36/03/19
تحمیل
الموضـوع:- المقدمة
– المكاسب المحرمة -كتاب
التجارة.
مقدّمة:-
التجارة في الجملة من المستحبّات الأكيدة في نفسها، وقد تستحب لغيرها وقد تجب كذلك إذا كانت مقدّمة لواجبٍ أو مستحبّ . وقد تكره لنفسها أو لغيرها وقد تحرم كذلك.
والمحرَّم منها أصناف.[1]
..........................................................................................................
هذه العبارة تشتمل على شيء من الخفاء ولتوضيح الحال نذكر مطالب ثلاثة:-
المطلب الأوّل:- إنّ التجارة هي من المستحبات الأكيدة وقد يستفاد ذلك من قوله تعالى:- ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ﴾[2]، فإن الابتغاء من فضل الله هو عبارة عن التكسّب والتجارة، وحيث إنّه لا يقصد الوجوب جزماً فيكون المقصود هو الاشارة إلى الرجحان.
اللهم إلا أن يقول قائلٌ:- إنّ هذا الأمر قد وقع عقيب الحضر فلا يفهم منه الرجحان نظير ما إذا نهى الطبيب عن استعمال الحامض مثلاً ثم بعد أن مثل الشخص للشفاء قال له تناول الحامض فإنّه ليس المقصود من تناول الحامض أنّه يلزم أو يرجح وإنما المقصود هو أنّ المانع قد زال وارتفع، وهنا أيضاً قد يقال بذلك حيث إنّه في وقت صلاة الجمعة قد حُضِرَ البيع والتكسّب ثم قالت الآية الكريمة:- ﴿ فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ فأقصى ما يدلّ على الاباحة، نعم التعبير بفضل الله قد يوحي بالحثّ وإلا إذا كان المقصود هو مجردّ الاباحة فهذا التعبير لا داعي إليه . إذن من تعبير ﴿ من فضل الله ﴾ قد يفهم أنّ القضيّة ليست قضيّة رفعٍ للحضر فقط.
وعلى أيّ حال إذا كان في دلالة الآية نوعٌ من الغموض والإبهام على رجحان التجارة تكفينا الروايات الكثيرة[3] نذكر من باب التبرك روايةً واحدةً عن عليّ بن عقبة قال:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام لمولىً له:- يا عبد الله احفظ عزّك، قال:- وما عزّي جعلت فداك ؟ قال:- غدوّك إلى سوقك وإكرامك نفسك، وقال لآخر مولىً له:- مالي أراك تركت غدوّك إلى عزّك ؟ قال:- جنازة أردت أن أحضرها، قال:- فلا تدع الرواح إلى عزّك )[4] . وعلى أيّ حال رجحان التجارة أمرٌ لا ينبغي التوقّف فيه.
إلا أنّه أشير إلى قضيّتين في هذا المجال إحداهما فنّية والأخرى أقرب إلى العلميّة:-
أمّا الأولى:- فهي أنّ المناسب التعبير بالتكسب بدل التعبير بالتجارة فإنّ التجارة قد يقال بأنّ المقصود منها هو البيع والشراء فتاجر فلانٌ بمعنى أنّه باع واشترى، أمّا سائر أنواع التكسب كإجارة نفسه خادماً في المكان المعيّن وما شاكل ذلك فهذا ليس بتجارة، فالمقصود إذن هو مطلق التكسب وإن لم يصدق عليه أنّه تجارة، فالتعبير بالتكسب هو الأرجح، وأنا لا استبعد أن يكون مقصودهم هو هذا ولكن التعبير فيه شيءٌ من المسامحة.
وأمّا الثانية:- فهي أنّ العبارة قد دلّت على أنّ التجارة مستحبّة، وهل هي مستحبّةٌ في حقّ جميع الناس ؟ نعم هي مستحبّة في حقّهم إذ لم تقيّد، وحينئذٍ لو فرض أنّ إنساناً كانت لديه أموال طائلة - قد وصلته بإرث أو هديّة أو ما شاكل ذلك - فهل يستحب في حقّه التكسب ؟ إنّه شيءٌ بعيدٌ جداً.
إذن لابد وأن يكون المقصود هو أنّ التكسب مستحبٌّ في حقّ من هو بحاجةٍ إلى ذلك أو في معرض الحاجة، إنّ هذا قيدٌ ينبغي أخذه في هذا المجال.
