35/06/15
تحمیل
الموضوع:- تتمة
التنبيه التاسع، تقدّم الاستصحاب على قاعدة الفراغ والتجاوز واليد، تقدم أصل
الاستصحاب على الاحتياط والتخيير )، تعارض الأدلة الشرعية.
تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ والتجاوز واليد:-
هناك قواعد ثلاث معروفة وهي:-
الأولى:- قاعدة الفراغ، يعني من فرغ من شيء ثم شك في صحته أو في الاتيان ببعض أجزائه فمادام الشك بعد الفراغ فيبني على الصحة، وهذه قاعدة عامّة ولا تختص بالصلاة بل تشمل الصوم والحج والعقد وأيّ عملٍ من الأعمال، كما لو شككت بأنه حينما أجريت عقد النكاح هل قلت قبلت أو لم أقل ذلك أو قلت على المهر المذكور أو لا فمادام نشك في صحّة العقد بعد تحقّقه يُبنى على صحّته، وقد انعقدت سيرة المسلمين بل سيرة العقلاء على ذلك . ويدلّ عليه أيضاً قوله عليه السلام في الرواية:- ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو ) يعني كما هو المقرّر شرعاً.
الثانية:- قاعدة التجاوز، يعني لو فرض أن شخصاً شكّ في الجزء السابق من العمل فهل يعتني بشكّه أو لا ؟ فإذا فرض أنّي في السجود فشككت في الركوع وأنه هل أتيت به أو لا ففي مثل هذه الحالة مادام قد دخلت في الجزء الآخر فلا أعتني للشكّ لصحيحة زرارة:- ( يا زرارة إذا خرجت من شيءٍ ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء )، وهذا من دون فرق ٍ بين الأركان وغيرها لأننا فرضنا وجود شكٍّ ولم نفترض الجزم بالنسيان وفي الشكّ لا يُفرَّق بين الركن وغيره.
الثالثة:- قاعدة اليد، فاليد دليلٌ على الملكية، وهذا أيضاً جرت عليه السيرة، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات على ذلك، ولذلك نحن الآن نشتري من أصحاب الأملاك أملاكهم كما لو اشتريت دار شخصٍ فمَن قال إن هذه الدار هي ملكه ؟! قد تقول:- أنا يحصل لي الاطمئنان بأنها ملكه . ولكن نقول:- إن كلّ الناس لا يحصل منهم الاطمئنان، فإذن كيف يكون هذا ؟!!، بل يرد الإشكال أيضاً حتى في حالة حصول الاطمئنان فأنت من أين اشتريته ؟! إنّك اشتريته ممَّن سبق فكيف هو حال السابق ؟!
فهذا كلّه منشأه قاعدة اليد، فلابد وأن تكون اليد أمارة على الملكيّة ولولا كون اليد أمارة على الملكيّة لما قام للمسلمين سوقٌ كما دلت الرواية على ذلك، وهذا واضح.
والكلام هنا:- وهو أنه عندما يجتمع الاستصحاب مع هذه القواعد الثلاث فالمقدّم بلا إشكالٍ هو القاعدة دون الاستصحاب، ولكن ما هي النكتة الفنيّة لذلك ؟
والجواب:- يمكن أن تبيّن النكتة الفنيّة بلزوم محذور لغويّة التشريع، يعني إذا كان الاستصحاب هو المقدّم على هذه القواعد فيلزم لغويّة تشريعها ؛ باعتبار أنه لا يبقى لها آنذاك موردٌ تجري فيه إذ دائماً أو عادةً حينما تريد أن تجري واحدة من هذه القواعد يوجد إلى جنبها الاستصحاب، باعتبار أنه في قاعدة الفراغ حينما أشكّ بعد الصلاة في أن صلاتي صحيحة أو لا إنّ الشكّ في الصحة ينشأ من الشكّ في الاتيان ببعض الأجزاء أو الشرائط وإلّا إذا أتيت بالجزء بشكله الكامل وبالشرط بشكله الكامل فلا موجب للشكّ، فإنا أشكّ هل تحقّق ذلك الجزء أو الشرط أو لا فلذلك أشكّ بأن صلاتي صحيحة أو لا ومقتضى الاستصحاب أنّه لم يتحقّق ذلك الجزء الصحيح أو الشرط الصحيح لأنه سابقاً لم يكن ذلك الجزء متحقّقاً وبدخولي في الصلاة أريد أن أحققّه، ففي بداية الصلاة لم يكن متحققاً فأستصحب عدم تحقّقه، فمثلاً شككت في الركعة الأولى هل ركعت أو لم أركع ففي بداية الصلاة لم يتحقّق مني الركوع وبعد ذلك أشك هل تحقّق أو لا فالاستصحاب يقتضي عدم تحقّقه، وهكذا في جميع موارد قاعدة الفراغ، فليزم أن لا يبقى مجالٌ لقاعدة الفراغ ويلزم لغويّة تشريعها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى قاعدة التجاوز فالكلام هو الكلام ولا نطيل.
