36/05/22
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ ملاقي
أحد أطراف العلم الإجمالي.
ما تقدّم من الكلام سابقاً في الصور المتقدّمة كان كلّه مبنيّاً على ما ذهب إليه المشهور من انحلال العلم الإجمالي الثاني بأحد الوجوه المتقدّمة من وجوه الانحلال، وأمّا إذا أنكرنا انحلال العلم الإجمالي الثاني وقلنا بعدم انحلاله وأنّه ينّجز كلا طرفيه الملاقي والطرف الآخر، وأنّه لا مانع من أن يتلقّى الطرف الآخر التنجيز من كلٍ من العلمين الإجماليين المفترضين في محل الكلام، العلم الإجمالي الأوّل والعلم الإجمالي الثاني، فأنّ الطرف الآخر هو طرف في كلا العلمين، فلا مانع من أن يتلقى التنجيز من كلٍ منهما، وهذا معناه أنّ كل الأطراف الثلاثة تكون منجّزة، الملاقي والملاقى والطرف الآخر، كلّها يجب الاجتناب عنها. بناءً على هذا تكون النتيجة نفس النتيجة السابقة، في محل الكلام أيضاً نقول يجب الاجتناب عن الملاقي وعن الملاقى وعن الطرف الآخر لا كما يقول صاحب الكفاية(قدّس سرّه) من أنّه يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في فرض ما إذا خرج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي، ثمّ دخل في محل الابتلاء بعد ذلك، هنا أيضاً نقول نفس النتيجة السابقة بناءً على ما تقدّم بناءً على إنكار الوجوه الأربعة وعدم تماميتها لانحلال العلم الإجمالي الثاني، فالنتيجة هي نفس النتيجة، وذلك لأنّ العلم الإجمالي لا يمنع كما تقدّم من إجراء الأصل في الملاقى وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء إذا ترتب عليه أثر وثمرة عملية، وقلنا بأنّ الأثر يترتب على إجراء أصالة الطهارة في الملاقى وإن خرج عن محل الابتلاء، وأثره يظهر في طهارة الملاقي على ما تقدّم سابقاً؛ فحينئذٍ يجري الأصل في الملاقى ويعارض بالأصل في الطرف الآخر، فيتعارضان ويتساقطان، فيبقى الملاقى بلا أصل عملي ويتنجّز وجوب الاجتناب فيه بالعلم الإجمالي المذكور. وأمّا الملاقي فبناءً على ما تقدم أيضاً يتنجز بالعلم الإجمالي الثاني، إن لم نقل بأنّ الملاقي يتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل على ما تقدّم سابقاً، فهو يتنجّز بالعلم الإجمالي الثاني، فالملاقى يتنجز والملاقي أيضاً يتنجّز، فضلاً عن الطرف الآخر، والنتيجة هي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف الثلاثة حتّى في هذا الفرض الذي ذكره في الكفاية، وإنّما هذا الخلاف السابق والآراء المطروحة سابقاً كلّها كانت مبنية على ما هو معروف من سقوط العلم الإجمالي الثاني عن التنجيز وانحلاله ودعوى أنّ الأصل لا يكون جارياً في الملاقى عندما يكون خارجاً عن محل الابتلاء.
إلى هنا يتم الكلام عن هذه المسألة المهمّة وهي دوران الأمر بين المتباينين ومسألة منجّزية العلم الإجمالي وشروط هذه المنجّزية والفروع التي تترتب على ذلك، بعد ذلك ندخل في مسألةٍ جديدة، وهي دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
((دوران الأمر بين الأقل والأكثر))
والكلام يقع في أنّه هل يجب الاحتياط في هذه المسألة، أو أنّه يمكن إجراء البراءة لنفي وجوب المقدار الزائد على الأقل ؟ هذا البحث يقع بعد الفراغ عن أنّ الشك في التكليف هو مورد للبراءة، وأنّ الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف هو مورد لقاعدة الاشتغال. بعد الفراغ عن ذلك يقع الكلام في أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر هل يُلحق بالشك في التكليف حتى تجري فيه البراءة لنفي وجوب ما عدا الزائد على الأقل، أو يُلحق بالشك في المكلّف به حتّى يكون مورداً لقاعدة الاشتغال. هذا الترديد في انّ الشك بين الأقل والأكثر هل يُلحق بالشك في التكليف، أو بالشك في المكلّف به، هذا الترديد واحتمال كلا الأمرين يختص بما إذا كان الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين؛ حينئذٍ يأتي فيه هذا الترديد ويأتي فيه هذا الكلام، في باب الأقل والأكثر الارتباطيين هناك تكليف واحد له امتثال واحد وله عصيان