36/01/29
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ العلم الإجمالي في التدريجيات
الصورة التي استثناها السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن محل الكلام كانت هي ما إذا كان التكليف فعلياً على كل تقدير، وهو الذي فُسّر بأنّ معناه أنّ زمان المتأخّر ليس دخيلاً في التكليف لا خطاباً ولا ملاكاً، فيكون التكليف فعلياً على كل تقدير حتّى لو كان الواجب ومتعلّق التكليف استقبالياً، التكليف بحسب الفرض أنّ المكلّف به استقبالي على أحد التقديرين، لكن بالرغم من ذلك التكليف يكون فعلياً كالتكليف بالآخر، كما أنّ التكليف الآخر فعلي، التكليف بهذا الواجب الاستقبالي أيضاً يكون فعلياً، فإذن: فُرض في ذلك كون التكليف فعلياً على كل تقدير، وهذا يكون بناءً على إمكان الواجب المعلّق، في هذه الصورة نقلنا عن بعض المحققين أنّه يستشكل ويرى أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً خلافاً للكل ـــــــــــ تقريباً ـــــــــــ الذين يرون التنجيز في هذه الصورة، علم فعلي على كل تقدير، فيكون قابلاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، فينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين. هذا المحقق خالف في هذه الصورة، فضلاً عن الصوّر الآتية التي سيقع فيها الكلام، وهي ما إذا كان التكليف على أحد التقديرين ليس فعلياً، وإنّما هو على تقديرٍ فعلي وعلى تقديرٍ آخر ليس فعلياً، فضلاً عن تلك الصورة هو في هذه الصورة التي فُرض فيها كون التكليف فعلياً على كل تقدير وناقش في المنجّزية، والمناقشة هي: أنّ العلم بالتكليف لا يصلح لتنجيز التكليف إلاّ إذا كان متحققاً في ظرف العمل نفسه، إذا كان متحققاً في ظرف الامتثال والطاعة، أمّا أنّ العلم بالتكليف ينجّز التكليف قبل ظرف العمل، فهذا غير صحيح، العلم التفصيلي بالتكليف، فضلاً عن العلم الإجمالي، لا ينجّز التكليف إلاّ في ظرف الامتثال والطاعة وظرف العمل، أمّا قبل ذلك، العلم التفصيلي بالتكليف لا ينجّز التكليف، واستدل على ذلك بأنّه: إذا فرضنا أنّ المكلّف علم تفصيلاً بالتكليف، وكان زمان المكلّف به استقبالياً، أي زمان العمل بالتكليف كان في المستقبل الذي هو معنى أنّ الواجب استقبالي، في هذه الحالة إذا زال العلم بالتكليف وتبدّل إلى شكٍ قبل حلول ظرف العمل بالتكليف، هل يبقى التنجيز، أو لا يبقى ؟ يقول: لا إشكال في أنّ التكليف لا يكون منجّزاً حينئذٍ؛ لعدم وجود علم في ظرف العمل، الذي ينجّز التكليف هو العلم به في ظرف العمل، وحيث أنّه في هذا المثال زال العلم بظرف العمل، وتحول العلم إلى شكّ، فإذن، لا يتنجّز، إذن، إنّما يتنجّز بالعلم به في ظرف العمل، أمّا مجرّد العلم به سابقاً، فهذا لا ينجّز التكليف؛ لأنّ العلم إنّما ينجّز التكليف في ظرف العمل، وبالتالي لا تثبت المنجّزية للعلم الإجمالي في محل الكلام؛ لأنّه ليس علماً بتكليفٍ فعليٍ قابلاً للتنجيز على كل تقدير؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي على أحد التقديرين قابل للتنجيز، والتكليف قابل لأن يكون منجّزاً على أحد التقديرين، وهو ما إذا نذر أن يقرأ سورة خاصّة في هذا اليوم، هذا قابل للتنجيز، هذا علم في ظرف العمل، فينجّز التكليف، لكن على تقدير أن يكون المنذور هو قراءة سورة في يوم غدٍ، الآن هذا التكليف لا يكون منجّزاً والعلم به لا ينجّزه، إذن: هو يعلم بتكليفٍ قابلٍ للتنجيز على تقدير وليس قابلاً للتنجيز على تقديرٍ آخر، يعني يعلم بجامع التكليف الأعم من المنجّز وغير المنجّز، ومن المعلوم أنّ الجامع الأعمّ من المنجّز وغير المنجّز لا يكون منجّزاً؛ ولذا لا تثبت المنجّزية لهذا العلم الإجمالي. هذا ما ذكره.
أقول: الظاهر أنّ مرجع هذا الكلام إلى إنكار الواجب المعلّق، لا يبعُد هذا، بأن يقال أنّ الواجب المعلّق محال؛ لأنّه لا يمكن أن يكونالتكليف فعلياً قابلاً للتنجيز فعلاً مع كون زمان الواجب استقبالياً؛ لأنّ العلم لا ينجّز هذا التكليف ما دام الواجب ومتعلّق التكليف استقبالياً، فإذا فرضنا أنّه يرجع إلى إنكار الواجب المعلّق واستحالته، فهذا الكلام لا معنى له في المقام؛ لأننا فرضنا في هذه السورة إمكان الواجب المعلّق، حيث افترضنا أنّ التكليف فعلي على كل تقديرٍ بالرغم من أنّ المكلّف به على أحد التقديرين استقبالي، إذن، يمكن افتراض فعلية التكليف مع كون الواجب استقبالياً، هذ هو فرض المسألة، فالمناقشة في أن الواجب المعلّق محال وليس ممكناً، تكون حينئذٍ مناقشة مبنائية، ومناقشة في تصوّر اصل الفرض، أنّ أصل الفرض غير ممكن، وهذه ليست مناقشة منهجية؛ لأننا كما قلنا نتكلّم بناءً على إمكان الواجب المعلّق، نتكلّم بناءً على فعلية التكليف على كل تقدير، وبناءً على أنّ زمان المتأخّر ليس قيداً في التكليف لا خطاباً ولا ملاكاً، كلامنا في هذا، فالجواب بأنّ هذا محال ليس جواباً منهجياً. هذا إذا كان هذا هو مقصوده.
