35/11/21
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/انحلال العلم الإجمالي
في الحالة الثانية: ذكرنا الوجه المتقدّم لإثبات الانحلال في الحالة الثانية، وهي الحالة التي لا يكون المعلوم بالإجمال مقيّداً بخصوصيةٍ يُحتمل أن تكون مانعةً من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وتبيّن ممّا تقدّم أنّ هذا يتحقق فيما إذا كان سبب العلم الإجمالي ليس مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا؛ بل كانت نسبة سبب العلم الإجمالي إلى الأطراف نسبة متساوية على حدٍّ سواء، في هذه الحالة انتساب المعلوم بالإجمال إلى السبب لا يؤخذ كخصوصية في المعلوم بالإجمال........ينحلّ العلم الإجمالي بملاك زواله بزوال سببه لا بملاك انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل كما هو مقتضى الوجه المتقدّم، هذا وجه جديد. العلم الإجمالي ينحل بزوال سببه، العلم الإجمالي له سبب، المُدّعى أنّ سبب العلم الإجمالي يزول بالعلم التفصيلي، المفروض في محل كلامنا أننا نتكلّم عن علم إجمالي وعلم تفصيلي، وبالعلم التفصيلي يزول سبب العلم الإجمالي، وبالتالي يزول العلم الإجمالي لا محالة، ويتحقق الانحلال.
خلاصة الوجه الثاني: أن سبب العلم الإجمالي في محل الكلام الذي هو الحالة الثانية التي يكون سبب العلم الإجمالي فيها متساوي النسبة إلى كل الأطراف ولا يختصّ بطرفٍ معيّنٍ دون طرفٍ آخر، متساوي النسبة بالنسبة إلى كلّ الأطراف؛ حينئذٍ يُدّعى أنّ تخصيصه في طرفٍ معيّنٍ دون الباقي يكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ لأنّ نسبته ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــــ إلى كلّ الأطراف نسبة واحدة على حدٍّ سواء، بلا إشكال يكون تخصيص سبب العلم الإجمالي بطرفٍ معيّنٍ دون طرفٍ ترجيحاً بلا مرجّح بعد فرض تساوي نسبته إلى كلٍ منهما على حدٍّ سواء، فيكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ ولذا يحصل العلم الإجمالي نتيجة افتراض أنّ سبب العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى جميع الأطراف، وتخصيصه بإضافة أنّ تخصيصه بأحد الأطراف بعينه ترجيح بلا مرجّح، ومن هنا يحصل العلم الإجمالي، أحد الطرفين نجس، لا استطيع أن أحصر النجاسة بطرفٍ معيّن فيحصل هذا العلم الإجمالي، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء المعيّن الأيمن؛ حينئذٍ يقال قد حصل فيه ما يوجب ترجيحه، كان سابقاً قبل حصول العلم التفصيلي ترجيحه واختصاصه بالنجاسة ترجيح بلا مرجّح، اختصاصه بسبب العلم، وبالتالي اختصاصه بالنجاسة هو ترجيح بلا مرجّح، العلم التفصيلي كأنّه يوجد المرجّح؛ وحينئذٍ لا يتم برهان استحالة الترجيح بلا مرجّح مع فرض العلم التفصيلي المتعلّق بطرفٍ معيّنٍ من بين الطرفين، وبذلك يزول العلم الإجمالي بزوال سببه؛ لأنّه يلزم من اختصاص سبب العلم الإجمالي بأحد الأطراف، يلزم الترجيح بلا مرجّح، فإذن: أنا لا أعلم إلاّ بنجاسة أحد الإناءين على الإجمال، فإذا علمت تفصيلاً بنجاسة أحد الإناءين؛ حينئذٍ لا يكون تخصيص النجاسة به ترجيحاً بلا مرجّح؛ بل وجد فيه ما يوجب الترجيح، وارتفع محذور لزوم الترجيح بلا مرجّح، فإذا زال هذا المحذور؛ حينئذٍ يزول العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي هو اساساً مرتكز على لزوم الترجيح بلا مرجّح.
وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي في محل الكلام يحصل في الحقيقة نتيجة لمجموع أمرين:
الأمر الأوّل: الأمر الذي يثبت به الجامع الذي نفترضه الاستبعاد في مثال مساورة الكافر، أو قيام برهان على عدم اجتماع الأمرين، فيحصل علم بانتفاء أحدهما كما قلنا، أو حساب احتمالات ينفي اجتماع هذين الأمرين، فيحصل العلم الإجمالي بانتفاء واحدٍ منهما. هذا الاستبعاد، أو البرهان، أو حساب الاحتمالات، أو أيّ شيءٍ آخر، يثبت به الجامع، ولا يثبت أكثر من الجامع، استبعاد عدم مساورة الكافر للإناءين في فترة طويلة من الزمن لا يورث لنا العلم بنجاسة هذا الإناء بعينه، وإنّما يورث لنا العلم بعدم طهارة أحد الإناءين إجمالاً، أو العلم بنجاسة أحد الإناءين إجمالاً.
الأمر الثاني: مسألة عدم المرجّح، ليس هناك مرجّح لأن يتجّه العلم إلى طرفٍ معيّن دون طرفٍ آخر، قبل فرض العلم التفصيلي ليس هناك مرجّح لأن يتجه العلم إلى هذا الطرف دون ذاك الطرف، وهذا هو الذي يمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعيّن. أو بعبارة أخرى: يوجب وقوف العلم على الجامع بحدّه الجامعي.
هذان الأمران: إذا اجتمعا حينئذٍ يتمّ العلم الإجمالي ويقف العلم على الجامع، ويحصل العلم الإجمالي. أمران إذا اجتمعا ــــــــــ في محل الكلام ـــــــــــ البرهان على عدم إمكان اجتماع طهارة هذا الإناء في مثالنا، وطهارة هذا الإناء، يوجد برهان قائم على عدم إمكان اجتماع طهارة كلٍ من الإناءين اللّذين هما في معرض استعمال الكافر، هذا برهان، بضميمة استحالة الترجيح بلا مرجّح، بمعنى أنّ اتجاه العلم نحو هذا الفرد بعينه ترجيح بلا مرجّح، ونحو ذاك الفرد بعينه أيضاً ترجيح بلا مرجّح، هذا إذا ضممناه إلى البرهان السابق هو ملاك العلم الإجمالي، أنّ هذا العلم الإجمالي يقف على الجامع ولا يتعدّى إلى الفرد، هذا هو سبب العلم الإجمالي في محل الكلام. فإذا زال الأمر الثاني الذي هو لزوم الترجيح بلا مرجّح، وحصل ما يوجب الترجيح في عالم العلم والانكشاف، بأن حصل علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء المعيّن الأيمن؛ حينئذٍ يزول العلم الإجمالي بزوال سبب الإجمال الذي كان عبارة عن لزوم الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ سبب الإجمال ليس هو فقط ذاك البرهان، ذاك البرهان غاية ما يقول أنّه لا يمكن الجمع بين طهارة كلٍ من الإناءين، لا يمكن أن يكون هذا طاهر، وهذا طاهر، ومن الواضح أنّ هذا لا ينافي أن يكون طرف معيّن نجساً، أن يتجه العلم بنجاسة أحدهما نحو طرفٍ معيّن، هذا لا ينافي البرهان، البرهان يقول: لا يمكن اجتماع طهارتين في الإناءين، هذا لا ينافي أن نعلم بنجاسة طرفٍ معيّنٍ، الذي يمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعيّن هو الثاني، هو استحالة الترجيح بلا مرجّح، فإذا وجد المرجّح، وهو العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء، ارتفع الإجمال، زال سبب الإجمال؛ لأنّه وجد فيه مرجّح، فزال الأمر الثاني الذي مجموعهما هو السبب في حصول العلم الإجمالي، وهذا يستلزم قهراً زوال العلم الإجمالي، فيزول العلم الإجمالي بزوال سببه لا بملاك انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وإنّما يزول بزوال سببه. وبهذا ينحلّ العلم الإجمالي بهذا الاعتبار.
هذا هو الوجه الثاني لإثبات الانحلال في الحالة الثانية التي نتكلّم فيها. ويُنتهى إلى هذه النتيجة: أنّه بشكلٍ عام لابدّ من التفريق بين نحوين من العلم الإجمالي، هذا هو الملاك، مرّة سبب العلم الإجمالي يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع، وأخرى لا يختصّ بطرفٍ معينٍ في الواقع، نسبته إلى الجميع نسبة واحدة.