واحد، وإنّما الشك يكون في أنّه هل يتعلّق بالأقل، أو يتعلّق بالأكثر، هذا هو شكّنا، وإلاّ هو تكليف واحد له امتثال واحد وعصيان واحد لا نعلم أنّه يتعلّق بالأكثر، أو يتعلّق بالأقل، ومثاله الواضح هو ما إذا وجبت الصلاة وتردّد أمرها بين أن تكون مركبة من تسعة أجزاء، أو عشرة أجزاء، كلّما شكّ المكلّف في جزئية شيءٍ في الصلاة، هذا الشك في الواقع هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وهكذا إذا شك في شرطية شيءٍ في الصلاة أيضاً هو في الواقع يدخل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. أمّا دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فهو خارج عن محل الكلام الذي يعني أنّ الوجوب متعدد، يعني على تقدير وجوب الأكثر الزائد على الأقل يكون واجباً مستقلاً له عصيان خاص وإطاعة خاصّة، وليس مرتبطاً بالأقل كما لو علم بأنّه مدين لزيد إمّا بدينار أو دينارين، على تقدير أن يكون مديناً لزيد بدينارين، فما زاد على الدينار هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص، وعصيانه غير مرتبط بعصيان أو امتثال الأقل، وإطاعته أيضاً غير مرتبطة بذلك، كلٌ منهما وجوب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص، بينما هذا الشيء لم يكن موجوداً في الأقل والأكثر الارتباطيين، ما زاد على الأقل على تقدير وجوب الأكثر ليس له وجوب مستقل، ما زاد على الأقل في باب الصلاة على تقدير وجوب الأكثر وهو أن تكون أجزاء الصلاة عشرة، هذا المقدار الزائد ليس وجوبه وجوباً استقلالياً، وإنّما هو وجوب ارتباطي، هو مرتبط بباقي الأجزاء؛ لأننا قلنا أنّ هناك تكليفاً واحداً ليس أكثر من ذلك، له إطاعة واحدة وله عصيان واحد لا أكثر وليس وجوبات مستقلة تتعدد بعدد الأجزاء، أو الأطراف؛ بل هو وجوب واحد، بينما في باب الاستقلالية هناك وجوبات متعددة بحيث يكون المقدار الزائد على الأقل على تقدير وجوب الأكثر هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص. ومن هنا الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين يكون خارجاً عن محل الكلام، وذلك لوضوح أنّه ملحق بالشك في التكليف، وإن كان عنواناً هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر، لكن في الواقع هو علم تفصيلي بتكليفٍ، وشك بدوي في تكليف آخر؛ لأننا قلنا أنّ الزائد على القدر المتيقن على تقدير وجوب الأكثر هو تكليف مستقل، ما يعلمه المكلّف تفصيلاً هو أنّ ذمّته مشغولة بدينار، لكن هل ذمّته مشغولة بأكثر من ذلك ؟ هذا مشكوك، وهو شكّ في التكليف الزائد، والشك في التكليف الزائد تجري فيه البراءة، وليس هذا المورد من موارد الشك والذي يقع فيه البحث أنّه هل يلحق بالشك في التكليف، أو يلحق بالشك في المكلّف به حتّى تجري فيه قاعدة الاشتغال، من الواضح أنّه شك في التكليف وسيأتي أنّ العلم الإجمالي فيه منحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشكٍ بدوي في ما زاد على الأقل، فهذا الكلام فيه واضح وخارج عن محل الكلام، وإنّما الكلام يقع في الأقل والأكثر الارتباطيين.
في باب الأقل والأكثر الارتباطيين الكلام في الحقيقة يقع في أنّه هل هو من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين بحيث ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشكٍ بدوي في وجوب ما زاد عليه، أو أنّه من قبيل دوران الأمر بين المتباينين الذي فرغنا سابقاً عن أنّ العلم الإجمالي منجّز لكلا طرفيه ويجب فيه الاحتياط وتجري فيه قاعدة الاشتغال، هذا دوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين كما إذا شك في جزئية شيء في الصلاة، أو شك في شرطية شيء في الصلاة، هنا هل هو دوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين الذي قلنا أنّه خارج عن محل الكلام، أو هو من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، إذا كان من قبيل الأوّل فتجري البراءة بلا إشكال، وإذا كان من قبيل الثاني، فهو مورد للاحتياط والاشتغال وقاعدة منجّزية العلم الإجمالي.
وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ النزاع يقع في أنّ العلم الإجمالي الموجود في محل الكلام هل هو منحل كما هو منحل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ؟ هنا ينحل بشكلٍ واضح إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب ما زاد عليه، فتجري البراءة لنفي وجوب الزائد، فيقال أننا نعلم تفصيلاً بوجوب تسعة أجزاء من الصلاة، وإنّما نشك في وجوب ما زاد على ذلك، أي نشك في وجوب السورة عندما نشك في جزئيتها من الصلاة، هل هو كذلك، أو هو من قبيل دوران الأمر بين المتباينين الذي لا ينحل فيه العلم الإجمالي، ويكون العلم الإجمالي فيه منجّزاً ويجب فيه الاحتياط وتجري فيه قاعدة الاشتغال ؟ ومن هنا الكلام في المقام، أي في الأقل والأكثر الارتباطيين واضح أنّ الكلام بهذا الطرح مبني على الفراغ عن أنّه عندما ينحل العلم الإجمالي ويكون الشك شكّاً في التكليف الزائد، هذا مورد للبراءة، وأنّه عندما لا يكون العلم الإجمالي منحلاً ويبقى العلم الإجمالي، أيضاً يجب أن نفرغ عن قاعدة منجّزية العلم الإجمالي، وهذا ما تم الفراغ عنه سابقاً، في موارد الشك في التكليف البدوي الغير المقترن بالعلم الإجمالي، هذا مورد للبراءة بلا إشكال بالأدلة السابقة، كما أنّه في موارد دوران الأمر بين المتباينين، يعني موارد الشك في التكليف المقرون بالعلم الإجمالي، هذا مورد لقاعدة منجّزية العلم الإجمالي، والكلام يقع في أنّ محل الكلام هذا هل هو ملحق بالأوّل حتى تجري فيه البراءة، أو هو ملحق بالثاني حتى يكون مورداً لقاعدة الاحتياط ؟
هناك شيء آخر لابدّ من إضافته حتّى يدخل المورد في محل النزاع وهو أنّه لابدّ أن نقيّد محل الكلام بأن لا يكون المشكوك مضراً بالواجب عند الإتيان به على تقدير عدم كونه جزءاً، أو شرطاً، كما إذا شككنا في جزئية السورة مثلاً، يجب أن لا تكون مضرّة بالصلاة على تقدير عدم كونها جزءاً، هذا لابدّ منه في محل الكلام، أنّ السورة التي نشك في كونها جزءاً من الصلاة، أو أنّها ليست جزءاً على تقدير عدم وجوبها يجب أن لا تكون مضرّة بالصلاة عند الإتيان بها، أن لا تكون مانعة من صحة الصلاة. وبعبارةٍ أخرى، يجب أن لا تكون الصلاة مقيدة بعدمها، وإنّما تكون الصلاة لا بشرط من ناحيتها، يأتي بها المكلّف من باب الاحتياط حتى على تقدير عدم وجوبها هي لا تضر في صحة الصلاة، الصلاة تقع صحيحة وإن جاء بالسورة التي هي غير واجبة بالفرض، وأمّا إذا كانت صحة الصلاة مقيدة بعدم ذلك الجزء المشكوك، أو الشرط المشكوك بحيث أن وجوده يكون مضراً بالصلاة، في هذه الحالة يخرج الأمر من محل الكلام ويدخل في باب دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّ الإتيان بالسورة فيه محذور أنّه يكون مضراً بالصلاة ويكون مانعاً من صحة الصلاة، وعدم الإتيان بالسورة فيه محذور احتمال أن تكون جزءاً من الصلاة، وبالتالي لابدّ أن نفترض أنّ محل الكلام هو فيما لو كان المشكوك على تقدير عدم وجوبه لا يكون الإتيان به من باب الاحتياط مضرّاً بصحة العمل ومفسداً لصحة العمل حتى يقال أنّ الأمر دائر بين الأقل والأكثر، حتّى يكون هناك مجال للقول أنت يجب عليك الاحتياط؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لكلا الطرفين فيجب الإتيان بالأكثر، لكن عندما يأتي بالأكثر هو لا يعلم أنّ السورة جزء من الصلاة، لكن الإتيان بها على كل تقدير لا يكون مضراً بالصلاة، سواء كانت واجبة أو لا؛ حينئذٍ هذا هو الذي يدخل في محل الكلام، وإلاّ لو كان مضراً بالصلاة، الأمر يدخل في باب دوران الأمر بين المحذورين، في الحقيقة يدخل في دوران الأمر بين المانعية والشرطية، بين أن يكون هذا شرطاً في صحّة الصلاة وبين أن يكون مانعاً من صحتها، وهذا دوران للأمر بين المحذورين وهو خارج عن محل الكلام.
إذن: حينما نتكلّم يجب أن نتكلّم عن جزءٍ يُشك في جزئيته، أو عن شرطٍ يُشك في شرطتيه، لكنّه على تقدير عدم جزئيته وعلى تقدير عدم شرطيته لا يكون مضراً بالعمل ولا مانعاً من صحّة العمل لو جاء به المكلّف بعنوان الاحتياط، قد يكون مضراً عندما يأتي به بعنوان الجزئية من باب التشريع، لو جاء به من باب الاحتياط لا يكون مضراً بالعمل حتّى لو لم يكن جزءاً، أو لم يكن شرطاً في الواقع. بعد ذلك نقول أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بدواً يشمل فروضاً متعددة:
الفرض الأوّل: دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بحسب الأجزاء، كما لو شك في جزئية السورة للصلاة.
الفرض الثاني: أن يكون الدوران بحسب الشروط لا بحسب الأجزاء، كما لو شك في شرطية شيء في العمل.