أمّا إذا كان مقصوده ليس له علاقة بالواجب المعلّق، وأنّ العلم ولو كان تفصيلاً لا ينجّزالتكليف الذي يتعلّق به إلاّ في ظرف العمل، المنجّز للتكليف هو العلم به في ظرف العمل، أمّا العلم به قبل ظرف العمل، فلا ينجّز التكليف ولا يُدخله في العهدة، هذه الدعوى أيضاً غير مقبولة؛ بل الصحيح هو أنّ العلم حتّى لو كان إجمالياً ينجّز التكليف الذي يتعلّق به حال حصول العلم لا أن نقول أنّ العلم حال حصوله لا ينجّز التكليف، وإنّما ينجّزه في ظرف العمل، كلا، ما ندّعيه هو أنّه ينجّز التكليف حال حصوله، والسرّ في ذلك هو أنّ المنجّزية حكم عقلي، ومعناها هو إدراك العقل لقبح المخالفة واستحقاق العقاب على المخالفة.
وبعبارةٍ أكثر دقّة: هي إدراك عقلي لقبح مخالفة التكليف، العقل ليس منشئاً للحكم، هذا الإدراك العقلي، أو قل ولو من باب المسامحة، هذا الحكم العقلي بقبح المخالفة واستحقاق العقاب على المخالفة له موضوع، وموضوعه هو التكليف الداخل في دائرة مولوية المولى، التكليف الذي يرى العقل أنّ للمولى فيه حق الطاعة، العقل يرى أنّ كل تكليفٍ دخل في دائرة حق المولى ثبت للمولى فيه حق الطاعة يكون منجّزاً، ومن الواضح أنّ أحد أهم الأمور التي تُدخل التكليف في دائرة حق الطاعة، وفي دائرة المولوية هو العلم بالتكليف، إذا علم بالتكليف العقل يقول أنّ هذا التكليف تقبح مخالفته ويستحق المكلّف العقاب على مخالفته، حكم العقل بالقبح الذي هو معنى المنجّزية، وحكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة الذي هو معنى المنجّزية، هذا حكم فعلي، حكم يتحقق عندما يتحقق موضوعه، وموضوعه هو التكليف الداخل في دائرة حق الطاعة. أو بعبارة أكثر وضوحاً: موضوعه هو التكليف المعلوم؛ لأنّ العقل يرى أنّ العلم ينجّز التكليف ويدخله في دائرة حق الطاعة، والعقل يرى أنّ كل تكليفٍ للمولى حق الطاعة فيه تقبح مخالفته، والمخالف يستحق العقاب، هذا هو الحكم العقلي ومعنى المنجّزية، هذا لماذا لا نقول أنّه يتحقق في ظرف العلم بالتكليف ؟ هو يتحقق بتحقق موضوعه، وموضوعه هو التكليف المعلوم، والمفروض أنّ المكلّف علم بالتكليف خصوصاً في المثال الذي هو يتكلّم به وهو العلم التفصيلي بالتكليف الفعلي، كلامنا في الصورة التي افترضوا أنّها خارجة عن محل النزاع؛ إذ لا إشكال في المنجّزية فيها بأن يكون التكليف فعلياً على كل تقدير بالرغم من أنّ الواجب استقبالي على هذا التقدير، كلامنا في هذا إذا علم تفصيلاً بالتكليف، فدخل التكليف في دائرة المولوية للمولى(سبحانه وتعالى) العقل فوراً يحكم بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب على مخالفته، غاية الأمر أنّ زمان المخالفة متأخّر، تأخّر زمان المخالفة لا يعني أنّ الحكم بالقبح أيضاً متأخّر، الحكم بالقبح فعلي، والعقل يرى أنّ كل من يعلم بالتكليف يقبح عليه مخالفته، يرى أنّ هذا التكليف يحكم العقل عليه بقبح المخالفة، فعلاً يحكم عليه بهذا القبح، وإن كانت المخالفة في التكليف الذي يكون الواجب فيه استقبالياً لا تقع فعلاً، وإنّما تقع في ظرف العمل، هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أنّ الحكم العقلي أيضاً متأخّر وليس موجوداً فعلاً، الحكم العقلي بالقبح موجود فعلاً، العقل فعلاً يحكم بقبح مخالفة التكليف المعلوم، فالحكم فعلي وليس منوطاً بحلول ظرف العمل بالتكليف، وإنّما يكون فعلياً وبناءً على هذا؛ حينئذٍ يصح ما ذهب إليه الكل من منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام؛ لأنّه علم بتكليفٍ فعلي قابلٍ للتنجيز على كل تقدير، حتّى على ذاك التقدير الذي يكون به التكليف واجباً استقبالياً التكليف قابل للتنجيز؛ لأنّ التنجيز يعني إدراك العقل لقبح المخالفة، والعقل يدرك قبح مخالفة كل تكليفٍ يدخل في دائرة حق الطاعة، والتكليف يدخل في هذه الدائرة بمجرّد العلم به، والعقل يقول أنّ هذا التكليف الذي للمولى حق الطاعة فيه تقبح مخالفته، يحكم حكماً فعلياً لا منوطاً بحلول ظرف العمل.
