36/03/29
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
الكلام في أصل البحث:أصل البحث كما قلنا هو عبارة عن أنّ العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء، فهل يسقط عن التنجيز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، أو لا ؟ مع افتراض تقدّم الخروج عن محل الابتلاء على العلم الإجمالي، أو مقارنته له، وإلاّ لو كان الخروج عن محل الابتلاء متأخّراً عن العلم الإجمالي، فلا إشكال، على ضوء ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لدخوله في مسألة دوران التكليف بين الفرد الطويل والفرد القصير. إذن: محل كلامنا هو ما إذا كان الخروج عن محل الابتلاء متقدّماً، أو مقارناً للعلم الإجمالي، فهل يسقط العلم الإجمالي حينئذٍ عن التنجيز، أو لا ؟
المراد بالخروج عن محل الابتلاء، كما لعلّه اتضح ممّا تقدّم، المراد به هو ما إذا كان الفعل لا يتحقق من المكلّف عادةً لعدم ابتلائه به، مع إمكان أن يصدر منه الفعل عقلاً، وإنّما هو لا يصدر منه عادة، وإلاّ هو يمكن أن يصدر منه عقلاً، فهذا الخروج عن محل الابتلاء لا يُراد به الامتناع العقلي ولا حتّى الامتناع العادي، وإنّما يُراد به أنّ المكلّف عادةً لا يبتلي بهذا، وإلاّ هو غير ممتنع أن يصدر منه لا عقلاً ولا عادةً. ومن هنا لابدّ من افتراض أنّ الدليل الذي يُستدلّ به على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في فعلية التكليف، لابدّ أن يكون دليلاً آخر غير ما دلّ على اعتبار القدرة العقلية، أو القدرة العادية في فعلية التكليف؛ لأنّ المراد بالدخول في محل الابتلاء والخروج عن محل الابتلاء شيءٌ آخر غير مسألة القدرة العقلية والامتناع العقلي، أو القدرة العادية والامتناع العادي، وإنّما المراد به شيءٌ آخر وهو ما قلناه من أنّ الفعل لا يتحقق من المكلّف عادةً بحسب الطبع الأوّلي. هذا هو المقصود بالخروج عن محل الابتلاء، ويقابله الدخول في محل الابتلاء.
الجواب عن اصل السؤال: الذي هو أنّ العلم الإجمالي هل يسقط عن التنجيز إذا كان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء كما اشرنا يرتبط بتحقيق هذه الجهة، أنّ فعلية التكليف هل هي مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، أو بما يُسمّى بالقدرة العادية كما هي مشروطة بالقدرة العقلية، أو ليست مشروطة بذلك ؟
فإن قلنا: أنّ التكليف مشروطٌ بالدخول في محل الابتلاء بحيث أنّه عندما لا يكون داخلاً في محل الابتلاء يرتفع التكليف عنه؛ حينئذٍ الجواب في أصل المسألة يكون واضحاً وهو أنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، ويكون العلم الإجمالي منحّلاً انحلالاً حقيقياً؛ لأنّه على تقدير أن يكون التكليف في هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فلا تكليف فيه، أي يسقط التكليف ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ لأنّ الدخول في محل الابتلاء شرطٌ في التكليف، فإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء، فلا تكليف فيه. نعم، يُحتمل ثبوت التكليف في الطرف الآخر، وهذا مجرّد احتمال، والعلم الإجمالي ينحل إلى علمٍ تفصيلي بعدم التكليف في هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، وشكٍ بدوي بوجود التكليف في الطرف الآخر.
وأمّا إذا قلنا: أنّ التكليف ليس مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء حتى إذا كان متعلّق التكليف خارجاً عن محل الابتلاء، مع ذلك لا مانع من تعلّق التكليف به، فالجواب عن أصل المسألة يكون بالالتزام بأنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته؛ لأننا نعلم بالتكليف على كل تقدير، سواءً كان في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء، أو كان في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، على كلا التقديرين لا يسقط التكليف، فممّا يُعلم بثبوت التكليف الفعلي على كل تقدير، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته.
