37/04/14
تحمیل
الموضـوع:- حكم الغناء في القرآن الكريم - مسألة ( 17 (- المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وفيه:- إنّ دليل حرمة الغناء مثلاً وإن دلّ لفظاً ووضعاً على ما ذكره - أي يدلّ على النهي عن طبيعة الغناء دون الأفراد فإن الألفاظ موضوعة للطبائع دون الأفراد - بيد أنه يوجد شيء متصل بالخطاب يتحدد على ضوئه مراد المتكلم وذلك الشيء المتّصل هو قرينة الحكمة ، فالعقل أو العقلاء يقولون إنّ الحكم مادام قد انصبّ على الطبيعة ولم يقيّد المتكلّم تلك الطبيعة بفردٍ معيّن فمراده إذن هو عبارة أخرى عن الطبيعة المطلقة يعني ضمن أيّ فردٍ من الأفراد وإلا لقيّد ، وحيث لم يقيّد فهو أفاد حرمة الغناء بجميع أفراده بحيث يصح أن ننسب إليه هذا المعني ونقول أفاد وأراد ودلّ كلامه على ذلك.
وإن شئت قلت:- كما لو كانت هناك قرينة لفظيّة تفيد أنّ المقصود بالطبيعة جميع أفرادها أوليس يصحّ أن ننسب إلى المتكلّم أنه أراد الطبيعة بجميع أفرادها إذ قد نصب قرينةً لفظيّةً كذلك الحال إذا لم ينصب قرينة لفظيّة فإنّه حيث إنّه من أهل العرف فقد التزم بما يلتزم به العرف وهو أنّه لو كان يريد فرداً بعينه فعليه أن يقيّد وإذا لم يقيد فمراده الطبيعة بجميع أفرادها من دون تحديدٍ بفردٍ دون آخر وهذا لا يصرّح به لشدّة وضوحه حيث إنّه من أحد أفراد العرف ؟! وعليه يصدق أنّ المتكلّم قد أراد الطبيعة حتى ضمن هذا الفرد - أعني قراءة القرآن - فهو قد حرّم هذه الطبيعة حتى ضمن قراءة القرآن ، فإنّه يصحّ أن ننسب إليه ذلك.
وهكذا حينما نذهب إلى الدليل المقابل - أعني ما دلّ على رجحان قراءة القرآن بالصوت الحسن - حيث لم يقيد ، فقرينة الحكمة تقول إنّه أفاد رجحان قراءة القرآن بالصوت الحسن حتى بنحوٍ غنائيٍّ - لو كانت مقدّمات الحكمة تشمله - فتحصل المعارضة آنذاك.
ونقول له(قده) :- إذا فرض أنّه لم ندخل قرينة الحكمة في الحساب واقتصرنا على النظر إلى الطبيعة فحينئذٍ كيف قال إنه في عالم التطبيق على الأفراد يقدّم العقل ما كان فيه الغرض الزاميّاً ؟ فكيف يتدخّل العقل والحال أنّ المتكلّم نظر إلى الطبيعة فقط ولم ينظر إلى الأفراد ؟ فالأفراد كيف أخذناها بعين الاعتبار ويتدخل العقل ويحكم بأنّ نقدّم ما كان فيه الغرض إلزاميّاً ؟! كلا ، فالأفراد يلزم أن لا ننظر إليها ، فإنّ المتكلّم قال ( هذه الطبيعة من حيث هي بقطع النظر عن الأفراد أريدها وتلك لا أريدها ) ، فإذن لا تصل النوبة إلى عالم التطبيق والأفراد حتى يأتي دور العقل ويحكم بلزوم تقديم ما كان الغرض فيه لزوميّاً.
