33/04/09
تحمیل
الموضوع / التنبيه السادس ( الانحلال الحقيق والحكمي )/ تنبيهات / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
التنبيه الخامس
الانحلال الحقيق والحكمي:-
هناك مصطلحان أصوليان في باب العلم الإجمالي وهما الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي والانحلال الحكمي :-
أما الانحلال الحقيقي:- فيقصد منه زوال العلم الإجمالي عن النفس زوالاً حقيقياً ، من قبيل ما إذا علمت بأن أحد هذين الإناءين نجس بقطرة دمٍ ثم علمت أن الذي وقعت فيه القطرة هو هذا الإناء وليس ذاك ، فهنا سوف يزول العلم الإجمالي عن النفس زوالاً حقيقياً ويتبدل إلى علم تفصيلي بنجاسة هذا والى شك بدوي في نجاسة الأخر.
وقد تسأل:- لماذا ذكر الأصوليون هذا النحو من الانحلال بعد ما كان أمره واضحاً فان زوال العلم عن أفق النفس في هذه الحالة شيء واضح وبالتالي لا يكون العلم الإجمالي منجزاً بعد الانحلال الحقيقي لأنه صار سالبة بانتفاء الموضوع ، فلماذا يذكر؟
والجواب:- ذلك لنكتتين:-
الأولى:- إن المهم الذي يراد الإشارة إليه هو الثاني - أي الانحلال الحكمي - فلأجل أن تكون المنهجة فنيّة فلابد من الإشارة إلى الانحلال الحقيقي في البداية وأن الانحلال له فردان وهذا شيء وجيه.
الثانية:- سوف نذكر فيما بعد إنشاء الله تعالى موارد وقع فيها الكلام وأنها مصاديق للانحلال الحقيقي أو لا ، ولأجل وقوع الخلاف في ذلك كان من المناسب الإشارة إلى الانحلال الحقيقي وأن بعض مصاديقه وقعت محلاً للكلام فانتظر.
وأما الانحلال الحكمي:- فيقصد منه أن العلم الإجمالي باقٍ في أفق النفس حقيقةً غايته ليست له صفة التنجيز بسبب عدم تعارض الأصول في أطرافه فهو موجود حقيقةً وزائل حكماً - أي من حيث التنجيز - وعبّر عن ذلك بالانحلال - أي الزوال -الحكمي - أي من حيث الحكم والتنجيز-.
أما ما هي مصاديق الانحلال الحكمي ؟ نذكر لذلك ما يلي:-
الأول:- أن يفترض أن لنا علماً إجمالياً بوقوع قطرة نجاسة في أحد هذين الإناءين ثم يأتي خبر ثقة ويشهد بأن النجاسة في هذا المعين.
وشهادة الثقة لها نحوان:-
- فقد يشهد بأن تلك القطرة المعلومة بالإجمال هي قد وقعت في هذا الإناء فيكون محط إخباره هو تلك القطرة المعلومة بالإجمال.
- وأخرى يشهد بأن هذا نجس من دون نظر إلى تلك القطرة المعلومة بالإجمال.
أما إذا كانت شهادته بالنحو الأول:- فسوف يكون لها مدلولان أحدهما مطابقي والآخر التزامي ، فالمطابقي هو أن تلك القطرة قد وقعت هنا - أي في هذا الإناء - والمدلول الالتزامي هو أنها لم تقع في الإناء الآخر ، فيكون خبره منحلّاً إلى خبرين ومعه لا يجري أصل الطهارة في الإناء الأوَّل ولا في الإناء الثاني ، أما في الإناء الأوَّل فلفرض وجود أمارة على نجاسته ومع وجودها لا تصل النوبة إلى الأصل ، وأما الإناء الثاني قايضاً لا نحتاج إلى إجراء الأصل فيه لأن الثقة قد أخبر بأنه لم تقع فيه القطرة فمن زاوية تلك القطرة لا نحتاج إلى الأصل لوجود خبر الثقة الذي يشهد بعدم الوقوع . نعم نحتاج إلى إجراء الأصل من زاوية كون المورد مصداقاً للشبهة البدوية ، يعني صحيح أن تلك القطرة لم تقع ولكن من المحتمل أنه نجس من ناحية أخرى.