المطلب الثاني:- إنّ التجارة لها تقسيمان، فتقسيمٌ بلحاظ مقدّميتها، وتقسيم بلحاظ متعلّقها:-
أما بلحاظ مقدميّتها:- فهي وإن كانت مستحبّةٌ في حدّ نفسها ولكن قد تقع مقدّمةً لواجبٍ كالتكسّب لتحصيل نفقة العيال اللازمة، وقد تستحبُّ من باب المقدّمية كالتكسب للتوسعة على العيال، وقد تكون مقدّمة لمحرّمٍ فيما إذا فرض أنها استلزمت الضرر المحرّم على نفسة أو على غيره، وقد تكون مكروهةً فيما إذا استلزمت ضرراً يسيراً مرجوحاً وليس بمحرّم، وقد لا تستلزم هذا ولا ذاك ولا تكون مقدّمة لا لهذا ولا ذاك فتكون حينئذٍ مباحة.
إذن هي من حيث المقدميّة تنقسم إلى خمسة أقسام، وعبارة المتن قد أشارت إلى ذلك إلّا أنها تركت المقدّمية للمباح ولعلّ ذلك لشدّة وضوح المطلب.
وأمّا بلحاظ متعلقها:- فتنقسم إلى ثلاثة أقسام إذ أنّ متعلقها قد يكون محرّماً كالتجارة بالخمر فتصير التجارة محرّمة بذلك، وقد يكون مكروهاً فتصير التجارة مكروهة بلحاظ متعلّقها كالتجارة ببيع الاكفان، وقد تكون مباحة كالتجارة بالأمور العاديّة لا المحرمة ولا المكروهة.
وهل تكون التجارة واجبة باعتبار متعلّقها أو مستحبّة ؟ الظاهر أنّه لا يوجد مصداقٌ لذلك.
إذن هي بلحاظ متعلّقها إمّا أن تكون محرّمة أو مكروهة أو مباحة، أمّا أنها واجبٌ أو مستحبٌّ فالظاهر عدمه، وقد قسّمها المحقّق(قده) في الشرائع بلحاظ المتعلّق كذلك - إي إلى أقسام ثلاثة وليس إلى خمسة كما ذكرنا -.
إلا أنّ الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب بعد أن فرغ من وراية تحف العقول وغيرها ذكر تقسيمها بلحاظ المتعلّق وقال:- إنّ القوم قد قسّموها بلحاظ المتعلّق إلى ثلاثة أقسام ولم يذكروا قسمين آخرين - يعني تقسيمها بلحاظ الواجب والمستحب - ولكن يمكن أن يقال إنّ مثال المستحب الرعي والزراعة فهما مستحبّان فالتجارة بلحاظ ذلك - أي بلحاظ متعلقها - تكون مستحبّة . وأمّا مثال الواجب فالتجارة بالحرف التي يتوقّف عليها النظام الاجتماعي - نظام المعيشة - كالخبازة والبناء والطبابة فإنّ هذه أمورٌ تتوقّف عليها حياة البشر فهي واجبة.
إذن التجارة بلحاظ متعلّقها قد تصير واجبة، ونصّ عبارته:- ( إذا عرفت ما تلوناه[5]وجعلته في بالك متدبّراً لمدلولاته فنقول:- قد جرت عادة غير واحدٍ على تقسيم المكاسب إلى محرّم ومكروه ومباح[6]مهملين للمستحب والواجب بناءً على عدم وجودهما في المكاسب مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة والرعي مما ندب إليه الشرع وبالواجب بالصناعة الواجبة كفايةً خصوصاً إذا تعذّر قيام الغير به فتأمّل )[7] [8].
والإشكال على ذلك واضح حيث يقال:- إنّ الزراعة والرعي هما مستحبان بنفسهما فالإنسان هو يزاول الزراعة بقطع النظر عن مسألة التكسّب فنفس الزراعة هي مستحبّة، وهكذا الرعي هو مستحبٌّ بنفسه لا أن التكسّب به مستحبٌّ، فالتكسّب لا يتّصف بالاستحباب وإنما المستحب هو نفس الرعي والزراعة، وعلى هذا الأساس لا تتصف التجارة بالاستحباب بلحاظ متعلّقها بل المتعلق هو مستحبٌّ في حدّ نفسه وبقطع النظر عن التجارة.
