36/01/18
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/انحلال العلم الإجمالي
من جملة المباحث التي لم تذكر في الكتب الرجالية المعروفة، لكن تطرّق إليها السيد الشهيد(قدّس سرّه) نذكرها على نحو الاختصار هوالعلم الإجمالي في الأحكام الظاهرية.
سابقاً كنّا نتكلّم عن العلم الإجمالي الوجداني في الأحكام الواقعية، الآن نتكلّم عن العلم الإجمالي الوجداني في الأحكام الظاهرية. تارةّ نفترض أنّ المكلّف يعلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين، هذا ما كنّا نتكلّم عنه سابقاً، نفترض علماً وجدانياً إجمالياً بحكمٍ واقعي، لكن مردد بين الطرفين، الآن نتكلّم عن ما إذا فرضنا أنّ الإمارة قامت على نجاسة أحد الإناءين، هنا يوجد علم لا بالحكم الواقعي، في كلٍ منهما يوجد علم وجداني إجمالي، لكن في ما تقدّم كان متعلّقه هو الحكم الواقعي، وأمّا في المقام فهو يتعلّق بالحكم الظاهري، ونستطيع أن نعبّر عن هذا العلم الوجداني الإجمالي بالحكم الظاهري بأنّه علم تعبّدي بالحكم الواقعي، فنفرّق بين ما تقدّم بأنّه علم وجداني بالحكم الواقعي وبين ما نريد الكلام عنه بأنّه علم تعبّدي بالحكم الواقعي، هذا العلم التعبّدي بالحكم الواقعي يكون علماً وجدانياً بالحكم الظاهري؛ لأنّه عندما تقوم الإمارة المكلّف يعلم بالحكم الظاهري علماً وجدانياً. نعم، هو لا يعلم وجداناً بالحكم الواقعي، وإنّما يكون علمه هذا بعد فرض الحجّية علماً تعبّدياً بالحكم الواقعي.
الكلام يقع في أنّ ما ثبت بالعلم الإجمالي الوجداني بالحكم الواقعي في ما تقدّم من وجوب الموافقة القطعية، ومن حرمة المخالفة القطعية وأنّ تنجيز هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية هو على نحو العلّية التامّة، وتنجيزه لوجوب الموافقة القطعية هو على نحو الاقتضاء، هذا هل يثبت في محل الكلام ؟ هل يثبت في العلم التعبّدي بالحكم الواقعي كما يثبت بالعلم الوجداني بالحكم الواقعي ؟ فإذا قامت إمارة على نجاسة أحد إناءين، أو دلّ خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين إمّا الإتمام، أو القصر، فهل تحرم المخالفة القطعية بنحو العلّية التامّة ؟ هل تجب الموافقة القطعية ؟ بحيث يجب عليه الاحتياط وترك الإناءين في المثال الأوّل، والإتيان بصلاتين في المثال الثاني، أو أنّ هذا يختلف عمّا تقدّم ؟ الكلام يقع في هذا.
الظاهر أنّه لا ينبغي أن يقع الكلام والإشكال في عدم الفرق بين العلمين من حيث التنجيز لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية، كما تحرم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي هناك تحرم هنا أيضاً، وكما يجب الاحتياط والموافقة القطعية هناك، هنا أيضاً يجب الاحتياط والموافقة القطعية، والسر في ذلك هو أنّ البرهان الذي تقدّم لإثبات هذا التنجيز بلحاظ كلتا المرحلتين، مرحلة حرمة المخالفة القطعية، ومرحلة وجوب الموافقة القطعية، هذا البرهان بنفسه يجري في العلم التعبّدي بالحكم الواقعي، نفس البرهان السابق يجري في محل الكلام، البرهان السابق كان عبارة عن أنّه لا يمكن إجراء الأصول المؤمّنة في أطراف هذا العلم الإجمالي؛ لأنّ ذلك يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، كما أنّ إجراء الأصل المؤمّن في أحد الطرفين بخصوصه دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وإجراءه في أحدهما المردد لا معنى له؛ لأنّه لا وجود للفرد المردد، وهذا يوجب تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي، ومع تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي يكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، فيجب الاحتياط. نفس البرهان يأتي في محل الكلام بعد الالتفات إلى أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي حكم شرعي حقيقي تام صادر من الشارع، لا فرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري في أنّها أحكام إلهية شرعية، ومن الواضح أنّ العقل كما يحكم بقبح معصية الحكم الواقعي كذلك يحكم بقبح معصية الحكم الظاهري بنظر العقل لا فرق بينهما من هذه الجهة، وأنّ المولى له حق الطاعة في كلا الحكمين، وله حق الطاعة في كل ما يصدر منه من أحكام سواء صدرت كأحكام واقعية، أو صدرت منه كأحكام ظاهرية، فمخالفة الحكم الظاهري كمخالفة الحكم الواقعي ممّا يحكم العقل بقبحها، وكما يكون جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق مستلزماً للترخيص في المخالفة القطعية للمولى، كذلك إجراء الأصول في محل الكلام في أطراف العلم الإجمالي يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للمولى، وكلتا المخالفتين قبيحة بنظر العقل، لا ينبغي صدورها من العبد؛ لأنّها خروج عن حق الطاعة وتمرّد على المولى(سبحانه وتعالى)، كلٌ منهما كذلك، فإذا كان إجراء الأصول في الأطراف يستلزم الترخيص في هذه المخالفة القطعية القبيحة؛ حينئذٍ يكون الترخيص محالاً، فالترخيص في المخالفة القطعية محال، وحيث أنّ إجراء الأصول في جميع الأطراف يستلزم هذا الترخيص فيكون محالاً، فإذن: لا يمكن إجراء الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق وفي محل الكلام؛ لأنّ كلاً منهما ترخيص في المخالفة القبيحة بنظر العقل، فيكون هذا الترخيص غير ممكن، فإذا استحال جريان الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي في محل الكلام وبضميمة أنّ إجراءها في بعض الأطراف دون البعض الآخر يكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ حينئذٍ هذا يؤدّي إلى تعارض الأصول وتساقطها، وبذلك يكون العلم الإجمالي منجّزاً لجميع الأطراف. فنفس البرهان المتقدّم الذي استُدلّ به على التنجيز يجري في محل الكلام بعد الالتفات إلى نكتة أنّه لا فرق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي في كونهما حكمين إلهيين صادرين من الشارع المقدّس، والعقل لا يفرّق بين هذين الحكمين في حكمه بقبح المعصية ووجوب الطاعة، يحكم بذلك في كلٍ منهما بلا فرقٍ بينهما، فنفس البرهان السابق يجري في محل الكلام.
