36/03/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف بعينه
ذكرنا أنّ بعضهم ذكر أنّ الصحيح في الصورة الثانية هو عدم المنجّزية، فضلاً عن الصورة الأولى والثالثة، واستدلّ بما حاصله أنّ المنجّزية إنّما يُلتزم بها في الصورة الثانية بناءً على القول بالعلّية التامّة. وأمّا على القول بالاقتضاء وبناءً على أنّ دليل الأصل المؤمّن يتكفّل جعل الحكم الظاهري بالطهارة، أو بالحلّية على اختلاف الأصول المؤمّنة، يتكفّل جعل هذا الحكم الظاهري بعدد الآنات التي يتحقق فيها موضوعه وهو الشك، بحيث يكون مفاد الدليل هو أحكام متعددة وتطبيقات متعددة لهذا الأصل بعدد الآنات التي يُتصوّر فيها ذلك الحكم الظاهري، فلا يكون مفاد الأصل جعل حكمٍ واحدٍ حدوثاً وبقاءً، جعل حكمٍ بالطهارة مستمر ما دام الشكّ، كلا ليس هذا مفاد الأصل، وإنّما بناءً على أنّ مفاده جعل أحكامٍ متعددةٍ بعدد الآنات التي يتحقق فيها الشكّ، بناءً على هذا وبناءً على القول بالاقتضاء يقول لابدّ أن نقول بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز كما هو الحال في الصورة الأولى والصورة الثالثة، هنا أيضاً يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، والسرّ في ذلك أمّا أنه يكون العلم الإجمالي باقٍ على التنجيز بناءً على الاحتمال الأوّل، وهو أن يكون مفاد الأصل المؤمّن هو جعل حكمٍ ظاهريٍ واحدٍ وله تطبيق واحد لا أكثر، فالتنجيز أيضاً يكون واضحاً؛ لأنّ المفروض أنّه قبل الاضطرار تعارضت الأصول في الأطراف، وتعارضها يقتضي سقوط هذه الأصول بالمعارضة، وهذا يعني أنّ الأصل الجاري في كلا الطرفين يسقط بالمعارضة، فالأصل الجاري في الطرف الآخر الغير مضطر إليه، هذا الطرف سقط بالمعارضة، وهذا السقوط أوجب تنجّز العلم الإجمالي، بعد عروض الاضطرار لا يجري الأصل في هذا الطرف غير المضطر إليه؛ لأنّ هذا الأصل في الطرف غير المضطر إليه بعد عروض الاضطرار سقط بالمعارضة ولا يوجد لدينا أصل آخر حتّى يقال أنّه بعد الاضطرار يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الطرف المضطر إليه لا يجري فيه الأصل بسبب الاضطرار، لكن لا يصح لنا أن نقول أنّ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الأصل في الطرف الآخر وهو أصلٌ واحدٌ سقط بالمعارضة قبل الاضطرار مع الأصل الجاري في الطرف الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا معناه تنجيز العلم الإجمالي؛ لأنّ الأصول متساقطة في الطرفين وهذا يقتضي تنجيز العلم الإجمالي كما يقوله الطرف الآخر.
لكنّه يقول: بناءً على الاحتمال الثاني في أدلّة الأصول المؤمّنة وهو أنّها تتكفّل أحكاماً متعددةً وتطبيقات متعددة بحيث يكون الحكم الظاهري الثابت في هذا الطرف ـــــــــــــ الذي ليس هو مورد الاضطرار ـــــــــــــ بعد الاضطرار غير الحكم الثابت فيه قبل الاضطرار، بحيث أنّ دليل أصالة الطهارة أو دليل أصالة الحلّية يتكفّل جعل أحكامٍ متعددةٍ بعدد الآنات، فهذا الطرف الآخر غير المضطر إليه قبل الاضطرار أصالة البراءة فيه، اصالة الحلّية فيه، أصالة الطهارة فيه معارَضة بأصالة البراءة والطهارة والحليّة في الطرف الأوّل الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا التعارض يوجب تنجيز العلم الإجمالي، بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ التنجيز بناءً على الاقتضاء في طول تعارض الأصول، لكن بعد عروض الاضطرار، يقول لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه لا معارض له؛ لأنّ الأصل في الطرف الذي اضطر إليه لا يجري؛ لمكان الاضطرار، لكن لا مانع من جريانه في الطرف الآخر؛ لأنّ هذا أصلٌ جديدٌ، هذا الأصل الذي نجريه في الطرف الآخر بعد الاضطرار بناءً على الاحتمال الثاني ليس هو نفس الأصل الذي جرى قبل الاضطرار وسقط بالمعارضة، وليس استمراراً له، وإنّما هو أصلٌ جديد يتكفّل بإثبات هذا الحكم الظاهري نفس الأصل المؤمّن؛ لأنّ دليل الأصل المؤمّن ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ يتكفّل إثبات أحكام ظاهرية متعددة بعدد الآنات، الشك بعد عروض الاضطرار في هذا الطرف الذي لم يضطر إليه، هذا فرد من أفراد موضوع الحكم الظاهري كما أنّ الشكّ فيه قبل الاضطرار فرد آخر، هذا الشكّ قبل الاضطرار في هذا الطرف، طبّقنا عليه الأصل المؤمّن وثبت فيه حكم ظاهري بالطهارة، جرى فيه الأصل المؤمّن، وثبت فيه الحكم الظاهري، هذا معارض بالأصل في الطرف الأوّل الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا سقط بالمعارضة وتنجز العلم الإجمالي، لا بأس هذا كلّه مقبول بناءً على الاقتضاء، لكن بعد عروض الاضطرار يمكن تطبيق الأصل المؤمّن على هذا الطرف بلا معارض؛ لأنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي اضطُر إليه باعتبار الاضطرار، فيمكن أن يكون هذا أصلاً جديداً وحكم بالطهارة جديد وليس هو نفس الحكم السابق حتّى يقال أنّ هذا سقط بالمعارضة، وهذا معناه أنّه يمكن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بعد الاضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ التنجيز بناءً على الاقتضاء في طول التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين، وهنا لا يوجد تعارض بعد الاضطرار، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز ولا يكون حينئذٍ منجّزاً. لكن هذا مبني على أمرين:
الأمر الأوّل: أن نلتزم بمسلك الاقتضاء لا العلّية التامّة.