وأمّا ما ذكره من مثال الواجب فيرد عليه:- أنّ الواجبات الكفائية هي واجبة بنفسها بقطع النظر عن مسألة التجارة والتكسّب، فيصير الشخص طبيباً والآخر يصير خبّازاً .... وهكذا، فالتكسب لا يتّصف بالوجوب بلحاظ متعلّقه وإنما المتعلّق هو واجبٌ بنفسه.
إن قلت:- إنّه بناءً على هذا يلزم اختلال النظام إذ لو كان نفس هذا العمل واجباً بقطع النظر عن التجارة والتكسب فهذا معناه أنّه يجب عليَّ أن أصير طبيباً أو خبازاً مجاناً وهذا يلزم منه اختلال النظام ؟
قلت:- إنّ الواجب هو نفس مزاولة هذه الحرفة لا المزاولة بنحو المجانيّة، فالواجب هو أصل المزاولة الجامعة بين المجانيّة وبين أن تكون بتكسّبٍ، فالواجب هو الجامع إذ النظام يتوقّف على الجامع وليس على الحصّة المجانيّة، ومنشأ الوجوب هو توقّف النظام على ذلك، والنظام يتوقّف على الجامع وليس على الحصّة، فإذن هذه الحرفة هي واجبة بنفسها بقطع النظر عن مسألة التكسّب والتكسّب لا يتّصف بالوجوب، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله ( فتأمل ).
وبهذا عرفنا من خلال ما تقدّم أنّ التجارة كما تنقسم باعتبار المقدميّة إلى خمسة أقسامٍ تنقسم بلحاظ متعلقها إلى ثلاثة أقسامً ولم يُشَر إلى القسم الثالث - أعني التجارة التي يكون متعلّقها مباحاً وتتصف بالإباحة - في عبارة المتن كما لم يُشَر إلى المباح في التقسيم السابق لشدّة وضوح المطلب.
إذن هو(قده) ذكر كِلا التقسيمين في العبارة فلاحظها حيث قال:- ( وقد تستحب لغيرها ) وهذا إشارة إلى أنها قد تكون مقدّمة للمستحب، ( وقد تجب كذلك ) يعني يتكون مقدّمة للواجب، ( وقد تكره لنفسها أو لغيرها ) فقوله ( أو لغيرها ) يعني أنها تصير مقدّمة للمكروه، وأمّا عبارة ( وقد تكره لنفسها ) يعني تكون بلحاظ المتعلّق فأدخل التقسيم الثاني في الأوّل، ثم قال ( وقد تحرم كذلك ) يعني لنفسها أو لغيرها، فهو ذكر أربعة أقسام للتجارة بلحاظ المقدّمية وحذف الخامس لشدّة وضوحه، كما ذكر اثنين من الأقسام بلحاظ المتعلّق وحذف الثالث لشدّة وضوحه أيضاً.
المطلب الثالث:- قال(قده) في صدر العبارة:- ( التجارة في الجملة من المستحبات الأكيدة في نفسها ).
إنّه أخبر عن التجارة وأنّها من المستحبات الأكيدة وهذا ما أشرنا إليه في المطلب الأوّل، ويبقى أنّه ما المقصود من قوله ( في الجملة ) ؟ وما المقصود من قوله ( في نفسها ) ؟
والجواب:- إنَّ المقصود من قوله ( في نفسها ) يعني بقطع النظر عن المقدّميّة وإلا فبلحاظ المقدمية هي قد تكون محرّمة أو واجبة أو غير ذلك فحينما نقول التجارة من المستحبات الأكيدة فالمقصود أنها مستحبّة في نفسها بقطع النظر عن فكرة المقدّميّة، وأما قوله ( في الجملة ) يعني بقطع النظر عن المتعلّق وإلا فلو كانت بلحاظ المتعلّق فقد تصير محرّمة فإذا قطعنا النظر عن المتعلّق ولاحظنا التجارة بقطع النظر عنه فحينئذٍ هي من المستحبّات الأكيدة.
إذن حينما نحكم بأنّ التجارة هي من المستحبّات الأكيدة يعني بقطع النظر عن فكرة المقدّمية وبقطع النظر عن المتعلّق.
