32/11/05
تحمیل
وفيه:-
أولاً:- إنا نسلم ما ذكره الشيخ النائيني(قده) من أن الطابع العام في الموارد المذكورة - يعني إذا تعلقت الرخصة بعنوان وجودي - لدى العرف هو عدم الحكم بالرخصة في مورد الشك في انطباق ذلك العنوان الوجودي على الفرد ، ولكن في غالب الموارد يوجد استصحاب ينقح حال الفرد المشكوك أما استصحاب العدم النعتي أو استصحاب العدم الأزلي ، ومع وجود الاستصحاب المذكور فلعل العرف يستندون إليه في عدم الحكم بالرخصة في الفرد المشكوك ، أما إذا لم يكن هناك استصحاب والموارد بذلك قليلة جداً فلا نتمكن من خلالها بسبب قلتها إحراز أن العرف لا يحكمون بثبوت الرخصة ، فالموارد التي ذكرها (قده) هي في الغالب يجري فيها الاستصحاب ، فمثلاً لو فرض أني رأيت امرأة من بعيد وشككت أنها زوجتي حتى يجوز لي النظر إليها ؟ فيجري هنا استصحاب العدم النعتي فإنها لم تكن زوجتي سابقاً أي قبل زواجي وأنا الآن أشك هل انقلب فأستصحب هذا العدم النعتي وأقول أشك هل أن هذا العدم بَعدُ باقٍ أو لا ؟ وبالاستصحاب يثبت أنها ليست زوجتي ، وإذا ثبت ذلك فسوف تدخل تحت عموم العام فان عمومه الذي يقول ( لا يجوز النظر إلى المرأة ) يشمل كل مرأة وخرج منه الزوجة فإذا نفيت الزوجية بيني وبينها باستصحاب العدم النعتي دخلت في موضوع العام وثبت عدم جواز النظر.
ولا تقل:- إن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم كونها أجنبية ولكن بنحو استصحاب العدم الأزلي.
فاني أجيب:- بأن عنوان كونها أجنبية ليس موضوعاً للأثر ، فان موضوع الأثر لحرمة النظر هو ( المرأة ) وخرج منه الزوجة ، فموضوع الأثر هو الزوجة حيث يجوز لها النظر وما عدى ذلك من عنوان المرأة هو موضوع لحرمة النظر ، أما عنوان كونها بنت عمي أو عمتي أو غيرهما فليست موضوعاً للحرمة حتى نستصحب عدم كونها بنت عمي أو غيرها ، فالتفت إلى هذه النكتة. إذن لا توجد معارضة في البين.
وإذا شككنا في أن هذه أخت أو لا ؟ فان كانت أخت فيجوز النظر إليها فيجري أيضاً استصحاب العدم الأزلي لنفي الأختية فيقال إنها قبل وجودها لم تكن ذاتها موجودة ولا وصف الأختية وبعد أن وجدت ذاتها نشك هل وجد وصف الأختية أو لا فنستصحب العدم الأزلي للأختية ، فلعل - ويكفينا الاحتمال لرد الشيخ النائيني - العرف قد حكم بعدم الرخصة في المورد المذكور من باب هذا الاستصحاب.
وهكذا في مثال ما لو فرض وجود طعام وشك في رضا صاحبه فيمكن أن نجري استصحاب العدم النعتي فنقول هو قبل فترة لا يرضى بأكلها والآن نشك هل يرضى أو لا ، وإذا شككت أنه ملكي أو لا فيجري استصحاب العدم النعتي أيضاً فأقول انه لم يكن ملكي سابقاً إما بنحو استصحاب العدم الأزلي أو النعتي والآن كذلك.
وهكذا في مثال ما إذا رأى ولي الدم شخصاً ويشك بأنه القاتل أو لا ، فانه يجري استصحاب عدم كونه قاتلاً لأنه قبل عملية القتل لم يتصف بكونه قاتلاً.
والخلاصة:- انه في أغلب الموارد يمكن أن نجري الاستصحاب المنقح لحال الموضوع والذي ببركته ندخل الفرد المشكوك في عموم العام - أعني الحكم المستثنى منه - وإذا بقيت موارد لا يمكن إجراء الاستصحاب فيها فهي لأجل قلتها لا يمكن أن ننتزع منها عنوان السيرة أو عنوان أن العرف يحكم بلزوم إحراز الرخصة ، فان السيرة والعرف يحتاج إثباتهما إلى موارد كثيرة.
إن قلت:- يمكن أن نتمم ونوجه ما قاله الشيخ النائيني(قده) من خلال بيان آخر غير مسألة التمسك بالعرف وذلك بأن يقال:- إن الرخصة مما دام قد انصبت على عنوان وجودي ونحن نشك في تحققه فلازم الشك المذكور أن لا نحكم بثبوت الرخصة إذ ثبوت الحكم فرع ثبوت موضوعه وحيث لا نحرز الموضوع فلا يمكن الحكم بتحقق الحكم .
وربما يصح أن نقول إن المورد يصير من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالرخصة ثبتت لعنوان ( الزوجة ) فكيف تحكم بالرخصة مع فرض عدم إحراز الموضوع . إذن ما أفاده الشيخ النائيني(قده) هو قضية بديهية لا تحتاج إلى دليل.