الأمر الثاني: أن نلتزم بأنّ أدلة الأصول المؤمّنة تتكفّل جعل أحكام ظاهرية بالطهارة، وبالحلّية.....الخ. تتكفّل جعل أحكام ظاهرية متعددة بعدد الآنات التي يمكن تصوّر ثبوت الحكم الظاهري فيها بحيث يكون الحكم الظاهري الثابت في هذا الآن غير الحكم الظاهري الثابت في الآن الذي قبله وليس استمراراً وبقاءً له، وإنّما هذا حكم جديد غير الحكم السابق، والحكم السابق سقط بالمعارضة، هذا الحكم ليس له معارض، فيجري الأصل المؤمّن في هذا الطرف بلا معارض، وهذا ينتج عدم منجّزية العلم الإجمالي. وبهذا البيان ــــــــــ إذا تمّ ــــــــــ يثبت عدم صحّة ما يتكرّر في كلماتهم في مقام الاستدلال على المنجّزية في هذه الصورة من أنّ الأصل إذا مات لا يعود، أو ما يشبه هذه العبارة، أنّ الأصل إذا سقط لا يعود، هذا مبني على الاحتمال الأوّل، أنّ الأصول المؤمّنة تتكفّل جعل حكمٍ ظاهري واحد بالطهارة، أو حكم ظاهري واحد بالحلّية، وهذا إذا سقط بالمعارض فقد مات ولا يعود مرّة أخرى، وهذا معناه المنجّزية؛ لأنّه بعد الاضطرار لا يوجد أصل يمكن إجراءه في الطرف الآخر بلا معارض حتّى يُسقط المنجّزية، كلا، هذا الأصل لا يجري لا في هذا الطرف، ولا في هذا الطرف، تعارضا، تساقطا، فبقى الطرف الآخر بلا أصلٍ مؤمّن، وهذا معناه التنجيز. هذا الكلام يقول كلا، أنّ المسألة ليست مسألة إحياء أصلٍ بعد موته، نحن لسنا بصدد إحياء أصلٍ بعد موته حتّى يقال أنّ هذا لا معنى له؛ لأنّ الأصل بعد أن سقط لا يعود، وإنّما المسألة هي التمسّك بأصلٍ جديد غير الأصل السابق، إثبات حكم جديد بالطهارة غير الحكم الثابت قبل الاضطرار، هذا حكم جديد في نفس الطرف الآخر، الحكم الظاهري بالطهارة تمسّكاً بدليل الأصل قبل الاضطرار هو غير الحكم الظاهري بالطهارة بعد الاضطرار، هذا حكم جديد يتكفّله دليل الأصل المؤمّن، المسألة ليست مسألة إعادة حياة لأصلٍ ميّت، أو إعادة الحياة لأصلٍ ساقطٍ بالمعارضة، وإنّما هو إثبات حكم ظاهري جديد بالطهارة تمسّكاً بدليل الأصل المؤمّن؛ لأنّ المفروض أنّ دليل الأصل المؤمّن يتكفّل جعل أحكامٍ ظاهرية متعددة بعدد الآنات التي يمكن أن يحصل فيها الشكّ، فهو يبتني على إثبات هذين الأمرين؛ فحينئذ يستحكم الإشكال ولابدّ أن نقول بعدم المنجّزية حتّى في الصورة الثانية، وبالتالي أنّ الاضطرار إلى طرفٍ بعينه يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، سواء كان بنحو الصورة الأولى، أو الصورة الثانية، أو الصورة الثالثة، وهذا القائل ينتهي في مقام الإثبات ـــــــــــ لأنّ كلامنا إلى الآن ثبوتي ـــــــــ إلى إثبات الاحتمال الثاني من الاحتمالين المتقدمين في دليل الأصل المؤمّن، ويقول بأنّ الظاهر من دليل الأصل المؤمّن هو أنّه يتكفّل جعل أحكام متعددة وتطبيقات متعددة بعدد الآنات التي يتحقق فيها الشكّ.
فإذن: بناءً على الاقتضاء، إذا قلنا بالاقتضاء والتزمنا بما هو ظاهر الدليل حسب ما هو يقول لابدّ أن نلتزم بعدم المنجّزية في الصورة الثانية. نعم إذا قلنا بالعلّية التامّة نلتزم بالمنجّزية. هذا ما يمكن توضيحه عن خلاصة ما ذكره هذا المحقق.
