جلسة 120
كفارة الصوم
ومن خلال هذا يتضح التأمل في الرأي الثاني، وهو ما نسب إلى الصدوقين من أن الكفارة ككفارة شهر رمضان، فإنه جاء في موثقة زرارة: سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن رجل صام قضاء من شهر رمضان فأتى النساء؟ قال: «عليه من الكفّارة ما على الذي أصاب في شهر رمضان؛ لأنّ ذلك اليوم عند الله من أيّام رمضان» [1] .
ووجه التأمل: أن الموثقة المذكورة وإن كانت ظاهرة فيما نسب إليهما إلاّ أنه لابدّ من حملها على الاستحباب بقرينة موثقة عمّار السابقة الدالة على نفي كلّ شيء سوى قضاء يوم بدل يوم، فيكون المقصود من قوله: «عليه من الكفّارة ما على الذي أصاب في شهر رمضان؛ لأنّ ذلك اليوم عند الله من أيّام رمضان» أن ذلك عليه بنحو الاستحباب.
ولعل الجواب عن الموثقة المذكورة بما أشرنا إليه أولى مما أجاب به السيد الخوئي ـ قدّس سرّه [2] من أنه لابدّ من طرح مضمونها أو حمله على التقية؛ لأنها دلت على التنزيل حيث قالت: «... لأنّ ذلك اليوم عند الله من أيّام رمضان» ولازم هذا أن من أفطر في القضاء حتى قبل الزوال تجب عليه الكفارة أيضاً، ويكون فاعلاً للمحرم؛ لأن ذلك حكم شهر رمضان، إذ فيه لا يفرق بين ما بعد الزوال وما قبله. والحال أن ذلك لا يمكن الالتزام به، فلابدّ من طرح الموثقة أو حملها على التقية.
ووجه أولوية ما ذكرناه أن التنزيل المذكور وإن دلّ على ما أشار إليه ـ قّدس سرّه ـ ولكن ذلك بالإطلاق، فمقتضى إطلاق التنزيل وعدم تخصيصه بما بعد الزوال أن التنزيل المذكور ثابت حتى قبل الزوال فتثبت الحرمة والكفارة قبل الزوال أيضاً، وما دام ذلك بالإطلاق فيقيد كما هو الحال في سائر الإطلاقات، فالأخذ بمضمون الموثقة ممكن ما دام يمكن تقييد إطلاق التنزيل فيها.
بقي الكلام بالنسبة إلى رأي ابن البراج وأبي الصلاح ـ حيث نسب للأوّل أنها ككفارة اليمين وإلى الثاني أنها مخيرة ـ ولم يذكر لهما وجه لذلك، ومن هنا لا يمكن المصير إليهما.
يتعين على هذا الأساس المصير إلى رأي العماني قدّس سره، وهو نفي وجوب الكفارة رأساً، فإن ذلك هو ما تقتضيه الصناعة.
نعم، ثبوت الكفارة أمر مستحب ولكنه ليس بلازم، وقد صار إلى ذلك من المتأخرين الشيخ علي بن الشيخ باقر الجواهري قدّس سرّه [3].
وما ذكرناه من نفي وجوب الكفارة وإن كان هو المناسب صناعياً إلاّ أنه حيث يحتمل هجران الأصحاب له، إذ لم ينسب المصير إليه إلاّ إلى العماني ـ قدّس سرّه ـ فيكون مقتضى الاحتياط ثبوت الكفارة.
استدراك لما سبق
ذكرنا فيما سبق أن السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ ذكر أن الروايتين الدالتين على رأي الأكثر لا يمكن حملهما على الاستحباب؛ لأن استحباب ثبوت الكفارة أمر لا معنى له في نفسه، وأجبنا عنه بما تقدم وقلنا: إن من الوجيه أن يكون الإفطار بعد الزوال محرماً ولكن ثبوت الكفارة أمر مستحب. ودعوى عدم معقولية استحباب الكفارة لا نعرف لها وجهاً.
هذا ولكن ربما يكون ـ قدّس سرّه ـ قاصداً الإشارة إلى أحد المطلبين التاليين، ونحن نذكرهما من باب الفائدة العلمية سواءً كانت عبارته تساعد على ذلك أو لا:
المطلب الأوّل: أن من شروط الجمع العرفي أن الكلامين المنفصلين نفترضهما كالمتصلين، أي نفترض أن أحدهما متصل بالآخر، وبعد فرض الاتصال نرجع إلى العرف فإذا قبل الجمع بينهما ولم يرَ التنافي والتعارض بينهما أخذنا بذلك وإلاّ حكمنا بالتعارض.
وبناءً على هذا نقول: يصح الجمع العرفي فيما لو ورد في أحد الدليلين الأمر بالشيء وفي الدليل الثاني ورد نفي البأس عن تركه، فإنه في مثله لو وصل بين الكلامين وقيل هكذا: (اغتسل للجمعة ولا بأس بتركه) لم يرَ العرف تنافياً، وفي مثله يحمل الأمر الأوّل على الاستحباب ويصح على ذلك الجمع بين الدليلين، أمّا لو قيل في الدليل الأول (اغتسل للجمعة) وفي الدليل الثاني: (لا تغتسل للجمعة)، فلا يمكن الجمع بالحمل على الاستحباب؛ لأنهما لو وصلا وقيل: (اغتسل للجمعة ولا تغتسل للجمعة) فإن العرف يرى التعارض بينهما ولا يراهما قابلين للجمع، وهذا شرط كلي في باب الجمع العرفي، فكلما لم ير العرف تعارضاً بين الدليلين عند فرض اتصالهما أمكن آنذاك الجمع العرفي وإلاّ فلا.
وفي مقامنا نقول: إن الوارد في الروايتين الأُوليين الأمر بالكفارة، بينما الوارد في موثقة عمّار نفي الكفارة، ومن الواضح أنه لو وصلا وقيل: (كفّر ولا تكفّر) أو (عليك الكفارة وليس عليك الكفارة) كانا من المتعارضين ولم يجمع العرف بينهما بالحمل على الاستحباب.
وفيه: أن كبرى الكلية المذكورة وإن كانت وجيهة ولكن لا نسلم أن المقام من صغرياتها، إذ الوارد في صحيحة هشام مثلاً: «... وإن فعل بعد العصر صام ذلك اليوم وأطعم عشرة مساكين...» [4] ، بينما الوارد في موثقة عمّار: «قد أساء وليس عليه شيء إلا قضاء ذلك اليوم»[5] ، ومن الواضح أن المقصود من «ليس عليه شيء» أنه لا يجب عليه شيء، لا أنه ليس عليه شيء حتى بنحو الاستحباب.
وعلى هذا الأساس يكون المقصود هكذا: صام ذلك اليوم وأطعم عشرة مساكين وإن كان لا يجب عليه شيء إلاّ قضاء ذلك اليوم، فأين التنافي بين المطلبين؟
____________________________
[1] الوسائل 10: 348، أبواب أحكام شهر رمضان، ب29، ح3.
[2] مستند العروة الوثقى ج1 كتاب الصوم ص301.
[3] حواشي العروة الوثقى ج3 ص592.
[4] الوسائل 10: 347، أبواب أحكام شهر رمضان، ب29، ح2.
[5] الوسائل 10: 348، أبواب أحكام شهر رمضان، ب29، ح4.