على كلّ حال، هذه القضية ينبغي أن تكون واضحة إذا قسناها على الإمارة التي تقوم على نجاسة شيءٍ معيّن، لو قامت إمارة على نجاسة هذا الإناء، أو قام خبر الثقة المعتبر شرعاً على وجوب الإتمام في حالة معيّنة، أليس العقل يحكم بوجوب العمل بهذه الإمارة ؟ بلا إشكال العقل يحكم بوجوب العمل بهذه الإمارة، ويحكم بقبح معصية هذه الإمارة. إذن: الإمارة باعتبارها حجّة شرعاً والحكم الظاهري الذي هو عبارة عن جعل الحجّية لها هو حكم إلهي يحكم العقل بوجوب طاعته وبقبح معصيته، وكذلك الأمر لو قامت الإمارة على حكمٍ مرددٍ بين شيئين، كما لو قامت الإمارة على نجاسة أحد الإناءين، أو قام خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين إمّا التمام، أو القصر، هنا أيضاً العقل يحكم بوجوب الطاعة وقبح المعصية، فيجري البرهان السابق لإثبات التنجيز، ولا ينبغي توهّم أنّ هناك فرقاً بين العلمين، العلم الإجمالي الوجداني بالحكم الواقعي الذي هو المتقدّم، وبين العلم التعبّدي الإجمالي بالحكم الواقعي، أو ما سمّيناه بالعلم الوجداني الإجمالي بالحكم الظاهري.
قد يقال: أنّ هناك فرقاً بينهما، وحاصله هو أنّ العلم الإجمالي في المقام علم تعبّدي ولا يوجد علم وجداني، بلحاظ الواقع في المقام لا يوجد إلاّ علم تعبّدي؛ لأنّ المكلّف واقعاً لا يعلم بالواقع، الإمارة دلّت على أنّ هذا واجب، وأنّ النجاسة واقعة في أحد الإناءين، هو لا يعلم وجداناً بنجاسة أحد الإناءين، وإنّما يعلم بذلك تعبّداً، هو علم تعبّدي وليس علماً وجدانياً، بخلاف العلم الإجمالي السابق، فأنّه علم وجداني بالحكم الواقعي وفي محل الكلام علم تعبّدي بنجاسة أحد الإناءين، هذا الفرق بينهما قد يُتخيَل أنّه يترتب عليه أنّه في العلم الوجداني بنجاسة أحد الإناءين هناك يستحيل جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف؛ لما تقدّم من أنّ ذلك يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية العملية للحكم الواقعي، وهذا واضح هناك؛ ولذا استحالة الترخيص في جميع الأطراف تؤدّي إلى تساقط الأصول، وبالتالي إلى تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
وأمّا في محل الكلام، حيث أنّ العلم ليس علماً وجدانياً، وإنّما هو علم تعبّدي، فيمكن جريان الأصول المؤمّنة في الأطراف، وذلك لأنّه يقال لا يلزم من جريان الأصول في جميع الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية للواقع، باعتبار أنّ العلم في المقام علم تعبّدي ناشئ من الإمارة وجعل الحجّيّة للإمارة، ومن الواضح أنّ الإمارة قد تكون مخالفة للواقع، فالإمارة قد تخطئ وقد تشتبه، ليس هنا قطع بمطابقة الإمارة للواقع، فلا يوجد مخالفة قطعية للواقع عندما يرتكب المكلّف كلا الإناءين الذين قامت الإمارة على نجاسة أحدهما، إذا ارتكب كلا الإناءين ليست هنالك مخالفة قطعية، لاحتمال أن تكون الإمارة مشتبهة، أو مخطئة، وإنّما غاية الأمر هناك مخالفة احتمالية، إذا ارتكب كلا الإناءين في المثال الأوّل، أو ترك كلتا الصلاتين في المثال الثاني هو لم يرتكب إلاّ مخالفة احتمالية؛ لاحتمال خطأ الإمارة، فليس هناك مخالفة قطعية حتّى يكون جريان الأصول في جميع الأطراف مستلزماً للترخيص في المخالفة القطعية، وإنّما هناك مخالفة احتمالية؛ لأن من يرتكب كلا الإناءين في المثال لا يخالف الواقع قطعاً؛ لاحتمال أن لا تكون هناك نجاسة أصلاً، لا في هذا الإناء، ولا في هذا الإناء، وأن تكون الإمارة مشتبهة ومخطئة، فإذن: لا يلزم من جريان الأصول في جميع الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية العملية، بخلافه في المقام السابق؛ وحينئذٍ، ننتهي إلى نتيجة أن العلم الإجمالي في البحث السابق ينجّز وجوب الموافقة القطعية والاحتياط، بينما العلم الإجمالي في محل الكلام لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية والاحتياط؛ لإمكان جريان الأصول في الأطراف.
