33/06/20
تحمیل
الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
قلت:- اننا في هذا الوجه لا نريد أن ندعي علماً اجمالياً بالأحكام الالزامية وإنما نريد أن ندعي العلم الإجمالي بوجود أدلة اجتهادية في مجموع الشبهات - حتى في التسعمائة - غايته لا يلزم أن تكون أدلة على أحكام الزامية بل هي أدلة على أحكام غير الزامية كالكراهة أو الاباحة أو الاستحباب أو غير ذلك فلا يقال ان العلم الإجمالي بالأحكام الالزامية قد افترضنا انحلاله وإنما هذه أدلة على أحكامٍ ولو لم تكن الزامية.
ان قلت:- نحن قد عرفنا فيما سبق أن البراءة لا تجري إلا بلحاظ الأحكام الالزامية وأما الأحكام غير الالزامية فلا تجري بلحاظها.
قلت:- ان البراءة التي نريد أن نجريها ليست براءة عن الاباحة أو الكراهة أو الاستحباب مثلاً وإنما هي براءة عن الحكم الالزامي - أي عن الحرمة مثلاً إذ بالتالي نحن نحتمل الحرمة في هذا المورد واجراء أصل البراءة عن الحرمة مشروط بعدم الدليل الاجتهادي على الحكم الالزامي ولا على أي حكم آخر إذ لو كان هناك دليل على الاباحة مثلاً فلا تصل النوبة إلى البراءة عن الحرمة أو إذا افترضنا أن هناك دليلاً على الكراهة أو الاستحباب فلا تصل النوبة إلى أصل البراءة عن الحرمة ونحن نريد أن نجري أصل البراءة عن الحرمة إذ من المحتمل واقعاً أن الحكم في هذه الشبهة هو الحرمة فلا يمكن أن نجري أصل البراءة عن الحرمة إلا إذا أحرزنا عدم الدليل على الاباحة وعلى الكراهة وعلى الاستحباب ...... وهكذا - أي مطلق الدليل الاجتهادي - فان وجود الدليل الاجتهادي في أي حكم من الأحكام يمنع من الركون إلى الأصل العملي.
وعلى هذا الأساس يكون انحلال ذلك العلم الإجمالي الذي هو علم بالأحكام الالزامية لا يلازم انحلال هذا العلم الإجمالي الذي ابرزناه ، وأيضاً إجراء البراءة لا يتنافى مع ما قلناه سابقاً من أن البراءة لا تجري في غير الأحكام الزامية لفرض أنا نريد أن نجري البراءة في مقامنا عن الحكم الالزامي - أي الحرمة المحتملة -.
ان قلت:- لماذا أبرزت فكرة العلم الإجمالي بوجود الدليل الاجتهادي في مجموع الشبهات والحال أنه كان بإمكانك أن تكتفي باحتمال وجود الأدلة الاجتهادية من دون حاجة إلى تصعيد اللهجة ؟
أما لماذا يكفي احتمال وجود الدليل الاجتهادي من دون تصعيد اللهجة ؟ وذلك باعتبار أن شرط جريان البراءة هو إحراز عدم وجود الدليل الاجتهادي ، وما دمنا لا نحرز ذلك ونحتمله فلا يمكن التمسك بدليل أصل البراءة لعدم إحراز شرطه.
قلت:- ان الاحتمال لو لم يرتقِ إلى درجة العلم الإجمالي أمكن نفيه من خلال الاستصحاب - أي استصحاب العدم الازلي أو العدم النعتي فيقال ( في بداية الشريعة الاسلامية حتماً لم يكن هناك دليل اجتهادي على حكم هذه الواقعة - أي لا على الحرمة أو الاباحة ... وهكذا - فإذا شككنا هل حصل بعد ذلك دليل اجتهادي فنستصحب هذا العدم الثابت في بداية الشريعة ) فانه من أجل ذلك احتجنا إلى تصعيد اللهجة ، ودعوى أنه يوجد لدينا علم إجمالي بوجود الدليل الاجتهادي في كثير من هذه الشبهات ، فانه مع وجود العلم الإجمالي لا يمكن الاستعانة باستصحاب العدم النعتي للدليل الاجتهادي فان اجراءه في الجميع خلف العلم الإجمالي وفي البعض دون بعض ترجيح بلا مرجح.