وأمّا الدليل الذي ذكره وهو مسألة إذا تبدّل العلم إلى شكٍّ، وهنا لا نحكم بالمنجّزية، عندما يتبدّل العلم إلى الشك بحيث يكون المكلّف في ظرف العمل شاكاً في ثبوت التكليف، واضح أنّه لا يتنجّز عليه التكليف، المستدل يقول: أنّ هذا يكشف عن أنّ المنجّز هو العلم في ظرف العمل، وحيث في هذا المقام لا علم في ظرف العمل فلا يتنجّز التكليف؛ لأنّه لا علم في ظرف العمل؛ لأنّه تحوّل إلى شكٍّ بحسب الفرض. إذن: المنجّز هو العلم في ظرف العمل لا العلم الموجود سابقاً، وإلاّ لو كان المنجّز هو العلم الموجود سابقاً لنجّز هذا التكليف بالرغم من تحوّله إلى شكٍّ؛ لأنّ المنجّز هو العلم حين حصوله، والعلم حين حصوله في هذا الفرض موجود، فلابدّ أن يكون منجزاً للتكليف في ظرفه، والحال أنّه قطعاً ليس منجزاً، هذا يكشف عن أنّ المنجّز هو العلم في ظرف العمل لا العلم المتقدّم على ظرف العمل.
أقول: هذا الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً على أنّ العلم في ظرف العمل ليس منجّزاً؛ لأننا ذكرنا أنّ المنجّزية إدراك عقلي موضوعه هو التكليف الداخل في دائرة المولوية للمولى، الذي ثبت للمولى فيه حق الطاعة، هذا موضوع المنجّزية، وفي المقام يكون التكليف كذلك بافتراض تعلّق العلم به. إذن: موضوعه هو العلم، ما يدخل التكليف في حق الطاعة، هذا موضوع حكم العقل بالقبح وإدراك العقل للقبح، إذا تحوّل العلم إلى شكٍّ يرتفع هذا الحكم العقلي من باب ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوع هذا القبح العقلي هو التكليف المعلوم، موضوع هذا القبح العقلي هو التكليف الداخل في دائرة المولوية، والذي هو موضوع المنجّزية، فإذا ارتفع هذا الموضوع وتبدّل العلم إلى الشك، وخرج التكليف عن دائرة المولوية، فحينئذٍ لا يحكم العقل بقبحه، لكن هذا ليس معناه أنّ العلم بالتكليف الموجود سابقاً لا ينجّز التكليف؛ بل العلم بالتكليف من حين حصوله ينجّز التكليف ويحكم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب على مخالفته، غاية الأمر أنّه بطبيعة الأشياء أنّ هذا منوطٌ ببقاء هذا العلم إلى ظرف العمل، وإلاّ يرتفع القبح بارتفاع موضوعه، لكن هذا لا يعني إطلاقاً أنّ العلم لا يكون منجّزاً للتكليف إلاّ في ظرف العمل؛ بل العلم عند حصوله ينجّز التكليف؛ لأنّ المنجّزية لا يراد بها إلاّ إدراك العقل. هذا ما يمكن أن يُناقش به ما ذكره بعض المحققين. ونفس هذا الكلام ذكره في الصورة الثانية التي سيأتي الحديث عنها، وهي ما إذا كان التكليف فعلياً على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخرٍ، بعد هذا الكلام في هذا الفرض يكون كلامه أوضح ــــــــــ مثلاً ــــــــــ لأنّه هو يقول التكليف فعلي على كل تقدير، وهو يقول أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف فعلاً وإنّما ينجّزه في ظرف العمل، فإذن: ما ظنّك بما إذا كان التكليف ليس فعلياً على أحد التقديرين ؟ من باب أولى أن لا تثبت المنجّزية لهذا العلم الإجمالي.
على كل حال، الظاهر الاتفاق على المنجّزية في هذه الصورة، وخروجها عن محل الكلام، باعتبار أنّ ملاك المنجّزية موجود في هذه الصورة، ملاك المنجّزية هو أن يكون العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، وهذا مفروض في هذه الصورة، ملاك المنجّزية أن يكون التكليف قابلاً للتنجيز على كل تقدير، هنا أيضاً قلنا أنّ التكليف المعلوم قابل للتنجيز على كل تقدير؛ فحينئذٍ لا مجال للتشكيك في المنجّزية في هذه الصورة؛ ولذا هذه تخرج عن محل الكلام.
وأمّا النحو الثاني من القسم الثالث الذي هو محل الكلام، وهو أن يكون التكليف فعلياً على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخر، وهذا النحو اختلفت فيه الأنظار، ومثاله المرأة الحائض المتقدّم، ويمكن أن نجعل مثال النذر مثالاً له بناءٍ على استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المنذور إن كان قراءة سورة في هذا اليوم فهو فعلي، أمّا إذا كان المنذور هو قراءة سورةٍ في يوم غدٍ، فالتكليف لا يكون فعلياً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما يكون استقبالياً. إذن، التكليف على تقديرٍ يكون فعلياً، وعلى تقديرٍ آخرٍ ليس فعلياً. هذا النحو مرجعه ـــــــــــ كما ذكرنا في الصورة المستثناة ـــــــــــ إلى أنّ الزمان المتأخّر في أحد الطرفين دخيل في التكليف وليس دخيلاً في متعلّق التكليف فقط كما في الصورة المتقدّمة، في الصورة المتقدّمة كان الزمان متأخّراً دخيلاً في الواجب وليس دخيلاً في التكليف لا خطاباً، ولا ملاكاً. هذا النحو الذي نتكلّم عنه الآن مرجعه إلى أنّ الزمان دخيل في التكليف؛ ولذا لا يكون التكليف فعلياً على ذاك تقدير، معناه أنّه على ذاك التقدير الزمان المتأخّر دخيل في التكليف. هذا يمكن تصوّره على شكلين:
الشكل الأوّل: أن نفترض أنّ الزمان دخيل في التكليف خطاباً وملاكاً، يعني لا الخطاب وأصل التكليف موجود قبل الزمان المتأخّر، ولا الملاك أيضاً موجود قبل الزمان المتأخّر، فالتكليف خطاباً وملاكاً غير موجود الآن، وإنّما موجود بعد حلول الزمان المتأخّر. وذُكر مثال الحيض مثالاً لهذا، باعتبار أنّه قبل حلول الحيض ليس فقط لا يوجد تكليف؛ بل الملاك للتكليف أيضاً ليس موجوداً، وإنّما يكون الملاك عندما تصبح المرأة حائضاً، فيحرم عليها دخول المساجد ويحرم مقاربتها.......الخ، فيكون حلول الحيض دخيلاً في التكليف، خطاباً وملاكاً.