بل وهكذا الكلام بالنسيبة إلى قاعدة اليد، فأشكّ هل أنت المالك الشرعي الحقيقي الذي أشتري منك الآن أو لا ؟ فسابقاً لم تكن أنت المالك الشرعي لأنك حينما ولدتَ لم تكن مالكاً شرعيّاً لهذه الدار جزماً، فأشك بعد ذلك هل صرت مالكاً أو لم تصِر مالكاً فأستصحب عدم تحقّق مالكيتك لها، وبالتالي يلزم أن لا يبقى مورد لقاعدة اليد.
ويمكن أن نبيّن وجهاً آخر وهو آخر روحاً أو صياغةً وذلك بأن يقال:- إن هذه القواعد الثلاث هي نصٌّ في مورد الاستصحاب - أي ورد تشريعها في مورد الاستصحاب - ومادامت واردة في مورد الاستصحاب فتكون حينئذٍ مقدّمة عليه لأنّها شُرّعت في مورد جريانه، بخلاف الاستصحاب فلا يمكن أن نقول هو جزماً شرّع في مورد جريان هذه القواعد، بينما هذه القواعد نتمكّن أن نقول إنه حينما شرّعها المشرّع فهو قد شرّعها في مورد الاستصحاب فتكون مقدّمة عليه من باب أنه شرّعها في المورد لمذكور، ومادام قد شرعها في المورد المذكور فتكون مقدّمة عليه من باب أنها شرّعت في مورده، من قبيل ما كنّا نذكره في باب الأمارة حيث قلنا إن الأمارة المخالفة للأصل - يعني الأمارة الدالة على الوجوب أو الحرمة - مقدّمة على استصحاب البراءة أو استصحاب عدم الوجوب من باب أنها شُرّعت في مورد جريان الاستصحاب، فنفس هذا الكلام الذي ذكرناه سابقاً في باب تقدّم الأمارة على الاستصحاب يأتي هنا أيضاً.
والخلاصة:- إن وجه تقدّم هذه القاعد الثلاث على الاستصحاب هو إمّا لزوم لغويّة التشريع، أو أنّها شُرّعت في مورد جريان الاستصحاب.
تقدّم الاستصحاب على أصل التخيير والاحتياط:-
إذا اجتمع أصل التخيير مع الاستصحاب فالاستصحاب هو المقدَّم، وهكذا إذا اجتمع أصل الاحتياط مع الاستصحاب فالاستصحاب هو المقدّم، والوجه في ذلك:- هو أن التخيير لا يكون إلّا عقلياً ؛ إذ مورده هو الدوران بين المحذورين من دون مرجّحٍ، كما إذا دار الأمر بين أن يكون هذا الشيء حرامٌ عليَّ أو واجب ولا مرجّح فالعقل يحكم بالتخيير، إنه عقليّ دائماً أو عادةً، ومادام كذلك فنقول:- إذا فرض أن الاستصحاب كان يقتضي إحدى الحالتين، يعني أن الحالة السابقة كانت هي الوجوب ثم دار الأمر الآن بين المحذورين فنستصحب الوجوب السابق، وحيث إنّه صالح لأن يكون مرجّحاً فالعقل يتوقّف عن الحكم بالتخيير فإنه يقول أنا أحكم بالتخيير إذا لم يوجد مرجّح لهذا الاحتمال على ذاك الاحتمال أمّا بعد جريان الاستصحاب في أحد الاحتمالين دون الثاني فأنا لا أحكم بالتخيير آنذاك لصلاحيّة الاستصحاب لكونه مرجّحاً.