مقدّمة:-
التجارة في الجملة من المستحبّات الأكيدة في نفسها، وقد تستحب لغيرها وقد تجب كذلك إذا كانت مقدّمة لواجبٍ أو مستحبّ . وقد تكره لنفسها أو لغيرها وقد تحرم كذلك.
والمحرَّم منها أصناف.[1]
..........................................................................................................
هذه العبارة تشتمل على شيء من الخفاء ولتوضيح الحال نذكر مطالب ثلاثة:-
المطلب الأوّل:- إنّ التجارة هي من المستحبات الأكيدة وقد يستفاد ذلك من قوله تعالى:- ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ﴾[2]، فإن الابتغاء من فضل الله هو عبارة عن التكسّب والتجارة، وحيث إنّه لا يقصد الوجوب جزماً فيكون المقصود هو الاشارة إلى الرجحان.
اللهم إلا أن يقول قائلٌ:- إنّ هذا الأمر قد وقع عقيب الحضر فلا يفهم منه الرجحان نظير ما إذا نهى الطبيب عن استعمال الحامض مثلاً ثم بعد أن مثل الشخص للشفاء قال له تناول الحامض فإنّه ليس المقصود من تناول الحامض أنّه يلزم أو يرجح وإنما المقصود هو أنّ المانع قد زال وارتفع، وهنا أيضاً قد يقال بذلك حيث إنّه في وقت صلاة الجمعة قد حُضِرَ البيع والتكسّب ثم قالت الآية الكريمة:- ﴿ فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ فأقصى ما يدلّ على الاباحة، نعم التعبير بفضل الله قد يوحي بالحثّ وإلا إذا كان المقصود هو مجردّ الاباحة فهذا التعبير لا داعي إليه . إذن من تعبير ﴿ من فضل الله ﴾ قد يفهم أنّ القضيّة ليست قضيّة رفعٍ للحضر فقط.
وعلى أيّ حال إذا كان في دلالة الآية نوعٌ من الغموض والإبهام على رجحان التجارة تكفينا الروايات الكثيرة[3] نذكر من باب التبرك روايةً واحدةً عن عليّ بن عقبة قال:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام لمولىً له:- يا عبد الله احفظ عزّك، قال:- وما عزّي جعلت فداك ؟ قال:- غدوّك إلى سوقك وإكرامك نفسك، وقال لآخر مولىً له:- مالي أراك تركت غدوّك إلى عزّك ؟ قال:- جنازة أردت أن أحضرها، قال:- فلا تدع الرواح إلى عزّك )[4] . وعلى أيّ حال رجحان التجارة أمرٌ لا ينبغي التوقّف فيه.
إلا أنّه أشير إلى قضيّتين في هذا المجال إحداهما فنّية والأخرى أقرب إلى العلميّة:-
أمّا الأولى:- فهي أنّ المناسب التعبير بالتكسب بدل التعبير بالتجارة فإنّ التجارة قد يقال بأنّ المقصود منها هو البيع والشراء فتاجر فلانٌ بمعنى أنّه باع واشترى، أمّا سائر أنواع التكسب كإجارة نفسه خادماً في المكان المعيّن وما شاكل ذلك فهذا ليس بتجارة، فالمقصود إذن هو مطلق التكسب وإن لم يصدق عليه أنّه تجارة، فالتعبير بالتكسب هو الأرجح، وأنا لا استبعد أن يكون مقصودهم هو هذا ولكن التعبير فيه شيءٌ من المسامحة.
وأمّا الثانية:- فهي أنّ العبارة قد دلّت على أنّ التجارة مستحبّة، وهل هي مستحبّةٌ في حقّ جميع الناس ؟ نعم هي مستحبّة في حقّهم إذ لم تقيّد، وحينئذٍ لو فرض أنّ إنساناً كانت لديه أموال طائلة - قد وصلته بإرث أو هديّة أو ما شاكل ذلك - فهل يستحب في حقّه التكسب ؟ إنّه شيءٌ بعيدٌ جداً.
إذن لابد وأن يكون المقصود هو أنّ التكسب مستحبٌّ في حقّ من هو بحاجةٍ إلى ذلك أو في معرض الحاجة، إنّ هذا قيدٌ ينبغي أخذه في هذا المجال.