ما يمكن أن نعلّق به على هذا الكلام: أنّ الذي يظهر أنّ بعض من يقول بالاقتضاء كأنّه ملتفت إلى هذا الإشكال الذي يرِد على القول بالاقتضاء وهو أنّه كيف تقولون بالاقتضاء وفي نفس الوقت تقولون بالمنجّزية في الصورة الثانية ؟ حاول الجواب عنه بطريقٍ غير مباشر، وذلك من خلال التأكيد على مسألة أنّ الشكّ في الطرف الآخر هو بعينه الشكّ في نفس الطرف قبل الاضطرار وليس شكّاً آخر جديداً، الشكّ في الطرف الآخر بعد الاضطرار هو نفس الشكّ فيه قبل الاضطرار وليس شكّاً جديداً؛ لأننّا لا نقول أنّه شكّ جديد؛ لأنّه لو كان شكّاً جديداً؛ حينئذٍ ترِد دعوى تحقق موضوع جديد للأصل المؤمّن غير الموضوع الذي تحقق قبل الاضطرار للأصل المؤمّن، فإذا سقط ذاك الأصل المؤمّن قبل المعارضة بالاضطرار، فيكون هذا موضوعاً جديداً للأصل المؤمّن، فيثبت فيه الأصل المؤمّن بلا معارض، هو يريد أن ينفي هذا، يقول: لا، الشكّ الحاصل في هذا الطرف بعد الاضطرار هو نفس الشكّ الذي كان موجوداً قبل الاضطرار في هذا الطرف والذي جرى فيه الأصل وسقط بالمعارضة هو نفسه وليس شيئاً جديداً. واضح من خلال هذه العبارة أنّه لا يبعُد أنّه ناظر إلى هذا الإشكال، كأنّه يريد أن يقول أنّ الطرف الآخر لم يُفرض فيه حدوث شيءٍ يستوجب رفع الشكّ الذي كان موجوداً قبل حدوث ذلك الشيء، وحصول شيء جديد لم يحدث في الطرف الآخر شيء يستوجب أن يكون الشكّ بعده غير الشكّ قبله، فيكون الشكّ في الطرف الثاني بعد الاضطرار إلى الطرف الأوّل هو نفس الشكّ فيه قبل الاضطرار؛ لأنّه لم يحدث فيه شيء يستوجب رفع ذلك الشكّ وتبدّله بشكٍّ جديد؛ بل هو نفس الشكّ السابق، فإذا كان هو نفس الشكّ السابق، إذن لم يحدث موضوع جديد للأصل المؤمّن حتّى يُدّعى أنّ هذا الأصل المؤمّن يمكن التمسّك به في هذا الموضوع الجديد، فيجري فيه الأصل بلا معارضٍ بعد الاضطرار، هو يريد أن يركّز على هذه النكتة، هذا بخلاف الطرف الأوّل، فأنّه حدث فيه شيء يوجب رفع الشكّ السابق وهو الاضطرار؛ لأنّه اضطرّ إليه، والشكّ في التكليف يرتفع بلا إشكال مع الاضطرار، يقول: الطرف الثاني لم يحدث فيه شيء، فالشكّ فيه هو نفس الشكّ الذي كان موجوداً سابقاً والذي جرى فيه الأصل وسقط بالمعارضة. يُفهم من هذا أنّ القائل بالاقتضاء الذي يريد أن يجيب عن الإشكال يريد أن يدّعي أنّ مفاد دليل الأصل المؤمّن هو حكم واحد بالطهارة، هذا الحكم الواحد بالطهارة هو عبارة عن الحكم بالطهارة حدوثاً وبقاءً، الحكم بالطهارة مع استمرار هذا الحكم ما دام الشكّ باقياً. نعم هذا الحكم الظاهري بالطهارة يرتفع بارتفاع الشكّ حقيقة أو تعبّداً، لكن ما دام الشكّ باقياً فهو محكوم بالطهارة، لكن لا محكوماً بطهارة جديدة، وإنّما هو محكوم بنفس الطهارة التي حُكم بها سابقاً لا بطهارة جديدة؛ لأنّ دليل الأصل العملي المؤمّن لا يتكفّل جعل أحكام متعددة بعدد الآنات، وإنّما يتكفّل جعل حكمٍ واحدٍ بالطهارة مستمراً مادام الشكّ باقياً، مادام الشكّ باقياً ومستمرّاً وغير متبدّل؛ فحينئذٍ هناك حكم واحد بالطهارة والأصل يجري مرّة واحدة ويطبّق على هذا الفرد المشكوك مرّة واحدة، طبّقناه على هذا الفرد المشكوك بعد تحقق الشكّ فيه ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ فشمله الأصل العملي، ومفاد هذا الأصل العملي هو الحكم عليه بالحلّية أو بالطهارة مستمراً مادام الشكّ باقياً. هذا الحكم الواحد، هذا التطبيق للأصل المؤمّن على هذا الطرف سقط بالمعارضة مع الطرف الآخر، فإذا سقط بالمعارضة؛ فحينئذٍ لا يمكن تطبيقه مرّة أخرى على نفس الطرف ونفس الفرد المشكوك بلحاظ زمانٍ آخر مع فرض أنّه لم يحدث في الطرف الآخر ما يوجب تبدّل هذا الشكّ بشكٍّ آخر؛ بل الشكّ فيه هو نفس الشكّ السابق.
في المقابل يقول هذا المحقق أنّ الظاهر من دليل الأصل العملي أنّ مفاده أنّه يتكفّل جعل أحكام متعددّة بعدد آنات الشكّ، الحكم بالطهارة بعد الاضطرار غير الحكم بالطهارة قبل الاضطرار، والشكّ بعد الاضطرار غير الشكّ قبل الاضطرار، موضوعات متعددة لدليل الأصل المؤمن، فكل موضوع يقتضي أن نطبّق عليه هذا الأصل المؤمّن، هذا التطبيق غير ذاك التطبيق، ذاك سقط بالمعارضة، أمّا هذا فلا يسقط بالمعارضة، فمن هنا يظهر أنّ النزاع نزاع إثباتي، أننا ماذا نستفيد من أدلّة الأصول المؤمّنة، بناءً على الاقتضاء طبعاً، هل نستفيد من أدلّة الأصول العملية أنّها تتكفّل جعل حكم واحد بالطهارة على نحو الاستمرار ما دام الشكّ باقياً، أو نستفيد منها أنّها تتكفّل جعل أحكامٍ متعددة كما يقول هذا المحقق، فالنزاع إثباتي.
