قبل الفحص يجب التوقف، فهذه الأخبار أخص مطلقاً من أخبار الاستصحاب، فتخصصها، فتُحمل أخبار الاستصحاب على ما بعد الفحص، فتكون نسبتها إلى أخبار التوقف المطلقة نسبة الخاص إلى العام، فتنقلب النسبة، أخبار الاستصحاب قبل تخصيصها مع أخبار التوقف كانت النسبة بينهما هي التباين، لكن هذه النسبة تنقلب بعد تخصيص أخبار الاستصحاب بما بعد الفحص؛ لأنّ هناك بعض أخبار التوقف تدل على وجوب التوقف في خصوص ما قبل الفحص، فإذا خصصتها تنقلب النسبة بينها وبين أخبار التوقف، فتكون أخص مطلقاً منها؛ فحينئذٍ تُحمل أخبار التوقف على صورة ما قبل الفحص؛ فحينئذٍ يجب الفحص ولا يجري الاستصحاب قبل الفحص. إذاً: أخبار الاستصحاب لا تجري قبل الفحص، وهو المطلوب. هذا المطلب تقدّم سابقاً، وتقدّم مناقشته أيضاً، فلا داعي للإعادة، ويظهر مما تقدّم أنّ هذا الوجه لا يصلح للاستدلال على عدم جريان أخبار الاستصحاب قبل الفحص.
قد يقال: في محل الكلام يمكن إثبات اعتبار الفحص في جريان الاستصحاب النافي للتكليف بدعوى انصراف أخبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية عمّا قبل الفحص، فأساساً أخبار الاستصحاب لا تشمل حالة قبل الفحص كما ادُعي ذلك في أخبار البراءة الشرعية، فإذا تمّ هذا الانصراف؛ فحينئذٍ لا يمكن إجراء الاستصحاب قبل الفحص كما كان لا يمكن إجراء البراءة ـــــــ إذا تمّ هذا الانصراف ـــــــ قبل الفحص.
قد يقال: أنّ منشأ انصراف أخبار الاستصحاب عمّا قبل الفحص هو أنّ هناك ارتكازاً يمنع من إطلاق أدلة الاستصحاب لما قبل الفحص، فالارتكاز هو الموجب للانصراف كما أدُعي ذلك في البراءة الشرعية، حيث أدُعي في البراءة الشرعية أنّ هناك ارتكازاً يمنع من شمول أدلة البراءة الشرعية لحالة ما قبل الفحص، وهذا الارتكاز العقلائي حاصله أنّ البراءة لا تجري قبل الفحص، ولابدّ قبل الفحص من الاحتياط والتوقف والعقل يحكم بذلك، فهذا الارتكاز عندما يقترن بدليل البراءة الشرعية المسانخ له في المضمون يوجب تقييد دليل البراءة الشرعية بحدود الارتكاز. وبعبارة أخرى: يوجب حمل أدلة البراءة الشرعية على الإمضاء لا التأسيس، فتكون أدلة البراءة الشرعية إمضائية لما عليه الارتكاز، فتتحدد بحدود الارتكاز وحيث أنّ المفروض أنّ الارتكاز لا يشمل ما قبل الفحص؛ فحينئذٍ أدلّة البراءة أيضاً تتحدد بحدوده وتكون قاصرة عن الشمول لحالة ما قبل الفحص. قد يقال: أنّ هذا قد يطبق في محل الكلام، لكن هذا التطبيق ليس صحيحاً في الاستصحاب، وذلك باعتبار أنّه في أدلة البراءة الشرعية كان هناك ارتكاز عقلائي في مقابلها؛ حينئذٍ يأتي هذا الكلام، فيقال أنّ دليل البراءة الشرعي مفاده متّحد مع مفاد البراءة العقلية، أو الارتكاز العقلائي على البراءة، هذا يكون قرينة على حمل أدلة البراءة الشرعية على الإمضاء، فتكون إمضاءً للارتكاز العقلائي، فيتحدد بحدوده، فإذا كانت البراءة العقلية هي أساساً لا تشمل ما قبل الفحص والارتكاز العقلائي أساساً لا يشمل ما قبل الفحص، قهراً تكون الأدلة الشرعية على البراءة بعد حملها على الإمضاء تتحدد بهذه الحدود، فلا تشمل ما قبل الفحص، لكن في باب الاستصحاب ليس لدينا ارتكاز على الاستصحاب في مقابل أخبار الاستصحاب، فالاستصحاب ليس أمراً مرتكزاً في أذهان العقلائي، حتى يقال أنّ أخبار الاستصحاب لوجود ارتكاز في قبالها وبمضمونها تُحمل على الإمضاء؛ وحينئذٍ تتقيد بحدود الارتكاز، والمفروض أنّ الارتكاز لا يشمل ما قبل الفحص، فتختص أدلة الاستصحاب بما بعد الفحص ولا تشمل ما قبل الفحص. هذا الكلام لا يصح في باب الاستصحاب وإن صح في باب أدلة البراءة الشرعية.