الشكل الثاني: أن نفترض أنّ الزمان المتأخّر دخيل في التكليف خطاباً لا ملاكاً، بمعنى أنّ الملاك موجود قبله، لكن الزمان المتأخّر يكون دخيلاً في الخطاب لا في الملاك؛ حينئذٍ يكون التكليف غير متحقق فعلاً، استقبالي، لكن ملاك التكليف موجود قبل ذاك الزمان المتأخّر، فالتكليف موجود قبل الزمان المتأخّر، لكن ملاكاً لا خطاباً، فرضاً لأننا نرى استحالة الواجب المعلّق، فالتكليف حينئذٍ لا يمكن أن يكون فعلياً قبل زمان الواجب، لكن لنفترض أننا استكشفنا أنّ الملاك موجود، الخطاب متأخّر لاستحالة الواجب المعلّق، لعلّه من هذا القبيل النذر، موضوع التكليف خطاباً وملاكاً هو النذر، بمجرّد أن ينذر الإنسان؛ حينئذٍ يكون التكليف بوجوب الوفاء فعلياً، وملاكه أيضاً يكون فعلياً، فإذا نذر أن يقرأ سورة في اليوم القادم، وقلنا باستحالة الواجب المعلّق، استحالة الواجب المعلّق تقتضي أنّ التكليف بوجوب الوفاء محال أن يكون فعلياً، وإنّما يكون متأخّراً، لكن ملاك هذا التكليف فعلي ولا داعي لتأخّره؛ لأنّه منوط بالنذر، ولولا استحالة الواجب المعلّق لقلنا التكليف أيضاً فعلي، لكن حيث قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتكليف يكون متأخّراً، لكن ملاكه يكون فعلياً؛ لأنّه بمجرّد حصول النذر هو يحدث في التكليف، أي في الفعل المنذور مصلحة تقتضي الحكم بوجوب الوفاء به، فإذن: مرّة نفترض أنّ الزمان دخيل في التكليف خطاباً وملاكاً، ومرّة نفترض أنّه دخيل فيه خطاباً لا ملاكاً.
الأقوال في المسألة ثلاثة:
القول الأوّل: عدم المنجّزية مطلقاً وجواز الرجوع إلى الأصل في كلا الطرفين في هذا النحو وهو في ما إذا كان التكليف فعلياً على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر، وهذا هو ظاهر كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو الذي اختاره بعض المحققين المتأخرين؛ بل هو اختار عدم المنجّزية حتّى في الصورة السابقة.
القول الثاني: المنجّزية مطلقاً وعدم جواز الرجوع إلى الأصول في الطرفين، والإطلاق بلحاظ الشكلين المتقدّمين كما سيأتي في التفصيل، وهذا هو مختار المحقق النائيني والمحقق العراقي(قدّس سرّهما) وتبعهما جماعة ممن تأخّر عنهما كالسيد الخوئي(قدّس سرّه).
القول الثالث: التفصيل بين الشكلين السابقين، بأن يُلتزَم بالمنجّزية عندما يفترض الملاك فعلياً وإن كان التكليف استقبالياً وليس فعلياً، الذي هو الشكل الثاني وعدم المنجّزية عندما يكون التكليف خطاباً وملاكاً متأخّراً ليس فعلياً. هذا التفصيل هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
الأنسب في البحث من ناحية منهجية أن نتكلّم في الشكل الأوّل، يعني أن نتكلّم في صورة ما إذا كان الزمان المتأخّر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، لا تكليف فعلي موجود قبل ذاك الزمان، ولا ملاك موجود، فعلم المكلّف بتكليف مرددٍ بين أن يكون فعلياً على تقدير، وبين أن يكون ليس فعلياً لا خطاباً ولا ملاكاً على تقديرٍ آخر؛ حينئذٍ إذا انتهينا إلى القول بالمنجّزية في هذا الشكل؛ فحينئذٍ لا إشكال في منجّزية العلم الإجمالي في الشكل الثاني؛ لأنّ الشكل الثاني يتميّز عن الأوّل في أنّ الملاك فيه فعلي، نحن عندما قلنا أنّ في الشكل الأوّل الملاك ليس فعلياً، والتكليف ليس فعلياً مع ذلك قلنا بالمنجّزية، فإذن: من بابٍ أولى أن نلتزم بالمنجّزية عندما نفترض أنّ ملاك التكليف فعلي، فيتضح الأمر في الشكل الثاني إذا قلنا بالمنجّزية في الشكل الأوّل.