يمكن أن يقال: أنّ الذي يُستفاد من قوله(عليه السلام): (كل شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس). هذه القاعدة تتضمّن حكماً واحداً لا أكثر بطهارة الأشياء ظاهرياً ما دمت غير عالم بالنجاسة، عند عدم العلم بالنجاسة تكون الأشياء محكومة بالطهارة، هذا حكم واحد ظاهري مجعول على نهج القضية الحقيقية وليس هناك تعدّد في هذا الحكم الظاهري المجعول على نهج القضية الحقيقية. تطبيقات هذا الحكم متعدّدة بعدد الأفراد المشكوكة النجاسة، الثوب نشكّ في نجاسته نطبّق عليه هذا الحكم، الماء نشكّ في نجاسته نطبق عليه هذا الحكم، الأرض نشكّ في نجاستها نطبّق عليها هذا الحكم، هذه تطبيقات متعدّدة بلا إشكال لهذا الكلّي المجعول على نهج القضية الحقيقية، فتتعدد التطبيقات بلا إشكال، لكن تتعدد التطبيقات عندما تتعدد الأفراد التي يُشكّ في نجاستها. أمّا بلحاظ الفرد الواحد المشكوك النجاسة، هل تتعدد التطبيقات للأصل المؤمّن بعدد الآنات التي يتصوّر فيها هذا الحكم الظاهري، أو لا ؟ كأنّه هذا هو محل النزاع، هذا المحقق يدّعي أنّ التطبيقات تكون متعددة بعدد الآنات، فتطبيق الأصل المؤمّن على هذا الطرف قبل الاضطرار غير تطبيق الأصل المؤمّن على نفس هذا الطرف وليس غيره في مرحلة ما بعد الاضطرار، هذا التطبيق غير ذاك التطبيق، ذاك التطبيق قبل الاضطرار سقط بالمعارضة، هذا تطبيق جديد ليس له معارض، فيمكن تطبيق الأصل العملي وينتج عدم التنجيز، الطرف المقابل يقول: لا، أنّ التطبيقات إنّما تتعدد بتعدد الأفراد التي يُشكّ فيها، أمّا بالنسبة إلى الفرد الواحد لا تتعدد التطبيقات، وإنّما هناك تطبيق واحد بالنسبة للفرد الواحد، ما دام الشكّ موجوداً، هناك تطبيق واحد لهذه القاعدة، وهذا التطبيق الواحد ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــ سقط بالمعارضة ولا تطبيق جديد، وهذا ينتج المنجّزية وهذا هو معنى قولهم (أنّ الساقط لا يعود) يعني أنّه شيء واحد وقد سقط، هذا لا يعود مرّة أخرى.
قد يقال: يمكن أن نستظهر الاحتمال الأوّل من الدليل، يعني احتمال أنّ الدليل يتكفّل تطبيقاً واحداً بالنسبة إلى الفرد المشكوك الواحد، بمعنى أنّ مفاد دليل أصالة الطهارة، أو اصالة الحلّية هو الحكم بطهارة الشيء ما دام الشك موجوداً، وهذا معناه أنّ هناك حكماً واحداً مستمراً لا أحكام متعددة(كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) [1]مفاده هو ما دمت لا تعلم بنجاسة الشيء فهو محكوم بالطهارة، هذا لا يستفاد منه أكثر من حكمٍ واحد بالطهارة لكنّ مستمراً ما دام لم يحصل العلم بالنجاسة، ما دمت غير عالم بنجاسة الشيء، فهو محكوم بالطهارة، هذا حكم بالطهارة على نحو الحدوث والاستمرار، حدوثاً وبقاءً ما دام الشك باقياً. لا يبعُد استفادة هذا المعنى من هذه الأدلّة، وإذا تمّت هذه الاستفادة؛ حينئذٍ يثبت الاحتمال الأوّل، وبناءً على الاحتمال الأوّل لابدّ من الالتزام بالمنجّزية، بمعنى أننّا لا يمكننا أن نجري الأصل المؤمّن ونطبّقه تطبيقاً آخراً على هذا الطرف بعد الاضطرار بدعوى أنّ هذا التطبيق ليس له معارض، كلا، لا يمكن هذا التطبيق؛ لأنّ الفرد الواحد المشكوك له تطبيق واحد، وهذا التطبيق سقط بالمعارضة.
إلى هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل في مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف، وننتقل بعد ذلك إلى المقام الثاني؛ لأنّ المقام الأوّل كان عن ما إذا كان الاضطرار إلى بعض الأطراف بعينه. الآن ننتقل إلى المقام الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه، علم بنجاسة إناءين فيهما ماء، ثمّ اضطرّ لرفع عطشه إلى شرب احدهما، ورفع عطشه كما يحصل بالشرب من هذا الإناء كذلك يحصل بالشرب من ذاك الإناء، فالاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فيقع الكلام هنا أيضاً في أنّه هل يكون العلم الإجمالي منجّزاً، أو لا يكون منجّزاً، الاضطرار إلى أحدهما بعينه هل يرفع التنجيز، أو لا يرفع التنجيز، أو يُفصّل ؟ على غرار ما تقدّم في المقام الأوّل.
هنا في هذه الحالة لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، والسر في ذلك أنّه مضطر إلى ارتكاب أحد الإناءين، وهذا الاضطرار إلى ارتكاب أحد الإناءين يستلزم الترخيص للمكلّف في أن يرتكب أحدهما، لكن على نحو التخيير، فالترخيص يكون ترخيصاً تخييرياً، هو مخيّر في رفع اضطراره بهذا الطرف، أو بالطرف الآخر، فإذن: هناك ترخيص تخييري في ارتكاب أحد الإناءين نتيجة الاضطرار، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعية؛ إذ لا يمكن اجتماع وجوب الموافقة القطعية مع الترخيص في ارتكاب أحد الطرفين على نحو التخيير، فإذن: وجوب الموافقة القطعية قطعاً يسقط في المقام، والعلم الإجمالي في مثل هذه الحالة لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، فيجوز له ارتكاب أحدهما قطعاً، وإنّما الكلام في حرمة المخالفة القطعية بارتكاب الطرف الثاني بعد رفع الاضطرار بأحدهما، فأنّه إذا رفع اضطراره بأحدهما يقع الكلام في أنّه هل يجوز له ارتكاب الطرف الآخر، أو لا يجوز له ارتكابه ؟ فإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، فلا يجوز له ارتكاب الطرف الآخر، وإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالي يرتفع وحتى عن تنجيز حرمة المخالفة القطعية، فيجوز له ارتكاب الطرف الآخر. هذا هو محل الكلام.
