36/07/22
تحمیل
الموضوع:- ورود الدليل مورد الامضاء، الفائدة الثانية ( مذاق
الشارع ) -قواعد وفوائد.
وفي هذا المجال يوجد تساؤلان:-
الأول:- كيف نحرز أنّ الدليل وارد مورد الامضاء لما عليه العقلاء ؟ فكيف تقول أنَّ ( كلّ شيء لك طاهر ) أو ( كلّ شيء لك حلال )[1]هو تأسيسيّ ولم يرد مورد الامضاء أّما مثل ( هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) [2]وارد مورد الامضاء ؟
والجواب:- إنّ الطريق لذلك هو ملاحظة القرائن والمؤشرات والظهور، والطريق منحصرٌ بذلك.
ففي المثال الأوّل - أي موثقة بكير بن أعين - سأل السائل وقال:- ( الرجل يشك بعدما يتوضأ )[3]والإمام عليه السلام قال ( هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) ، وهذه القضية التي بيّنها الإمام هي قضيّة ونكتة عقلائيّة فهي تصير السبب لدعوانا أنّ هذا الحكم وارد مورد الامضاء، وبالتالي تصير هذه الرواية ظاهرة في ورودها مورد الامضاء لما عليه العقلاء.
وفي المثال الثاني - وهو موثقة محمد بن مسلم - التي تقول:- ( كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو ) فالقرينة هي إنّ نفس هذا المضمون هو مضمونٌ عقلائيّ، فالشيء الذي مضى وانتهى لا يعير العقلاء أهمية للشك بلحاظه مادام قد مضى، فبسبب كون المضمون مضموناً عقلائياً يتولّد ظهورٌ في الدليل في إرادة الامضاء.
وهكذا في مثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾[4]فإنّ المقصود من العقود هي العقود العرفيّة العقلائيّة إذ الحكم الشرعي ينصبّ دائماً على الموضوعات العرفيّة، فكلّ ما يصدق عليه عنوان العقد عرفاً وعقلائياً يجب الوفاء به، وبالتالي نستفيد منه أنّه وارد مورد إمضاء العقود العقلائية لأنّ وجوب الوفاء ينصبّ على الموضوع العقلائي.
وواضحٌ أنّ مقصودنا من العقلائي ليس حيثيّة العقل وإنما الحيثية العقلائية بمعنى الناس، لأنّا نطلق لفظ العقلاء في الأصول ن بإطلاقين، فمرة نطلقه ونقصد به الناس مثل أن يقال كلّ من حاز ملك بالسيرة العقلائية، وكلّ ظهورٍ حجّة بالسيرة العقلائية فالمقصود من العقلائية هنا ليس حيثية العقل وإنما المقصود هو حيثية الناس بما لهم من ثقافة ومتبنّيات وأفكار وسلوك فنطلق على العرف بالعقلاء ولكن الحيثية ليست حيثية العقل بل مادام يعملون بالظهور وكانت سيرة معاصرة للشارع وقد أمضاها فصار حجّة، وهذا هو الغالب المتداول.
وقد يطلق العقلاء بمعنى العقل، وهنا مقصودنا حينما نقول ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ هي العقود العقلائية وليس المقصود هو حيثية العقل بل حيثية الناس، فالمقصود هو العقود التي تصدر من الناس، فالآية الكريمة ناظرة إلى هذا لأنّ الحكم دائماً ينصبّ على الموضوع العقلائي بمعنى العرفي وقلنا إنّ لازمه أنّ هذا الدليل ينصرف عن العقود غير المتعارفة لدى الناس كما لو فرض أنّ الأجل لم يذكر في باب الاجارة، وهكذا في مثل مثال البويضة وما شاكل ذلك.
وفي المثال الآخر الذي ذكرناه - وهو آية النبأ - التي تقول:-﴿ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾[5]عُلّل وقيل ﴿ أن تصيبوا قوماً بجهالة ﴾، فنفس هذا التعليل يشهد بأن هذا الحكم وارد مورد الإمضاء لأنّ هذه النكتة نكتة عقلائيّة عرفيّة.
إذن الطريق لإحراز أنّ هذا الدليل وارد مورد الامضاء هو القرائن والظهور كما هو واضح.