والنتيجة:- إن أصل الطهارة يجري في الطرف الثاني من جهة كون الشبهة بدوية ، وأما في الطرف الأوَّل فيجب الاجتناب عنه من ناحية خبر الثقة على نجاسته ، وبالتالي لا يكون هذا العلم الإجمالي منجزاً ولكنه موجود في النفس لوضوح أن خبر الثقة لا يفيد العلم فانه لو كان يفيد العلم لزال ذلك العلم الإجمالي زوالاً حقيقياً بل المفروض أن غاية ما يفيد هو الظن - كما هو الغالب - فيكون العلم الإجمالي السابق باقياً بذاته وليس باقياً من حيث حكمه - أي التنجيز -.
وأما إذا كنت شهادته بالنحو الثاني:- فهنا هل ينحل العلم الإجمالي حكماً ؟ وبتعبير آخر هل يمكن أن يجري الأصل في ذلك الطرف الآخر من دون معارضة بالأصل في هذا الطرف ، فانه إن أمكن ذالك فهذا عبارة عن الانحلال الحكمي وزوال التنجيز ؟
والجواب:- نعم ينحل حكماً ولكن بشرطين إن تمّا تحقق الانحلال الحكمي ولم تتعارض الأصول في الأطراف:-
الشرط الأول:- أن تكون شهادة الثقة بالنجاسة ثابتة قبل تحقق العلم الإجمالي لا بعد تحققه وإلا صار المورد من التردد بين الفرد القصير والطويل لما قلناه سابقاً من أنه كلما تحقق منجّز في أحد الطرفين بعد العلم الإجمالي فيتحول المورد إلى الفرد القصير والطويل ويبقى العلم الإجمالي على التنجيز بخلاف ما إذا طرأ المنجّز قبل حدوث العلم الإجمالي فانه لا يتحول إلى الفرد الطويل والقصير وبالتالي تزول المنجزيَّة عنه ، وفي مقامنا نقول لو كان الثقة قد أخبر بنجاسة الإناء الأوَّل قبل أن يحدث العلم الإجمالي ثم بعد إخباره بنجاسة الأوَّل علمنا بوقوع قطرة في أحد الإناءين فهنا لا يثبت التنجيز إذ لا يجري الأصل في الطرف الأوَّل من البداية لفرض أن الثقة قد شهد بنجاسته قبل العلم الإجمالي فيجب تركه من ناحية شهادة الثقة والأصل لا يعود له مجال قبل العلم الإجمالي ولا بعده ، وهذا بخلاف الطرف الثاني فانه يجري فيه الأصل بلا معارض فالعلم الإجمالي وان انعقد في أفق النفس كعلمٍ إجماليٍ ولكن صفة التنجيز لا تثبت له إذ الأصل لا يجري في الطرف الأوَّل من البداية وحتى النهاية ويجري في الثاني بلا معارضة ، وهذا بخلاف ما إذ شهد الثقة بتحقق النجاسة بعد العلم الإجمالي ، ففي الساعة الأولى علمنا إجمالاً بوقوع قطرة نجاسة إما في الإناء الأوَّل أو في الإناء الثاني ثم بعد ساعة جاء الثقة وشهد بنجاسة هذا الإناء ، ففي مثل هذه الحالة يحصل لنا علم إجمالي إما بعدم جريان أصل الطهارة إما في الإناء الأوَّل في الساعة الأولى المتخللة بين العلم الإجمالي وبين إخبار الثقة أو بعدم جريان هذا الأصل في الطرف الثاني إلى لأبد فان القطرة إن كانت واقعة في الإناء الأوَّل فاصل الطهارة لا يجري في الإناء الأوَّل في هذه الفترة وان كانت واقعة في الإناء الثاني فيجب تركه إلى