ذكرنا أنّ بعضهم ذكر أنّ الصحيح في الصورة الثانية هو عدم المنجّزية، فضلاً عن الصورة الأولى والثالثة، واستدلّ بما حاصله أنّ المنجّزية إنّما يُلتزم بها في الصورة الثانية بناءً على القول بالعلّية التامّة. وأمّا على القول بالاقتضاء وبناءً على أنّ دليل الأصل المؤمّن يتكفّل جعل الحكم الظاهري بالطهارة، أو بالحلّية على اختلاف الأصول المؤمّنة، يتكفّل جعل هذا الحكم الظاهري بعدد الآنات التي يتحقق فيها موضوعه وهو الشك، بحيث يكون مفاد الدليل هو أحكام متعددة وتطبيقات متعددة لهذا الأصل بعدد الآنات التي يُتصوّر فيها ذلك الحكم الظاهري، فلا يكون مفاد الأصل جعل حكمٍ واحدٍ حدوثاً وبقاءً، جعل حكمٍ بالطهارة مستمر ما دام الشكّ، كلا ليس هذا مفاد الأصل، وإنّما بناءً على أنّ مفاده جعل أحكامٍ متعددةٍ بعدد الآنات التي يتحقق فيها الشكّ، بناءً على هذا وبناءً على القول بالاقتضاء يقول لابدّ أن نقول بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز كما هو الحال في الصورة الأولى والصورة الثالثة، هنا أيضاً يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، والسرّ في ذلك أمّا أنه يكون العلم الإجمالي باقٍ على التنجيز بناءً على الاحتمال الأوّل، وهو أن يكون مفاد الأصل المؤمّن هو جعل حكمٍ ظاهريٍ واحدٍ وله تطبيق واحد لا أكثر، فالتنجيز أيضاً يكون واضحاً؛ لأنّ المفروض أنّه قبل الاضطرار تعارضت الأصول في الأطراف، وتعارضها يقتضي سقوط هذه الأصول بالمعارضة، وهذا يعني أنّ الأصل الجاري في كلا الطرفين يسقط بالمعارضة، فالأصل الجاري في الطرف الآخر الغير مضطر إليه، هذا الطرف سقط بالمعارضة، وهذا السقوط أوجب تنجّز العلم الإجمالي، بعد عروض الاضطرار لا يجري الأصل في هذا الطرف غير المضطر إليه؛ لأنّ هذا الأصل في الطرف غير المضطر إليه بعد عروض الاضطرار سقط بالمعارضة ولا يوجد لدينا أصل آخر حتّى يقال أنّه بعد الاضطرار يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الطرف المضطر إليه لا يجري فيه الأصل بسبب الاضطرار، لكن لا يصح لنا أن نقول أنّ الأصل يجري في الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الأصل في الطرف الآخر وهو أصلٌ واحدٌ سقط بالمعارضة قبل الاضطرار مع الأصل الجاري في الطرف الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا معناه تنجيز العلم الإجمالي؛ لأنّ الأصول متساقطة في الطرفين وهذا يقتضي تنجيز العلم الإجمالي كما يقوله الطرف الآخر.
لكنّه يقول: بناءً على الاحتمال الثاني في أدلّة الأصول المؤمّنة وهو أنّها تتكفّل أحكاماً متعددةً وتطبيقات متعددة بحيث يكون الحكم الظاهري الثابت في هذا الطرف ـــــــــــــ الذي ليس هو مورد الاضطرار ـــــــــــــ بعد الاضطرار غير الحكم الثابت فيه قبل الاضطرار، بحيث أنّ دليل أصالة الطهارة أو دليل أصالة الحلّية يتكفّل جعل أحكامٍ متعددةٍ بعدد الآنات، فهذا الطرف الآخر غير المضطر إليه قبل الاضطرار أصالة البراءة فيه، اصالة الحلّية فيه، أصالة الطهارة فيه معارَضة بأصالة البراءة والطهارة والحليّة في الطرف الأوّل الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا التعارض يوجب تنجيز العلم الإجمالي، بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ التنجيز بناءً على الاقتضاء في طول تعارض الأصول، لكن بعد عروض الاضطرار، يقول لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّه لا معارض له؛ لأنّ الأصل في الطرف الذي اضطر إليه لا يجري؛ لمكان الاضطرار، لكن لا مانع من جريانه في الطرف الآخر؛ لأنّ هذا أصلٌ جديدٌ، هذا الأصل الذي نجريه في الطرف الآخر بعد الاضطرار بناءً على الاحتمال الثاني ليس هو نفس الأصل الذي جرى قبل الاضطرار وسقط بالمعارضة، وليس استمراراً له، وإنّما هو أصلٌ جديد يتكفّل بإثبات هذا الحكم الظاهري نفس الأصل المؤمّن؛ لأنّ دليل الأصل المؤمّن ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ يتكفّل إثبات أحكام ظاهرية متعددة بعدد الآنات، الشك بعد عروض الاضطرار في هذا الطرف الذي لم يضطر إليه، هذا فرد من أفراد موضوع الحكم الظاهري كما أنّ الشكّ فيه قبل الاضطرار فرد آخر، هذا الشكّ قبل الاضطرار في هذا الطرف، طبّقنا عليه الأصل المؤمّن وثبت فيه حكم ظاهري بالطهارة، جرى فيه الأصل المؤمّن، وثبت فيه الحكم الظاهري، هذا معارض بالأصل في الطرف الأوّل الذي سيطرأ عليه الاضطرار، وهذا سقط بالمعارضة وتنجز العلم الإجمالي، لا بأس هذا كلّه مقبول بناءً على الاقتضاء، لكن بعد عروض الاضطرار يمكن تطبيق الأصل المؤمّن على هذا الطرف بلا معارض؛ لأنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي اضطُر إليه باعتبار الاضطرار، فيمكن أن يكون هذا أصلاً جديداً وحكم بالطهارة جديد وليس هو نفس الحكم السابق حتّى يقال أنّ هذا سقط بالمعارضة، وهذا معناه أنّه يمكن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بعد الاضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً بناءً على الاقتضاء؛ لأنّ التنجيز بناءً على الاقتضاء في طول التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين، وهنا لا يوجد تعارض بعد الاضطرار، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز ولا يكون حينئذٍ منجّزاً. لكن هذا مبني على أمرين:
الأمر الأوّل: أن نلتزم بمسلك الاقتضاء لا العلّية التامّة.