ولكن ألفت النظر إلى أنّ هذا الطريق قد يكون أحياناً متَّفَقٌ على نتيجته وقد تكون النتيجة مختلفة فيها، ففي هذه الأمثلة التي ذكرت قد تتّفق معي على أنّ الحكم عقلائي، فمثلاً في المثال الأوّل الذي هو ( الرجل يشك بعدما يتوضأ، قال:- هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) نحن قلنا هذا وارد مورد الامضاء بقرينة قوله ( هو حين يتوضأ أذكر منه ) لأنّ هذه النكتة نكتة عقلائية، وربّ شخصٍ آخر يقول كّلا بل هذا الحكم لم يرد مورد الامضاء لأنّه لو كان وارداً مورد الامضاء فسوف يتحدّد بالحدود العقلائيّة أي بحدود هذه النكتة يعني في حالة احتمال الأذكرية أمّا في حالة الجزم بالغفلة التامّة فلا يمكن تطبيق قاعدة الفراغ.
إنّ هذه هي الثمرة فقد يقول قائل إنّ هذا الحكم عامٌّ مطلقٌ فالإمام عليه السلام يريد أن يثبت حكماً مطلقاً ولا يريد أن يثبت حكماً خاصّاً في هذه الحدود العقلائية، نعم هذا قد ذكره من باب الحكمة وهو أنّ الحكمة لعدم الاعتناء بالشك هو أنّه حينما يتوضأ أذكر منه حين الشك لا أنه ذكره من باب تقييدٍ وعلّةٍ لهذا الحكم . فعلى هذا الأساس وإن كانت النكتة عقلائيّة لكنّها ذكرت من باب الحكمة فالحكم يبقى على عرضه العريض . فإذن هذا سوف يصير اختلافاً بيننا.
وهكذا في المثال الثاني الذي هو ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو )، فصحيحٌ أنّ العقلاء هكذا عندهم ولكن الإمام عليه السلام أن يريد أن يقول إنّه تعبّداً كلّ شيء مضى لا مشكلة فيه ولا تتقيّد بحدود احتمال الأذكرية والالتفات، فهو يعطي قاعدة تعبديّة مطلقة وهي أنّ كلّ ما مضى فقد مضى، إنّه يوجد مجالٌ لأن يدّعي شخصٌ هكذا، ومن هو الحَكَمُ بيننا في مثل هذه الحالة ؟ ليس إلّا الوجدان، وأنت تدّعي الوجدان وأنا أدّعي الوجدان فكلٌّ يتبع وجدانه.
ولا تقل:- إنّ هذه حوالة على قضيّة مطّاطة ؟
فأقول:- إنّه لا مشكلة في ذلك، فإنّ الظهورات هي هكذا، فحينما نقول هذا الكلام ظاهر في كذا فقد تقبل أنت الظهور وقد لا يقبل به الآخر، فمن قبل الظهور أخذ به ومن لم يقبل به لا يأخذ به، فهذه قضيّة وجدانيّة ولا يمكن غير ذلك.
التساؤل الثاني:- ما هو مدرك هذا الحكم - أعني أنّ الدليل إذا كان وارداً مورد الامضاء فيتحدّد بالحدود العقلائيّة لا أكثر من ذلك - ؟
والجواب:- إنّه مادمنا قد فرضنا ورود الدليل مورد الامضاء لا أكثر فيلزم أن يتحدّد بالحدود العقلائيّة لأنّه لا يريد أن يقول شيئاً أكثر من الحدود العقلائيّة.
الفائدة الثالثة:- مذاق الشارع.
يقصد بالمذاق الأفكار ومجموع المتبنّيات الفكريّة للشخص، إنّ مجموع متبيّناته الفكريّة وأدبيّاته يشكّل له ذوقاً ومذاقاً وبسبب ذلك قد نتمكّن نحن أن نحدّد موقف هذا الشخص في بعض القضايا التي تحصل ونقول إنَّ رأي فلان في هذه القضيّة هو كذا قبل أن نسأله، وكيف ذلك ؟ لأنّا نعرف متبنيّاته الفكرية وأفكاره وأدبيّاته فنتمكّن أن نحدد رأيه.
فمثلاً في حق أئمة أهل البيت عليهم السلام ورد أنه - وهذا ما يقوله البعض ولكنّي لم أره في كتاب - أنّ يزيد قال للإمام زين العابدين عليه السلام هل من توبة فعلّمه صلاة الغفيلة، فقيل له:- لماذا تعلمه ؟! فقال:- لا يوفّق إلى ذلك.