الأبد وبالتالي لا يجري أصل الطهارة في الثاني إلى الأبد . إذن تقع المعارضة بين أصلي الطهارة - أي بين أصل الطهارة في الإناء الأوَّل ولكن في تلك الفترة القصيرة وبين أصل الطهارة في الإناء الثاني إلى الأبد - فهناك علم إجمالي بعدم جريان أصل الطهارة في إحدى الفترتين وبالتالي يكون المورد من التردد بين الفرد القصير والطويل فيجب الاجتناب عنهما معاً ، أي يجب الاجتناب عن الإناء الثاني إلى الأبد وعن الإناء الأوَّل في تلك الفترة فانه يجب تركه أيضاً من زاوية العلم الإجمالي - وواضح أنه يجب ترك الأول أيضاً بعد تلك الفترة ولكن لا من زاوية العلم الإجمالي بل من زاوية خبر الثقة - . إذن إذا شهد الثقة بنجاسة هذا الإناء من دون أن يشخِّص أنه بتلك النجاسة المعلومة بالإجمال فان كانت شهادته قبل العلم الإجمالي فيزول العلم الإجمالي عن المنجزيَّة ويحصل الانحلال الحكمي ، وأما إذا كانت شهادته بعد العلم الإجمالي فهو باقٍ على التنجيز لتحوّل المورد إلى العلم الإجمالي بين الفرد الطويل والقصير
الشرط الثاني:- أن تكون الشهادة شهادة بالنجاسة وليست شهادة بوجوب الاجتناب من ناحية أخرى كالغصبية مثلاً ، فلو فرض أن الثقة شهد قبل أن يتحقق العلم الإجمالي بأن الأوَّل يجب اجتنابه لأنه غصب ولم يقل ( لأنه نجس ) ثم علمنا بعد ساعة بوقوع قطرة نجاسة إما في هذا الإناء المغصوب أو ذاك ففي مثل ذلك يبقى العلم الإجمالي على التنجيز رغم شهادة الثقة بوجوب الاجتناب قبل العلم الإجمالي ، والوجه في ذلك هو أن العلم الإجمالي إذا تحقق بوقوع القطرة فأصل الطهارة سوف يتعارض في الطرفين . ولا تقل:- انه لا يجري في الطرف الأوَّل باعتبار وجود خبر الثقة على وجوب الاجتناب عنه ، فأي أثر لأصل الطهارة بعد شهادة الثقة بوجوب الاجتناب عنه ؟ فانه يقال:- الأثر يظهر في وجوب غسل الملاقي ، فلو كان يجري أصل الطهارة فالملاقي لا يجب غسله آنذاك ، إن هذا اثر لجريان أصل الطهارة وبالتالي سوف يتعارض أصل الطهارة في الإناء الأوَّل مع أصل الطهارة في الإناء الثاني وبالتالي يبقى العلم الإجمالي على التنجيز.
وبهذا يتضح النظر فيما ذكره السيد الخوئي(قده)
[1]
فانه عقد تنبيهاً بعنوان ( التنبيه العاشر ) وذكر فيه أن الثقة لو شهد ولو بالغصب فأصل الطهارة سوف لا يجري في هذا الإناء لعدم الأثر له بعد وجوب الاجتناب عنه من ناحية الغصبية فيجري أصل الطهارة في الطرف الثاني بلا معارض.
وما أفاده غريب:- فانه كما ذكرنا يجري الأصل في الطرف الأوَّل لوجود أثر له وهو طهارة الملاقي . إذن سوف يتعارض الأصلان في الطرفين وشرط عدم المعارضة هو أن يكون الثقة قد شهد بوجوب الاجتناب قبل العلم الإجمالي من ناحية النجاسة وليس من ناحية أخرى كالغصبية.
[1] مصباح الأصول 2 401.