مضافاً إلى أنّه يلزم بناءً على ما ذكره بعض التوالي الفاسدة:-
من قبيل:- أنّ المعارضة بين الدليلين تكون دائماً بنحو التباين ولا تكون بنحو العموم والخصوص من وجه ، بل نتحصر بنحو التباين فقط لأنّه إنّما تكون معارضة بنحو العموم من وجه إذا كان يوجد طبيعتان وليس طبيعة واحدة ، فطبيعة ينصبٌّ عليها هذا الحكم وطبيعةٌ وينصبّ عليها ذلك الحكم ، وحينئذٍ مادام لا نظر للمتكلّم إلى الأفراد فمعارضةٌ بنحو العموم من وجه ليست بموجودة ، فلابد وأن يلتزم بأنّه لا توجد معارضة بنحو العموم من وجه بل تتحقق بنحو التباين فقط ، يعني أن تكون الطبيعة واحدة ينصبّ عليها حكمان كأن يقال ( الغناء حرام والغناء - وهو نفس الطبيعة - جائز ) ، فتنحصر المعارضة بنحو التباين فقط ، أمّا المعارضة بنحو العموم والخصوص من وجه فهذا لابد من حذفه من الحساب ، وهل يلتزم بذلك ؟ إنّ هذا شيءٌ صعب ، ولعله بالتأمل يمكن الحصول على بعض اللوازم الأخرى التي لا يمكن الالتزام بها.
ولعلّ ما أفاده(قده) شيءٌ قريب مما أفاده السيد الخوئي(قده) في مبحث التعادل والتراجيح:- فإنّه يوجد مطلبٌ في مبحث التعارض وهو أنّه إذا تعارض خبران معارضةً مستقرّةً فماذا نرجّح ؟ إننا نرجّح ما وافق الكتاب ونطرح الثاني ، فإن كان كلاهما موافقاً أو كان كلاهما مخالفاً فنذهب إلى المخالف والموافق للقوم
والسيد الخوئي(قده) ذكر هذا الكلام وقال إنّ الموافقة للكتاب يلزم أن تكون موافقة لعموم الكتاب لا لإطلاقه ، يعني إذا جاءنا خبران أحدهما قال ( عقد التأمين صحيح ) والآخر قال ( عقد التأمين باطل ) فصارت معارضة بينهما فماذا نقول حينئذٍ ؟ إننا نقدم ما دلّ على أنّ عقد التأمين صحيح لأنه يوافق الكتاب فإن الكتاب الكريم قال:- ﴿ أوفوا بالعقود ﴾[1] ، وهنا يأتي السيد الخوئي(قده) بهذا المبنى فيقول هل أنّ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ يدلّ على صحّة العقد بالعموم أو بالإطلاق ؟ فإن قلنا هو يدلّ عليه بالعموم يعني أنَّ الجمع المحلّى باللام هو موضوعٌ لإفادة العموم فهذا يدلّ على العموم بالوضع فنعم هذا يصلح أن يكون مرجّحاً ، وأما إذا كانت دلالته على صحة العقد بالإطلاق ومقدّمات الحكمة فلا يصلح أن يكون مرجّحاً.
والنكتة الفارقة هي أنّه قال:- إنّ عموم الكتاب كتابٌ ، فهو جزءٌ من الكتاب ومدلوله لأنّه مدلولٌ وضعيٌّ فيصحّ أن نقول هذا المدلول الكتابي هو من الكتاب الكريم والموافقة له هو موافقة للكتاب الكريم . وأمّا الاطلاق فهو ليس مدلولاً للكتاب الكريم وإنما هو حكمٌ عقليٌّ من مقدّمات الحكمة ، فهو مدلولٌ حكمي - عقلي عقلائي - وليس مدلولاً للكتاب ، فلا يجدي موافقة أطلاق الكتاب في الترجيح ، وإنما الذي يجدي في الترجيح هو موافقة عموم الكتاب لا إطلاقه[2] [3] [4] .
ولكن طيلة فترة حضورنا في درسه المبارك لم نسمع مرةً منه هذا المبنى وكأنّه تراجع عنه ، بل صرّح بخلافه في الحاضرات[5] .
ونحن في مقام المناقشة ذكرنا ما يقرب من مناقشتنا لكلام السيد الخميني(قده):- حيث ذكرنا في مقام المناقشة أنّ الكتاب الكريم وإن دلّ على الطبيعة حينما قال:- ﴿ فأوفوا بالعقود ﴾ - ولنفترض أنّه ناظر إلى الطبيعة - والاطلاق ليس مدلولاً وضعيّاً ولكن بالتالي قرينة الحكمة موجودة معه لا تنفك من البداية ، فيصحّ بعد الالتفات إلى أنّ قرينة الحكمة متّصلة به ولا تنفك عنه أن نقول بأنّ الكتاب الكريم أفاد أنّ مطلق العقد وكلّ فردٍ من أفراد العقد هو صحيحٌ ، وهذا الكلام صحيحٌ.