وأما بالنسبة إلى أصل الاحتياط:- فهو عقليٌّ عادةً أيضاً، فإن العقل يحكم بالاحتياط عند العلم بالتكليف والشك بالمكلف به - وهو ما يعبّر عنه بالعلم الاجمالي بالتكليف من دون وجود مرجّح - إنه إذا فرض اجتماع هذه القيود الثلاثة - وهي العلم بالتكليف والشك بالمكلف به وعدم وجود المرجّح - فآنذاك يحكم العقل بالاحتياط، أما إذا فرض أن الاستصحاب كان يقتضي وجوب هذا دون ذاك كما في زمن الغيبة نشك أن الواجب هو الجمعة أو الظهر فالعقل يحكم بلزوم الاحتياط لكن لو لم يجرِ الاستصحاب كما إذا قلنا إن هذا استصحابٌ في شبهةٍ حكميّة فلا يجري، أمّا بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فيكون هذا مرجّحاً فالعقل يرفع يده عن وجوب الاحتياط لوجود المرجّح، ويكفي أدنى مرجّحٍ إذ المفروض أن الحاكم هنا هو العقل والعقل يرفع يده عن حكمه بأدنى مرجّح.
بهذا نختم كلامنا عن الاستصحاب.
تعارض الأدلّة الشرعيّة
من الأبحاث المهمّة في علم الأصول بل لعلّه هو أهم الأبحاث الأصولية، وأهميته تنشأ لا من دقّته ولا من غيرها بل من حاجة الفقيه إليه في مقام الاستنباط، بل إن المدار في فقاهة الفقيه واجتهاد المجتهد يعني أن له القدرة على مطلبين:-
الأوّل:- أنّ له القدرة على تحصيل الحكم من مصادره الشرعيّة، فإذا سألنا عن التلقيح الصناعي هل هو حرام أو حلال ؟ فمرّة يكون من حيمن نفس الزوج، وأخرى من حيمن غيره، ولم يلزم محذور النظر بأن هي التي تزرّقه، فحينئذٍ هل هذا جائزٌ أو لا ؟ فغير الفقيه يتوقّف، وأما الذي له فقاهة بأدنى مراتبها واجتهادٍ بأدنى مراتبه يقول هو ليس بحرامٍ لأنه ليس بزنا وليس بلواط ولا غير ذلك فلماذا يكون حراماً !! فالأصل البراءة . وهذه القضيّة لا يلتفت إليها غير الفقيه - نعم قد تكون هذه المسألة قابلة للمناقشة من بعض الجهات - فالفقيه هو الذي تكون له القدرة على تخريج الحكم من منابعه الأصليّة.
الثاني:- له القدرة على حلّ التعارض عند وجوده، كما إذا كانت الروايات متعارضة فغير الفقيه لا يعرف حينئذٍ ماذا تصنع، أمّا الفقيه فيتمكن أن يحلّ هذا التعارض، فإمّا أن يرى أن التعارض غير مستقر فيجمع جمعاً عرفيّاً، أو يرى أن التعارض مستقر فيضع له حلّاً، فهو له نظرٌ في هذا المجال ولا يبقى متحيراً لا يعرف ماذا تصنع . إن فقاهة الفقيه بهذين المطلبين . وعلى هذا الأساس من المناسب عدّ هذا المطلب مقصداً من مقاصد علم الأصول كما صنع صاحب الكفاية(قده) حيث ذكره بعنوان مقصدٍ مستقلّ خلافاً للشيخ الأعظم(قده) فإنه ذكره بعنوان الخاتمة . والغريب من الشيخ النائيني(قده) فإنه رغم اعترافه بأن رحى الاستنباط تدور على مبحث التعارض لكنه في فوائد الأصول[1] وأجود التقريرات[2] رغم اعترافه بذلك ذكره تحت عنوان ( خاتمة في التعادل والتراجيح ) ولم يذكره بعنوان المقصد.
وهل المناسب ذكر هذا المبحث بعنوان تعارض الأدلة الشرعيّة أو بعنوان التعادل والتراجيح فإن البعض ذكره بهذا العنوان والبعض ذكره بذلك العنوان ؟
وهناك شيءٌ جانبيٌّ:- وهو أن التراجيح ذكرت بصيغة الجمع وفي التعادل لم يذكر بلفظ الجمع، أّلا يوجد إشكال في ذلك ؟ فلماذا هذا جمعٌ وذاك مفردٌ
والجواب:- إن وجهه واضح لأن المرجّحات متعدّدة فمن المناسب أن يقال ( تراجيح ) بالجمع، أما التعادل فليس هو إلا فقدان المرجّحات وليس له مصاديق متعدّدة حتى يؤتى به بلفظ الجمع.