استُدلّ على أنّ التكليف مشروط بالدخول في محل الابتلاء، وأنّ التكليف لا يتعلّق بشيء إلاّ إذا كان داخلاً في محل الابتلاء، وإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء يسقط عنه التكليف ولا يتعلّق به..... استُدلّ على ذلك بأدلّة:
الدليل الأوّل: ما هو موجود في الكفاية، والشيء الذي ذكره في الكفاية وتعارف نقله وذكره في كلماتهم، وحاصله هو: دعوى أنّ الغرض من النهي إنّما هو إيجاد الداعي عند المكلّف لترك الفعل، وتحريكه نحو الترك، حينما لا يكون هناك داعٍ آخر يكون الغرض من النهي هو خلق داعٍ عند المكلّف لترك الفعل؛ لأنّه لو كان هناك سبب وداعٍ آخر للترك؛ حينئذٍ لا يكون النهي هو الداعي للترك، فلابدّ من افتراض أن لا يكون هناد داعٍ آخر للترك، وبناءً على هذا، لو كان الفعل متروكاً، ولو كان هناك سبب وداعٍ آخر عند المكلّف لترك الفعل، فالنهي يكون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ الغرض من النهي هو إيجاد الداعي للترك عند المكلّف، فإذا كان الداعي للترك موجوداً؛ فحينئذ يكون جعل النهي لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ النهي إنّما يؤتى به لغرض إيجاد الداعي، والمفروض أنّ الداعي للترك موجود؛ فحينئذٍ يكون الخطاب لغواً، ويكون النهي لغواً وبلا فائدة. نعم، لو لم يكن عند المكلّف داعٍ للترك؛ حينئذٍ يكون النهي معقولاً؛ لأنّه سوف يخلق داعياً عند المكلّف للترك، وهذا إنّما يصح في ما إذا كان متعلّق النهي داخلاً في محل الابتلاء، فيُعقل تعلّق النهي به ويحقق هذا النهي الغرض منه، وهو أنّه يخلق داعياً عند المكلّف لترك هذا الفعل الداخل في محل ابتلائه. وأمّا إذا كان الفعل خارجاً عن محل الابتلاء وكان متروكاً بحسب الطبع، فهنا يكون النهي بلا فائدة وبلا حاصل؛ لأنّ نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء يعتبر سبباً لترك الفعل عادةً وداعياً لترك الفعل عادةً، ومع وجود الداعي لترك الفعل يأتي الشارع ويجعل النهي لغرض خلق الداعي لترك الفعل، هذا بلا حاصل، فيكون لغواً. هذا هو الدليل الأوّل وهو دليل اللّغوية، أنّ جعل النهي عندما يكون المتعلّق خارجاً عن محل الابتلاء ولا يبتلي به المكلّف عادةً، جعل النهي يكون لغواً، وهذا محذور عقلي مرجعه إلى لغوية مضمون الخطاب، ولغوية مدلول النهي، فكأنّه يرجع إلى محذور عقلي واللّغو يستحيل أن يصدر من الحكيم، فيكون محالاً باعتبار كونه لغواً. هذا ما يُفهم من كلام صاحب الكفاية (قدّس سرّه). [1]
واضح من كلام صاحب الكفاية (قدّس سرّه) أنّه أدّعى ذلك في النهي فقط، وكلامه مختصّ أصلاً بالنهي، وكأنّه لا يريد تعميمه للتكليف الوجوبي، وإنّما خصّه بالتكليف التحريمي، فذكر هذا الوجه لإثبات أنّ التكليف التحريمي مشروط بدخول المتعلّق في محل الابتلاء، وإلاّ يكون النهي عنه لغواً ومستحيلاً بالتالي من جهة صدوره من الحكيم، أمّا في التكليف الوجوبي فهو لم يدّعِ هذا، ولعلّه ـــــــــــ كما ذُكر في بعض الكلمات ـــــــــــ باعتبار أنّ هذه اللّغوية بهذا البيان لا تُتصوّر إلاّ في المحرّمات، لا تُتصوّر في التكليف الوجوبي؛ لأنّ اللّغوية بهذا البيان في باب التكليف التحريمي نفس افتراض خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب لترك الفعل، فالنهي يكون لغواً لأنّه قد تحقق غرضه؛ إذ بنفس الخروج عن محل الابتلاء يتحقق الغرض من النهي؛ لأنّ الغرض من النهي هو إيجاد سبب للترك، بينما نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب للترك، فكأنّه تحقق الغرض من النهي وعندما يتحقق الغرض من النهي؛ حينئذٍ يكون النهي بلا فائدة، فيكون لغواً، هذا الكلام لا يمكن تطبيقه على التكليف الوجوبي عندما يُفترض أنّ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّ خروج الفعل عن محل الابتلاء في التكليف الوجوبي لا يعني تحقق الغرض من التكليف الوجوبي إطلاقاً؛ لأنّ الغرض من التكليف الوجوبي هو خلق داعٍ للفعل، وهذا الداعي للفعل غير متحقق بمجرّد افتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء؛ بل لعلّه بالعكس؛ إذ لعلّ خروجه عن محل الابتلاء يكون داعياً لعدم الفعل، فبمجرّد افتراض خروج الفعل الذي يتعلّق به الوجوب عن محل الابتلاء لا يعني بالضرورة تحقق الغرض من الوجوب، ولا يعني بالضرورة وجود سببٍ للفعل حتّى نقول أنّ الوجوب بلا فائدة لأنّ غرضه تحقق، كلا، ليس هكذا، فإذن: من المعقول جدّاً أن يتعلّق التكليف الوجوبي بما هو خارج عن محل الابتلاء، حتّى لو افترضنا أنّ ذاك الفعل خارج عن محل الابتلاء، وأنّ له مقدّمات طويلة وعسيرة جدّاً، لكن أيّ ضيرٍ في أنّ الشارع عندما تقتضي المصالح أن يأمر بذلك الفعل الذي له مقدّمات طويلة وعسيرة، ويلزم المكلّف أن يطوي هذه المقدّمات حتّى يأتي بذلك الفعل ويكون الأمر معقولاً وليس لغواً؛ لأنّ الغرض منه أن يخلق داعياً عند المكلّف للتحرّك نحو الفعل، وهذا الغرض يمكن أن يُخلق بالتكليف الوجوبي، ومجرّد خروج الفعل عن محل الابتلاء لا يعني أنّ المكلّف صار عنده داعٍ للفعل؛ بل لعلّ الأمر كما قلنا بالعكس، ومن هنا لعلّه خصّ كلامه بالنهي ولم يعممّه لمطلق التكليف في ما يرتبط بمحذور اللّغوية.