المطلب الثاني:- إنّ التجارة لها تقسيمان، فتقسيمٌ بلحاظ مقدّميتها، وتقسيم بلحاظ متعلّقها:-
أما بلحاظ مقدميّتها:- فهي وإن كانت مستحبّةٌ في حدّ نفسها ولكن قد تقع مقدّمةً لواجبٍ كالتكسّب لتحصيل نفقة العيال اللازمة، وقد تستحبُّ من باب المقدّمية كالتكسب للتوسعة على العيال، وقد تكون مقدّمة لمحرّمٍ فيما إذا فرض أنها استلزمت الضرر المحرّم على نفسة أو على غيره، وقد تكون مكروهةً فيما إذا استلزمت ضرراً يسيراً مرجوحاً وليس بمحرّم، وقد لا تستلزم هذا ولا ذاك ولا تكون مقدّمة لا لهذا ولا ذاك فتكون حينئذٍ مباحة.
إذن هي من حيث المقدميّة تنقسم إلى خمسة أقسام، وعبارة المتن قد أشارت إلى ذلك إلّا أنها تركت المقدّمية للمباح ولعلّ ذلك لشدّة وضوح المطلب.
وأمّا بلحاظ متعلقها:- فتنقسم إلى ثلاثة أقسام إذ أنّ متعلقها قد يكون محرّماً كالتجارة بالخمر فتصير التجارة محرّمة بذلك، وقد يكون مكروهاً فتصير التجارة مكروهة بلحاظ متعلّقها كالتجارة ببيع الاكفان، وقد تكون مباحة كالتجارة بالأمور العاديّة لا المحرمة ولا المكروهة.
وهل تكون التجارة واجبة باعتبار متعلّقها أو مستحبّة ؟ الظاهر أنّه لا يوجد مصداقٌ لذلك.
إذن هي بلحاظ متعلّقها إمّا أن تكون محرّمة أو مكروهة أو مباحة، أمّا أنها واجبٌ أو مستحبٌّ فالظاهر عدمه، وقد قسّمها المحقّق(قده) في الشرائع بلحاظ المتعلّق كذلك - إي إلى أقسام ثلاثة وليس إلى خمسة كما ذكرنا -.
إلا أنّ الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب بعد أن فرغ من وراية تحف العقول وغيرها ذكر تقسيمها بلحاظ المتعلّق وقال:- إنّ القوم قد قسّموها بلحاظ المتعلّق إلى ثلاثة أقسام ولم يذكروا قسمين آخرين - يعني تقسيمها بلحاظ الواجب والمستحب - ولكن يمكن أن يقال إنّ مثال المستحب الرعي والزراعة فهما مستحبّان فالتجارة بلحاظ ذلك - أي بلحاظ متعلقها - تكون مستحبّة . وأمّا مثال الواجب فالتجارة بالحرف التي يتوقّف عليها النظام الاجتماعي - نظام المعيشة - كالخبازة والبناء والطبابة فإنّ هذه أمورٌ تتوقّف عليها حياة البشر فهي واجبة.
إذن التجارة بلحاظ متعلّقها قد تصير واجبة، ونصّ عبارته:- ( إذا عرفت ما تلوناه[5]وجعلته في بالك متدبّراً لمدلولاته فنقول:- قد جرت عادة غير واحدٍ على تقسيم المكاسب إلى محرّم ومكروه ومباح[6]مهملين للمستحب والواجب بناءً على عدم وجودهما في المكاسب مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة والرعي مما ندب إليه الشرع وبالواجب بالصناعة الواجبة كفايةً خصوصاً إذا تعذّر قيام الغير به فتأمّل )[7] [8].
والإشكال على ذلك واضح حيث يقال:- إنّ الزراعة والرعي هما مستحبان بنفسهما فالإنسان هو يزاول الزراعة بقطع النظر عن مسألة التكسّب فنفس الزراعة هي مستحبّة، وهكذا الرعي هو مستحبٌّ بنفسه لا أن التكسّب به مستحبٌّ، فالتكسّب لا يتّصف بالاستحباب وإنما المستحب هو نفس الرعي والزراعة، وعلى هذا الأساس لا تتصف التجارة بالاستحباب بلحاظ متعلّقها بل المتعلق هو مستحبٌّ في حدّ نفسه وبقطع النظر عن التجارة.