هناك فرض ثالث ورابع أيضاً أُدرجا في محل الكلام وهو موارد دوران الأمر بين التخيير والتعيين العقلي، ودوران الأمر بين التخيير والتعيين الشرعي، مثال الثاني هو الكفارات حيث يدور أمر الواجب فيها بين أن يكون هو خصوص الصيام، أو أنّه مخيّر بين الصيام والإطعام والعتق، فيدور الأمر بين التخيير بين هذه الثلاثة وبين التعيين، ومثال دوران الأمر بين التخيير والتعيين العقلي هو دوران الأمر بين الطبيعة وبعض أفرادها وحصّة من حصصها، كما لو فرضنا أنّه وجب على الإنسان إمّا إطعام إنسان، أو إطعام زيدٍ من الإنسان، أو إما إطعام الحيوان، وإمّا إطعام الإنسان من الحيوان، فيدور الأمر بين الطبيعي وبين حصّة من حصصه، في هذه الحالة يدور الأمر هنا بين التعيين وبين التخيير، التعيين هو الحصّة الخاصّة والتخيير هو التخيير بين أفراد تلك الطبيعة التي تكون تلك الحصّة مصداقاً من مصاديق تلك الطبيعة، فإمّا أن تكون الحصّة بعنوانها واجبة، وإمّا أن تكون الحصّة واجبة تخييراً عقلاً بينها وبين بقية الحصص، إذا كان الواجب هو إطعام مطلق الحيوان، فالإنسان حينئذٍ حصّة من حصص هذه الطبيعة، فيكون الإنسان مخيراً بين إطعامه، أو إطعام سائر الحصص الأخرى، أمّا لو كان الواجب هو إطعام خصوص الإنسان من تلك الطبيعة، فهذا يكون واجباً معيناً. هذا أيضاً أُدرج في محل الكلام وقيل أنّ الدوران فيه أيضاً يقع بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وسيأتي الكلام عن هذين الفرضين.
الكلام أولاً يقع في الفرض الأوّل: وهو الذي تكلّموا فيه، وهو ما إذا كان الدوران بين الأقل والأكثر بحسب الأجزاء، كلّما شكّ المكلّف في جزئية شيء من عمل، هذا يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. في هذا المقام اختلف المحققون في حكم هذا الفرض على أقوالٍ وآراءٍ أهمها الأقوال الثلاثة المعروفة:
القول الأوّل: أنّ هذا مجرى لقاعدة الاشتغال، فيجب الاحتياط فيه ولا تجري فيه البراءة العقلية، ولا البراءة النقلية.
القول الثاني: جريان البراءة العقلية والنقلية، وأنّ المورد ليس من موارد قاعدة الاشتغال، وإنّما هو من موارد قاعدة البراءة العقلية والنقلية، كل منهما يجري في محل الكلام.
القول الثالث: التفصيل بين البراءة العقلية وبين البراءة النقلية بعد الفراغ عن أنّ المورد ليس من موارد قاعدة الاشتغال. غاية الأمر أن القول الثالث يُفرّق بين البراءة العقلية والنقلية، ويرى أنّ البراءة النقلية هي الجارية في محل الكلام دون البراءة العقلية.
القول الأوّل وهو عدم جريان البراءة مطلقاً وأنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال، الظاهر أنّ ممّن ذهب إليه هو المحقق صاحب الحاشية على المعالم(قدّس سرّه)، حيث ذهب إلى هذا الرأي في(هداية المسترشدين) واختاره صريحاً واستدلّ عليه بوجوه يذكرها في كتابه. والقول الثاني الذي هو جريان البراءتين العقلية والنقلية اختاره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الرسائل وهو قول معروف له حيث يرى أنّ البراءة تجري في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين عقلاً ونقلاً. وأمّا التفصيل بين البراءتين وجريان البراءة النقلية دون العقلية فهذا هو رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه) اختاره في الكفاية وأصرّ عليه. في بعض الكتب وجدت أنّ القول الأوّل يُنسب إلى صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أيضاً، لكن في حاشيته على(الفرائد) حيث نُسب إليه أنّه ذهب إلى عدم جريان البراءة مطلقاً لا النقلية ولا العقلية، ولم يسعني المراجعة بشكلٍ كامل، لكن احتمل حصول خلطٍ واشتباه، أنّ هذا الرأي هو لصاحب الحاشية على المعالم، وكلامه صريح في حاشيته على المعالم في اختياره للرأي الأوّل لا لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) في حاشيته على الرسائل، هذا احتمال يحتاج إلى مزيد مراجعة. على كل حال لم أرَ نسبة القول الأوّل إلى المحقق الخراساني(قدّس سرّه)، رأيه هو الرأي الموجود في الكفاية وهو التفصيل بين البراءتين. هذه هي الأقوال الثلاثة في المسألة وهي الأقوال المهمة في محل الكلام.