نعم، إذا فرضنا ـــــــــــــ كما تقدّم الإشارة إلى ذلك سابقاً ــــــــــــ أنّ الداعي للفعل كان موجوداً عند المكلّف بمجرّد افتراض خروج الترك عن محل ابتلائه كما يحصل في بعض الأحيان كما مثّلنا سابقاً بباب الإنفاق على نفسه، والأمر بأن يحب ولده الصغير، هذه أمور الداعي لفعلها موجود بقطع النظر عن الوجوب الشرعي، هنا يمكن أن يقال هل يُعقل جعل الوجوب حينئذٍ ؟ ويأتي محذور اللّغوية، يمكن أن يقال هذا على غرار ما قيل في النهي؛ لأنّه في حالة من هذا القبيل نفس افتراض خروج الترك عن محل الابتلاء يعني وجود سببٍ للفعل؛ لأنّ الترك خارج عن محل الابتلاء، هذا الإنسان الذي هو إنسان عادي يمتلك عاطفة عنده سبب لكي ينفق على ولده وعلى نفسه، هناك داعٍ وسببٍ لكي ينفق على نفسه، فيقال ما معنى أنّ يجعل الشارع وجوباً لغرض إيجاد الداعي للتحرك نحو الفعل ؟! والحال أنّ الداعي للتحرك نحو الفعل موجود كما هو الحال في النهي، فإذا آمنا بمحذور اللّغوية في جانب النهي لابدّ أن نؤمن بمحذور اللّغوية في جانب الأمر من هذه الجهة بهذا الاعتبار، يعني عندما يكون هناك داعٍ للفعل عند المكلّف بقطع النظر عن الأمر الشرعي، يقع الكلام في أنّ التكليف الوجوبي هل هو لغو، أو ليس لغواً ؟ كما يقع الكلام في التكليف التحريمي عندما يكون لدى المكلّف داعٍ للترك بقطع النظر عن النهي الشرعي.
يبدو أنّ محذور اللّغوية هذا يختلف عن المحاذير الآتية التي سنذكرها، يعني هذا الوجه الأوّل الذي يُستدلّ به لاشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء يختلف عن محذور الاستهجان العرفي، ويختلف عن محذور تحصيل الحاصل على ما سيأتي، هذا محذور عقلي وليس عقلائي، وإنّما هو محذور عقلي مرجعه إلى استحالة الخطاب باعتبار استحالة مضمونه، أنّ مضمون الخطاب لغو، أي أنّ مضمون النهي لغو، واللّغو يستحيل أن يصدر من الحكيم، فيكون محذوراً عقلياً من هذه الجهة. هذا هو الدليل الأوّل.
نوقش في هذا الدليل بمناقشتين:
المناقشة الأولى: يذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) كما هو مذكور في(المصباح)[2] و(الدراسات)[3] وحاصل ما يقوله هو: أنّ مصلحة جعل التحريم ليس هو مجرّد حصول الترك في الخارج، وإنّما هناك مصلحة أخرى تترتب على جعل التحريم غير مسألة حصول الترك في الخارج حتّى يقال إذا كان الترك حاصلاً بحسب طبع القضية؛ فحينئذٍ لا داعي لجعل النهي، فيكون لغواً؛ بل هناك شيء آخر يتوخّاه الشارع من جعل التحريم وهو تمكين المكلّف من أن يقصد النهي الشرعي ويجعله داعياً له إلى الترك حتّى يتقرّب بذلك إلى الله(سبحانه وتعالى) وحتّى يترقّى في مراتب الكمال النفسي ويكون متقرباً إليه(سبحانه وتعالى)، ومن الواضح أنّ هذا لا يكون إلاّ بجعل النهي الشرعي، وإلاّ من دون جعل نهي شرعي لا يتمكّن المكلّف أن يتقرّب بالترك إليه(سبحانه وتعالى)؛ لأنّه ليس هناك نهي حتّى يتقرّب به إليه، وحتّى يجعله داعياً للترك وبذلك يكون متقرّباً إليه(سبحانه وتعالى)، هذا إنّما يتحقق بواسطة النهي، هو يترك الفعل عادةً؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، لكن هذا لا يعني أنّ النهي عنه يكون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ فائدة النهي لا تنحصر في تحقق الترك في الخارج، وإنّما هناك فائدة أخرى تترتّب على النهي ويكون النهي معها معقولاً وليس لغواً وهي مسألة تمكين المكلّف من قصد القربة بهذا النهي الشرعي، أو قل تمكين المكلّف من أن يجعل النهي الشرعي داعياً له للترك وبذلك يتقرّب إليه(سبحانه وتعالى)، فإذن: لا يمكن أن نقول أنّ النهي لغو، النهي ليس لغواً بالرغم من أنّ هذا الفعل هو منترك بحسب الطبع ولا يأتي به المكلّف، وعنده سبب لتركه وعدم الإتيان به، لكن هذه فائدة تترتب وعلى أساس هذه الفائدة لا يكون النهي لغواً وبلا حاصل.