نعم، إذا انتهينا إلى عدم المنجّزية في الشكل الأوّل؛ حينئذٍ يمكن البحث في الشكل الثاني؛ لأنّ الشكل الثاني فيه خصوصية ليست موجودة في الشكل الأوّل وهي أنّ الملاك فيه فعلي، فعلية الملاك ولو مع عدم فعلية التكليف، هل تؤثر في الحكم بالمنجّزية كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ؟ يمكن أن يقع الكلام في الشكل الثاني بناءً على عدم المنجّزية في الشكل الأوّل؛ ولذا يقع البحث أوّلاً في الشكل الأوّل وهو ما إذا فرضنا أنّ التكليف وملاك التكليف ليس فعلياً على أحد التقديرين، مثل هذا العلم الإجمالي هل يكون منجّزاً، أو لا ؟
الصورة التي استثناها السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن محل الكلام كانت هي ما إذا كان التكليف فعلياً على كل تقدير، وهو الذي فُسّر بأنّ معناه أنّ زمان المتأخّر ليس دخيلاً في التكليف لا خطاباً ولا ملاكاً، فيكون التكليف فعلياً على كل تقدير حتّى لو كان الواجب ومتعلّق التكليف استقبالياً، التكليف بحسب الفرض أنّ المكلّف به استقبالي على أحد التقديرين، لكن بالرغم من ذلك التكليف يكون فعلياً كالتكليف بالآخر، كما أنّ التكليف الآخر فعلي، التكليف بهذا الواجب الاستقبالي أيضاً يكون فعلياً، فإذن: فُرض في ذلك كون التكليف فعلياً على كل تقدير، وهذا يكون بناءً على إمكان الواجب المعلّق، في هذه الصورة نقلنا عن بعض المحققين أنّه يستشكل ويرى أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً خلافاً للكل ـــــــــــ تقريباً ـــــــــــ الذين يرون التنجيز في هذه الصورة، علم فعلي على كل تقدير، فيكون قابلاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، فينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين. هذا المحقق خالف في هذه الصورة، فضلاً عن الصوّر الآتية التي سيقع فيها الكلام، وهي ما إذا كان التكليف على أحد التقديرين ليس فعلياً، وإنّما هو على تقديرٍ فعلي وعلى تقديرٍ آخر ليس فعلياً، فضلاً عن تلك الصورة هو في هذه الصورة التي فُرض فيها كون التكليف فعلياً على كل تقدير وناقش في المنجّزية، والمناقشة هي: أنّ العلم بالتكليف لا يصلح لتنجيز التكليف إلاّ إذا كان متحققاً في ظرف العمل نفسه، إذا كان متحققاً في ظرف الامتثال والطاعة، أمّا أنّ العلم بالتكليف ينجّز التكليف قبل ظرف العمل، فهذا غير صحيح، العلم التفصيلي بالتكليف، فضلاً عن العلم الإجمالي، لا ينجّز التكليف إلاّ في ظرف الامتثال والطاعة وظرف العمل، أمّا قبل ذلك، العلم التفصيلي بالتكليف لا ينجّز التكليف، واستدل على ذلك بأنّه: إذا فرضنا أنّ المكلّف علم تفصيلاً بالتكليف، وكان زمان المكلّف به استقبالياً، أي زمان العمل بالتكليف كان في المستقبل الذي هو معنى أنّ الواجب استقبالي، في هذه الحالة إذا زال العلم بالتكليف وتبدّل إلى شكٍ قبل حلول ظرف العمل بالتكليف، هل يبقى التنجيز، أو لا يبقى ؟ يقول: لا إشكال في أنّ التكليف لا يكون منجّزاً حينئذٍ؛ لعدم وجود علم في ظرف العمل، الذي ينجّز التكليف هو العلم به في ظرف العمل، وحيث أنّه في هذا المثال زال العلم بظرف العمل، وتحول العلم إلى شكّ، فإذن، لا يتنجّز، إذن، إنّما يتنجّز بالعلم به في ظرف العمل، أمّا مجرّد العلم به سابقاً، فهذا لا ينجّز التكليف؛ لأنّ العلم إنّما ينجّز التكليف في ظرف العمل، وبالتالي لا تثبت المنجّزية للعلم الإجمالي في محل الكلام؛ لأنّه ليس علماً بتكليفٍ فعليٍ قابلاً للتنجيز على كل تقدير؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي على أحد التقديرين قابل للتنجيز، والتكليف قابل لأن يكون منجّزاً على أحد التقديرين، وهو ما إذا نذر أن يقرأ سورة خاصّة في هذا اليوم، هذا قابل للتنجيز، هذا علم في ظرف العمل، فينجّز التكليف، لكن على تقدير أن يكون المنذور هو قراءة سورة في يوم غدٍ، الآن هذا التكليف لا يكون منجّزاً والعلم به لا ينجّزه، إذن: هو يعلم بتكليفٍ قابلٍ للتنجيز على تقدير وليس قابلاً للتنجيز على تقديرٍ آخر، يعني يعلم بجامع التكليف الأعم من المنجّز وغير المنجّز، ومن المعلوم أنّ الجامع الأعمّ من المنجّز وغير المنجّز لا يكون منجّزاً؛ ولذا لا تثبت المنجّزية لهذا العلم الإجمالي. هذا ما ذكره.
أقول: الظاهر أنّ مرجع هذا الكلام إلى إنكار الواجب المعلّق، لا يبعُد هذا، بأن يقال أنّ الواجب المعلّق محال؛ لأنّه لا يمكن أن يكونالتكليف فعلياً قابلاً للتنجيز فعلاً مع كون زمان الواجب استقبالياً؛ لأنّ العلم لا ينجّز هذا التكليف ما دام الواجب ومتعلّق التكليف استقبالياً، فإذا فرضنا أنّه يرجع إلى إنكار الواجب المعلّق واستحالته، فهذا الكلام لا معنى له في المقام؛ لأننا فرضنا في هذه السورة إمكان الواجب المعلّق، حيث افترضنا أنّ التكليف فعلي على كل تقديرٍ بالرغم من أنّ المكلّف به على أحد التقديرين استقبالي، إذن، يمكن افتراض فعلية التكليف مع كون الواجب استقبالياً، هذ هو فرض المسألة، فالمناقشة في أن الواجب المعلّق محال وليس ممكناً، تكون حينئذٍ مناقشة مبنائية، ومناقشة في تصوّر اصل الفرض، أنّ أصل الفرض غير ممكن، وهذه ليست مناقشة منهجية؛ لأننا كما قلنا نتكلّم بناءً على إمكان الواجب المعلّق، نتكلّم بناءً على فعلية التكليف على كل تقدير، وبناءً على أنّ زمان المتأخّر ليس قيداً في التكليف لا خطاباً ولا ملاكاً، كلامنا في هذا، فالجواب بأنّ هذا محال ليس جواباً منهجياً. هذا إذا كان هذا هو مقصوده.