أقول: هذا لا يُتوهّم، لا يمكن أن يقال هذا الكلام؛ لأنّ هذا ناظر إلى الواقع، ويهمل الحكم الظاهري. صحيح، أنّه بلحاظ الواقع العلم في محل الكلام ليس علماً وجدانياً، وإنّما هو علم تعبّدي، لكن بلحاظ الحكم الظاهري هو علم وجداني بالحكم الظاهري وليس علماً تعبّدياً. هو علم تعبّدي بالواقع، ولكنّه علم وجداني بالحكم الظاهري، وبضميمة ما ذكرنا من أنّه لا فرق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي بنظر العقل في وجوب الطاعة وفي حرمة المعصية، لا فرق بينهما إطلاقاً؛ لكون كل منهما تشريعاً إلهياً نازل من السماء؛ حينئذٍ يتبين أنّه كما يحكم العقل، كما يستحيل جريان الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق، كذلك يستحيل جريان الأصول في جميع الأطراف في محل الكلام؛ لأنّ جريان الأصول في كلا الطرفين في المثال يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للحكم الظاهري، وليس الاحتمالية، هو مخالفة احتمالية للواقع، احتمال أن تكون الإمارة غير مصيبة للواقع، لكنّه مخالفة قطعية للحكم الظاهري؛ لأنّ المكلّف ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ يقطع بحجّية الإمارة، ويعلم بأنّ الشارع جعل الحجّية للإمارة، لكن كون الإمارة مصيبة للواقع هذا شيء لا يقطع به، هو يقطع بالحكم الظاهري، وقلنا أنّ العقل لا يُفرّق بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي، فإذن: الحكم الظاهري في المقام حيث يقطع به المكلّف ويعلم به علماً وجدانياً يكون منجّزاً؛ لاستحالة جريان الأصول في جميع أطرافه؛ لأنّ جريان الأصول في جميع أطرافه يعني الترخيص في المخالفة القطعية للحكم الظاهري وهذا محال بنظر العقل كالترخيص في المخالفة القطعية للحكم الواقعي.
نعم، هناك فوارق بين العلمين، أغلبها فوارق فنيّة ليس لها ثمرات عملية، ورأينا عدم التعرّض لها بعد وضوح عدم الفرق بين العلمين بلحاظ ما هو المهم عندنا وهو مسألة التنجيز ووجوب الموافقة القطعية، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية.
السيد الشهيد(قدّس سرّه) الذي ذكر هذا البحث، [1] وقلنا أنّه غير موجود في كلمات القوم إلاّ بشكل متفرّق وفي أماكن متفرّقة، ذكر ما حاصله: أنّ هذا الذي تقدم من أنّ العلم الإجمالي الوجداني بالحكم الظاهري، أو التعبّدي بالحكم الواقعي لا فرق بينهما، أنّ هذا العلم في محل الكلام يكون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية يكون واضحاً جدّاً ولا كلام فيه، ولا ينبغي الشكّ فيه في ما إذا كان الإجمال ــــــــــ كما يُعبّر ـــــــــــ في طول قيام الإمارة؛ لأنّ قيام الإمارة على نجاسة أحد الإناءين يمكن تصورّه بنحوين:
النحو الأوّل: أنّ تقوم الإمارة على نجاسة إناءٍ معيّن، لكنّه اشتبه وترددّ عندنا بين إناءين، فأصبحنا لا نعرف أنّ ما قامت الإمارة على نجاسته هل هو هذا الإناء، أو ذاك الإناء ؟ هنا الاشتباه والإجمال يكون في طول العلم الإجمالي، بأن يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بإناء معيّن، لكنّه اشتبه عندنا بعد ذلك، فالاشتباه والإجمال في طول العلم الإجمالي.
النحو الثاني: أنّ الإمارة أساساً تقوم على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، بحيث لو سألنا الإمارة: أيّهما نجس ؟ لقالت لا أدري. فالإمارة لا تقوم إلاّ على الجامع، ولا تشهد إلاّ بالجامع، فهي تقول: أحد الإناءين نجس، لا أكثر من ذلك، بينما في النحو الأوّل الإمارة شهدت بنجاسة إناءٍ معيّن، ولكن لسببٍ من الأسباب ترددّ وأُجمل عندنا، بينما في الثاني هي تقوم على نجاسة الجامع بين الإناءين لا أكثر من ذلك.