اعتُرض على هذا الجواب: بأنّ هذا قد يتمّ في الواجبات، لكنّه لا يتم في المحرّمات، باعتبار أنّ الفعل المحرّم إذا كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهذا معناه أنّ المكلّف أصلاً لا تحدّثه نفسه أن يصدر منه الفعل؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، ومن هنا لا يكون النهي صالحاً لزجر المكلّف عنه ومنعه من ارتكابه، إلا بعد أن يتصدّى المكلّف لإيجاد الرغبة النفسية في الفعل حتّى ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي، وهذا لابدّ من فرضه حتّى يكون النهي صالحاً لأن يجعله المكلّف داعياً له للترك، لابدّ من فرض أن المكلّف يخلق رغبة في نفسه للفعل حتّى يترك الفعل بالرغم من وجود الرغبة فيه امتثالاً للنهي الشرعي وبذلك يكون متقرّباً إليه(سبحانه وتعالى)، فإنّ النهي يمكن أن يكون داعياً للترك ويمكن للمكلّف أن يستند إليه في الترك ويقول تركت الفعل لأجل النهي عندما يكون راغباً في الفعل، فيكون النهي محققاً لغرضه في هذه الحالة. إذن: لكي يحقق النهي غرضه ويخرج عن محذور اللّغوية لابدّ أن نُلزم المكلّف بأن يخلق في نفسه رغبة في الفعل حتّى يتمكّن من قصد القربة بهذا النهي الشرعي، وهذا ما لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن الالتزام بأنّ المكلّف لابدّ أن يخلق رغبة في نفسه للفعل حتّى يمكنه التقرّب بالنهي ويحقق النهي غرضه ويخرج عن كونه لغواً وبلا فائدة. يقول: أنّ هذا المعنى غير متصوّر في باب المحرّمات، قد يكون متصوّراً في باب الواجبات، لكنّه في باب المحرّمات لا يمكن تصوّره.
كأنّ المقصود بهذا الاعتراض أنّ صلاحية النهي للداعوية للترك على نحوٍ يكون هو الداعي للترك ويمكن للمكلّف أن يسند الترك إلى الناهي ويتقرّب به إلى الله(سبحانه وتعالى)، هذا إنّما يكون في حال عدم وجود رغبة نفسية من قبل المكلّف للترك، وإلاّ إذا كانت لديه رغبة نفسيه للترك؛ حينئذٍ لا يكون النهي هو الداعي للترك؛ لأنّه لديه رغبة نفسية للترك، وإلا لا يكون النهي هو الداعي للترك. إذن: لكي يكون النهي داعياً للترك ويتحقق الغرض منه ويخرج عن كونه بلا فائدة لابدّ أن يزيل المكلّف هذه الرغبة في الترك ويستبدلها برغبةٍ في الفعل حتّى يتحقق هذا المعنى ويكون النهي مقرباً ويتحقق الغرض منه، وهذا ما لا يمكن الالتزام.
جواب الاعتراض هو: أنّ صلاحية النهي للداعوية وإسناد الترك إليه وكونه هو السبب في ترك الفعل لا يتوقف على وجود رغبة في الفعل؛ بل حتّى مع عدم وجود رغبة في الفعل؛ بل حتّى مع فرض وجود داعٍ للترك يمكن أن يكون النهي مقرباً حتّى مع وجود داعٍ للترك الذي يمكن أن نفترض أنّه يعني الرغبة في الترك، فضلاً عن عدم وجود رغبة في الفعل، ووجود رغبة في الترك ووجود داعٍ للترك، بالرغم من هذا يمكن التقرّب به إليه(سبحانه وتعالى) على ضوء ما ثبت من أنّ الداعي القربي يكفي فيه أن يكون مستقلاً في الداعوية في حدّ نفسه حتّى إذا انظم إليه داعٍ آخر غير محرّم من رياءٍ ونحوه..... حتّى إذا انظم إليه داعٍ آخر واشتركا في التأثير، وكان كل منهما جزء السبب في الترك، مع ذلك هذا النهي يكون مقرّباً ويمكن التقرّب به إليه (سبحانه وتعالى) ويتحقق الغرض منه ولا يكون لغواً.
إذن: لا يُشترط أنّ المكلّف لابدّ أن يخلق رغبة في نفسه؛ بل حتى إذا كانت لديه رغبة في الترك لوجود داعٍ للترك، مع ذلك يمكن أن يضمّه إلى الداعي الإلهي ويقصد به التقرّب إليه(سبحانه وتعالى). من هنا يظهر أنّ الوجه الأوّل للاستدلال غير تام.