وعلى أي حال هل المناسب التعبير بتعارض الأدلة التعبير بالتعادل والتراجيح ؟
لعل الأنسب هو التعارض وذلك لوجهين:-
الأوّل:- إن التعادل والتراجيح هو حكمٌ عارضٌ على المتعارضين، فإذا تعارضت الرويتان مثلاً نقول آنذاك لابد وأن نلحظ هل يوجد مرجّح لأحدهما على الآخر أو لا ؟ فإن كان أخذنا بالذي معه المرجّح، وإلا كان بينهما تعادلٌ والحكم عند التعادل كذا - مثلاً التساقط أو التخيير على كلامٍ يأتي إن شاء الله تعالى - . إذن التعادل والتراجيح هو حكمٌ وأثرٌ للمتعارضين فلا معنى لأخذه في العنوان بل الذي يؤخذ في العنوان هو التعارض.
الثاني:- إن التعادل والتراجيح لا يكون إلّا بين الروايات فإن الروايات يمكن أن تكون واحدة موافقة للكتاب وأخرى مخالفة، أو مثلا ًواحدة مخالفة للقوم والأخرى ليست كذلك، ولا يأتي مثل هذا الكلام في تعارض الآية مع الرواية مثلاً أو تعارض الآيتين فالتراجيح لا تأتي هنا، فموردها هو باب الروايات فقط، فلابد إذن من عقد العنوان أعمّ بحيث يشمل حتى تعارض غير الروايتين.
وكلامنا في مبحث التعارض يقع في فصلين:-
الفصل الأوّل:- في التعارض المستقر.
الفصل الثاني:- في التعارض غير المستقر.
ولكن قبل أن ندخل في هذين الفصلين لا بأس بالإشارة إلى بعض الأمور الجانبية، من قبيل:- ما هي عوامل نشوء التعارض ؟، أو من قبيل:- ما هي حقيقية التعارض ؟، أو من قبيل:- ما هو الفرق بين التعارض والتزاحم .. وهكذا . فهناك أمور جانبية نذكرها أوّلاً ثم ندخل بعد ذلك في صلب الموضوع.
تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ والتجاوز واليد:-
هناك قواعد ثلاث معروفة وهي:-
الأولى:- قاعدة الفراغ، يعني من فرغ من شيء ثم شك في صحته أو في الاتيان ببعض أجزائه فمادام الشك بعد الفراغ فيبني على الصحة، وهذه قاعدة عامّة ولا تختص بالصلاة بل تشمل الصوم والحج والعقد وأيّ عملٍ من الأعمال، كما لو شككت بأنه حينما أجريت عقد النكاح هل قلت قبلت أو لم أقل ذلك أو قلت على المهر المذكور أو لا فمادام نشك في صحّة العقد بعد تحقّقه يُبنى على صحّته، وقد انعقدت سيرة المسلمين بل سيرة العقلاء على ذلك . ويدلّ عليه أيضاً قوله عليه السلام في الرواية:- ( كلّ ما مضى فأمضه كما هو ) يعني كما هو المقرّر شرعاً.
الثانية:- قاعدة التجاوز، يعني لو فرض أن شخصاً شكّ في الجزء السابق من العمل فهل يعتني بشكّه أو لا ؟ فإذا فرض أنّي في السجود فشككت في الركوع وأنه هل أتيت به أو لا ففي مثل هذه الحالة مادام قد دخلت في الجزء الآخر فلا أعتني للشكّ لصحيحة زرارة:- ( يا زرارة إذا خرجت من شيءٍ ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء )، وهذا من دون فرق ٍ بين الأركان وغيرها لأننا فرضنا وجود شكٍّ ولم نفترض الجزم بالنسيان وفي الشكّ لا يُفرَّق بين الركن وغيره.
الثالثة:- قاعدة اليد، فاليد دليلٌ على الملكية، وهذا أيضاً جرت عليه السيرة، مضافاً إلى دلالة بعض الروايات على ذلك، ولذلك نحن الآن نشتري من أصحاب الأملاك أملاكهم كما لو اشتريت دار شخصٍ فمَن قال إن هذه الدار هي ملكه ؟! قد تقول:- أنا يحصل لي الاطمئنان بأنها ملكه . ولكن نقول:- إن كلّ الناس لا يحصل منهم الاطمئنان، فإذن كيف يكون هذا ؟!!، بل يرد الإشكال أيضاً حتى في حالة حصول الاطمئنان فأنت من أين اشتريته ؟! إنّك اشتريته ممَّن سبق فكيف هو حال السابق ؟!