ما تقدّم من الكلام سابقاً في الصور المتقدّمة كان كلّه مبنيّاً على ما ذهب إليه المشهور من انحلال العلم الإجمالي الثاني بأحد الوجوه المتقدّمة من وجوه الانحلال، وأمّا إذا أنكرنا انحلال العلم الإجمالي الثاني وقلنا بعدم انحلاله وأنّه ينّجز كلا طرفيه الملاقي والطرف الآخر، وأنّه لا مانع من أن يتلقّى الطرف الآخر التنجيز من كلٍ من العلمين الإجماليين المفترضين في محل الكلام، العلم الإجمالي الأوّل والعلم الإجمالي الثاني، فأنّ الطرف الآخر هو طرف في كلا العلمين، فلا مانع من أن يتلقى التنجيز من كلٍ منهما، وهذا معناه أنّ كل الأطراف الثلاثة تكون منجّزة، الملاقي والملاقى والطرف الآخر، كلّها يجب الاجتناب عنها. بناءً على هذا تكون النتيجة نفس النتيجة السابقة، في محل الكلام أيضاً نقول يجب الاجتناب عن الملاقي وعن الملاقى وعن الطرف الآخر لا كما يقول صاحب الكفاية(قدّس سرّه) من أنّه يجب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى في فرض ما إذا خرج الملاقى عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي، ثمّ دخل في محل الابتلاء بعد ذلك، هنا أيضاً نقول نفس النتيجة السابقة بناءً على ما تقدّم بناءً على إنكار الوجوه الأربعة وعدم تماميتها لانحلال العلم الإجمالي الثاني، فالنتيجة هي نفس النتيجة، وذلك لأنّ العلم الإجمالي لا يمنع كما تقدّم من إجراء الأصل في الملاقى وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء إذا ترتب عليه أثر وثمرة عملية، وقلنا بأنّ الأثر يترتب على إجراء أصالة الطهارة في الملاقى وإن خرج عن محل الابتلاء، وأثره يظهر في طهارة الملاقي على ما تقدّم سابقاً؛ فحينئذٍ يجري الأصل في الملاقى ويعارض بالأصل في الطرف الآخر، فيتعارضان ويتساقطان، فيبقى الملاقى بلا أصل عملي ويتنجّز وجوب الاجتناب فيه بالعلم الإجمالي المذكور. وأمّا الملاقي فبناءً على ما تقدم أيضاً يتنجز بالعلم الإجمالي الثاني، إن لم نقل بأنّ الملاقي يتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل على ما تقدّم سابقاً، فهو يتنجّز بالعلم الإجمالي الثاني، فالملاقى يتنجز والملاقي أيضاً يتنجّز، فضلاً عن الطرف الآخر، والنتيجة هي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف الثلاثة حتّى في هذا الفرض الذي ذكره في الكفاية، وإنّما هذا الخلاف السابق والآراء المطروحة سابقاً كلّها كانت مبنية على ما هو معروف من سقوط العلم الإجمالي الثاني عن التنجيز وانحلاله ودعوى أنّ الأصل لا يكون جارياً في الملاقى عندما يكون خارجاً عن محل الابتلاء.
إلى هنا يتم الكلام عن هذه المسألة المهمّة وهي دوران الأمر بين المتباينين ومسألة منجّزية العلم الإجمالي وشروط هذه المنجّزية والفروع التي تترتب على ذلك، بعد ذلك ندخل في مسألةٍ جديدة، وهي دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
((دوران الأمر بين الأقل والأكثر))
والكلام يقع في أنّه هل يجب الاحتياط في هذه المسألة، أو أنّه يمكن إجراء البراءة لنفي وجوب المقدار الزائد على الأقل ؟ هذا البحث يقع بعد الفراغ عن أنّ الشك في التكليف هو مورد للبراءة، وأنّ الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف هو مورد لقاعدة الاشتغال. بعد الفراغ عن ذلك يقع الكلام في أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر هل يُلحق بالشك في التكليف حتى تجري فيه البراءة لنفي وجوب ما عدا الزائد على الأقل، أو يُلحق بالشك في المكلّف به حتّى يكون مورداً لقاعدة الاشتغال. هذا الترديد في انّ الشك بين الأقل والأكثر هل يُلحق بالشك في التكليف، أو بالشك في المكلّف به، هذا الترديد واحتمال كلا الأمرين يختص بما إذا كان الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين؛ حينئذٍ يأتي فيه هذا الترديد ويأتي فيه هذا الكلام، في باب الأقل والأكثر الارتباطيين هناك تكليف واحد له امتثال واحد وله عصيان واحد، وإنّما الشك