الكلام في أصل البحث:أصل البحث كما قلنا هو عبارة عن أنّ العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء، فهل يسقط عن التنجيز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، أو لا ؟ مع افتراض تقدّم الخروج عن محل الابتلاء على العلم الإجمالي، أو مقارنته له، وإلاّ لو كان الخروج عن محل الابتلاء متأخّراً عن العلم الإجمالي، فلا إشكال، على ضوء ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً لدخوله في مسألة دوران التكليف بين الفرد الطويل والفرد القصير. إذن: محل كلامنا هو ما إذا كان الخروج عن محل الابتلاء متقدّماً، أو مقارناً للعلم الإجمالي، فهل يسقط العلم الإجمالي حينئذٍ عن التنجيز، أو لا ؟
المراد بالخروج عن محل الابتلاء، كما لعلّه اتضح ممّا تقدّم، المراد به هو ما إذا كان الفعل لا يتحقق من المكلّف عادةً لعدم ابتلائه به، مع إمكان أن يصدر منه الفعل عقلاً، وإنّما هو لا يصدر منه عادة، وإلاّ هو يمكن أن يصدر منه عقلاً، فهذا الخروج عن محل الابتلاء لا يُراد به الامتناع العقلي ولا حتّى الامتناع العادي، وإنّما يُراد به أنّ المكلّف عادةً لا يبتلي بهذا، وإلاّ هو غير ممتنع أن يصدر منه لا عقلاً ولا عادةً. ومن هنا لابدّ من افتراض أنّ الدليل الذي يُستدلّ به على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في فعلية التكليف، لابدّ أن يكون دليلاً آخر غير ما دلّ على اعتبار القدرة العقلية، أو القدرة العادية في فعلية التكليف؛ لأنّ المراد بالدخول في محل الابتلاء والخروج عن محل الابتلاء شيءٌ آخر غير مسألة القدرة العقلية والامتناع العقلي، أو القدرة العادية والامتناع العادي، وإنّما المراد به شيءٌ آخر وهو ما قلناه من أنّ الفعل لا يتحقق من المكلّف عادةً بحسب الطبع الأوّلي. هذا هو المقصود بالخروج عن محل الابتلاء، ويقابله الدخول في محل الابتلاء.
الجواب عن اصل السؤال: الذي هو أنّ العلم الإجمالي هل يسقط عن التنجيز إذا كان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء كما اشرنا يرتبط بتحقيق هذه الجهة، أنّ فعلية التكليف هل هي مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، أو بما يُسمّى بالقدرة العادية كما هي مشروطة بالقدرة العقلية، أو ليست مشروطة بذلك ؟
فإن قلنا: أنّ التكليف مشروطٌ بالدخول في محل الابتلاء بحيث أنّه عندما لا يكون داخلاً في محل الابتلاء يرتفع التكليف عنه؛ حينئذٍ الجواب في أصل المسألة يكون واضحاً وهو أنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، ويكون العلم الإجمالي منحّلاً انحلالاً حقيقياً؛ لأنّه على تقدير أن يكون التكليف في هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فلا تكليف فيه، أي يسقط التكليف ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ لأنّ الدخول في محل الابتلاء شرطٌ في التكليف، فإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء، فلا تكليف فيه. نعم، يُحتمل ثبوت التكليف في الطرف الآخر، وهذا مجرّد احتمال، والعلم الإجمالي ينحل إلى علمٍ تفصيلي بعدم التكليف في هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، وشكٍ بدوي بوجود التكليف في الطرف الآخر.
وأمّا إذا قلنا: أنّ التكليف ليس مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء حتى إذا كان متعلّق التكليف خارجاً عن محل الابتلاء، مع ذلك لا مانع من تعلّق التكليف به، فالجواب عن أصل المسألة يكون بالالتزام بأنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته؛ لأننا نعلم بالتكليف على كل تقدير، سواءً كان في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء، أو كان في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، على كلا التقديرين لا يسقط التكليف، فممّا يُعلم بثبوت التكليف الفعلي على كل تقدير، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته.