يقول(قدّس سرّه): في النحو الأوّل النتيجة المتقدّمة لاشكّ فيها، ولا ينبغي أن يقع الكلام فيها. وأمّا في النحو الثاني، في هذه الحالة ذكر أنّ وجوب الموافقة والكلام السابق الذي ذكرناه يتمّ في القسم الثاني بناءً على مبانيه هو(قدّس سرّه) في تفسير الحكم الظاهري، علمنا من خلال البحوث السابقة أنّ له مبنىً في تفسير الحكم الظاهري، وحاصل مبناه أنّه يقول: أنّ الحكم الظاهري في واقعه هو عبارة عن إبراز اهتمام المولى بالواقع على تقدير المصادفة بالرغم من أنّ المكلّف يشك في ثبوت الواقع، لكنّه يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة والثبوت، كما يهتم به في حالة العلم، في محل الكلام هو يهتم بالواقع مع التردد كذلك يهتم بالواقع في حالة العلم، الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن جعل الحجّية لهذه الإمارة التي تشهد بنجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، الشارع يجعل لها الحجّية، يقول هذه الإمارة حجّة يجب عليك العمل بها والعقل يقول لا يجوز لك معصيتها. هذه الحجّية معناها أنّ الشارع يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة بالرغم من شكّ المكلّف، المكلّف كما قلنا شاكٌ في ثبوت النجاسة في أحد الإناءين؛ لأنّ الإمارة قد تكون مخالفة للواقع، فهو بالرغم من شكّه، وبالرغم من احتماله عدم نجاسة كلا الإناءين الشارع يقول له: أنا أجعل الحجّية لهذه الإمارة وآمرك أن تعمل بهذه الإمارة؛ لأنّي اهتم بالنجاسة على تقدير أن تكون ثابتة في الواقع، وطريق الحفاظ على هذه النجاسة وامتثالها هو عبارة عن جعل الاحتياط في هذه الموارد. هذا هو معنى الحكم الظاهري عنده؛ فحينئذٍ يقول: كما لو قامت الإمارة على نجاسة إناء معيّن، كيف هناك نقول بأنّ دليل حجّية تلك الإمارة القائمة على نجاسة إناء معيّن، وإن كان يوجد فيها احتمال الخلاف كما قلنا لاحتمال مخالفة البيّنة للواقع، لكن المولى بجعله الحجّية لتلك الإمارة الدالّة على نجاسة هذا بعينه في غير محل الكلام، فهو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة حتّى مع وجود احتمال المخالفة هو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة كما إذا لم يوجد هناك هذا الاحتمال، كيف يهتم الشارع بالواقع، هنا أيضاً يهتم الشارع بالواقع بالرغم من وجود احتمال المخالفة، كما نقول بهذا عندما تقوم الإمارة على نجاسة إناء معيّن، كذلك نقول بنفس هذا الكلام في محل الكلام، يعني عندما تقوم الإمارة على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، فيقال بأنّ دليل حجّية هذه الإمارة التي نحن فارغين عن كونها حجّة يدلّ على أنّه وإن كان يوجد احتمال خطأ هذه الإمارة وعدم إصابتها للواقع، لكن المولى يهتم بالواقع على تقدير المصادفة حتّى مع وجود هذا الاحتمال، حتى مع وجود احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع الشارع أبرز اهتمامه بالواقع.
فإذن: في كلا البحثين الشارع بجعله الحجّية للإمارة هو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة، يريد من المكلّف الواقع، والمحافظة على الواقع بالرغم من احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع، الشارع أبرز اهتمامه بالواقع، سواء كانت الإمارة تقوم على نجاسة معيّن، أو كانت تقوم على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، الشارع بمجرد أن يجعل الحجّية للإمارة يكون قد أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعية على تقدير أن تكون ثابتة، ويقول له: أيّها المكلّف، بالرغم من أنّك تحتمل الخلاف، لكن أنا اهتم بالنجاسة الواقعية على تقدير المصادفة. إذا فرضنا ذلك وفسّرنا الحكم الظاهري على هذا الأساس؛ حينئذٍ يكون وجوب الموافقة القطعية لهذا العلم الوجداني بالاهتمام الشرعي بالواقع على تقدير المصادفة يكون مستلزماً لوجوب الموافقة القطعية بنظر العقل؛ إذ لا فرق بين قيام الإمارة على نجاسة إناء معيّن، وبين قيام الإمارة على نجاسة أحد إناءين، في كلٍ منهما الشارع يبرز اهتمامه الذي هو روح الحكم الظاهري، كما أنّه هناك حينما أبرز اهتمامه حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الطاعة، هنا أيضاً عندما يعلم العقل بأنّ الشارع أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعية، يقول للمكلّف لا يجوز لك مخالفتها، يجب عليك المحافظة عليها، ومن الواضح أنّ المحافظة على هذه النجاسة التي يهتم بها الشارع لا يكون إلاّ عن طريق الاحتياط وعن طريق وجوب الموافقة القطعية. يقول: لا توجد مشكلة في الالتزام بما تقدّم؛ وحينئذٍ لا فرق بين النحو الأول والنحو الثاني، على كل حال قيام الإمارة على نجاسة أحد إناءين، قيام خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين يكون موجباً لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية من دون فرقٍ بين أن يكون الإجمال في طول العلم الإجمالي كما في النحو الأول، أو لا يكون في طوله، وإنّما يكون مفاد الإمارة هو الحكم بأحد الشيئين على نحو الترديد من البداية.
من جملة المباحث التي لم تذكر في الكتب الرجالية المعروفة، لكن تطرّق إليها السيد الشهيد(قدّس سرّه) نذكرها على نحو الاختصار هوالعلم الإجمالي في الأحكام الظاهرية.