الأمر الثاني: أن نلتزم بأنّ أدلة الأصول المؤمّنة تتكفّل جعل أحكام ظاهرية بالطهارة، وبالحلّية.....الخ. تتكفّل جعل أحكام ظاهرية متعددة بعدد الآنات التي يمكن تصوّر ثبوت الحكم الظاهري فيها بحيث يكون الحكم الظاهري الثابت في هذا الآن غير الحكم الظاهري الثابت في الآن الذي قبله وليس استمراراً وبقاءً له، وإنّما هذا حكم جديد غير الحكم السابق، والحكم السابق سقط بالمعارضة، هذا الحكم ليس له معارض، فيجري الأصل المؤمّن في هذا الطرف بلا معارض، وهذا ينتج عدم منجّزية العلم الإجمالي. وبهذا البيان ــــــــــ إذا تمّ ــــــــــ يثبت عدم صحّة ما يتكرّر في كلماتهم في مقام الاستدلال على المنجّزية في هذه الصورة من أنّ الأصل إذا مات لا يعود، أو ما يشبه هذه العبارة، أنّ الأصل إذا سقط لا يعود، هذا مبني على الاحتمال الأوّل، أنّ الأصول المؤمّنة تتكفّل جعل حكمٍ ظاهري واحد بالطهارة، أو حكم ظاهري واحد بالحلّية، وهذا إذا سقط بالمعارض فقد مات ولا يعود مرّة أخرى، وهذا معناه المنجّزية؛ لأنّه بعد الاضطرار لا يوجد أصل يمكن إجراءه في الطرف الآخر بلا معارض حتّى يُسقط المنجّزية، كلا، هذا الأصل لا يجري لا في هذا الطرف، ولا في هذا الطرف، تعارضا، تساقطا، فبقى الطرف الآخر بلا أصلٍ مؤمّن، وهذا معناه التنجيز. هذا الكلام يقول كلا، أنّ المسألة ليست مسألة إحياء أصلٍ بعد موته، نحن لسنا بصدد إحياء أصلٍ بعد موته حتّى يقال أنّ هذا لا معنى له؛ لأنّ الأصل بعد أن سقط لا يعود، وإنّما المسألة هي التمسّك بأصلٍ جديد غير الأصل السابق، إثبات حكم جديد بالطهارة غير الحكم الثابت قبل الاضطرار، هذا حكم جديد في نفس الطرف الآخر، الحكم الظاهري بالطهارة تمسّكاً بدليل الأصل قبل الاضطرار هو غير الحكم الظاهري بالطهارة بعد الاضطرار، هذا حكم جديد يتكفّله دليل الأصل المؤمّن، المسألة ليست مسألة إعادة حياة لأصلٍ ميّت، أو إعادة الحياة لأصلٍ ساقطٍ بالمعارضة، وإنّما هو إثبات حكم ظاهري جديد بالطهارة تمسّكاً بدليل الأصل المؤمّن؛ لأنّ المفروض أنّ دليل الأصل المؤمّن يتكفّل جعل أحكامٍ ظاهرية متعددة بعدد الآنات التي يمكن أن يحصل فيها الشكّ، فهو يبتني على إثبات هذين الأمرين؛ فحينئذ يستحكم الإشكال ولابدّ أن نقول بعدم المنجّزية حتّى في الصورة الثانية، وبالتالي أنّ الاضطرار إلى طرفٍ بعينه يمنع من منجّزية العلم الإجمالي، سواء كان بنحو الصورة الأولى، أو الصورة الثانية، أو الصورة الثالثة، وهذا القائل ينتهي في مقام الإثبات ـــــــــــ لأنّ كلامنا إلى الآن ثبوتي ـــــــــ إلى إثبات الاحتمال الثاني من الاحتمالين المتقدمين في دليل الأصل المؤمّن، ويقول بأنّ الظاهر من دليل الأصل المؤمّن هو أنّه يتكفّل جعل أحكام متعددة وتطبيقات متعددة بعدد الآنات التي يتحقق فيها الشكّ.
فإذن: بناءً على الاقتضاء، إذا قلنا بالاقتضاء والتزمنا بما هو ظاهر الدليل حسب ما هو يقول لابدّ أن نلتزم بعدم المنجّزية في الصورة الثانية. نعم إذا قلنا بالعلّية التامّة نلتزم بالمنجّزية. هذا ما يمكن توضيحه عن خلاصة ما ذكره هذا المحقق.