في الحالة الأولى لابدّ من أخذ خصوصية الانتساب إلى ذلك السبب قيداً في المعلوم بالإجمال، فيصبح المعلوم بالإجمال ذا خصوصيةٍ زائدةٍ يُحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ ولذا لا يحرز الانطباق، ولا تُحرَز السراية، فلا موجب للانحلال، بينما في الحالة الثانية، خصوصية الانتساب إلى ذلك السبب لا تؤخذ في المعلوم بالإجمال، فيبقى المعلوم بالإجمال بلا خصوصية زائدة، وهذا يُحرز انطباقه على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّه كما تقدّم مراراً مصداق حقيقي للمعلوم بالإجمال، ويسري العلم من الجامع إلى الفرد؛ إذ لا خصوصية في الجامع تميّزه ويُحتمل أنّها تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل. هذا المطلب الذي يمكن أن يقال في المقام.
إلى هنا يتمّ الكلام عن الانحلال الحقيقي وفيه بعض المباحث الدقيقة تركناها؛ لأنّه ليس هناك حاجة ملزمة أكثر من هذا. وبعد ذلك ندخل في الانحلال الحكمي.
المقصود من الانحلال الحكمي هو أن يكون هناك علم إجمالي لكنّه ليس له اثر، فيقال أنّ هذا العلم الإجمالي بالرغم من وجوده، لكنّه لا ينجّز، فيقال بأنّ هذا العلم الإجمالي منحل حكماً لا حقيقةً، وكلامنا فعلاً أيضاً بانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لا زلنا نتكلّم فقط عن هذا، أمّا انحلال العلم الإجمالي بالإمارات، أو بالأصول العملية، فسيأتي الكلام عنه، فعلاً كلامنا عن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لكن مرّةً يُطرح هذا البحث أنّه هل هناك انحلال حقيقي، أو لا ؟ فإذا انتهينا إلى أنّه ليس هناك انحلال حقيقي، أو انتهينا إلى نتيجة أنّ هناك انحلال في بعض الحالات وليس هناك انحلال في بعض الحالات الأخرى؛ حينئذٍ نقول في الحالات التي لا يوجد فيها انحلال حقيقي، العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعلم التفصيلي حقيقةً، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يبقى على حاله، يُطرح هذا السؤال: هل ينحل حكماً ؟ بمعنى أنّه هل يسقط عن المنجّزية بالرغم من وجوده ؟ هل هناك موجب لسقوطه عن التنجيز بالرغم من وجوده، أو لا ؟ فإذا أثبتنا أنّه يسقط عن التنجيز معناه أنّ هذا العلم الإجمالي، وإن لم ينحل حقيقةً، لكنّه أنحلّ حكماً؛ لأنّه ليس له أثر، أي أنّه لا ينجّز حينئذٍ .
سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية في موارد قيام العلم التفصيلي ـــــــــــ كلامنا في العلم التفصيلي ــــــــــ أو انحلال العلم الإجمالي حكماً، وبطلان منجّزيته بالعلم التفصيلي، تارةً يقع الكلام عنه بلحاظ الأصول العقلية وبقطع النظر تماماً عن الأصول الشرعية المؤمّنة، ونتكلّم عن أنّ هذا العلم الإجمالي هل ينحلّ بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأمثال هذه القواعد العقلية، هل يسقط عن المنجّزية، وينحلّ حكماً، أو لا ؟ وأخرى نتكلّم عن الانحلال الحكمي، وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية بلحاظ القواعد والأصول الشرعية المؤمّنة.