إذاً: الموجب للانصراف ليس هو هذا الارتكاز، وإنّما ما يُدّعى من أنّ الموجب للانصراف هو عبارة عن أنّ ديدن الشارع وطريقته في تبليغ أحكامه وإيصالها إلى المكلّفين هي بجعلها في معرص الوصول وليس ديدنه إيصال الأحكام إلى كل مكلفٍ مكلف. إذاً : عندما يكون هذا هو ديدن الشارع وهذه هي طريقته في إيصال الأحكام التي يهتم بها إلى المكلفين، هذا هو بنفسه قرينة على تقييد أدلة الأصول المؤمّنة بما بعد الفحص؛ لأنّه لا يصح الجمع بين أمرين، أحدهما هو أنّ الشارع يطلب من المكلفين امتثال أحكامه، ويقول أنا أجعل هذه الأحكام في معرض الوصول، وفي نفس الوقت يسمح للمكلف أن يجري البراءة قبل الفحص، أو أن يجري الاستصحاب النافي للتكليف قبل الفحص، الجمع بينهما غير مستساغ وغير صحيح، فإذا كان هذا أمر مسلّم وهو أنّ طريقة الشارع بهذا الشكل، هذا وحده يكون موجباً لانصراف أدلّة الأصول المؤمّنة بشكل عام وليس فقط البراءة الشرعية؛ بل حتى أدلة الاستصحاب النافي للتكليف، يوجب انصرافه إلى ما بعد الفحص وعدم جريانه إلى ما قبل الفحص.
هذا مضافاً إلى أنّ ما تم من الوجوه السابقة لإثبات أصل وجوب الفحص تجري في المقام أيضاً، يعني كما أنّها أثبتت وجوب الفحص في البراءة الشرعية هي تجري لإثبات وجوب الفحص في الاستصحاب النافي للتكليف. مثلاً: الوجه الثالث المتقدّم من وجوه قصور المقتضي الذي هو احتمال القرينة المتصلة؛ بل قلنا بالقطع بالقرينة المتصلة التي هي عبارة عن ظهور حال الشارع المقدّس في اهتمامه بأحكامه وبوصولها إلى المكلفين، وقلنا أنّ هذه أيضاً تمنع من إطلاق دليل البراءة لحالة ما قبل الفحص. نفس هذا يجري في الاستصحاب النافي للتكليف؛ لأنّ الاستصحاب النافي للتكليف يقوم بنفس ما تقوم به البراءة الشرعية، إجراؤه ينافي ما يظهر من حال الشارع المقدّس في أنّه يهتم بتكاليفه ويريد وصول المكلّف إليها ويحث المكلّف عليها، لا فرق بين أن يجري أصالة البراءة قبل الفحص أو يجري الاستصحاب النافي للتكليف قبل الفحص.
ونفس الكلام يقال في أخبار التعلّم التي تمّت لإثبات وجوب الفحص قبل إجراء البراءة الشرعية ، هي بنفسها تكون موجبة لإثبات وجوب الفحص قبل إجراء الاستصحاب النافي للتكليف.
قد يقال: بالنسبة إلى أخبار التعلّم بالخصوص بأنّ دليل الاستصحاب يختلف عن دليل البراءة الشرعية، دليل الاستصحاب بإمكانه أن يرفع موضوع أخبار التعلّم كأنه يكون حاكماً عليها، فيكون مقدماً عليها، باعتبار أنّ موضوع أخبار التعلم هو الشك، فإنّما يجب التعلم على المكلف حينما يشك في الحكم الشرعي، ودليل الاستصحاب يجعل المكلف عالماً، يعني يرفع الشك الذي هو موضوع أخبار التعلم؛ لأنّه يورث له العلم ويخرجه عن كونه شاكاً؛ فحينئذٍ يقدّم دليل الاستصحاب على أخبار التعلم. إذاً: بالإمكان أن يجري الاستصحاب قبل الفحص.