ما يمكن أن نعلّق به على هذا الكلام: أنّ الذي يظهر أنّ بعض من يقول بالاقتضاء كأنّه ملتفت إلى هذا الإشكال الذي يرِد على القول بالاقتضاء وهو أنّه كيف تقولون بالاقتضاء وفي نفس الوقت تقولون بالمنجّزية في الصورة الثانية ؟ حاول الجواب عنه بطريقٍ غير مباشر، وذلك من خلال التأكيد على مسألة أنّ الشكّ في الطرف الآخر هو بعينه الشكّ في نفس الطرف قبل الاضطرار وليس شكّاً آخر جديداً، الشكّ في الطرف الآخر بعد الاضطرار هو نفس الشكّ فيه قبل الاضطرار وليس شكّاً جديداً؛ لأننّا لا نقول أنّه شكّ جديد؛ لأنّه لو كان شكّاً جديداً؛ حينئذٍ ترِد دعوى تحقق موضوع جديد للأصل المؤمّن غير الموضوع الذي تحقق قبل الاضطرار للأصل المؤمّن، فإذا سقط ذاك الأصل المؤمّن قبل المعارضة بالاضطرار، فيكون هذا موضوعاً جديداً للأصل المؤمّن، فيثبت فيه الأصل المؤمّن بلا معارض، هو يريد أن ينفي هذا، يقول: لا، الشكّ الحاصل في هذا الطرف بعد الاضطرار هو نفس الشكّ الذي كان موجوداً قبل الاضطرار في هذا الطرف والذي جرى فيه الأصل وسقط بالمعارضة هو نفسه وليس شيئاً جديداً. واضح من خلال هذه العبارة أنّه لا يبعُد أنّه ناظر إلى هذا الإشكال، كأنّه يريد أن يقول أنّ الطرف الآخر لم يُفرض فيه حدوث شيءٍ يستوجب رفع الشكّ الذي كان موجوداً قبل حدوث ذلك الشيء، وحصول شيء جديد لم يحدث في الطرف الآخر شيء يستوجب أن يكون الشكّ بعده غير الشكّ قبله، فيكون الشكّ في الطرف الثاني بعد الاضطرار إلى الطرف الأوّل هو نفس الشكّ فيه قبل الاضطرار؛ لأنّه لم يحدث فيه شيء يستوجب رفع ذلك الشكّ وتبدّله بشكٍّ جديد؛ بل هو نفس الشكّ السابق، فإذا كان هو نفس الشكّ السابق، إذن لم يحدث موضوع جديد للأصل المؤمّن حتّى يُدّعى أنّ هذا الأصل المؤمّن يمكن التمسّك به في هذا الموضوع الجديد، فيجري فيه الأصل بلا معارضٍ بعد الاضطرار، هو يريد أن يركّز على هذه النكتة، هذا بخلاف الطرف الأوّل، فأنّه حدث فيه شيء يوجب رفع الشكّ السابق وهو الاضطرار؛ لأنّه اضطرّ إليه، والشكّ في التكليف يرتفع بلا إشكال مع الاضطرار، يقول: الطرف الثاني لم يحدث فيه شيء، فالشكّ فيه هو نفس الشكّ الذي كان موجوداً سابقاً والذي جرى فيه الأصل وسقط بالمعارضة. يُفهم من هذا أنّ القائل بالاقتضاء الذي يريد أن يجيب عن الإشكال يريد أن يدّعي أنّ مفاد دليل الأصل المؤمّن هو حكم واحد بالطهارة، هذا الحكم الواحد بالطهارة هو عبارة عن الحكم بالطهارة حدوثاً وبقاءً، الحكم بالطهارة مع استمرار هذا الحكم ما دام الشكّ باقياً. نعم هذا الحكم الظاهري بالطهارة يرتفع بارتفاع الشكّ حقيقة أو تعبّداً، لكن ما دام الشكّ باقياً فهو محكوم بالطهارة، لكن لا محكوماً بطهارة جديدة، وإنّما هو محكوم بنفس الطهارة التي حُكم بها سابقاً لا بطهارة جديدة؛ لأنّ دليل الأصل العملي المؤمّن لا يتكفّل جعل أحكام متعددة بعدد الآنات، وإنّما يتكفّل جعل حكمٍ واحدٍ بالطهارة مستمراً مادام الشكّ باقياً، مادام الشكّ باقياً ومستمرّاً وغير متبدّل؛ فحينئذٍ هناك حكم واحد بالطهارة والأصل يجري مرّة واحدة ويطبّق على هذا الفرد المشكوك مرّة واحدة، طبّقناه على هذا الفرد المشكوك بعد تحقق الشكّ فيه ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ فشمله الأصل العملي، ومفاد هذا الأصل العملي هو الحكم عليه بالحلّية أو بالطهارة مستمراً مادام الشكّ باقياً. هذا الحكم الواحد، هذا التطبيق للأصل المؤمّن على هذا الطرف سقط بالمعارضة مع الطرف الآخر، فإذا سقط بالمعارضة؛ فحينئذٍ لا يمكن تطبيقه مرّة أخرى على نفس الطرف ونفس الفرد المشكوك بلحاظ زمانٍ آخر مع فرض أنّه لم يحدث في الطرف الآخر ما يوجب تبدّل هذا الشكّ بشكٍّ آخر؛ بل الشكّ فيه هو نفس الشكّ السابق.
في المقابل يقول هذا المحقق أنّ الظاهر من دليل الأصل العملي أنّ مفاده أنّه يتكفّل جعل أحكام متعددّة بعدد آنات الشكّ، الحكم بالطهارة بعد الاضطرار غير الحكم بالطهارة قبل الاضطرار، والشكّ بعد الاضطرار غير الشكّ قبل الاضطرار، موضوعات متعددة لدليل الأصل المؤمن، فكل موضوع يقتضي أن نطبّق عليه هذا الأصل المؤمّن، هذا التطبيق غير ذاك التطبيق، ذاك سقط بالمعارضة، أمّا هذا فلا يسقط بالمعارضة، فمن هنا يظهر أنّ النزاع نزاع إثباتي، أننا ماذا نستفيد من أدلّة الأصول المؤمّنة، بناءً على الاقتضاء طبعاً، هل نستفيد من أدلّة الأصول العملية أنّها تتكفّل جعل حكم واحد بالطهارة على نحو الاستمرار ما دام الشكّ باقياً، أو نستفيد منها أنّها تتكفّل جعل أحكامٍ متعددة كما يقول هذا المحقق، فالنزاع إثباتي.