وأنا أقول:- إنّه حتى لو كان الشمر يأتي للإمام زين العابدين ويقول له سيدي تب عليّ فهل يقول له كلا ؟!! بل يقبل منه ذلك . ومن أين أعرف هذا ؟ أنّي أعرفه من سلوكهم وأفكارهم وطريقتهم عليهم السلام، فهذا شيءٌ مسلّمٌ عندي وهذا عبارة أخرى عن المذاق.
ومثلاً:- لو سئلنا ما هو رأي الإسلام في أن تصير المرأة رئيسة للجمهورية ؟
وواضح أنّه لا يوجد عندنا رأي واضح للإسلام نتمكن أن نلجأ إليه، فماذا نصنع في مثل هذه الحالة ؟
نقول:- إنّ مذاق الاسلام هو على العدم، وقد فهمنا هذا من مجموع أحكامه وآدابه، فهو يريد المرأة للبيت بأن تربّي الأجيال وتربي الرجال والمجتمع لا أنها تصير رئيسةً، فهو لم يقبل بأن تصير إمام جماعةٍ، ولا قاضياً، والرجال قوّامون على النساء، فكيف يقبل بأن تصير رئيسةً جمهورية ؟!! وأنا الآن لست بصدد أنّ هذا صحيح أو باطل ولكن من أين عرفنا هذا ؟ إنّه من المذاق، يعني أنّه مجموع هذه الأفكار تعطيك ذوق الشرع ورأيه وطريقته . ولا تناقشني في الأمثلة وتقول إنَّ هذا المثال باطلٌ، فأقول نعم قد يكون باطلاً ولكني الآن أوضّح لك روح المقصود من مذاق الشارع.
وهكذا لو فرض أنّ شخصاً سأل عن قضيّة الاستمناء برؤية بعض المناظر أو غير ذلك، أي إشباع الشهوة الجنسيّة من خلال النظر إلى الصور - وليس إلى المرأة المحرّمة - أو غير ذلك فيُنزِل ويشبع شهوته من هذا الطريق ؟ إنّه قد لا نعثر على روايةٍ واضحةٍ في هذا المجال فلو عثرنا عليها فهو جيّد، ولكن لو فرضنا أنا لم نعثر على ورايةٍ أو عثرنا عليها ولكن نريد طريقاً ثانياً فيمكن أن نقول إنّ الشرع نعرف من مذاقه أنّه يريد إشباع الشهوة من الطرق السليمة يعني من خلال الزوجة أو المملوكة، فمذاق الشارع نعرفه من خلال هذا فنحرّم هذا الاشباع الجنسي من خلال ما أشرت إليه ونقول الحرمة ثابتٌة لقضاء الذوق الشرعي والمذاق الشرعي لذلك.
هذه بعض الأمثلة والشواهد على توضيح هذه الفكرة.
وألفت النظر إلى أنّ هذا المصطلح ليس موجوداً عند القدماء كالعلامة وغيره وإنما هو موجود في كلمات بعض المتأخرين، وكمثالٍ على ذلك ما ذكره السيد الحكيم(قده) في المستمسك فإنّ السفيه يُمنع شرعاً من إعطاء الأموال له وتصرّفه في أمواله لقوله تعالى ﴿ ولا تأتوا السفهاء أموالكم ﴾[6]فهذا أقصى ما يدلّ عليه هو أنّ نفس السفيه لا يجوز إعطاء المال له، أمّا أنّه لو لم يتصرّف في ماله بل آجر نفسه لحمل شيءٍ فهذا ليس تصرفاً في المال بل هو تصرّف في نفسه ولم يدلّ دليل على حرمته فهل يجوز هذا أو لا ؟
وواضحٌ أنّ هذا الكلام يكون بناءً على أنّ منافع الحرّ ليست أموالاً، أمّا إذا بنينا على كون منافعه أموالاً فهذه سوف تصير مالاً ويصير تصرّفاً بالمال، أما إذا قلنا هي ليست مالاً فهذا ليس تصرّفاً بالمال فربما يقال إّنه يجوز، وهنا قال السيد الحكيم(قده) في المستمسك:- ( وهذا هو الذي يقتضيه مذاق العرف والشرع )[7]، يعني عدم جواز أن يؤجر نفسه . إذن هو تمسك لإثبات ذلك بمذاق الشرع.