أمّا بالنسبة إلى المقام الأوّل، أي بلحاظ القواعد العقلية، هل هناك قاعدة عقلية ــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ يمكن الاستعانة بها لإثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي على تقدير عدم تحقق الانحلال الحقيقي، أو لا ؟
قد يقال: يمكن إثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وذلك بدعوى أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذي فرضنا في محل الكلام تعلّق العلم التفصيلي بطرفٍ معينٍ من أطرافه، هذا الجامع الذي علمنا به إجمالاً، والذي حصل العلم التفصيلي ببعض أطرافه، هذا الجامع يُدّعى أنّه يستحيل عقلاً أن يتنجّز بالعلم الإجمالي، وذلك باعتبار أنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي الذي يعني أنّه قابل للانطباق على هذا الطرف، وقابل للانطباق على ذاك الطرف....وهكذا سائر الأطراف الأخرى، هذا هو الذي يكون هو المعلوم بالإجمال، وهذا الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على كلا الطرفين، لو كانت الأطراف ليست أكثر من أثنين، هذا يستحيل أن يتنجّز بالعلم الإجمالي؛ لأنّ معنى تنجّز الجامع بالعلم الإجمالي هو أنّه لابدّ أن يكون قابلاً للتنجّز، وقابلية الجامع للتنجّز متوقفة على قابلية التنجّز لكلا الطرفين؛ لأنّ المفروض أنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على الطرفين، هذا الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على الطرفين إنّما يتنجّز إذا كان كلا الطرفين قابلاً للتنجّز؛ حينئذٍ يقال أنّ الجامع قابل لأن يتنجّز بالعلم الإجمالي كما هو الحال في الأمثلة العادية من دون افتراض علمٍ تفصيلي بطرفٍ معيّنٍ، في الأمثلة العادية للعلم الإجمالي كلا الطرفين قابل للتنجّز، إذن: الجامع المعلوم بالإجمال الذي يقبل الانطباق على هذا، ويقبل الانطباق على ذاك أيضاً يكون قابلاً للتنجّز، فلا مشكلة في تنجيز العلم الإجمالي لهذا الجامع. وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي غير قابلٍ لأن يُنجّز الطرفين، الطرفان غير قابلين لأن يتنجزا، أو أحد الطرفين غير قابلٍ لأن يتنجّز كما في محل الكلام، المعلوم بالتفصيل بعد فرض قيام العلم التفصيلي غير قابل لأن ينجّزه العلم الإجمالي؛ لقاعدة أنّ المنجّز لا يُنجّز مرةً أخرى، هذا الطرف تنجّز بالعلم التفصيلي، فكيف يُعقل أن يكون العلم الإجمالي أيضاً منجّزاً له ؟! إذن: أحد طرفي العلم الإجمالي غير قابلٍ للتنجّز، وهذا معناه أنّ الجامع غير قابلٍ للتنجّز، فإذا كان الجامع غير قابلٍ للتنجّز، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالي سقط عن التنجيز، وانحلّ انحلالاً حكمياً. هذا هو البرهان، وهذا البرهان لم يستعن بأيّ قاعدةٍ شرعيةٍ، ولم يستعن بالأصول الشرعية المؤمّنة، وإنّما استعان فقط بالأحكام العقلية، الجامع هو المعلوم بالإجمال، ومعلوم بالإجمال بحدّه الجامعي، الذي يعني أنّه يقبل الانطباق على هذا، ويقبل الانطباق على هذا، هذا الجامع بحدّه الجامعي إنّما يقبل التنجّز عندما يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجّز، يُنجّز معلومه على كلا التقديرين، سواء كان هنا، أو كان هناك. فإذن: هذا قابل للتنجّز وهذا قابل للتنجّز، فالجامع يكون قابلاً للتنجّز، فينجّزه العلم الإجمالي.
أمّا إذا فرضنا أنّ أحد الطرفين غير قابلٍ للتنجّز باعتبار كونه منجّزاً بمنجّزٍ آخر، الذي هو العلم التفصيلي، فيكون المعلوم بالتفصيل غير قابلٍ للتنجّز، وهذا يخلّ بالقاعدة؛ لأنّ الجامع لا يصبح قابلاً للتنجّز بخروج بعض أطرافه عن كونه قابلاً للتنجّز، ومعنى أنّ العلم الإجمالي لا يمكن أن ينجّز الجامع هو أنّ هذا العلم الإجمالي انحلّ انحلالاً حكمياً. هذا هو الوجه الذي يقال في محل الكلام.
من الواضح أنّ هذا الوجه يعتمد على قاعدة أنّ المنجّز لا يقبل التنجيز، وكأنّه قياس محل الكلام بالأمور التكوينية الأخرى، فيقال أنّ الشيء الذي تنجّز بمنجّز لا يقبل التنجيز مرّة أخرى.