فهذا كلّه منشأه قاعدة اليد، فلابد وأن تكون اليد أمارة على الملكيّة ولولا كون اليد أمارة على الملكيّة لما قام للمسلمين سوقٌ كما دلت الرواية على ذلك، وهذا واضح.
والكلام هنا:- وهو أنه عندما يجتمع الاستصحاب مع هذه القواعد الثلاث فالمقدّم بلا إشكالٍ هو القاعدة دون الاستصحاب، ولكن ما هي النكتة الفنيّة لذلك ؟
والجواب:- يمكن أن تبيّن النكتة الفنيّة بلزوم محذور لغويّة التشريع، يعني إذا كان الاستصحاب هو المقدّم على هذه القواعد فيلزم لغويّة تشريعها ؛ باعتبار أنه لا يبقى لها آنذاك موردٌ تجري فيه إذ دائماً أو عادةً حينما تريد أن تجري واحدة من هذه القواعد يوجد إلى جنبها الاستصحاب، باعتبار أنه في قاعدة الفراغ حينما أشكّ بعد الصلاة في أن صلاتي صحيحة أو لا إنّ الشكّ في الصحة ينشأ من الشكّ في الاتيان ببعض الأجزاء أو الشرائط وإلّا إذا أتيت بالجزء بشكله الكامل وبالشرط بشكله الكامل فلا موجب للشكّ، فإنا أشكّ هل تحقّق ذلك الجزء أو الشرط أو لا فلذلك أشكّ بأن صلاتي صحيحة أو لا ومقتضى الاستصحاب أنّه لم يتحقّق ذلك الجزء الصحيح أو الشرط الصحيح لأنه سابقاً لم يكن ذلك الجزء متحقّقاً وبدخولي في الصلاة أريد أن أحققّه، ففي بداية الصلاة لم يكن متحققاً فأستصحب عدم تحقّقه، فمثلاً شككت في الركعة الأولى هل ركعت أو لم أركع ففي بداية الصلاة لم يتحقّق مني الركوع وبعد ذلك أشك هل تحقّق أو لا فالاستصحاب يقتضي عدم تحقّقه، وهكذا في جميع موارد قاعدة الفراغ، فليزم أن لا يبقى مجالٌ لقاعدة الفراغ ويلزم لغويّة تشريعها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى قاعدة التجاوز فالكلام هو الكلام ولا نطيل.
بل وهكذا الكلام بالنسيبة إلى قاعدة اليد، فأشكّ هل أنت المالك الشرعي الحقيقي الذي أشتري منك الآن أو لا ؟ فسابقاً لم تكن أنت المالك الشرعي لأنك حينما ولدتَ لم تكن مالكاً شرعيّاً لهذه الدار جزماً، فأشك بعد ذلك هل صرت مالكاً أو لم تصِر مالكاً فأستصحب عدم تحقّق مالكيتك لها، وبالتالي يلزم أن لا يبقى مورد لقاعدة اليد.
ويمكن أن نبيّن وجهاً آخر وهو آخر روحاً أو صياغةً وذلك بأن يقال:- إن هذه القواعد الثلاث هي نصٌّ في مورد الاستصحاب - أي ورد تشريعها في مورد الاستصحاب - ومادامت واردة في مورد الاستصحاب فتكون حينئذٍ مقدّمة عليه لأنّها شُرّعت في مورد جريانه، بخلاف الاستصحاب فلا يمكن أن نقول هو جزماً شرّع في مورد جريان هذه القواعد، بينما هذه القواعد نتمكّن أن نقول إنه حينما شرّعها المشرّع فهو قد شرّعها في مورد الاستصحاب فتكون مقدّمة عليه من باب أنه شرّعها في المورد لمذكور، ومادام قد شرعها في المورد المذكور فتكون مقدّمة عليه من باب أنها شرّعت في مورده، من قبيل ما كنّا نذكره في باب الأمارة حيث قلنا إن الأمارة المخالفة للأصل - يعني الأمارة الدالة على الوجوب أو الحرمة - مقدّمة على استصحاب البراءة أو استصحاب عدم الوجوب من باب أنها شُرّعت في مورد جريان الاستصحاب، فنفس هذا الكلام الذي ذكرناه سابقاً في باب تقدّم الأمارة على الاستصحاب يأتي هنا أيضاً.