وفي هذا المجال يوجد تساؤلان:-
الأول:- كيف نحرز أنّ الدليل وارد مورد الامضاء لما عليه العقلاء ؟ فكيف تقول أنَّ ( كلّ شيء لك طاهر ) أو ( كلّ شيء لك حلال )[1]هو تأسيسيّ ولم يرد مورد الامضاء أّما مثل ( هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) [2]وارد مورد الامضاء ؟
والجواب:- إنّ الطريق لذلك هو ملاحظة القرائن والمؤشرات والظهور، والطريق منحصرٌ بذلك.
ففي المثال الأوّل - أي موثقة بكير بن أعين - سأل السائل وقال:- ( الرجل يشك بعدما يتوضأ )[3]والإمام عليه السلام قال ( هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) ، وهذه القضية التي بيّنها الإمام هي قضيّة ونكتة عقلائيّة فهي تصير السبب لدعوانا أنّ هذا الحكم وارد مورد الامضاء، وبالتالي تصير هذه الرواية ظاهرة في ورودها مورد الامضاء لما عليه العقلاء.
وفي المثال الثاني - وهو موثقة محمد بن مسلم - التي تقول:- ( كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو ) فالقرينة هي إنّ نفس هذا المضمون هو مضمونٌ عقلائيّ، فالشيء الذي مضى وانتهى لا يعير العقلاء أهمية للشك بلحاظه مادام قد مضى، فبسبب كون المضمون مضموناً عقلائياً يتولّد ظهورٌ في الدليل في إرادة الامضاء.
وهكذا في مثل ﴿ أوفوا بالعقود ﴾[4]فإنّ المقصود من العقود هي العقود العرفيّة العقلائيّة إذ الحكم الشرعي ينصبّ دائماً على الموضوعات العرفيّة، فكلّ ما يصدق عليه عنوان العقد عرفاً وعقلائياً يجب الوفاء به، وبالتالي نستفيد منه أنّه وارد مورد إمضاء العقود العقلائية لأنّ وجوب الوفاء ينصبّ على الموضوع العقلائي.
وواضحٌ أنّ مقصودنا من العقلائي ليس حيثيّة العقل وإنما الحيثية العقلائية بمعنى الناس، لأنّا نطلق لفظ العقلاء في الأصول ن بإطلاقين، فمرة نطلقه ونقصد به الناس مثل أن يقال كلّ من حاز ملك بالسيرة العقلائية، وكلّ ظهورٍ حجّة بالسيرة العقلائية فالمقصود من العقلائية هنا ليس حيثية العقل وإنما المقصود هو حيثية الناس بما لهم من ثقافة ومتبنّيات وأفكار وسلوك فنطلق على العرف بالعقلاء ولكن الحيثية ليست حيثية العقل بل مادام يعملون بالظهور وكانت سيرة معاصرة للشارع وقد أمضاها فصار حجّة، وهذا هو الغالب المتداول.
وقد يطلق العقلاء بمعنى العقل، وهنا مقصودنا حينما نقول ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ هي العقود العقلائية وليس المقصود هو حيثية العقل بل حيثية الناس، فالمقصود هو العقود التي تصدر من الناس، فالآية الكريمة ناظرة إلى هذا لأنّ الحكم دائماً ينصبّ على الموضوع العقلائي بمعنى العرفي وقلنا إنّ لازمه أنّ هذا الدليل ينصرف عن العقود غير المتعارفة لدى الناس كما لو فرض أنّ الأجل لم يذكر في باب الاجارة، وهكذا في مثل مثال البويضة وما شاكل ذلك.
وفي المثال الآخر الذي ذكرناه - وهو آية النبأ - التي تقول:-﴿ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾[5]عُلّل وقيل ﴿ أن تصيبوا قوماً بجهالة ﴾، فنفس هذا التعليل يشهد بأن هذا الحكم وارد مورد الإمضاء لأنّ هذه النكتة نكتة عقلائيّة عرفيّة.
إذن الطريق لإحراز أنّ هذا الدليل وارد مورد الامضاء هو القرائن والظهور كما هو واضح.