يمكن أن يقال: أنّ الذي يُستفاد من قوله(عليه السلام): (كل شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه نجس). هذه القاعدة تتضمّن حكماً واحداً لا أكثر بطهارة الأشياء ظاهرياً ما دمت غير عالم بالنجاسة، عند عدم العلم بالنجاسة تكون الأشياء محكومة بالطهارة، هذا حكم واحد ظاهري مجعول على نهج القضية الحقيقية وليس هناك تعدّد في هذا الحكم الظاهري المجعول على نهج القضية الحقيقية. تطبيقات هذا الحكم متعدّدة بعدد الأفراد المشكوكة النجاسة، الثوب نشكّ في نجاسته نطبّق عليه هذا الحكم، الماء نشكّ في نجاسته نطبق عليه هذا الحكم، الأرض نشكّ في نجاستها نطبّق عليها هذا الحكم، هذه تطبيقات متعدّدة بلا إشكال لهذا الكلّي المجعول على نهج القضية الحقيقية، فتتعدد التطبيقات بلا إشكال، لكن تتعدد التطبيقات عندما تتعدد الأفراد التي يُشكّ في نجاستها. أمّا بلحاظ الفرد الواحد المشكوك النجاسة، هل تتعدد التطبيقات للأصل المؤمّن بعدد الآنات التي يتصوّر فيها هذا الحكم الظاهري، أو لا ؟ كأنّه هذا هو محل النزاع، هذا المحقق يدّعي أنّ التطبيقات تكون متعددة بعدد الآنات، فتطبيق الأصل المؤمّن على هذا الطرف قبل الاضطرار غير تطبيق الأصل المؤمّن على نفس هذا الطرف وليس غيره في مرحلة ما بعد الاضطرار، هذا التطبيق غير ذاك التطبيق، ذاك التطبيق قبل الاضطرار سقط بالمعارضة، هذا تطبيق جديد ليس له معارض، فيمكن تطبيق الأصل العملي وينتج عدم التنجيز، الطرف المقابل يقول: لا، أنّ التطبيقات إنّما تتعدد بتعدد الأفراد التي يُشكّ فيها، أمّا بالنسبة إلى الفرد الواحد لا تتعدد التطبيقات، وإنّما هناك تطبيق واحد بالنسبة للفرد الواحد، ما دام الشكّ موجوداً، هناك تطبيق واحد لهذه القاعدة، وهذا التطبيق الواحد ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــ سقط بالمعارضة ولا تطبيق جديد، وهذا ينتج المنجّزية وهذا هو معنى قولهم (أنّ الساقط لا يعود) يعني أنّه شيء واحد وقد سقط، هذا لا يعود مرّة أخرى.
قد يقال: يمكن أن نستظهر الاحتمال الأوّل من الدليل، يعني احتمال أنّ الدليل يتكفّل تطبيقاً واحداً بالنسبة إلى الفرد المشكوك الواحد، بمعنى أنّ مفاد دليل أصالة الطهارة، أو اصالة الحلّية هو الحكم بطهارة الشيء ما دام الشك موجوداً، وهذا معناه أنّ هناك حكماً واحداً مستمراً لا أحكام متعددة(كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) [1]مفاده هو ما دمت لا تعلم بنجاسة الشيء فهو محكوم بالطهارة، هذا لا يستفاد منه أكثر من حكمٍ واحد بالطهارة لكنّ مستمراً ما دام لم يحصل العلم بالنجاسة، ما دمت غير عالم بنجاسة الشيء، فهو محكوم بالطهارة، هذا حكم بالطهارة على نحو الحدوث والاستمرار، حدوثاً وبقاءً ما دام الشك باقياً. لا يبعُد استفادة هذا المعنى من هذه الأدلّة، وإذا تمّت هذه الاستفادة؛ حينئذٍ يثبت الاحتمال الأوّل، وبناءً على الاحتمال الأوّل لابدّ من الالتزام بالمنجّزية، بمعنى أننّا لا يمكننا أن نجري الأصل المؤمّن ونطبّقه تطبيقاً آخراً على هذا الطرف بعد الاضطرار بدعوى أنّ هذا التطبيق ليس له معارض، كلا، لا يمكن هذا التطبيق؛ لأنّ الفرد الواحد المشكوك له تطبيق واحد، وهذا التطبيق سقط بالمعارضة.
إلى هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل في مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف، وننتقل بعد ذلك إلى المقام الثاني؛ لأنّ المقام الأوّل كان عن ما إذا كان الاضطرار إلى بعض الأطراف بعينه. الآن ننتقل إلى المقام الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه، علم بنجاسة إناءين فيهما ماء، ثمّ اضطرّ لرفع عطشه إلى شرب احدهما، ورفع عطشه كما يحصل بالشرب من هذا الإناء كذلك يحصل بالشرب من ذاك الإناء، فالاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فيقع الكلام هنا أيضاً في أنّه هل يكون العلم الإجمالي منجّزاً، أو لا يكون منجّزاً، الاضطرار إلى أحدهما بعينه هل يرفع التنجيز، أو لا يرفع التنجيز، أو يُفصّل ؟ على غرار ما تقدّم في المقام الأوّل.
هنا في هذه الحالة لا إشكال في أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، والسر في ذلك أنّه مضطر إلى ارتكاب أحد الإناءين، وهذا الاضطرار إلى ارتكاب أحد الإناءين يستلزم الترخيص للمكلّف في أن يرتكب أحدهما، لكن على نحو التخيير، فالترخيص يكون ترخيصاً تخييرياً، هو مخيّر في رفع اضطراره بهذا الطرف، أو بالطرف الآخر، فإذن: هناك ترخيص تخييري في ارتكاب أحد الإناءين نتيجة الاضطرار، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعية؛ إذ لا يمكن اجتماع وجوب الموافقة القطعية مع الترخيص في ارتكاب أحد الطرفين على نحو التخيير، فإذن: وجوب الموافقة القطعية قطعاً يسقط في المقام، والعلم الإجمالي في مثل هذه الحالة لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، فيجوز له ارتكاب أحدهما قطعاً، وإنّما الكلام في حرمة المخالفة القطعية بارتكاب الطرف الثاني بعد رفع الاضطرار بأحدهما، فأنّه إذا رفع اضطراره بأحدهما يقع الكلام في أنّه هل يجوز له ارتكاب الطرف الآخر، أو لا يجوز له ارتكابه ؟ فإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية، فلا يجوز له ارتكاب الطرف الآخر، وإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالي يرتفع وحتى عن تنجيز حرمة المخالفة القطعية، فيجوز له ارتكاب الطرف الآخر. هذا هو محل الكلام.