استُدلّ على أنّ التكليف مشروط بالدخول في محل الابتلاء، وأنّ التكليف لا يتعلّق بشيء إلاّ إذا كان داخلاً في محل الابتلاء، وإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء يسقط عنه التكليف ولا يتعلّق به..... استُدلّ على ذلك بأدلّة:
الدليل الأوّل: ما هو موجود في الكفاية، والشيء الذي ذكره في الكفاية وتعارف نقله وذكره في كلماتهم، وحاصله هو: دعوى أنّ الغرض من النهي إنّما هو إيجاد الداعي عند المكلّف لترك الفعل، وتحريكه نحو الترك، حينما لا يكون هناك داعٍ آخر يكون الغرض من النهي هو خلق داعٍ عند المكلّف لترك الفعل؛ لأنّه لو كان هناك سبب وداعٍ آخر للترك؛ حينئذٍ لا يكون النهي هو الداعي للترك، فلابدّ من افتراض أن لا يكون هناد داعٍ آخر للترك، وبناءً على هذا، لو كان الفعل متروكاً، ولو كان هناك سبب وداعٍ آخر عند المكلّف لترك الفعل، فالنهي يكون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ الغرض من النهي هو إيجاد الداعي للترك عند المكلّف، فإذا كان الداعي للترك موجوداً؛ فحينئذ يكون جعل النهي لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ النهي إنّما يؤتى به لغرض إيجاد الداعي، والمفروض أنّ الداعي للترك موجود؛ فحينئذٍ يكون الخطاب لغواً، ويكون النهي لغواً وبلا فائدة. نعم، لو لم يكن عند المكلّف داعٍ للترك؛ حينئذٍ يكون النهي معقولاً؛ لأنّه سوف يخلق داعياً عند المكلّف للترك، وهذا إنّما يصح في ما إذا كان متعلّق النهي داخلاً في محل الابتلاء، فيُعقل تعلّق النهي به ويحقق هذا النهي الغرض منه، وهو أنّه يخلق داعياً عند المكلّف لترك هذا الفعل الداخل في محل ابتلائه. وأمّا إذا كان الفعل خارجاً عن محل الابتلاء وكان متروكاً بحسب الطبع، فهنا يكون النهي بلا فائدة وبلا حاصل؛ لأنّ نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء يعتبر سبباً لترك الفعل عادةً وداعياً لترك الفعل عادةً، ومع وجود الداعي لترك الفعل يأتي الشارع ويجعل النهي لغرض خلق الداعي لترك الفعل، هذا بلا حاصل، فيكون لغواً. هذا هو الدليل الأوّل وهو دليل اللّغوية، أنّ جعل النهي عندما يكون المتعلّق خارجاً عن محل الابتلاء ولا يبتلي به المكلّف عادةً، جعل النهي يكون لغواً، وهذا محذور عقلي مرجعه إلى لغوية مضمون الخطاب، ولغوية مدلول النهي، فكأنّه يرجع إلى محذور عقلي واللّغو يستحيل أن يصدر من الحكيم، فيكون محالاً باعتبار كونه لغواً. هذا ما يُفهم من كلام صاحب الكفاية (قدّس سرّه). [1]
واضح من كلام صاحب الكفاية (قدّس سرّه) أنّه أدّعى ذلك في النهي فقط، وكلامه مختصّ أصلاً بالنهي، وكأنّه لا يريد تعميمه للتكليف الوجوبي، وإنّما خصّه بالتكليف التحريمي، فذكر هذا الوجه لإثبات أنّ التكليف التحريمي مشروط بدخول المتعلّق في محل الابتلاء، وإلاّ يكون النهي عنه لغواً ومستحيلاً بالتالي من جهة صدوره من الحكيم، أمّا في التكليف الوجوبي فهو لم يدّعِ هذا، ولعلّه ـــــــــــ كما ذُكر في بعض الكلمات ـــــــــــ باعتبار أنّ هذه اللّغوية بهذا البيان لا تُتصوّر إلاّ في المحرّمات، لا تُتصوّر في التكليف الوجوبي؛ لأنّ اللّغوية بهذا البيان في باب التكليف التحريمي نفس افتراض خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب لترك الفعل، فالنهي يكون لغواً لأنّه قد تحقق غرضه؛ إذ بنفس الخروج عن محل الابتلاء يتحقق الغرض من النهي؛ لأنّ الغرض من النهي هو إيجاد سبب للترك، بينما نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب للترك، فكأنّه تحقق الغرض من النهي وعندما يتحقق الغرض من النهي؛ حينئذٍ يكون النهي بلا فائدة، فيكون لغواً، هذا الكلام لا يمكن تطبيقه على التكليف الوجوبي عندما يُفترض أنّ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّ خروج الفعل عن محل الابتلاء في التكليف الوجوبي لا يعني تحقق الغرض من التكليف الوجوبي إطلاقاً؛ لأنّ الغرض من التكليف الوجوبي هو خلق داعٍ للفعل، وهذا الداعي للفعل غير متحقق بمجرّد افتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء؛ بل لعلّه بالعكس؛ إذ لعلّ خروجه عن محل الابتلاء يكون داعياً لعدم الفعل، فبمجرّد افتراض خروج الفعل الذي يتعلّق به الوجوب عن محل الابتلاء لا يعني بالضرورة تحقق الغرض من الوجوب، ولا يعني بالضرورة وجود سببٍ للفعل حتّى نقول أنّ الوجوب بلا فائدة لأنّ غرضه تحقق، كلا، ليس هكذا، فإذن: من المعقول جدّاً أن يتعلّق التكليف الوجوبي بما هو خارج عن محل الابتلاء، حتّى لو افترضنا أنّ ذاك الفعل خارج عن محل الابتلاء، وأنّ له مقدّمات طويلة وعسيرة جدّاً، لكن أيّ ضيرٍ في أنّ الشارع عندما تقتضي المصالح أن يأمر بذلك الفعل الذي له مقدّمات طويلة وعسيرة، ويلزم المكلّف أن يطوي هذه المقدّمات حتّى يأتي بذلك الفعل ويكون الأمر معقولاً وليس لغواً؛ لأنّ الغرض منه أن يخلق داعياً عند المكلّف للتحرّك نحو الفعل، وهذا الغرض يمكن أن يُخلق بالتكليف الوجوبي، ومجرّد خروج الفعل عن محل الابتلاء لا يعني أنّ المكلّف صار عنده داعٍ للفعل؛ بل لعلّ الأمر كما قلنا بالعكس، ومن هنا لعلّه خصّ كلامه بالنهي ولم يعممّه لمطلق التكليف في ما يرتبط بمحذور اللّغوية.