والخلاصة:- إن وجه تقدّم هذه القاعد الثلاث على الاستصحاب هو إمّا لزوم لغويّة التشريع، أو أنّها شُرّعت في مورد جريان الاستصحاب.
تقدّم الاستصحاب على أصل التخيير والاحتياط:-
إذا اجتمع أصل التخيير مع الاستصحاب فالاستصحاب هو المقدَّم، وهكذا إذا اجتمع أصل الاحتياط مع الاستصحاب فالاستصحاب هو المقدّم، والوجه في ذلك:- هو أن التخيير لا يكون إلّا عقلياً ؛ إذ مورده هو الدوران بين المحذورين من دون مرجّحٍ، كما إذا دار الأمر بين أن يكون هذا الشيء حرامٌ عليَّ أو واجب ولا مرجّح فالعقل يحكم بالتخيير، إنه عقليّ دائماً أو عادةً، ومادام كذلك فنقول:- إذا فرض أن الاستصحاب كان يقتضي إحدى الحالتين، يعني أن الحالة السابقة كانت هي الوجوب ثم دار الأمر الآن بين المحذورين فنستصحب الوجوب السابق، وحيث إنّه صالح لأن يكون مرجّحاً فالعقل يتوقّف عن الحكم بالتخيير فإنه يقول أنا أحكم بالتخيير إذا لم يوجد مرجّح لهذا الاحتمال على ذاك الاحتمال أمّا بعد جريان الاستصحاب في أحد الاحتمالين دون الثاني فأنا لا أحكم بالتخيير آنذاك لصلاحيّة الاستصحاب لكونه مرجّحاً.
وأما بالنسبة إلى أصل الاحتياط:- فهو عقليٌّ عادةً أيضاً، فإن العقل يحكم بالاحتياط عند العلم بالتكليف والشك بالمكلف به - وهو ما يعبّر عنه بالعلم الاجمالي بالتكليف من دون وجود مرجّح - إنه إذا فرض اجتماع هذه القيود الثلاثة - وهي العلم بالتكليف والشك بالمكلف به وعدم وجود المرجّح - فآنذاك يحكم العقل بالاحتياط، أما إذا فرض أن الاستصحاب كان يقتضي وجوب هذا دون ذاك كما في زمن الغيبة نشك أن الواجب هو الجمعة أو الظهر فالعقل يحكم بلزوم الاحتياط لكن لو لم يجرِ الاستصحاب كما إذا قلنا إن هذا استصحابٌ في شبهةٍ حكميّة فلا يجري، أمّا بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة فيكون هذا مرجّحاً فالعقل يرفع يده عن وجوب الاحتياط لوجود المرجّح، ويكفي أدنى مرجّحٍ إذ المفروض أن الحاكم هنا هو العقل والعقل يرفع يده عن حكمه بأدنى مرجّح.
بهذا نختم كلامنا عن الاستصحاب.
تعارض الأدلّة الشرعيّة
من الأبحاث المهمّة في علم الأصول بل لعلّه هو أهم الأبحاث الأصولية، وأهميته تنشأ لا من دقّته ولا من غيرها بل من حاجة الفقيه إليه في مقام الاستنباط، بل إن المدار في فقاهة الفقيه واجتهاد المجتهد يعني أن له القدرة على مطلبين:-
الأوّل:- أنّ له القدرة على تحصيل الحكم من مصادره الشرعيّة، فإذا سألنا عن التلقيح الصناعي هل هو حرام أو حلال ؟ فمرّة يكون من حيمن نفس الزوج، وأخرى من حيمن غيره، ولم يلزم محذور النظر بأن هي التي تزرّقه، فحينئذٍ هل هذا جائزٌ أو لا ؟ فغير الفقيه يتوقّف، وأما الذي له فقاهة بأدنى مراتبها واجتهادٍ بأدنى مراتبه يقول هو ليس بحرامٍ لأنه ليس بزنا وليس بلواط ولا غير ذلك فلماذا يكون حراماً !! فالأصل البراءة . وهذه القضيّة لا يلتفت إليها غير الفقيه - نعم قد تكون هذه المسألة قابلة للمناقشة من بعض الجهات - فالفقيه هو الذي تكون له القدرة على تخريج الحكم من منابعه الأصليّة.