يكون في أنّه هل يتعلّق بالأقل، أو يتعلّق بالأكثر، هذا هو شكّنا، وإلاّ هو تكليف واحد له امتثال واحد وعصيان واحد لا نعلم أنّه يتعلّق بالأكثر، أو يتعلّق بالأقل، ومثاله الواضح هو ما إذا وجبت الصلاة وتردّد أمرها بين أن تكون مركبة من تسعة أجزاء، أو عشرة أجزاء، كلّما شكّ المكلّف في جزئية شيءٍ في الصلاة، هذا الشك في الواقع هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وهكذا إذا شك في شرطية شيءٍ في الصلاة أيضاً هو في الواقع يدخل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. أمّا دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين فهو خارج عن محل الكلام الذي يعني أنّ الوجوب متعدد، يعني على تقدير وجوب الأكثر الزائد على الأقل يكون واجباً مستقلاً له عصيان خاص وإطاعة خاصّة، وليس مرتبطاً بالأقل كما لو علم بأنّه مدين لزيد إمّا بدينار أو دينارين، على تقدير أن يكون مديناً لزيد بدينارين، فما زاد على الدينار هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص، وعصيانه غير مرتبط بعصيان أو امتثال الأقل، وإطاعته أيضاً غير مرتبطة بذلك، كلٌ منهما وجوب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص، بينما هذا الشيء لم يكن موجوداً في الأقل والأكثر الارتباطيين، ما زاد على الأقل على تقدير وجوب الأكثر ليس له وجوب مستقل، ما زاد على الأقل في باب الصلاة على تقدير وجوب الأكثر وهو أن تكون أجزاء الصلاة عشرة، هذا المقدار الزائد ليس وجوبه وجوباً استقلالياً، وإنّما هو وجوب ارتباطي، هو مرتبط بباقي الأجزاء؛ لأننا قلنا أنّ هناك تكليفاً واحداً ليس أكثر من ذلك، له إطاعة واحدة وله عصيان واحد لا أكثر وليس وجوبات مستقلة تتعدد بعدد الأجزاء، أو الأطراف؛ بل هو وجوب واحد، بينما في باب الاستقلالية هناك وجوبات متعددة بحيث يكون المقدار الزائد على الأقل على تقدير وجوب الأكثر هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصيان خاص. ومن هنا الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين يكون خارجاً عن محل الكلام، وذلك لوضوح أنّه ملحق بالشك في التكليف، وإن كان عنواناً هو دوران الأمر بين الأقل والأكثر، لكن في الواقع هو علم تفصيلي بتكليفٍ، وشك بدوي في تكليف آخر؛ لأننا قلنا أنّ الزائد على القدر المتيقن على تقدير وجوب الأكثر هو تكليف مستقل، ما يعلمه المكلّف تفصيلاً هو أنّ ذمّته مشغولة بدينار، لكن هل ذمّته مشغولة بأكثر من ذلك ؟ هذا مشكوك، وهو شكّ في التكليف الزائد، والشك في التكليف الزائد تجري فيه البراءة، وليس هذا المورد من موارد الشك والذي يقع فيه البحث أنّه هل يلحق بالشك في التكليف، أو يلحق بالشك في المكلّف به حتّى تجري فيه قاعدة الاشتغال، من الواضح أنّه شك في التكليف وسيأتي أنّ العلم الإجمالي فيه منحل إلى علم تفصيلي بالأقل وشكٍ بدوي في ما زاد على الأقل، فهذا الكلام فيه واضح وخارج عن محل الكلام، وإنّما الكلام يقع في الأقل والأكثر الارتباطيين.
في باب الأقل والأكثر الارتباطيين الكلام في الحقيقة يقع في أنّه هل هو من قبيل الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين بحيث ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشكٍ بدوي في وجوب ما زاد عليه، أو أنّه من قبيل دوران الأمر بين المتباينين الذي فرغنا سابقاً عن أنّ العلم الإجمالي منجّز لكلا طرفيه ويجب فيه الاحتياط وتجري فيه قاعدة الاشتغال، هذا دوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين كما إذا شك في جزئية شيء في الصلاة، أو شك في شرطية شيء في الصلاة، هنا هل هو دوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين الذي قلنا أنّه خارج عن محل الكلام، أو هو من قبيل دوران الأمر بين المتباينين، إذا كان من قبيل الأوّل فتجري البراءة بلا إشكال، وإذا كان من قبيل الثاني، فهو مورد للاحتياط والاشتغال وقاعدة منجّزية العلم الإجمالي.