نعم، إذا فرضنا ـــــــــــــ كما تقدّم الإشارة إلى ذلك سابقاً ــــــــــــ أنّ الداعي للفعل كان موجوداً عند المكلّف بمجرّد افتراض خروج الترك عن محل ابتلائه كما يحصل في بعض الأحيان كما مثّلنا سابقاً بباب الإنفاق على نفسه، والأمر بأن يحب ولده الصغير، هذه أمور الداعي لفعلها موجود بقطع النظر عن الوجوب الشرعي، هنا يمكن أن يقال هل يُعقل جعل الوجوب حينئذٍ ؟ ويأتي محذور اللّغوية، يمكن أن يقال هذا على غرار ما قيل في النهي؛ لأنّه في حالة من هذا القبيل نفس افتراض خروج الترك عن محل الابتلاء يعني وجود سببٍ للفعل؛ لأنّ الترك خارج عن محل الابتلاء، هذا الإنسان الذي هو إنسان عادي يمتلك عاطفة عنده سبب لكي ينفق على ولده وعلى نفسه، هناك داعٍ وسببٍ لكي ينفق على نفسه، فيقال ما معنى أنّ يجعل الشارع وجوباً لغرض إيجاد الداعي للتحرك نحو الفعل ؟! والحال أنّ الداعي للتحرك نحو الفعل موجود كما هو الحال في النهي، فإذا آمنا بمحذور اللّغوية في جانب النهي لابدّ أن نؤمن بمحذور اللّغوية في جانب الأمر من هذه الجهة بهذا الاعتبار، يعني عندما يكون هناك داعٍ للفعل عند المكلّف بقطع النظر عن الأمر الشرعي، يقع الكلام في أنّ التكليف الوجوبي هل هو لغو، أو ليس لغواً ؟ كما يقع الكلام في التكليف التحريمي عندما يكون لدى المكلّف داعٍ للترك بقطع النظر عن النهي الشرعي.
يبدو أنّ محذور اللّغوية هذا يختلف عن المحاذير الآتية التي سنذكرها، يعني هذا الوجه الأوّل الذي يُستدلّ به لاشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء يختلف عن محذور الاستهجان العرفي، ويختلف عن محذور تحصيل الحاصل على ما سيأتي، هذا محذور عقلي وليس عقلائي، وإنّما هو محذور عقلي مرجعه إلى استحالة الخطاب باعتبار استحالة مضمونه، أنّ مضمون الخطاب لغو، أي أنّ مضمون النهي لغو، واللّغو يستحيل أن يصدر من الحكيم، فيكون محذوراً عقلياً من هذه الجهة. هذا هو الدليل الأوّل.
نوقش في هذا الدليل بمناقشتين:
المناقشة الأولى: يذكرها السيد الخوئي(قدّس سرّه) كما هو مذكور في(المصباح)[2] و(الدراسات)[3] وحاصل ما يقوله هو: أنّ مصلحة جعل التحريم ليس هو مجرّد حصول الترك في الخارج، وإنّما هناك مصلحة أخرى تترتب على جعل التحريم غير مسألة حصول الترك في الخارج حتّى يقال إذا كان الترك حاصلاً بحسب طبع القضية؛ فحينئذٍ لا داعي لجعل النهي، فيكون لغواً؛ بل هناك شيء آخر يتوخّاه الشارع من جعل التحريم وهو تمكين المكلّف من أن يقصد النهي الشرعي ويجعله داعياً له إلى الترك حتّى يتقرّب بذلك إلى الله(سبحانه وتعالى) وحتّى يترقّى في مراتب الكمال النفسي ويكون متقرباً إليه(سبحانه وتعالى)، ومن الواضح أنّ هذا لا يكون إلاّ بجعل النهي الشرعي، وإلاّ من دون جعل نهي شرعي لا يتمكّن المكلّف أن يتقرّب بالترك إليه(سبحانه وتعالى)؛ لأنّه ليس هناك نهي حتّى يتقرّب به إليه، وحتّى يجعله داعياً للترك وبذلك يكون متقرّباً إليه(سبحانه وتعالى)، هذا إنّما يتحقق بواسطة النهي، هو يترك الفعل عادةً؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، لكن هذا لا يعني أنّ النهي عنه يكون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ فائدة النهي لا تنحصر في تحقق الترك في الخارج، وإنّما هناك فائدة أخرى تترتّب على النهي ويكون النهي معها معقولاً وليس لغواً وهي مسألة تمكين المكلّف من قصد القربة بهذا النهي الشرعي، أو قل تمكين المكلّف من أن يجعل النهي الشرعي داعياً له للترك وبذلك يتقرّب إليه(سبحانه وتعالى)، فإذن: لا يمكن أن نقول أنّ النهي لغو، النهي ليس لغواً بالرغم من أنّ هذا الفعل هو منترك بحسب الطبع ولا يأتي به المكلّف، وعنده سبب لتركه وعدم الإتيان به، لكن هذه فائدة تترتب وعلى أساس هذه الفائدة لا يكون النهي لغواً وبلا حاصل.