في الحالة الثانية: ذكرنا الوجه المتقدّم لإثبات الانحلال في الحالة الثانية، وهي الحالة التي لا يكون المعلوم بالإجمال مقيّداً بخصوصيةٍ يُحتمل أن تكون مانعةً من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وتبيّن ممّا تقدّم أنّ هذا يتحقق فيما إذا كان سبب العلم الإجمالي ليس مختصّاً بطرفٍ معيّنٍ في الواقع مرددّ عندنا؛ بل كانت نسبة سبب العلم الإجمالي إلى الأطراف نسبة متساوية على حدٍّ سواء، في هذه الحالة انتساب المعلوم بالإجمال إلى السبب لا يؤخذ كخصوصية في المعلوم بالإجمال........ينحلّ العلم الإجمالي بملاك زواله بزوال سببه لا بملاك انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل كما هو مقتضى الوجه المتقدّم، هذا وجه جديد. العلم الإجمالي ينحل بزوال سببه، العلم الإجمالي له سبب، المُدّعى أنّ سبب العلم الإجمالي يزول بالعلم التفصيلي، المفروض في محل كلامنا أننا نتكلّم عن علم إجمالي وعلم تفصيلي، وبالعلم التفصيلي يزول سبب العلم الإجمالي، وبالتالي يزول العلم الإجمالي لا محالة، ويتحقق الانحلال.
خلاصة الوجه الثاني: أن سبب العلم الإجمالي في محل الكلام الذي هو الحالة الثانية التي يكون سبب العلم الإجمالي فيها متساوي النسبة إلى كل الأطراف ولا يختصّ بطرفٍ معيّنٍ دون طرفٍ آخر، متساوي النسبة بالنسبة إلى كلّ الأطراف؛ حينئذٍ يُدّعى أنّ تخصيصه في طرفٍ معيّنٍ دون الباقي يكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ لأنّ نسبته ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــــ إلى كلّ الأطراف نسبة واحدة على حدٍّ سواء، بلا إشكال يكون تخصيص سبب العلم الإجمالي بطرفٍ معيّنٍ دون طرفٍ ترجيحاً بلا مرجّح بعد فرض تساوي نسبته إلى كلٍ منهما على حدٍّ سواء، فيكون ترجيحاً بلا مرجّح؛ ولذا يحصل العلم الإجمالي نتيجة افتراض أنّ سبب العلم الإجمالي متساوي النسبة إلى جميع الأطراف، وتخصيصه بإضافة أنّ تخصيصه بأحد الأطراف بعينه ترجيح بلا مرجّح، ومن هنا يحصل العلم الإجمالي، أحد الطرفين نجس، لا استطيع أن أحصر النجاسة بطرفٍ معيّن فيحصل هذا العلم الإجمالي، فإذا حصل العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء المعيّن الأيمن؛ حينئذٍ يقال قد حصل فيه ما يوجب ترجيحه، كان سابقاً قبل حصول العلم التفصيلي ترجيحه واختصاصه بالنجاسة ترجيح بلا مرجّح، اختصاصه بسبب العلم، وبالتالي اختصاصه بالنجاسة هو ترجيح بلا مرجّح، العلم التفصيلي كأنّه يوجد المرجّح؛ وحينئذٍ لا يتم برهان استحالة الترجيح بلا مرجّح مع فرض العلم التفصيلي المتعلّق بطرفٍ معيّنٍ من بين الطرفين، وبذلك يزول العلم الإجمالي بزوال سببه؛ لأنّه يلزم من اختصاص سبب العلم الإجمالي بأحد الأطراف، يلزم الترجيح بلا مرجّح، فإذن: أنا لا أعلم إلاّ بنجاسة أحد الإناءين على الإجمال، فإذا علمت تفصيلاً بنجاسة أحد الإناءين؛ حينئذٍ لا يكون تخصيص النجاسة به ترجيحاً بلا مرجّح؛ بل وجد فيه ما يوجب الترجيح، وارتفع محذور لزوم الترجيح بلا مرجّح، فإذا زال هذا المحذور؛ حينئذٍ يزول العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي هو اساساً مرتكز على لزوم الترجيح بلا مرجّح.
وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي في محل الكلام يحصل في الحقيقة نتيجة لمجموع أمرين:
الأمر الأوّل: الأمر الذي يثبت به الجامع الذي نفترضه الاستبعاد في مثال مساورة الكافر، أو قيام برهان على عدم اجتماع الأمرين، فيحصل علم بانتفاء أحدهما كما قلنا، أو حساب احتمالات ينفي اجتماع هذين الأمرين، فيحصل العلم الإجمالي بانتفاء واحدٍ منهما. هذا الاستبعاد، أو البرهان، أو حساب الاحتمالات، أو أيّ شيءٍ آخر، يثبت به الجامع، ولا يثبت أكثر من الجامع، استبعاد عدم مساورة الكافر للإناءين في فترة طويلة من الزمن لا يورث لنا العلم بنجاسة هذا الإناء بعينه، وإنّما يورث لنا العلم بعدم طهارة أحد الإناءين إجمالاً، أو العلم بنجاسة أحد الإناءين إجمالاً.
الأمر الثاني: مسألة عدم المرجّح، ليس هناك مرجّح لأن يتجّه العلم إلى طرفٍ معيّن دون طرفٍ آخر، قبل فرض العلم التفصيلي ليس هناك مرجّح لأن يتجه العلم إلى هذا الطرف دون ذاك الطرف، وهذا هو الذي يمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعيّن. أو بعبارة أخرى: يوجب وقوف العلم على الجامع بحدّه الجامعي.
هذان الأمران: إذا اجتمعا حينئذٍ يتمّ العلم الإجمالي ويقف العلم على الجامع، ويحصل العلم الإجمالي. أمران إذا اجتمعا ــــــــــ في محل الكلام ـــــــــــ البرهان على عدم إمكان اجتماع طهارة هذا الإناء في مثالنا، وطهارة هذا الإناء، يوجد برهان قائم على عدم إمكان اجتماع طهارة كلٍ من الإناءين اللّذين هما في معرض استعمال الكافر، هذا برهان، بضميمة استحالة الترجيح بلا مرجّح، بمعنى أنّ اتجاه العلم نحو هذا الفرد بعينه ترجيح بلا مرجّح، ونحو ذاك الفرد بعينه أيضاً ترجيح بلا مرجّح، هذا إذا ضممناه إلى البرهان السابق هو ملاك العلم الإجمالي، أنّ هذا العلم الإجمالي يقف على الجامع ولا يتعدّى إلى الفرد، هذا هو سبب العلم الإجمالي في محل الكلام. فإذا زال الأمر الثاني الذي هو لزوم الترجيح بلا مرجّح، وحصل ما يوجب الترجيح في عالم العلم والانكشاف، بأن حصل علم تفصيلي بنجاسة هذا الإناء المعيّن الأيمن؛ حينئذٍ يزول العلم الإجمالي بزوال سبب الإجمال الذي كان عبارة عن لزوم الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ سبب الإجمال ليس هو فقط ذاك البرهان، ذاك البرهان غاية ما يقول أنّه لا يمكن الجمع بين طهارة كلٍ من الإناءين، لا يمكن أن يكون هذا طاهر، وهذا طاهر، ومن الواضح أنّ هذا لا ينافي أن يكون طرف معيّن نجساً، أن يتجه العلم بنجاسة أحدهما نحو طرفٍ معيّن، هذا لا ينافي البرهان، البرهان يقول: لا يمكن اجتماع طهارتين في الإناءين، هذا لا ينافي أن نعلم بنجاسة طرفٍ معيّنٍ، الذي يمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعيّن هو الثاني، هو استحالة الترجيح بلا مرجّح، فإذا وجد المرجّح، وهو العلم التفصيلي بنجاسة هذا الإناء، ارتفع الإجمال، زال سبب الإجمال؛ لأنّه وجد فيه مرجّح، فزال الأمر الثاني الذي مجموعهما هو السبب في حصول العلم الإجمالي، وهذا يستلزم قهراً زوال العلم الإجمالي، فيزول العلم الإجمالي بزوال سببه لا بملاك انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، وإنّما يزول بزوال سببه. وبهذا ينحلّ العلم الإجمالي بهذا الاعتبار.
هذا هو الوجه الثاني لإثبات الانحلال في الحالة الثانية التي نتكلّم فيها. ويُنتهى إلى هذه النتيجة: أنّه بشكلٍ عام لابدّ من التفريق بين نحوين من العلم الإجمالي، هذا هو الملاك، مرّة سبب العلم الإجمالي يختصّ بطرفٍ معيّنٍ في الواقع، وأخرى لا يختصّ بطرفٍ معينٍ في الواقع، نسبته إلى الجميع نسبة واحدة.