والنتيجة النهائية من كل هذا:- هي ان الفحص لازم قبل إجراء أصل البراءة لفكرة القصور في المقتضي ، ولأجل أدلة وجوب التعلم ، أو لفكرة العلم الإجمالي بوجود الدليل الاجتهادي.
ولعل السيد الخوئي(قده)
[1]
حينما تمسك بحكم العقل القطعي يقصد أحد هذه الوجوه الثلاثة وبالأخص الوجه الأول منها فانه ذكر أن الفحص لازم قبل إجراء أصل البراءة للانصراف - أي لانصرافه عن حالة ما قبل الفحص -.
أما لماذا هذا الانصراف ؟ قال:- لحكم العقل القطعي بلزوم الفحص فان العقل بعدما يطلع على أن المولى قد شرّع أحكاماً من وجوبات وتحريمات واطلع على أن الله عز وجل لا يوصل الأحكام كل حكمٍ حكمٍ إلى المكلف بدقّ بابه وإنما الطريقة هي جعل الحكم في مضان الوصول يحكم على العبد ويقول له ( يلزمك الفحص فإذا لم تجد دليلاً في مضان الوصول فآنذاك تمسك بالأصل ) وهذا الحكم العقلي القطعي يصير مقيّداً وموجباً لانصراف أدلة البراءة عن حالة ما قبل الفحص.
ونحن نعلق ونقول:- لا يبعد أن يكون مقصوده(قده) هو الاشارة الى أحد هذه الوجوه الثلاثة التي شرنا إليها ، أو بالأحرى هو ناظر إلى الوجه الأول الذي عبّرنا عنه بفكرة القصور في المقتضي والذي قلنا فيه أن إطلاق أدلة البراءة ليس بثابت لاحتمال وجود القرينة المتصلة - وهي الوضوح - فالمولى أطلق ولم يقل ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون إذا فحصتم ) فانه اعتمد اما جزماً واما احتمالاً - ويكفينا الاحتمال - على ذلك الوضوح ، وما دمنا نحتمل الوضوح - والذي هو قرينة متصلة - فيمنع من انعقاد الإطلاق فان احتمال القرينة اللبية المتصلة مانع من انعقاد الإطلاق ، فلعله(قده) يقصد بحكم العقل القطعي الإشارة إلى هذا الوجه الذي ذكرناه وان كانت الألفاظ قد تشتمل على شيءٍ من الاختلاف ولكن الروح نفس الروح . فان قصد هذا فنعم الوفاق.
وأما إذا كان يقصد حكم العقل القطعي بقطع النظر عن مسألة القرينة المتصلة ويدعي وجود حكم عقل قطعي بلزوم الفحص قد نشأ من اطلاع العقل على أن من عادة المولى ليس على ايصال كل حكمٍ حُكمٍ بيد العبد وإنما على ايصاله في المضان ، فإذا كان يقصد هذا كما هو ظاهر عبارته فنحن لا نوافقه ونقول:- صحيح أن العقل القطعي يحكم بلزوم الفحص ولكن هذا الحكم العقلي معلق وليس منجزاً ، أي هو معلق على عدم وصول ترخيص من المولى بترك الفحص واجراء البراءة قبل الفحص فان العقل يحكم بلزوم الفحص تحفظاً على حق المولى وأحكامه فإذا تنازل صاحب الحق وقال لا يلزمكم أن تفحصوا عن أحكامي بل بإمكانكم أن تجروا البراءة قبل الفحص فالعقل يتنازل حينئذ ، والمفروض في مقامنا أن إطلاق أدلة البراءة يكون ترخيصاً شرعياً في عدم الحاجة إلى الفحص فالعقل يرفع يده عن حكمه بعدما كان حكماً معلقاً.
هذا كله في توجيه وجوب الفحص قبل إجراء أصل البراءة.
وبعدما ثبت ذلك نطرح تساؤلاً :- وهو أن الفحص اللازم يلزم إلى أي مقدار ؟ فهل يبقى الفقيه يفحص إلى أن يحصل له اليقين بعدم وجود الدليل الاجتهادي ، وأنّى يمكن تحصيل ذلك ، بل هو احالة على أمر متعذر ، فالفحص إلى أي مقدار ؟
[1] مصباح الاصول 2 493.