وبعبارة أكثر وضوحاً: أنّ النزاع يقع في أنّ العلم الإجمالي الموجود في محل الكلام هل هو منحل كما هو منحل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ؟ هنا ينحل بشكلٍ واضح إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب ما زاد عليه، فتجري البراءة لنفي وجوب الزائد، فيقال أننا نعلم تفصيلاً بوجوب تسعة أجزاء من الصلاة، وإنّما نشك في وجوب ما زاد على ذلك، أي نشك في وجوب السورة عندما نشك في جزئيتها من الصلاة، هل هو كذلك، أو هو من قبيل دوران الأمر بين المتباينين الذي لا ينحل فيه العلم الإجمالي، ويكون العلم الإجمالي فيه منجّزاً ويجب فيه الاحتياط وتجري فيه قاعدة الاشتغال ؟ ومن هنا الكلام في المقام، أي في الأقل والأكثر الارتباطيين واضح أنّ الكلام بهذا الطرح مبني على الفراغ عن أنّه عندما ينحل العلم الإجمالي ويكون الشك شكّاً في التكليف الزائد، هذا مورد للبراءة، وأنّه عندما لا يكون العلم الإجمالي منحلاً ويبقى العلم الإجمالي، أيضاً يجب أن نفرغ عن قاعدة منجّزية العلم الإجمالي، وهذا ما تم الفراغ عنه سابقاً، في موارد الشك في التكليف البدوي الغير المقترن بالعلم الإجمالي، هذا مورد للبراءة بلا إشكال بالأدلة السابقة، كما أنّه في موارد دوران الأمر بين المتباينين، يعني موارد الشك في التكليف المقرون بالعلم الإجمالي، هذا مورد لقاعدة منجّزية العلم الإجمالي، والكلام يقع في أنّ محل الكلام هذا هل هو ملحق بالأوّل حتى تجري فيه البراءة، أو هو ملحق بالثاني حتى يكون مورداً لقاعدة الاحتياط ؟
هناك شيء آخر لابدّ من إضافته حتّى يدخل المورد في محل النزاع وهو أنّه لابدّ أن نقيّد محل الكلام بأن لا يكون المشكوك مضراً بالواجب عند الإتيان به على تقدير عدم كونه جزءاً، أو شرطاً، كما إذا شككنا في جزئية السورة مثلاً، يجب أن لا تكون مضرّة بالصلاة على تقدير عدم كونها جزءاً، هذا لابدّ منه في محل الكلام، أنّ السورة التي نشك في كونها جزءاً من الصلاة، أو أنّها ليست جزءاً على تقدير عدم وجوبها يجب أن لا تكون مضرّة بالصلاة عند الإتيان بها، أن لا تكون مانعة من صحة الصلاة. وبعبارةٍ أخرى، يجب أن لا تكون الصلاة مقيدة بعدمها، وإنّما تكون الصلاة لا بشرط من ناحيتها، يأتي بها المكلّف من باب الاحتياط حتى على تقدير عدم وجوبها هي لا تضر في صحة الصلاة، الصلاة تقع صحيحة وإن جاء بالسورة التي هي غير واجبة بالفرض، وأمّا إذا كانت صحة الصلاة مقيدة بعدم ذلك الجزء المشكوك، أو الشرط المشكوك بحيث أن وجوده يكون مضراً بالصلاة، في هذه الحالة يخرج الأمر من محل الكلام ويدخل في باب دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّ الإتيان بالسورة فيه محذور أنّه يكون مضراً بالصلاة ويكون مانعاً من صحة الصلاة، وعدم الإتيان بالسورة فيه محذور احتمال أن تكون جزءاً من الصلاة، وبالتالي لابدّ أن نفترض أنّ محل الكلام هو فيما لو كان المشكوك على تقدير عدم وجوبه لا يكون الإتيان به من باب الاحتياط مضرّاً بصحة العمل ومفسداً لصحة العمل حتى يقال أنّ الأمر دائر بين الأقل والأكثر، حتّى يكون هناك مجال للقول أنت يجب عليك الاحتياط؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لكلا الطرفين فيجب الإتيان بالأكثر، لكن عندما يأتي بالأكثر هو لا يعلم أنّ السورة جزء من الصلاة، لكن الإتيان بها على كل تقدير لا يكون مضراً بالصلاة، سواء كانت واجبة أو لا؛ حينئذٍ هذا هو الذي يدخل في محل الكلام، وإلاّ لو كان مضراً بالصلاة، الأمر يدخل في باب دوران الأمر بين المحذورين، في الحقيقة يدخل في دوران الأمر بين المانعية والشرطية، بين أن يكون هذا شرطاً في صحّة الصلاة وبين أن يكون مانعاً من صحتها، وهذا دوران للأمر بين المحذورين وهو خارج عن محل الكلام.
إذن: حينما نتكلّم يجب أن نتكلّم عن جزءٍ يُشك في جزئيته، أو عن شرطٍ يُشك في شرطتيه، لكنّه على تقدير عدم جزئيته وعلى تقدير عدم شرطيته لا يكون مضراً بالعمل ولا مانعاً من صحّة العمل لو جاء به المكلّف بعنوان الاحتياط، قد يكون مضراً عندما يأتي به بعنوان الجزئية من باب التشريع، لو جاء به من باب الاحتياط لا يكون مضراً بالعمل حتّى لو لم يكن جزءاً، أو لم يكن شرطاً في الواقع. بعد ذلك نقول أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بدواً يشمل فروضاً متعددة:
الفرض الأوّل: دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بحسب الأجزاء، كما لو شك في جزئية السورة للصلاة.
الفرض الثاني: أن يكون الدوران بحسب الشروط لا بحسب الأجزاء، كما لو شك في شرطية شيء في العمل.