في الحالة الأولى لابدّ من أخذ خصوصية الانتساب إلى ذلك السبب قيداً في المعلوم بالإجمال، فيصبح المعلوم بالإجمال ذا خصوصيةٍ زائدةٍ يُحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل؛ ولذا لا يحرز الانطباق، ولا تُحرَز السراية، فلا موجب للانحلال، بينما في الحالة الثانية، خصوصية الانتساب إلى ذلك السبب لا تؤخذ في المعلوم بالإجمال، فيبقى المعلوم بالإجمال بلا خصوصية زائدة، وهذا يُحرز انطباقه على المعلوم بالتفصيل؛ لأنّه كما تقدّم مراراً مصداق حقيقي للمعلوم بالإجمال، ويسري العلم من الجامع إلى الفرد؛ إذ لا خصوصية في الجامع تميّزه ويُحتمل أنّها تمنع من انطباقه على المعلوم بالتفصيل. هذا المطلب الذي يمكن أن يقال في المقام.
إلى هنا يتمّ الكلام عن الانحلال الحقيقي وفيه بعض المباحث الدقيقة تركناها؛ لأنّه ليس هناك حاجة ملزمة أكثر من هذا. وبعد ذلك ندخل في الانحلال الحكمي.
المقصود من الانحلال الحكمي هو أن يكون هناك علم إجمالي لكنّه ليس له اثر، فيقال أنّ هذا العلم الإجمالي بالرغم من وجوده، لكنّه لا ينجّز، فيقال بأنّ هذا العلم الإجمالي منحل حكماً لا حقيقةً، وكلامنا فعلاً أيضاً بانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لا زلنا نتكلّم فقط عن هذا، أمّا انحلال العلم الإجمالي بالإمارات، أو بالأصول العملية، فسيأتي الكلام عنه، فعلاً كلامنا عن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لكن مرّةً يُطرح هذا البحث أنّه هل هناك انحلال حقيقي، أو لا ؟ فإذا انتهينا إلى أنّه ليس هناك انحلال حقيقي، أو انتهينا إلى نتيجة أنّ هناك انحلال في بعض الحالات وليس هناك انحلال في بعض الحالات الأخرى؛ حينئذٍ نقول في الحالات التي لا يوجد فيها انحلال حقيقي، العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعلم التفصيلي حقيقةً، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يبقى على حاله، يُطرح هذا السؤال: هل ينحل حكماً ؟ بمعنى أنّه هل يسقط عن المنجّزية بالرغم من وجوده ؟ هل هناك موجب لسقوطه عن التنجيز بالرغم من وجوده، أو لا ؟ فإذا أثبتنا أنّه يسقط عن التنجيز معناه أنّ هذا العلم الإجمالي، وإن لم ينحل حقيقةً، لكنّه أنحلّ حكماً؛ لأنّه ليس له أثر، أي أنّه لا ينجّز حينئذٍ .
سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية في موارد قيام العلم التفصيلي ـــــــــــ كلامنا في العلم التفصيلي ــــــــــ أو انحلال العلم الإجمالي حكماً، وبطلان منجّزيته بالعلم التفصيلي، تارةً يقع الكلام عنه بلحاظ الأصول العقلية وبقطع النظر تماماً عن الأصول الشرعية المؤمّنة، ونتكلّم عن أنّ هذا العلم الإجمالي هل ينحلّ بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وأمثال هذه القواعد العقلية، هل يسقط عن المنجّزية، وينحلّ حكماً، أو لا ؟ وأخرى نتكلّم عن الانحلال الحكمي، وسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية بلحاظ القواعد والأصول الشرعية المؤمّنة.