سابقاً كنّا نتكلّم عن العلم الإجمالي الوجداني في الأحكام الواقعية، الآن نتكلّم عن العلم الإجمالي الوجداني في الأحكام الظاهرية. تارةّ نفترض أنّ المكلّف يعلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين، هذا ما كنّا نتكلّم عنه سابقاً، نفترض علماً وجدانياً إجمالياً بحكمٍ واقعي، لكن مردد بين الطرفين، الآن نتكلّم عن ما إذا فرضنا أنّ الإمارة قامت على نجاسة أحد الإناءين، هنا يوجد علم لا بالحكم الواقعي، في كلٍ منهما يوجد علم وجداني إجمالي، لكن في ما تقدّم كان متعلّقه هو الحكم الواقعي، وأمّا في المقام فهو يتعلّق بالحكم الظاهري، ونستطيع أن نعبّر عن هذا العلم الوجداني الإجمالي بالحكم الظاهري بأنّه علم تعبّدي بالحكم الواقعي، فنفرّق بين ما تقدّم بأنّه علم وجداني بالحكم الواقعي وبين ما نريد الكلام عنه بأنّه علم تعبّدي بالحكم الواقعي، هذا العلم التعبّدي بالحكم الواقعي يكون علماً وجدانياً بالحكم الظاهري؛ لأنّه عندما تقوم الإمارة المكلّف يعلم بالحكم الظاهري علماً وجدانياً. نعم، هو لا يعلم وجداناً بالحكم الواقعي، وإنّما يكون علمه هذا بعد فرض الحجّية علماً تعبّدياً بالحكم الواقعي.
الكلام يقع في أنّ ما ثبت بالعلم الإجمالي الوجداني بالحكم الواقعي في ما تقدّم من وجوب الموافقة القطعية، ومن حرمة المخالفة القطعية وأنّ تنجيز هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية هو على نحو العلّية التامّة، وتنجيزه لوجوب الموافقة القطعية هو على نحو الاقتضاء، هذا هل يثبت في محل الكلام ؟ هل يثبت في العلم التعبّدي بالحكم الواقعي كما يثبت بالعلم الوجداني بالحكم الواقعي ؟ فإذا قامت إمارة على نجاسة أحد إناءين، أو دلّ خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين إمّا الإتمام، أو القصر، فهل تحرم المخالفة القطعية بنحو العلّية التامّة ؟ هل تجب الموافقة القطعية ؟ بحيث يجب عليه الاحتياط وترك الإناءين في المثال الأوّل، والإتيان بصلاتين في المثال الثاني، أو أنّ هذا يختلف عمّا تقدّم ؟ الكلام يقع في هذا.
الظاهر أنّه لا ينبغي أن يقع الكلام والإشكال في عدم الفرق بين العلمين من حيث التنجيز لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية، كما تحرم المخالفة القطعية للعلم الإجمالي هناك تحرم هنا أيضاً، وكما يجب الاحتياط والموافقة القطعية هناك، هنا أيضاً يجب الاحتياط والموافقة القطعية، والسر في ذلك هو أنّ البرهان الذي تقدّم لإثبات هذا التنجيز بلحاظ كلتا المرحلتين، مرحلة حرمة المخالفة القطعية، ومرحلة وجوب الموافقة القطعية، هذا البرهان بنفسه يجري في العلم التعبّدي بالحكم الواقعي، نفس البرهان السابق يجري في محل الكلام، البرهان السابق كان عبارة عن أنّه لا يمكن إجراء الأصول المؤمّنة في أطراف هذا العلم الإجمالي؛ لأنّ ذلك يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، كما أنّ إجراء الأصل المؤمّن في أحد الطرفين بخصوصه دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وإجراءه في أحدهما المردد لا معنى له؛ لأنّه لا وجود للفرد المردد، وهذا يوجب تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي، ومع تساقط الأصول في أطراف العلم الإجمالي يكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، فيجب الاحتياط. نفس البرهان يأتي في محل الكلام بعد الالتفات إلى أنّ الحكم الظاهري كالحكم الواقعي حكم شرعي حقيقي تام صادر من الشارع، لا فرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري في أنّها أحكام إلهية شرعية، ومن الواضح أنّ العقل كما يحكم بقبح معصية الحكم الواقعي كذلك يحكم بقبح معصية الحكم الظاهري بنظر العقل لا فرق بينهما من هذه الجهة، وأنّ المولى له حق الطاعة في كلا الحكمين، وله حق الطاعة في كل ما يصدر منه من أحكام سواء صدرت كأحكام واقعية، أو صدرت منه كأحكام ظاهرية، فمخالفة الحكم الظاهري كمخالفة الحكم الواقعي ممّا يحكم العقل بقبحها، وكما يكون جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق مستلزماً للترخيص في المخالفة القطعية للمولى، كذلك إجراء الأصول في محل الكلام في أطراف العلم الإجمالي يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للمولى، وكلتا المخالفتين قبيحة بنظر العقل، لا ينبغي صدورها من العبد؛ لأنّها خروج عن حق الطاعة وتمرّد على المولى(سبحانه وتعالى)، كلٌ منهما كذلك، فإذا كان إجراء الأصول في الأطراف يستلزم الترخيص في هذه المخالفة القطعية القبيحة؛ حينئذٍ يكون الترخيص محالاً، فالترخيص في المخالفة القطعية محال، وحيث أنّ إجراء الأصول في جميع الأطراف يستلزم هذا الترخيص فيكون محالاً، فإذن: لا يمكن إجراء الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق وفي محل الكلام؛ لأنّ كلاً منهما ترخيص في المخالفة القبيحة بنظر العقل، فيكون هذا الترخيص غير ممكن، فإذا استحال جريان الأصول في جميع أطراف العلم الإجمالي في محل الكلام وبضميمة أنّ إجراءها في بعض الأطراف دون البعض الآخر يكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ حينئذٍ هذا يؤدّي إلى تعارض الأصول وتساقطها، وبذلك يكون العلم الإجمالي منجّزاً لجميع الأطراف. فنفس البرهان المتقدّم الذي استُدلّ به على التنجيز يجري في محل الكلام بعد الالتفات إلى نكتة أنّه لا فرق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي في كونهما حكمين إلهيين صادرين من الشارع المقدّس، والعقل لا يفرّق بين هذين الحكمين في حكمه بقبح المعصية ووجوب الطاعة، يحكم بذلك في كلٍ منهما بلا فرقٍ بينهما، فنفس البرهان السابق يجري في محل الكلام.