أمّا إذا كان مقصوده ليس له علاقة بالواجب المعلّق، وأنّ العلم ولو كان تفصيلاً لا ينجّزالتكليف الذي يتعلّق به إلاّ في ظرف العمل، المنجّز للتكليف هو العلم به في ظرف العمل، أمّا العلم به قبل ظرف العمل، فلا ينجّز التكليف ولا يُدخله في العهدة، هذه الدعوى أيضاً غير مقبولة؛ بل الصحيح هو أنّ العلم حتّى لو كان إجمالياً ينجّز التكليف الذي يتعلّق به حال حصول العلم لا أن نقول أنّ العلم حال حصوله لا ينجّز التكليف، وإنّما ينجّزه في ظرف العمل، كلا، ما ندّعيه هو أنّه ينجّز التكليف حال حصوله، والسرّ في ذلك هو أنّ المنجّزية حكم عقلي، ومعناها هو إدراك العقل لقبح المخالفة واستحقاق العقاب على المخالفة.
وبعبارةٍ أكثر دقّة: هي إدراك عقلي لقبح مخالفة التكليف، العقل ليس منشئاً للحكم، هذا الإدراك العقلي، أو قل ولو من باب المسامحة، هذا الحكم العقلي بقبح المخالفة واستحقاق العقاب على المخالفة له موضوع، وموضوعه هو التكليف الداخل في دائرة مولوية المولى، التكليف الذي يرى العقل أنّ للمولى فيه حق الطاعة، العقل يرى أنّ كل تكليفٍ دخل في دائرة حق المولى ثبت للمولى فيه حق الطاعة يكون منجّزاً، ومن الواضح أنّ أحد أهم الأمور التي تُدخل التكليف في دائرة حق الطاعة، وفي دائرة المولوية هو العلم بالتكليف، إذا علم بالتكليف العقل يقول أنّ هذا التكليف تقبح مخالفته ويستحق المكلّف العقاب على مخالفته، حكم العقل بالقبح الذي هو معنى المنجّزية، وحكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة الذي هو معنى المنجّزية، هذا حكم فعلي، حكم يتحقق عندما يتحقق موضوعه، وموضوعه هو التكليف الداخل في دائرة حق الطاعة. أو بعبارة أكثر وضوحاً: موضوعه هو التكليف المعلوم؛ لأنّ العقل يرى أنّ العلم ينجّز التكليف ويدخله في دائرة حق الطاعة، والعقل يرى أنّ كل تكليفٍ للمولى حق الطاعة فيه تقبح مخالفته، والمخالف يستحق العقاب، هذا هو الحكم العقلي ومعنى المنجّزية، هذا لماذا لا نقول أنّه يتحقق في ظرف العلم بالتكليف ؟ هو يتحقق بتحقق موضوعه، وموضوعه هو التكليف المعلوم، والمفروض أنّ المكلّف علم بالتكليف خصوصاً في المثال الذي هو يتكلّم به وهو العلم التفصيلي بالتكليف الفعلي، كلامنا في الصورة التي افترضوا أنّها خارجة عن محل النزاع؛ إذ لا إشكال في المنجّزية فيها بأن يكون التكليف فعلياً على كل تقدير بالرغم من أنّ الواجب استقبالي على هذا التقدير، كلامنا في هذا إذا علم تفصيلاً بالتكليف، فدخل التكليف في دائرة المولوية للمولى(سبحانه وتعالى) العقل فوراً يحكم بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب على مخالفته، غاية الأمر أنّ زمان المخالفة متأخّر، تأخّر زمان المخالفة لا يعني أنّ الحكم بالقبح أيضاً متأخّر، الحكم بالقبح فعلي، والعقل يرى أنّ كل من يعلم بالتكليف يقبح عليه مخالفته، يرى أنّ هذا التكليف يحكم العقل عليه بقبح المخالفة، فعلاً يحكم عليه بهذا القبح، وإن كانت المخالفة في التكليف الذي يكون الواجب فيه استقبالياً لا تقع فعلاً، وإنّما تقع في ظرف العمل، هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أنّ الحكم العقلي أيضاً متأخّر وليس موجوداً فعلاً، الحكم العقلي بالقبح موجود فعلاً، العقل فعلاً يحكم بقبح مخالفة التكليف المعلوم، فالحكم فعلي وليس منوطاً بحلول ظرف العمل بالتكليف، وإنّما يكون فعلياً وبناءً على هذا؛ حينئذٍ يصح ما ذهب إليه الكل من منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام؛ لأنّه علم بتكليفٍ فعلي قابلٍ للتنجيز على كل تقدير، حتّى على ذاك التقدير الذي يكون به التكليف واجباً استقبالياً التكليف قابل للتنجيز؛ لأنّ التنجيز يعني إدراك العقل لقبح المخالفة، والعقل يدرك قبح مخالفة كل تكليفٍ يدخل في دائرة حق الطاعة، والتكليف يدخل في هذه الدائرة بمجرّد العلم به، والعقل يقول أنّ هذا التكليف الذي للمولى حق الطاعة فيه تقبح مخالفته، يحكم حكماً فعلياً لا منوطاً بحلول ظرف العمل.