ولكن ألفت النظر إلى أنّ هذا الطريق قد يكون أحياناً متَّفَقٌ على نتيجته وقد تكون النتيجة مختلفة فيها، ففي هذه الأمثلة التي ذكرت قد تتّفق معي على أنّ الحكم عقلائي، فمثلاً في المثال الأوّل الذي هو ( الرجل يشك بعدما يتوضأ، قال:- هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ) نحن قلنا هذا وارد مورد الامضاء بقرينة قوله ( هو حين يتوضأ أذكر منه ) لأنّ هذه النكتة نكتة عقلائية، وربّ شخصٍ آخر يقول كّلا بل هذا الحكم لم يرد مورد الامضاء لأنّه لو كان وارداً مورد الامضاء فسوف يتحدّد بالحدود العقلائيّة أي بحدود هذه النكتة يعني في حالة احتمال الأذكرية أمّا في حالة الجزم بالغفلة التامّة فلا يمكن تطبيق قاعدة الفراغ.
إنّ هذه هي الثمرة فقد يقول قائل إنّ هذا الحكم عامٌّ مطلقٌ فالإمام عليه السلام يريد أن يثبت حكماً مطلقاً ولا يريد أن يثبت حكماً خاصّاً في هذه الحدود العقلائية، نعم هذا قد ذكره من باب الحكمة وهو أنّ الحكمة لعدم الاعتناء بالشك هو أنّه حينما يتوضأ أذكر منه حين الشك لا أنه ذكره من باب تقييدٍ وعلّةٍ لهذا الحكم . فعلى هذا الأساس وإن كانت النكتة عقلائيّة لكنّها ذكرت من باب الحكمة فالحكم يبقى على عرضه العريض . فإذن هذا سوف يصير اختلافاً بيننا.
وهكذا في المثال الثاني الذي هو ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو )، فصحيحٌ أنّ العقلاء هكذا عندهم ولكن الإمام عليه السلام أن يريد أن يقول إنّه تعبّداً كلّ شيء مضى لا مشكلة فيه ولا تتقيّد بحدود احتمال الأذكرية والالتفات، فهو يعطي قاعدة تعبديّة مطلقة وهي أنّ كلّ ما مضى فقد مضى، إنّه يوجد مجالٌ لأن يدّعي شخصٌ هكذا، ومن هو الحَكَمُ بيننا في مثل هذه الحالة ؟ ليس إلّا الوجدان، وأنت تدّعي الوجدان وأنا أدّعي الوجدان فكلٌّ يتبع وجدانه.
ولا تقل:- إنّ هذه حوالة على قضيّة مطّاطة ؟
فأقول:- إنّه لا مشكلة في ذلك، فإنّ الظهورات هي هكذا، فحينما نقول هذا الكلام ظاهر في كذا فقد تقبل أنت الظهور وقد لا يقبل به الآخر، فمن قبل الظهور أخذ به ومن لم يقبل به لا يأخذ به، فهذه قضيّة وجدانيّة ولا يمكن غير ذلك.
التساؤل الثاني:- ما هو مدرك هذا الحكم - أعني أنّ الدليل إذا كان وارداً مورد الامضاء فيتحدّد بالحدود العقلائيّة لا أكثر من ذلك - ؟
والجواب:- إنّه مادمنا قد فرضنا ورود الدليل مورد الامضاء لا أكثر فيلزم أن يتحدّد بالحدود العقلائيّة لأنّه لا يريد أن يقول شيئاً أكثر من الحدود العقلائيّة.
الفائدة الثالثة:- مذاق الشارع.
يقصد بالمذاق الأفكار ومجموع المتبنّيات الفكريّة للشخص، إنّ مجموع متبيّناته الفكريّة وأدبيّاته يشكّل له ذوقاً ومذاقاً وبسبب ذلك قد نتمكّن نحن أن نحدّد موقف هذا الشخص في بعض القضايا التي تحصل ونقول إنَّ رأي فلان في هذه القضيّة هو كذا قبل أن نسأله، وكيف ذلك ؟ لأنّا نعرف متبنيّاته الفكرية وأفكاره وأدبيّاته فنتمكّن أن نحدد رأيه.
فمثلاً في حق أئمة أهل البيت عليهم السلام ورد أنه - وهذا ما يقوله البعض ولكنّي لم أره في كتاب - أنّ يزيد قال للإمام زين العابدين عليه السلام هل من توبة فعلّمه صلاة الغفيلة، فقيل له:- لماذا تعلمه ؟! فقال:- لا يوفّق إلى ذلك.