على كلّ حال، هذه القضية ينبغي أن تكون واضحة إذا قسناها على الإمارة التي تقوم على نجاسة شيءٍ معيّن، لو قامت إمارة على نجاسة هذا الإناء، أو قام خبر الثقة المعتبر شرعاً على وجوب الإتمام في حالة معيّنة، أليس العقل يحكم بوجوب العمل بهذه الإمارة ؟ بلا إشكال العقل يحكم بوجوب العمل بهذه الإمارة، ويحكم بقبح معصية هذه الإمارة. إذن: الإمارة باعتبارها حجّة شرعاً والحكم الظاهري الذي هو عبارة عن جعل الحجّية لها هو حكم إلهي يحكم العقل بوجوب طاعته وبقبح معصيته، وكذلك الأمر لو قامت الإمارة على حكمٍ مرددٍ بين شيئين، كما لو قامت الإمارة على نجاسة أحد الإناءين، أو قام خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين إمّا التمام، أو القصر، هنا أيضاً العقل يحكم بوجوب الطاعة وقبح المعصية، فيجري البرهان السابق لإثبات التنجيز، ولا ينبغي توهّم أنّ هناك فرقاً بين العلمين، العلم الإجمالي الوجداني بالحكم الواقعي الذي هو المتقدّم، وبين العلم التعبّدي الإجمالي بالحكم الواقعي، أو ما سمّيناه بالعلم الوجداني الإجمالي بالحكم الظاهري.
قد يقال: أنّ هناك فرقاً بينهما، وحاصله هو أنّ العلم الإجمالي في المقام علم تعبّدي ولا يوجد علم وجداني، بلحاظ الواقع في المقام لا يوجد إلاّ علم تعبّدي؛ لأنّ المكلّف واقعاً لا يعلم بالواقع، الإمارة دلّت على أنّ هذا واجب، وأنّ النجاسة واقعة في أحد الإناءين، هو لا يعلم وجداناً بنجاسة أحد الإناءين، وإنّما يعلم بذلك تعبّداً، هو علم تعبّدي وليس علماً وجدانياً، بخلاف العلم الإجمالي السابق، فأنّه علم وجداني بالحكم الواقعي وفي محل الكلام علم تعبّدي بنجاسة أحد الإناءين، هذا الفرق بينهما قد يُتخيَل أنّه يترتب عليه أنّه في العلم الوجداني بنجاسة أحد الإناءين هناك يستحيل جريان الأصول المؤمّنة في جميع الأطراف؛ لما تقدّم من أنّ ذلك يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية العملية للحكم الواقعي، وهذا واضح هناك؛ ولذا استحالة الترخيص في جميع الأطراف تؤدّي إلى تساقط الأصول، وبالتالي إلى تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.
وأمّا في محل الكلام، حيث أنّ العلم ليس علماً وجدانياً، وإنّما هو علم تعبّدي، فيمكن جريان الأصول المؤمّنة في الأطراف، وذلك لأنّه يقال لا يلزم من جريان الأصول في جميع الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية للواقع، باعتبار أنّ العلم في المقام علم تعبّدي ناشئ من الإمارة وجعل الحجّيّة للإمارة، ومن الواضح أنّ الإمارة قد تكون مخالفة للواقع، فالإمارة قد تخطئ وقد تشتبه، ليس هنا قطع بمطابقة الإمارة للواقع، فلا يوجد مخالفة قطعية للواقع عندما يرتكب المكلّف كلا الإناءين الذين قامت الإمارة على نجاسة أحدهما، إذا ارتكب كلا الإناءين ليست هنالك مخالفة قطعية، لاحتمال أن تكون الإمارة مشتبهة، أو مخطئة، وإنّما غاية الأمر هناك مخالفة احتمالية، إذا ارتكب كلا الإناءين في المثال الأوّل، أو ترك كلتا الصلاتين في المثال الثاني هو لم يرتكب إلاّ مخالفة احتمالية؛ لاحتمال خطأ الإمارة، فليس هناك مخالفة قطعية حتّى يكون جريان الأصول في جميع الأطراف مستلزماً للترخيص في المخالفة القطعية، وإنّما هناك مخالفة احتمالية؛ لأن من يرتكب كلا الإناءين في المثال لا يخالف الواقع قطعاً؛ لاحتمال أن لا تكون هناك نجاسة أصلاً، لا في هذا الإناء، ولا في هذا الإناء، وأن تكون الإمارة مشتبهة ومخطئة، فإذن: لا يلزم من جريان الأصول في جميع الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية العملية، بخلافه في المقام السابق؛ وحينئذٍ، ننتهي إلى نتيجة أن العلم الإجمالي في البحث السابق ينجّز وجوب الموافقة القطعية والاحتياط، بينما العلم الإجمالي في محل الكلام لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية والاحتياط؛ لإمكان جريان الأصول في الأطراف.