وأمّا ما ذكره من مثال الواجب فيرد عليه:- أنّ الواجبات الكفائية هي واجبة بنفسها بقطع النظر عن مسألة التجارة والتكسّب، فيصير الشخص طبيباً والآخر يصير خبّازاً .... وهكذا، فالتكسب لا يتّصف بالوجوب بلحاظ متعلّقه وإنما المتعلّق هو واجبٌ بنفسه.
إن قلت:- إنّه بناءً على هذا يلزم اختلال النظام إذ لو كان نفس هذا العمل واجباً بقطع النظر عن التجارة والتكسب فهذا معناه أنّه يجب عليَّ أن أصير طبيباً أو خبازاً مجاناً وهذا يلزم منه اختلال النظام ؟
قلت:- إنّ الواجب هو نفس مزاولة هذه الحرفة لا المزاولة بنحو المجانيّة، فالواجب هو أصل المزاولة الجامعة بين المجانيّة وبين أن تكون بتكسّبٍ، فالواجب هو الجامع إذ النظام يتوقّف على الجامع وليس على الحصّة المجانيّة، ومنشأ الوجوب هو توقّف النظام على ذلك، والنظام يتوقّف على الجامع وليس على الحصّة، فإذن هذه الحرفة هي واجبة بنفسها بقطع النظر عن مسألة التكسّب والتكسّب لا يتّصف بالوجوب، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله ( فتأمل ).
وبهذا عرفنا من خلال ما تقدّم أنّ التجارة كما تنقسم باعتبار المقدميّة إلى خمسة أقسامٍ تنقسم بلحاظ متعلقها إلى ثلاثة أقسامً ولم يُشَر إلى القسم الثالث - أعني التجارة التي يكون متعلّقها مباحاً وتتصف بالإباحة - في عبارة المتن كما لم يُشَر إلى المباح في التقسيم السابق لشدّة وضوح المطلب.
إذن هو(قده) ذكر كِلا التقسيمين في العبارة فلاحظها حيث قال:- ( وقد تستحب لغيرها ) وهذا إشارة إلى أنها قد تكون مقدّمة للمستحب، ( وقد تجب كذلك ) يعني يتكون مقدّمة للواجب، ( وقد تكره لنفسها أو لغيرها ) فقوله ( أو لغيرها ) يعني أنها تصير مقدّمة للمكروه، وأمّا عبارة ( وقد تكره لنفسها ) يعني تكون بلحاظ المتعلّق فأدخل التقسيم الثاني في الأوّل، ثم قال ( وقد تحرم كذلك ) يعني لنفسها أو لغيرها، فهو ذكر أربعة أقسام للتجارة بلحاظ المقدّمية وحذف الخامس لشدّة وضوحه، كما ذكر اثنين من الأقسام بلحاظ المتعلّق وحذف الثالث لشدّة وضوحه أيضاً.
المطلب الثالث:- قال(قده) في صدر العبارة:- ( التجارة في الجملة من المستحبات الأكيدة في نفسها ).
إنّه أخبر عن التجارة وأنّها من المستحبات الأكيدة وهذا ما أشرنا إليه في المطلب الأوّل، ويبقى أنّه ما المقصود من قوله ( في الجملة ) ؟ وما المقصود من قوله ( في نفسها ) ؟
والجواب:- إنَّ المقصود من قوله ( في نفسها ) يعني بقطع النظر عن المقدّميّة وإلا فبلحاظ المقدمية هي قد تكون محرّمة أو واجبة أو غير ذلك فحينما نقول التجارة من المستحبات الأكيدة فالمقصود أنها مستحبّة في نفسها بقطع النظر عن فكرة المقدّميّة، وأما قوله ( في الجملة ) يعني بقطع النظر عن المتعلّق وإلا فلو كانت بلحاظ المتعلّق فقد تصير محرّمة فإذا قطعنا النظر عن المتعلّق ولاحظنا التجارة بقطع النظر عنه فحينئذٍ هي من المستحبّات الأكيدة.
إذن حينما نحكم بأنّ التجارة هي من المستحبّات الأكيدة يعني بقطع النظر عن فكرة المقدّمية وبقطع النظر عن المتعلّق.