ولكن كيف ننسب ( قال ) أو ( أفاد ) إلى الكتاب الكريم ؟
إنّه باعتبار قرينة الحكمة المتّصلة يصحّ حينئذٍ أن ننسب هذا المطلب إلى الكتاب ونقول أفاد الكتاب صحّة كلّ عقدٍ من العقود ، فما أفاده السيد الخميني(قده) له مقاربة لما أفاده السيد الخوئي(قده) في مبحث التعارض وروح الردّ عليهما والمناقشة واحدة.
والأجدر أن يقال:- إنّ دليل حرمة الغناء لا يوجد مخصّص واحد له ، ولا يوجد شيءٌ واحدٌ يقابله - أعني بذلك ما دلّ على رجحان قراءة القرآن بصوت حسن - ، إنّ المعارض والمقابل لعموم حرمة الغناء ليس هذا فقط بل توجد معارضات أخرى تقف مع ما دلّ على رجحان قراءة القرآن بصوتٍ حسن في مقابل ما دلّ على حرمة الغناء ، وهي ما دلّ على رجحان الرثاء لأهل البيت عليهم السلام ، وما دلّ على جواز رثاء الميّت العادي ، فهذا وهذا فيه إطلاق ومقتضى إطلاقه هو أنّه يجوز الرثاء حتى بالطور الغنائي.
وأيضاً يقف معه ما دلّ على رجحان قراءة الأدعية والمفروض أنها ليست دليلاً واحداً فزيارة الجامعة لها دليل مستقل على رجحان قراءتها ، ودعاء كميل كذلك ... وهكذا ، فهذه كلها تقف معه ومقتضى الاطلاق أنّه اقرأ هذا الدعاء حتى بنحو الغناء.
وهكذا التحدّث مع المؤمن حيث ورد عن الامام عليه السلام:- ( أتجلسون وتتحدّثون ؟ .. )[6] .
فتوجد عندنا أدلّة كثيرة تدلّ على رجحان التحدّث والكلام مع المؤمن وهذه باطلاقها تشمل حالة الغناء ، فهو يتحدّث معه بالطور الغنائي ، وهكذا يمكن أن نتأمل ونأتي بأدلّة أخرى من هذا القبيل ، فهذه تقف بأجمعها أمام دليل حرمة الغناء وحينئذٍ الأمر يدور بين أن نقدّم هذه الأدلة على دليل حرمة الغناء وتكون النتيجة هي أنه يحرم الغناء إلا في المراثي والدعاء والزيارات والحديث مع المؤمن ...... الخ ، وهذا يلزم منه التخصيص الكثير المرفوض ، بخلاف ما لو قدّمنا دليل حرمة الغناء فإنّه لا يلزم التخصيص الكثير للدليل الواحد وإنما يلزم التخصيص الكثير لكلّ دليلٍ باستقلاله ، فدليل رجحان المراثي خصّص بتخصيصٍ واحدٍ وهو بشرط أن لا يكون غناءً ، فلم يطرأ عليه إلا تخصيصٌ واحدٌ ، وهكذا دليل رجحان الزيارات سوف يتخصّص بمخصّصٍ واحدٍ ، فالأمر إذن يدور بين تخصيص الدليل الواحد بعدّة مخصّصات - يعني تخصيص دليل حرمة الغناء بمخصّصاتٍ كثيرة والذي يقطع ببطلانه - وبين العكس الذي لا يلزم منه إلا تخصيص دليلٍ واحدٍ لا أدلّةٍ متعدّدة ، فكلّ دليلٍ يلزم تخصيصه بتخصيصٍ واحد ، ولا إشكال في أنّ الراجح في هذه الحالة هو تقديم دليل حرمة الغناء الذي لا يلزم منه إلا تخصيصٌ واحدٌ ولا يلزم منه التخصيص الكثير ، والنتيجة في مثل ذلك هي حرمة الغناء في مثل المراثي وفي مثل قراءة القرآن وغيرهما لهذه النكتة التي أشرت إليها ، وهي نكتة ظريفة.
هذا كله بالنسبة إلى هذا التفصيل الذي أشار إليه السبزواري(قده).