أقول: هذا لا يُتوهّم، لا يمكن أن يقال هذا الكلام؛ لأنّ هذا ناظر إلى الواقع، ويهمل الحكم الظاهري. صحيح، أنّه بلحاظ الواقع العلم في محل الكلام ليس علماً وجدانياً، وإنّما هو علم تعبّدي، لكن بلحاظ الحكم الظاهري هو علم وجداني بالحكم الظاهري وليس علماً تعبّدياً. هو علم تعبّدي بالواقع، ولكنّه علم وجداني بالحكم الظاهري، وبضميمة ما ذكرنا من أنّه لا فرق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي بنظر العقل في وجوب الطاعة وفي حرمة المعصية، لا فرق بينهما إطلاقاً؛ لكون كل منهما تشريعاً إلهياً نازل من السماء؛ حينئذٍ يتبين أنّه كما يحكم العقل، كما يستحيل جريان الأصول المؤمّنة في جميع أطراف العلم الإجمالي في البحث السابق، كذلك يستحيل جريان الأصول في جميع الأطراف في محل الكلام؛ لأنّ جريان الأصول في كلا الطرفين في المثال يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للحكم الظاهري، وليس الاحتمالية، هو مخالفة احتمالية للواقع، احتمال أن تكون الإمارة غير مصيبة للواقع، لكنّه مخالفة قطعية للحكم الظاهري؛ لأنّ المكلّف ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ يقطع بحجّية الإمارة، ويعلم بأنّ الشارع جعل الحجّية للإمارة، لكن كون الإمارة مصيبة للواقع هذا شيء لا يقطع به، هو يقطع بالحكم الظاهري، وقلنا أنّ العقل لا يُفرّق بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي، فإذن: الحكم الظاهري في المقام حيث يقطع به المكلّف ويعلم به علماً وجدانياً يكون منجّزاً؛ لاستحالة جريان الأصول في جميع أطرافه؛ لأنّ جريان الأصول في جميع أطرافه يعني الترخيص في المخالفة القطعية للحكم الظاهري وهذا محال بنظر العقل كالترخيص في المخالفة القطعية للحكم الواقعي.
نعم، هناك فوارق بين العلمين، أغلبها فوارق فنيّة ليس لها ثمرات عملية، ورأينا عدم التعرّض لها بعد وضوح عدم الفرق بين العلمين بلحاظ ما هو المهم عندنا وهو مسألة التنجيز ووجوب الموافقة القطعية، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية.
السيد الشهيد(قدّس سرّه) الذي ذكر هذا البحث، [1] وقلنا أنّه غير موجود في كلمات القوم إلاّ بشكل متفرّق وفي أماكن متفرّقة، ذكر ما حاصله: أنّ هذا الذي تقدم من أنّ العلم الإجمالي الوجداني بالحكم الظاهري، أو التعبّدي بالحكم الواقعي لا فرق بينهما، أنّ هذا العلم في محل الكلام يكون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية يكون واضحاً جدّاً ولا كلام فيه، ولا ينبغي الشكّ فيه في ما إذا كان الإجمال ــــــــــ كما يُعبّر ـــــــــــ في طول قيام الإمارة؛ لأنّ قيام الإمارة على نجاسة أحد الإناءين يمكن تصورّه بنحوين:
النحو الأوّل: أنّ تقوم الإمارة على نجاسة إناءٍ معيّن، لكنّه اشتبه وترددّ عندنا بين إناءين، فأصبحنا لا نعرف أنّ ما قامت الإمارة على نجاسته هل هو هذا الإناء، أو ذاك الإناء ؟ هنا الاشتباه والإجمال يكون في طول العلم الإجمالي، بأن يكون العلم الإجمالي متعلّقاً بإناء معيّن، لكنّه اشتبه عندنا بعد ذلك، فالاشتباه والإجمال في طول العلم الإجمالي.
النحو الثاني: أنّ الإمارة أساساً تقوم على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، بحيث لو سألنا الإمارة: أيّهما نجس ؟ لقالت لا أدري. فالإمارة لا تقوم إلاّ على الجامع، ولا تشهد إلاّ بالجامع، فهي تقول: أحد الإناءين نجس، لا أكثر من ذلك، بينما في النحو الأوّل الإمارة شهدت بنجاسة إناءٍ معيّن، ولكن لسببٍ من الأسباب ترددّ وأُجمل عندنا، بينما في الثاني هي تقوم على نجاسة الجامع بين الإناءين لا أكثر من ذلك.