وأمّا الدليل الذي ذكره وهو مسألة إذا تبدّل العلم إلى شكٍّ، وهنا لا نحكم بالمنجّزية، عندما يتبدّل العلم إلى الشك بحيث يكون المكلّف في ظرف العمل شاكاً في ثبوت التكليف، واضح أنّه لا يتنجّز عليه التكليف، المستدل يقول: أنّ هذا يكشف عن أنّ المنجّز هو العلم في ظرف العمل، وحيث في هذا المقام لا علم في ظرف العمل فلا يتنجّز التكليف؛ لأنّه لا علم في ظرف العمل؛ لأنّه تحوّل إلى شكٍّ بحسب الفرض. إذن: المنجّز هو العلم في ظرف العمل لا العلم الموجود سابقاً، وإلاّ لو كان المنجّز هو العلم الموجود سابقاً لنجّز هذا التكليف بالرغم من تحوّله إلى شكٍّ؛ لأنّ المنجّز هو العلم حين حصوله، والعلم حين حصوله في هذا الفرض موجود، فلابدّ أن يكون منجزاً للتكليف في ظرفه، والحال أنّه قطعاً ليس منجزاً، هذا يكشف عن أنّ المنجّز هو العلم في ظرف العمل لا العلم المتقدّم على ظرف العمل.
أقول: هذا الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً على أنّ العلم في ظرف العمل ليس منجّزاً؛ لأننا ذكرنا أنّ المنجّزية إدراك عقلي موضوعه هو التكليف الداخل في دائرة المولوية للمولى، الذي ثبت للمولى فيه حق الطاعة، هذا موضوع المنجّزية، وفي المقام يكون التكليف كذلك بافتراض تعلّق العلم به. إذن: موضوعه هو العلم، ما يدخل التكليف في حق الطاعة، هذا موضوع حكم العقل بالقبح وإدراك العقل للقبح، إذا تحوّل العلم إلى شكٍّ يرتفع هذا الحكم العقلي من باب ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوع هذا القبح العقلي هو التكليف المعلوم، موضوع هذا القبح العقلي هو التكليف الداخل في دائرة المولوية، والذي هو موضوع المنجّزية، فإذا ارتفع هذا الموضوع وتبدّل العلم إلى الشك، وخرج التكليف عن دائرة المولوية، فحينئذٍ لا يحكم العقل بقبحه، لكن هذا ليس معناه أنّ العلم بالتكليف الموجود سابقاً لا ينجّز التكليف؛ بل العلم بالتكليف من حين حصوله ينجّز التكليف ويحكم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب على مخالفته، غاية الأمر أنّه بطبيعة الأشياء أنّ هذا منوطٌ ببقاء هذا العلم إلى ظرف العمل، وإلاّ يرتفع القبح بارتفاع موضوعه، لكن هذا لا يعني إطلاقاً أنّ العلم لا يكون منجّزاً للتكليف إلاّ في ظرف العمل؛ بل العلم عند حصوله ينجّز التكليف؛ لأنّ المنجّزية لا يراد بها إلاّ إدراك العقل. هذا ما يمكن أن يُناقش به ما ذكره بعض المحققين. ونفس هذا الكلام ذكره في الصورة الثانية التي سيأتي الحديث عنها، وهي ما إذا كان التكليف فعلياً على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخرٍ، بعد هذا الكلام في هذا الفرض يكون كلامه أوضح ــــــــــ مثلاً ــــــــــ لأنّه هو يقول التكليف فعلي على كل تقدير، وهو يقول أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف فعلاً وإنّما ينجّزه في ظرف العمل، فإذن: ما ظنّك بما إذا كان التكليف ليس فعلياً على أحد التقديرين ؟ من باب أولى أن لا تثبت المنجّزية لهذا العلم الإجمالي.
على كل حال، الظاهر الاتفاق على المنجّزية في هذه الصورة، وخروجها عن محل الكلام، باعتبار أنّ ملاك المنجّزية موجود في هذه الصورة، ملاك المنجّزية هو أن يكون العلم الإجمالي علماً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، وهذا مفروض في هذه الصورة، ملاك المنجّزية أن يكون التكليف قابلاً للتنجيز على كل تقدير، هنا أيضاً قلنا أنّ التكليف المعلوم قابل للتنجيز على كل تقدير؛ فحينئذٍ لا مجال للتشكيك في المنجّزية في هذه الصورة؛ ولذا هذه تخرج عن محل الكلام.
وأمّا النحو الثاني من القسم الثالث الذي هو محل الكلام، وهو أن يكون التكليف فعلياً على تقديرٍ وليس فعلياً على تقديرٍ آخر، وهذا النحو اختلفت فيه الأنظار، ومثاله المرأة الحائض المتقدّم، ويمكن أن نجعل مثال النذر مثالاً له بناءٍ على استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المنذور إن كان قراءة سورة في هذا اليوم فهو فعلي، أمّا إذا كان المنذور هو قراءة سورةٍ في يوم غدٍ، فالتكليف لا يكون فعلياً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما يكون استقبالياً. إذن، التكليف على تقديرٍ يكون فعلياً، وعلى تقديرٍ آخرٍ ليس فعلياً. هذا النحو مرجعه ـــــــــــ كما ذكرنا في الصورة المستثناة ـــــــــــ إلى أنّ الزمان المتأخّر في أحد الطرفين دخيل في التكليف وليس دخيلاً في متعلّق التكليف فقط كما في الصورة المتقدّمة، في الصورة المتقدّمة كان الزمان متأخّراً دخيلاً في الواجب وليس دخيلاً في التكليف لا خطاباً، ولا ملاكاً. هذا النحو الذي نتكلّم عنه الآن مرجعه إلى أنّ الزمان دخيل في التكليف؛ ولذا لا يكون التكليف فعلياً على ذاك تقدير، معناه أنّه على ذاك التقدير الزمان المتأخّر دخيل في التكليف. هذا يمكن تصوّره على شكلين:
الشكل الأوّل: أن نفترض أنّ الزمان دخيل في التكليف خطاباً وملاكاً، يعني لا الخطاب وأصل التكليف موجود قبل الزمان المتأخّر، ولا الملاك أيضاً موجود قبل الزمان المتأخّر، فالتكليف خطاباً وملاكاً غير موجود الآن، وإنّما موجود بعد حلول الزمان المتأخّر. وذُكر مثال الحيض مثالاً لهذا، باعتبار أنّه قبل حلول الحيض ليس فقط لا يوجد تكليف؛ بل الملاك للتكليف أيضاً ليس موجوداً، وإنّما يكون الملاك عندما تصبح المرأة حائضاً، فيحرم عليها دخول المساجد ويحرم مقاربتها.......الخ، فيكون حلول الحيض دخيلاً في التكليف، خطاباً وملاكاً.