أمّا بالنسبة إلى المقام الأوّل، أي بلحاظ القواعد العقلية، هل هناك قاعدة عقلية ــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ يمكن الاستعانة بها لإثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي على تقدير عدم تحقق الانحلال الحقيقي، أو لا ؟
قد يقال: يمكن إثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وذلك بدعوى أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذي فرضنا في محل الكلام تعلّق العلم التفصيلي بطرفٍ معينٍ من أطرافه، هذا الجامع الذي علمنا به إجمالاً، والذي حصل العلم التفصيلي ببعض أطرافه، هذا الجامع يُدّعى أنّه يستحيل عقلاً أن يتنجّز بالعلم الإجمالي، وذلك باعتبار أنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي الذي يعني أنّه قابل للانطباق على هذا الطرف، وقابل للانطباق على ذاك الطرف....وهكذا سائر الأطراف الأخرى، هذا هو الذي يكون هو المعلوم بالإجمال، وهذا الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على كلا الطرفين، لو كانت الأطراف ليست أكثر من أثنين، هذا يستحيل أن يتنجّز بالعلم الإجمالي؛ لأنّ معنى تنجّز الجامع بالعلم الإجمالي هو أنّه لابدّ أن يكون قابلاً للتنجّز، وقابلية الجامع للتنجّز متوقفة على قابلية التنجّز لكلا الطرفين؛ لأنّ المفروض أنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على الطرفين، هذا الجامع بحدّه الجامعي القابل للانطباق على الطرفين إنّما يتنجّز إذا كان كلا الطرفين قابلاً للتنجّز؛ حينئذٍ يقال أنّ الجامع قابل لأن يتنجّز بالعلم الإجمالي كما هو الحال في الأمثلة العادية من دون افتراض علمٍ تفصيلي بطرفٍ معيّنٍ، في الأمثلة العادية للعلم الإجمالي كلا الطرفين قابل للتنجّز، إذن: الجامع المعلوم بالإجمال الذي يقبل الانطباق على هذا، ويقبل الانطباق على ذاك أيضاً يكون قابلاً للتنجّز، فلا مشكلة في تنجيز العلم الإجمالي لهذا الجامع. وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي غير قابلٍ لأن يُنجّز الطرفين، الطرفان غير قابلين لأن يتنجزا، أو أحد الطرفين غير قابلٍ لأن يتنجّز كما في محل الكلام، المعلوم بالتفصيل بعد فرض قيام العلم التفصيلي غير قابل لأن ينجّزه العلم الإجمالي؛ لقاعدة أنّ المنجّز لا يُنجّز مرةً أخرى، هذا الطرف تنجّز بالعلم التفصيلي، فكيف يُعقل أن يكون العلم الإجمالي أيضاً منجّزاً له ؟! إذن: أحد طرفي العلم الإجمالي غير قابلٍ للتنجّز، وهذا معناه أنّ الجامع غير قابلٍ للتنجّز، فإذا كان الجامع غير قابلٍ للتنجّز، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالي سقط عن التنجيز، وانحلّ انحلالاً حكمياً. هذا هو البرهان، وهذا البرهان لم يستعن بأيّ قاعدةٍ شرعيةٍ، ولم يستعن بالأصول الشرعية المؤمّنة، وإنّما استعان فقط بالأحكام العقلية، الجامع هو المعلوم بالإجمال، ومعلوم بالإجمال بحدّه الجامعي، الذي يعني أنّه يقبل الانطباق على هذا، ويقبل الانطباق على هذا، هذا الجامع بحدّه الجامعي إنّما يقبل التنجّز عندما يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجّز، يُنجّز معلومه على كلا التقديرين، سواء كان هنا، أو كان هناك. فإذن: هذا قابل للتنجّز وهذا قابل للتنجّز، فالجامع يكون قابلاً للتنجّز، فينجّزه العلم الإجمالي.
أمّا إذا فرضنا أنّ أحد الطرفين غير قابلٍ للتنجّز باعتبار كونه منجّزاً بمنجّزٍ آخر، الذي هو العلم التفصيلي، فيكون المعلوم بالتفصيل غير قابلٍ للتنجّز، وهذا يخلّ بالقاعدة؛ لأنّ الجامع لا يصبح قابلاً للتنجّز بخروج بعض أطرافه عن كونه قابلاً للتنجّز، ومعنى أنّ العلم الإجمالي لا يمكن أن ينجّز الجامع هو أنّ هذا العلم الإجمالي انحلّ انحلالاً حكمياً. هذا هو الوجه الذي يقال في محل الكلام.
من الواضح أنّ هذا الوجه يعتمد على قاعدة أنّ المنجّز لا يقبل التنجيز، وكأنّه قياس محل الكلام بالأمور التكوينية الأخرى، فيقال أنّ الشيء الذي تنجّز بمنجّز لا يقبل التنجيز مرّة أخرى.