يقول(قدّس سرّه): في النحو الأوّل النتيجة المتقدّمة لاشكّ فيها، ولا ينبغي أن يقع الكلام فيها. وأمّا في النحو الثاني، في هذه الحالة ذكر أنّ وجوب الموافقة والكلام السابق الذي ذكرناه يتمّ في القسم الثاني بناءً على مبانيه هو(قدّس سرّه) في تفسير الحكم الظاهري، علمنا من خلال البحوث السابقة أنّ له مبنىً في تفسير الحكم الظاهري، وحاصل مبناه أنّه يقول: أنّ الحكم الظاهري في واقعه هو عبارة عن إبراز اهتمام المولى بالواقع على تقدير المصادفة بالرغم من أنّ المكلّف يشك في ثبوت الواقع، لكنّه يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة والثبوت، كما يهتم به في حالة العلم، في محل الكلام هو يهتم بالواقع مع التردد كذلك يهتم بالواقع في حالة العلم، الحكم الظاهري الذي هو عبارة عن جعل الحجّية لهذه الإمارة التي تشهد بنجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، الشارع يجعل لها الحجّية، يقول هذه الإمارة حجّة يجب عليك العمل بها والعقل يقول لا يجوز لك معصيتها. هذه الحجّية معناها أنّ الشارع يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة بالرغم من شكّ المكلّف، المكلّف كما قلنا شاكٌ في ثبوت النجاسة في أحد الإناءين؛ لأنّ الإمارة قد تكون مخالفة للواقع، فهو بالرغم من شكّه، وبالرغم من احتماله عدم نجاسة كلا الإناءين الشارع يقول له: أنا أجعل الحجّية لهذه الإمارة وآمرك أن تعمل بهذه الإمارة؛ لأنّي اهتم بالنجاسة على تقدير أن تكون ثابتة في الواقع، وطريق الحفاظ على هذه النجاسة وامتثالها هو عبارة عن جعل الاحتياط في هذه الموارد. هذا هو معنى الحكم الظاهري عنده؛ فحينئذٍ يقول: كما لو قامت الإمارة على نجاسة إناء معيّن، كيف هناك نقول بأنّ دليل حجّية تلك الإمارة القائمة على نجاسة إناء معيّن، وإن كان يوجد فيها احتمال الخلاف كما قلنا لاحتمال مخالفة البيّنة للواقع، لكن المولى بجعله الحجّية لتلك الإمارة الدالّة على نجاسة هذا بعينه في غير محل الكلام، فهو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة حتّى مع وجود احتمال المخالفة هو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة كما إذا لم يوجد هناك هذا الاحتمال، كيف يهتم الشارع بالواقع، هنا أيضاً يهتم الشارع بالواقع بالرغم من وجود احتمال المخالفة، كما نقول بهذا عندما تقوم الإمارة على نجاسة إناء معيّن، كذلك نقول بنفس هذا الكلام في محل الكلام، يعني عندما تقوم الإمارة على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، فيقال بأنّ دليل حجّية هذه الإمارة التي نحن فارغين عن كونها حجّة يدلّ على أنّه وإن كان يوجد احتمال خطأ هذه الإمارة وعدم إصابتها للواقع، لكن المولى يهتم بالواقع على تقدير المصادفة حتّى مع وجود هذا الاحتمال، حتى مع وجود احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع الشارع أبرز اهتمامه بالواقع.
فإذن: في كلا البحثين الشارع بجعله الحجّية للإمارة هو يبرز اهتمامه بالواقع على تقدير المصادفة، يريد من المكلّف الواقع، والمحافظة على الواقع بالرغم من احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع، الشارع أبرز اهتمامه بالواقع، سواء كانت الإمارة تقوم على نجاسة معيّن، أو كانت تقوم على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، الشارع بمجرد أن يجعل الحجّية للإمارة يكون قد أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعية على تقدير أن تكون ثابتة، ويقول له: أيّها المكلّف، بالرغم من أنّك تحتمل الخلاف، لكن أنا اهتم بالنجاسة الواقعية على تقدير المصادفة. إذا فرضنا ذلك وفسّرنا الحكم الظاهري على هذا الأساس؛ حينئذٍ يكون وجوب الموافقة القطعية لهذا العلم الوجداني بالاهتمام الشرعي بالواقع على تقدير المصادفة يكون مستلزماً لوجوب الموافقة القطعية بنظر العقل؛ إذ لا فرق بين قيام الإمارة على نجاسة إناء معيّن، وبين قيام الإمارة على نجاسة أحد إناءين، في كلٍ منهما الشارع يبرز اهتمامه الذي هو روح الحكم الظاهري، كما أنّه هناك حينما أبرز اهتمامه حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الطاعة، هنا أيضاً عندما يعلم العقل بأنّ الشارع أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعية، يقول للمكلّف لا يجوز لك مخالفتها، يجب عليك المحافظة عليها، ومن الواضح أنّ المحافظة على هذه النجاسة التي يهتم بها الشارع لا يكون إلاّ عن طريق الاحتياط وعن طريق وجوب الموافقة القطعية. يقول: لا توجد مشكلة في الالتزام بما تقدّم؛ وحينئذٍ لا فرق بين النحو الأول والنحو الثاني، على كل حال قيام الإمارة على نجاسة أحد إناءين، قيام خبر الثقة على وجوب أحدى الصلاتين يكون موجباً لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية من دون فرقٍ بين أن يكون الإجمال في طول العلم الإجمالي كما في النحو الأول، أو لا يكون في طوله، وإنّما يكون مفاد الإمارة هو الحكم بأحد الشيئين على نحو الترديد من البداية.