الشكل الثاني: أن نفترض أنّ الزمان المتأخّر دخيل في التكليف خطاباً لا ملاكاً، بمعنى أنّ الملاك موجود قبله، لكن الزمان المتأخّر يكون دخيلاً في الخطاب لا في الملاك؛ حينئذٍ يكون التكليف غير متحقق فعلاً، استقبالي، لكن ملاك التكليف موجود قبل ذاك الزمان المتأخّر، فالتكليف موجود قبل الزمان المتأخّر، لكن ملاكاً لا خطاباً، فرضاً لأننا نرى استحالة الواجب المعلّق، فالتكليف حينئذٍ لا يمكن أن يكون فعلياً قبل زمان الواجب، لكن لنفترض أننا استكشفنا أنّ الملاك موجود، الخطاب متأخّر لاستحالة الواجب المعلّق، لعلّه من هذا القبيل النذر، موضوع التكليف خطاباً وملاكاً هو النذر، بمجرّد أن ينذر الإنسان؛ حينئذٍ يكون التكليف بوجوب الوفاء فعلياً، وملاكه أيضاً يكون فعلياً، فإذا نذر أن يقرأ سورة في اليوم القادم، وقلنا باستحالة الواجب المعلّق، استحالة الواجب المعلّق تقتضي أنّ التكليف بوجوب الوفاء محال أن يكون فعلياً، وإنّما يكون متأخّراً، لكن ملاك هذا التكليف فعلي ولا داعي لتأخّره؛ لأنّه منوط بالنذر، ولولا استحالة الواجب المعلّق لقلنا التكليف أيضاً فعلي، لكن حيث قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتكليف يكون متأخّراً، لكن ملاكه يكون فعلياً؛ لأنّه بمجرّد حصول النذر هو يحدث في التكليف، أي في الفعل المنذور مصلحة تقتضي الحكم بوجوب الوفاء به، فإذن: مرّة نفترض أنّ الزمان دخيل في التكليف خطاباً وملاكاً، ومرّة نفترض أنّه دخيل فيه خطاباً لا ملاكاً.
الأقوال في المسألة ثلاثة:
القول الأوّل: عدم المنجّزية مطلقاً وجواز الرجوع إلى الأصل في كلا الطرفين في هذا النحو وهو في ما إذا كان التكليف فعلياً على تقدير وليس فعلياً على تقدير آخر، وهذا هو ظاهر كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهو الذي اختاره بعض المحققين المتأخرين؛ بل هو اختار عدم المنجّزية حتّى في الصورة السابقة.
القول الثاني: المنجّزية مطلقاً وعدم جواز الرجوع إلى الأصول في الطرفين، والإطلاق بلحاظ الشكلين المتقدّمين كما سيأتي في التفصيل، وهذا هو مختار المحقق النائيني والمحقق العراقي(قدّس سرّهما) وتبعهما جماعة ممن تأخّر عنهما كالسيد الخوئي(قدّس سرّه).
القول الثالث: التفصيل بين الشكلين السابقين، بأن يُلتزَم بالمنجّزية عندما يفترض الملاك فعلياً وإن كان التكليف استقبالياً وليس فعلياً، الذي هو الشكل الثاني وعدم المنجّزية عندما يكون التكليف خطاباً وملاكاً متأخّراً ليس فعلياً. هذا التفصيل هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
الأنسب في البحث من ناحية منهجية أن نتكلّم في الشكل الأوّل، يعني أن نتكلّم في صورة ما إذا كان الزمان المتأخّر دخيلاً في التكليف خطاباً وملاكاً، لا تكليف فعلي موجود قبل ذاك الزمان، ولا ملاك موجود، فعلم المكلّف بتكليف مرددٍ بين أن يكون فعلياً على تقدير، وبين أن يكون ليس فعلياً لا خطاباً ولا ملاكاً على تقديرٍ آخر؛ حينئذٍ إذا انتهينا إلى القول بالمنجّزية في هذا الشكل؛ فحينئذٍ لا إشكال في منجّزية العلم الإجمالي في الشكل الثاني؛ لأنّ الشكل الثاني يتميّز عن الأوّل في أنّ الملاك فيه فعلي، نحن عندما قلنا أنّ في الشكل الأوّل الملاك ليس فعلياً، والتكليف ليس فعلياً مع ذلك قلنا بالمنجّزية، فإذن: من بابٍ أولى أن نلتزم بالمنجّزية عندما نفترض أنّ ملاك التكليف فعلي، فيتضح الأمر في الشكل الثاني إذا قلنا بالمنجّزية في الشكل الأوّل.
نعم، إذا انتهينا إلى عدم المنجّزية في الشكل الأوّل؛ حينئذٍ يمكن البحث في الشكل الثاني؛ لأنّ الشكل الثاني فيه خصوصية ليست موجودة في الشكل الأوّل وهي أنّ الملاك فيه فعلي، فعلية الملاك ولو مع عدم فعلية التكليف، هل تؤثر في الحكم بالمنجّزية كما يقول الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ؟ يمكن أن يقع الكلام في الشكل الثاني بناءً على عدم المنجّزية في الشكل الأوّل؛ ولذا يقع البحث أوّلاً في الشكل الأوّل وهو ما إذا فرضنا أنّ التكليف وملاك التكليف ليس فعلياً على أحد التقديرين، مثل هذا العلم الإجمالي هل يكون منجّزاً، أو لا ؟