الثاني:- له القدرة على حلّ التعارض عند وجوده، كما إذا كانت الروايات متعارضة فغير الفقيه لا يعرف حينئذٍ ماذا تصنع، أمّا الفقيه فيتمكن أن يحلّ هذا التعارض، فإمّا أن يرى أن التعارض غير مستقر فيجمع جمعاً عرفيّاً، أو يرى أن التعارض مستقر فيضع له حلّاً، فهو له نظرٌ في هذا المجال ولا يبقى متحيراً لا يعرف ماذا تصنع . إن فقاهة الفقيه بهذين المطلبين . وعلى هذا الأساس من المناسب عدّ هذا المطلب مقصداً من مقاصد علم الأصول كما صنع صاحب الكفاية(قده) حيث ذكره بعنوان مقصدٍ مستقلّ خلافاً للشيخ الأعظم(قده) فإنه ذكره بعنوان الخاتمة . والغريب من الشيخ النائيني(قده) فإنه رغم اعترافه بأن رحى الاستنباط تدور على مبحث التعارض لكنه في فوائد الأصول[1] وأجود التقريرات[2] رغم اعترافه بذلك ذكره تحت عنوان ( خاتمة في التعادل والتراجيح ) ولم يذكره بعنوان المقصد.
وهل المناسب ذكر هذا المبحث بعنوان تعارض الأدلة الشرعيّة أو بعنوان التعادل والتراجيح فإن البعض ذكره بهذا العنوان والبعض ذكره بذلك العنوان ؟
وهناك شيءٌ جانبيٌّ:- وهو أن التراجيح ذكرت بصيغة الجمع وفي التعادل لم يذكر بلفظ الجمع، أّلا يوجد إشكال في ذلك ؟ فلماذا هذا جمعٌ وذاك مفردٌ
والجواب:- إن وجهه واضح لأن المرجّحات متعدّدة فمن المناسب أن يقال ( تراجيح ) بالجمع، أما التعادل فليس هو إلا فقدان المرجّحات وليس له مصاديق متعدّدة حتى يؤتى به بلفظ الجمع.
وعلى أي حال هل المناسب التعبير بتعارض الأدلة التعبير بالتعادل والتراجيح ؟
لعل الأنسب هو التعارض وذلك لوجهين:-
الأوّل:- إن التعادل والتراجيح هو حكمٌ عارضٌ على المتعارضين، فإذا تعارضت الرويتان مثلاً نقول آنذاك لابد وأن نلحظ هل يوجد مرجّح لأحدهما على الآخر أو لا ؟ فإن كان أخذنا بالذي معه المرجّح، وإلا كان بينهما تعادلٌ والحكم عند التعادل كذا - مثلاً التساقط أو التخيير على كلامٍ يأتي إن شاء الله تعالى - . إذن التعادل والتراجيح هو حكمٌ وأثرٌ للمتعارضين فلا معنى لأخذه في العنوان بل الذي يؤخذ في العنوان هو التعارض.
الثاني:- إن التعادل والتراجيح لا يكون إلّا بين الروايات فإن الروايات يمكن أن تكون واحدة موافقة للكتاب وأخرى مخالفة، أو مثلا ًواحدة مخالفة للقوم والأخرى ليست كذلك، ولا يأتي مثل هذا الكلام في تعارض الآية مع الرواية مثلاً أو تعارض الآيتين فالتراجيح لا تأتي هنا، فموردها هو باب الروايات فقط، فلابد إذن من عقد العنوان أعمّ بحيث يشمل حتى تعارض غير الروايتين.
وكلامنا في مبحث التعارض يقع في فصلين:-
الفصل الأوّل:- في التعارض المستقر.
الفصل الثاني:- في التعارض غير المستقر.
ولكن قبل أن ندخل في هذين الفصلين لا بأس بالإشارة إلى بعض الأمور الجانبية، من قبيل:- ما هي عوامل نشوء التعارض ؟، أو من قبيل:- ما هي حقيقية التعارض ؟، أو من قبيل:- ما هو الفرق بين التعارض والتزاحم .. وهكذا . فهناك أمور جانبية نذكرها أوّلاً ثم ندخل بعد ذلك في صلب الموضوع.