قلت:- نسلم أن الحكم إذا انصب على موضوع وجودي فلا يمكن الحكم بتحقق ذلك الحكم إلا عند إحراز ذلك العنوان الوجودي ، ولكن لِمَ التخصيص بالرخصة فان هذا ثابت في كل حكم سواء كان بنحو الرخصة أو الوجوب أو التحريم ، فإن كل حكم إذا ثبت لموضوع فلا يمكن الحكم بتحقق ذلك الحكم إلا إذا أحرزنا تحقق ذلك الموضوع .
إذن تخصيص الشيخ النائيني(قده) هذا المطلب بخصوص الرخصة المعلقة على عنوان وجودي شيء لا وجه له .
بل نحن نقول:- إن المناسب أن لا نحكم بالرخصة ولا بغيرها ، فان الحكم بالرخصة يحتاج إلى إحراز الموضوع والحكم بغيرها كذلك ، فنرجع إلى الأصل العملي.
وثانياً:- لو تنزلنا وسلمنا أن العرف يحكم بذلك - أي يحكم بعدم ثبوت الرخصة أو بالأحرى يحكم بثبوت الإلزام في مورد الشك في انطباق ذلك العنوان والوجودي - ولكن من قال إن حكم العرف حجة ، انه لا يكون حجة إلا إذا كان قد أُمضي شرعاً ، والإمضاء يستكشف من السكوت وعدم الردع ، وفي مقامنا يمكن أن نقول إن الردع ثابت ، والرادع المحتمل هو إطلاق دليل البراءة فان حديث ( رفع ما لا يعلمون ) يشمل بإطلاقه المورد المشكوك يعني المرأة التي نراها من بعيد ونشك في أنها زوجة أو لا ، إن مقتضى إطلاق ( رفع ما لا يعلمون ) هو جواز النظر خلافاً لما يقضي به العرف من أن الرخصة لا تثبت ويثبت الاشتغال ، فيصير إطلاق دليل البراءة الشامل لمورد الشك رادعاً عما يقتضيه العرف ، ومع وجود الردع المحتمل ويكفينا الاحتمال دون الجزم - لا يمكن الحكم بحجية ما يقضي به العرف.
إن قلت:- إن لازم هذا هو رفض السيرة العقلائية وما يقضي به العرف في كل المجالات ، فحجية الظهور مثلاً مما يقضي به العرف والحال بناءاً على هذا يمكن أن نقول إن إطلاق دليل البراءة إذا كان يقتضي ما يتنافى مع نتيجة الظهور فسوف يكون إطلاق دليل البراءة رادعاً ، وهل تلتزم بهذا ؟ يعني أنا نرفع اليد عن حجية الظهور وحجية الخبر وغيرهما من الأمارات التي تستدل على حجيتها بالعرف والسيرة ؟ إن جميع هذه الأمارات يمكن أن نقول باحتمال الردع عنها بإطلاق دليل البراءة أو بإطلاق دليل أصل آخر والحال أن هذا شيء مرفوض جزماً.
قلت:- هذا قياس مع الفارق ، ففي مسألة الظهور وحجية الخبر نقول إن السيرة سيرة مستحكمة وقد جرى عليها الناس بشكل واضح ، وحياتنا الاجتماعية مبنية على الأخذ بالظهور وخبر الثقة بحيث إذا لم نعمل بهما يختل نظامنا ، فلأجل قوة السيرة نحتاج إلى ردع قوي ، وأقصد منه ذلك الردع الذي يأتي متمركزاً على عنوان ( الظهور ) ويقول ( لا تأخذ به ) أو على عنوان ( الخبر ) ويقول ( لا تأخذ به ) أما أن يأتي إطلاق وسيع جداً ويقول ( رفع ما لا يعلمون ) فمن إطلاقه الوسيع لا يمكن أن نستفيد هذا الردع ، بل لابد من الردع عنه بعنوانه ويكون مكرراً فان قوة الردع ينبغي أن تتناسب مع قوة المردوع ، وهذا بخلافه في مقامنا فان هذه القضية التي ذكرها الشيخ النائيني(قده) ليست قضية قد انعقدت عليها طباع الناس واستحكمت في سيرتهم وطريقتهم ، بل ذلك شيء لو قبلناه فقد نبهنا عليه الشيخ النائيني(قده) ولو قبلناه فنقبله على مضض ، فهي ليست شيئاً مستحكماً واضحاً فيكفي في الردع عنها مثل إطلاق دليل البراءة.
والخلاصة من كل هذا:- إن هذه القاعدة - النائينية - لا نسلم بانعقاد سيرة العرف عليها لأن أغلب الموارد يوجد فيها أصل منقح ، وما سوى ذلك فبما أنه نادر فلا يمكن انتزاع سيرة عرفية عليه ، ولو تنزلنا وسلمنا تمامية انعقاد هذه السيرة ولكن حيث أنها ليست من السير المستحكمة فيحتمل تحقق الردع عنها من خلال إطلاق دليل البراءة .
وبهذا نختم حديثنا عن هذه القاعدة ، بل عن أصل البراءة بالكامل.