هناك فرض ثالث ورابع أيضاً أُدرجا في محل الكلام وهو موارد دوران الأمر بين التخيير والتعيين العقلي، ودوران الأمر بين التخيير والتعيين الشرعي، مثال الثاني هو الكفارات حيث يدور أمر الواجب فيها بين أن يكون هو خصوص الصيام، أو أنّه مخيّر بين الصيام والإطعام والعتق، فيدور الأمر بين التخيير بين هذه الثلاثة وبين التعيين، ومثال دوران الأمر بين التخيير والتعيين العقلي هو دوران الأمر بين الطبيعة وبعض أفرادها وحصّة من حصصها، كما لو فرضنا أنّه وجب على الإنسان إمّا إطعام إنسان، أو إطعام زيدٍ من الإنسان، أو إما إطعام الحيوان، وإمّا إطعام الإنسان من الحيوان، فيدور الأمر بين الطبيعي وبين حصّة من حصصه، في هذه الحالة يدور الأمر هنا بين التعيين وبين التخيير، التعيين هو الحصّة الخاصّة والتخيير هو التخيير بين أفراد تلك الطبيعة التي تكون تلك الحصّة مصداقاً من مصاديق تلك الطبيعة، فإمّا أن تكون الحصّة بعنوانها واجبة، وإمّا أن تكون الحصّة واجبة تخييراً عقلاً بينها وبين بقية الحصص، إذا كان الواجب هو إطعام مطلق الحيوان، فالإنسان حينئذٍ حصّة من حصص هذه الطبيعة، فيكون الإنسان مخيراً بين إطعامه، أو إطعام سائر الحصص الأخرى، أمّا لو كان الواجب هو إطعام خصوص الإنسان من تلك الطبيعة، فهذا يكون واجباً معيناً. هذا أيضاً أُدرج في محل الكلام وقيل أنّ الدوران فيه أيضاً يقع بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وسيأتي الكلام عن هذين الفرضين.
الكلام أولاً يقع في الفرض الأوّل: وهو الذي تكلّموا فيه، وهو ما إذا كان الدوران بين الأقل والأكثر بحسب الأجزاء، كلّما شكّ المكلّف في جزئية شيء من عمل، هذا يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. في هذا المقام اختلف المحققون في حكم هذا الفرض على أقوالٍ وآراءٍ أهمها الأقوال الثلاثة المعروفة:
القول الأوّل: أنّ هذا مجرى لقاعدة الاشتغال، فيجب الاحتياط فيه ولا تجري فيه البراءة العقلية، ولا البراءة النقلية.
القول الثاني: جريان البراءة العقلية والنقلية، وأنّ المورد ليس من موارد قاعدة الاشتغال، وإنّما هو من موارد قاعدة البراءة العقلية والنقلية، كل منهما يجري في محل الكلام.
القول الثالث: التفصيل بين البراءة العقلية وبين البراءة النقلية بعد الفراغ عن أنّ المورد ليس من موارد قاعدة الاشتغال. غاية الأمر أن القول الثالث يُفرّق بين البراءة العقلية والنقلية، ويرى أنّ البراءة النقلية هي الجارية في محل الكلام دون البراءة العقلية.
القول الأوّل وهو عدم جريان البراءة مطلقاً وأنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال، الظاهر أنّ ممّن ذهب إليه هو المحقق صاحب الحاشية على المعالم(قدّس سرّه)، حيث ذهب إلى هذا الرأي في(هداية المسترشدين) واختاره صريحاً واستدلّ عليه بوجوه يذكرها في كتابه. والقول الثاني الذي هو جريان البراءتين العقلية والنقلية اختاره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الرسائل وهو قول معروف له حيث يرى أنّ البراءة تجري في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين عقلاً ونقلاً. وأمّا التفصيل بين البراءتين وجريان البراءة النقلية دون العقلية فهذا هو رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه) اختاره في الكفاية وأصرّ عليه. في بعض الكتب وجدت أنّ القول الأوّل يُنسب إلى صاحب الكفاية(قدّس سرّه) أيضاً، لكن في حاشيته على(الفرائد) حيث نُسب إليه أنّه ذهب إلى عدم جريان البراءة مطلقاً لا النقلية ولا العقلية، ولم يسعني المراجعة بشكلٍ كامل، لكن احتمل حصول خلطٍ واشتباه، أنّ هذا الرأي هو لصاحب الحاشية على المعالم، وكلامه صريح في حاشيته على المعالم في اختياره للرأي الأوّل لا لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) في حاشيته على الرسائل، هذا احتمال يحتاج إلى مزيد مراجعة. على كل حال لم أرَ نسبة القول الأوّل إلى المحقق الخراساني(قدّس سرّه)، رأيه هو الرأي الموجود في الكفاية وهو التفصيل بين البراءتين. هذه هي الأقوال الثلاثة في المسألة وهي الأقوال المهمة في محل الكلام.