اعتُرض على هذا الجواب: بأنّ هذا قد يتمّ في الواجبات، لكنّه لا يتم في المحرّمات، باعتبار أنّ الفعل المحرّم إذا كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهذا معناه أنّ المكلّف أصلاً لا تحدّثه نفسه أن يصدر منه الفعل؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، ومن هنا لا يكون النهي صالحاً لزجر المكلّف عنه ومنعه من ارتكابه، إلا بعد أن يتصدّى المكلّف لإيجاد الرغبة النفسية في الفعل حتّى ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي، وهذا لابدّ من فرضه حتّى يكون النهي صالحاً لأن يجعله المكلّف داعياً له للترك، لابدّ من فرض أن المكلّف يخلق رغبة في نفسه للفعل حتّى يترك الفعل بالرغم من وجود الرغبة فيه امتثالاً للنهي الشرعي وبذلك يكون متقرّباً إليه(سبحانه وتعالى)، فإنّ النهي يمكن أن يكون داعياً للترك ويمكن للمكلّف أن يستند إليه في الترك ويقول تركت الفعل لأجل النهي عندما يكون راغباً في الفعل، فيكون النهي محققاً لغرضه في هذه الحالة. إذن: لكي يحقق النهي غرضه ويخرج عن محذور اللّغوية لابدّ أن نُلزم المكلّف بأن يخلق في نفسه رغبة في الفعل حتّى يتمكّن من قصد القربة بهذا النهي الشرعي، وهذا ما لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن الالتزام بأنّ المكلّف لابدّ أن يخلق رغبة في نفسه للفعل حتّى يمكنه التقرّب بالنهي ويحقق النهي غرضه ويخرج عن كونه لغواً وبلا فائدة. يقول: أنّ هذا المعنى غير متصوّر في باب المحرّمات، قد يكون متصوّراً في باب الواجبات، لكنّه في باب المحرّمات لا يمكن تصوّره.
كأنّ المقصود بهذا الاعتراض أنّ صلاحية النهي للداعوية للترك على نحوٍ يكون هو الداعي للترك ويمكن للمكلّف أن يسند الترك إلى الناهي ويتقرّب به إلى الله(سبحانه وتعالى)، هذا إنّما يكون في حال عدم وجود رغبة نفسية من قبل المكلّف للترك، وإلاّ إذا كانت لديه رغبة نفسيه للترك؛ حينئذٍ لا يكون النهي هو الداعي للترك؛ لأنّه لديه رغبة نفسية للترك، وإلا لا يكون النهي هو الداعي للترك. إذن: لكي يكون النهي داعياً للترك ويتحقق الغرض منه ويخرج عن كونه بلا فائدة لابدّ أن يزيل المكلّف هذه الرغبة في الترك ويستبدلها برغبةٍ في الفعل حتّى يتحقق هذا المعنى ويكون النهي مقرباً ويتحقق الغرض منه، وهذا ما لا يمكن الالتزام.
جواب الاعتراض هو: أنّ صلاحية النهي للداعوية وإسناد الترك إليه وكونه هو السبب في ترك الفعل لا يتوقف على وجود رغبة في الفعل؛ بل حتّى مع عدم وجود رغبة في الفعل؛ بل حتّى مع فرض وجود داعٍ للترك يمكن أن يكون النهي مقرباً حتّى مع وجود داعٍ للترك الذي يمكن أن نفترض أنّه يعني الرغبة في الترك، فضلاً عن عدم وجود رغبة في الفعل، ووجود رغبة في الترك ووجود داعٍ للترك، بالرغم من هذا يمكن التقرّب به إليه(سبحانه وتعالى) على ضوء ما ثبت من أنّ الداعي القربي يكفي فيه أن يكون مستقلاً في الداعوية في حدّ نفسه حتّى إذا انظم إليه داعٍ آخر غير محرّم من رياءٍ ونحوه..... حتّى إذا انظم إليه داعٍ آخر واشتركا في التأثير، وكان كل منهما جزء السبب في الترك، مع ذلك هذا النهي يكون مقرّباً ويمكن التقرّب به إليه (سبحانه وتعالى) ويتحقق الغرض منه ولا يكون لغواً.
إذن: لا يُشترط أنّ المكلّف لابدّ أن يخلق رغبة في نفسه؛ بل حتى إذا كانت لديه رغبة في الترك لوجود داعٍ للترك، مع ذلك يمكن أن يضمّه إلى الداعي الإلهي ويقصد به التقرّب إليه(سبحانه وتعالى). من هنا يظهر أنّ الوجه الأوّل للاستدلال غير تام.