وأنا أقول:- إنّه حتى لو كان الشمر يأتي للإمام زين العابدين ويقول له سيدي تب عليّ فهل يقول له كلا ؟!! بل يقبل منه ذلك . ومن أين أعرف هذا ؟ أنّي أعرفه من سلوكهم وأفكارهم وطريقتهم عليهم السلام، فهذا شيءٌ مسلّمٌ عندي وهذا عبارة أخرى عن المذاق.
ومثلاً:- لو سئلنا ما هو رأي الإسلام في أن تصير المرأة رئيسة للجمهورية ؟
وواضح أنّه لا يوجد عندنا رأي واضح للإسلام نتمكن أن نلجأ إليه، فماذا نصنع في مثل هذه الحالة ؟
نقول:- إنّ مذاق الاسلام هو على العدم، وقد فهمنا هذا من مجموع أحكامه وآدابه، فهو يريد المرأة للبيت بأن تربّي الأجيال وتربي الرجال والمجتمع لا أنها تصير رئيسةً، فهو لم يقبل بأن تصير إمام جماعةٍ، ولا قاضياً، والرجال قوّامون على النساء، فكيف يقبل بأن تصير رئيسةً جمهورية ؟!! وأنا الآن لست بصدد أنّ هذا صحيح أو باطل ولكن من أين عرفنا هذا ؟ إنّه من المذاق، يعني أنّه مجموع هذه الأفكار تعطيك ذوق الشرع ورأيه وطريقته . ولا تناقشني في الأمثلة وتقول إنَّ هذا المثال باطلٌ، فأقول نعم قد يكون باطلاً ولكني الآن أوضّح لك روح المقصود من مذاق الشارع.
وهكذا لو فرض أنّ شخصاً سأل عن قضيّة الاستمناء برؤية بعض المناظر أو غير ذلك، أي إشباع الشهوة الجنسيّة من خلال النظر إلى الصور - وليس إلى المرأة المحرّمة - أو غير ذلك فيُنزِل ويشبع شهوته من هذا الطريق ؟ إنّه قد لا نعثر على روايةٍ واضحةٍ في هذا المجال فلو عثرنا عليها فهو جيّد، ولكن لو فرضنا أنا لم نعثر على ورايةٍ أو عثرنا عليها ولكن نريد طريقاً ثانياً فيمكن أن نقول إنّ الشرع نعرف من مذاقه أنّه يريد إشباع الشهوة من الطرق السليمة يعني من خلال الزوجة أو المملوكة، فمذاق الشارع نعرفه من خلال هذا فنحرّم هذا الاشباع الجنسي من خلال ما أشرت إليه ونقول الحرمة ثابتٌة لقضاء الذوق الشرعي والمذاق الشرعي لذلك.
هذه بعض الأمثلة والشواهد على توضيح هذه الفكرة.
وألفت النظر إلى أنّ هذا المصطلح ليس موجوداً عند القدماء كالعلامة وغيره وإنما هو موجود في كلمات بعض المتأخرين، وكمثالٍ على ذلك ما ذكره السيد الحكيم(قده) في المستمسك فإنّ السفيه يُمنع شرعاً من إعطاء الأموال له وتصرّفه في أمواله لقوله تعالى ﴿ ولا تأتوا السفهاء أموالكم ﴾[6]فهذا أقصى ما يدلّ عليه هو أنّ نفس السفيه لا يجوز إعطاء المال له، أمّا أنّه لو لم يتصرّف في ماله بل آجر نفسه لحمل شيءٍ فهذا ليس تصرفاً في المال بل هو تصرّف في نفسه ولم يدلّ دليل على حرمته فهل يجوز هذا أو لا ؟
وواضحٌ أنّ هذا الكلام يكون بناءً على أنّ منافع الحرّ ليست أموالاً، أمّا إذا بنينا على كون منافعه أموالاً فهذه سوف تصير مالاً ويصير تصرّفاً بالمال، أما إذا قلنا هي ليست مالاً فهذا ليس تصرّفاً بالمال فربما يقال إّنه يجوز، وهنا قال السيد الحكيم(قده) في المستمسك:- ( وهذا هو الذي يقتضيه مذاق العرف والشرع )[7]، يعني عدم جواز أن يؤجر نفسه . إذن هو تمسك لإثبات ذلك بمذاق الشرع.