35/06/06
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
كان الكلام في المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) حيث ذكر بعنوان المناقضة بين الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع وبين العلم الوجداني بثبوت التكليف في أحد الطرفين، مقصوده من الحكم الظاهري الترخيص في بعض الأمثلة، وإن كان هذا المانع لا يختص بذلك كما أشرنا، لكن إذا نطبّق على الترخيص؛ حينئذٍ تكون هناك مناقضة بين الترخيص المجعول في الطرفين الناظر إلى الواقع وبين العلم الوجداني بثبوت التكليف في أحدهما، في غير موردٍ أيضاً نفس الشيء فيما إذا كان الجاري في الطرفين ليس هو الترخيص؛ بل قد يكون الذي يثبت في الطرفين هو التكليف في موارد العلم بالترخيص في أحد الطرفين إذا كان المعلوم هو طهارة أحد الطرفين مع كونهما نجسين سابقاً، الاستصحاب بناءً على أنّه أصل محرز يثبت النجاسة فيهما، هذا أيضاً يرد فيه المانع للممانعة بين ثبوت هذا الحكم الظاهري وهو النجاسة في كلٍ من الطرفين مع العلم الوجداني بطهارة أحدهما. هذا الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) الظاهر أنّه مأخوذ من كلمات أستاذه المحقق النائيني(قدّس سرّه) حيث ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه)[1] هذا المطلب بعد أن ذكر في كلامه أنّه لا يوجد ما يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف باعتبار انحفاظ موضوع تلك الأصول في تمام الأطراف؛ لأنّه مشكوك الوجوب، موضوع الأصول هو الشكّ، والشك موجود في هذا الطرف وموجود أيضاً في ذاك الطرف ولا مشكلة في أن تجري البراءة في كلٍ من الطرفين؛ لأنّ البراءة تجري في هذا الطرف بخصوصه وموضوع البراءة في هذا الطرف بخصوصه محفوظ وتجري في ذاك الطرف بخصوصه وموضوعها أيضاً فيه محفوظ، بعد أن ذكر ذلك وذكر كلاماً آخر أيضاً لا داعي لذكره استدرك على نفسه الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب بنظره باعتباره أصل تنزيلي محرز، قال هذا نمنع منه، ما كان من قبيل البراءة لا مانع من جريانه في تمام الأطراف، لكن ما كان من قبيل الاستصحاب ــــــــــــــ بناءً على أنّه من الأصول العملية التنزيلية ـــــــــــــــ منع من جريانه في تمام الأطراف، باعتبار أنّ المجعول في هذه الأصول التنزيلية هو البناء العملي والأخذ بأحد الطرفين من الشك على أنّه هو الواقع، هذه جنبة الإحراز الموجودة في باب الاستصحاب التي يدّعيها في باب الاستصحاب، وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم تعبّداً، هذا المجعول في دليل الاستصحاب، وهذا المعنى من الإحراز ـــــــــــــ البناء على الحالة السابقة في باب الاستصحاب بلسان إحراز الواقع، بلسان تنزيل الشك منزلة العدم، أبنِ على بقاء الحالة السابقة ـــــــــــــ لا يمكن جعله في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، يمكن جعله في الشبهات البدوية، ويمكن جعله في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي لكن حينما تكون الشبهة غير محصورة، يمكن جعله في بعض أطراف الشبهة، لكن لا يمكن جعله في تمام أطراف الشبهة الذي هو محل الكلام، باعتبار أنّ الإحراز التعبّدي بعدم انتقاض الحالة السابقة في كلا الطرفين لا يمكن أن يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما. هذا نفس ما يقوله السيد الخوئي(قدّس سرّه)، أنّ الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين الذي هو معنى الاستصحاب لا يجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، وكيف يحكم ببقاء الطهارة الواقعية، ولو تعبّداً في كلٍ من الإناءين مع العلم بنجاسة أحدهما ؟ لا يمكن الجمع بينهما. هو نفسه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ثم قال المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ هذا لا يختصّ بما إذا لزم من جريان الأصلين مخالفة عملية كما قال السيد الخوئي(قدّس سرّه)، يعني لا يختص بمثال ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين معلومي الطهارة سابقاً، هنا جريان أصالة الطهارة في هذا الطرف وفي هذا الطرف يلزم منه مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ العلم بنجاسة أحدهما يستتبع تكليفاً له مخالفة عملية، يقول هذا المانع لا يختصّ بهذا؛ بل يجري حتّى ما إذا كان إجراء الأصول في الأطراف لا يستلزم مخالفة عملية كما لو عكسنا المثال، كما لو علمنا بطهارة أحد إناءين نعلم بنجاستهما سابقاً، فالأصل الجاري في هذا الطرف هو استصحاب النجاسة والأصل الجاري في هذا الطرف أيضاً هو استصحاب النجاسة باليقين السابق والشك اللاحق، موضوعه محفوظ ولا يلزم من جريانهما في الطرفين مخالفة عملية للتكليف المعلوم؛ لأنّه لا علم بالتكليف، يوجد علم بطهارة أحدهما، فليس له مخالفة عملية، فلا يلزم من جريان الاستصحاب في هذا المثال مخالفة عملية. يقول مع ذلك هذا المانع موجود، وهو أنّه لا يُعقل أن يجتمع الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، هذان لا يمكن الجمع بينهما؛ فلذا هذا المانع لا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً إلزامياً له مخالفة عملية؛ بل يشمل حتّى ما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً.
هذا الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، صحيح هو ذكره في الاستصحاب، لكن يمكن تنقيح المناط لأمثاله وتعميمه حتّى للإمارة، بمعنى أنّه لو علمنا بنجاسة أحد إناءين، ثمّ قامت الإمارة على طهارة هذا الإناء بخصوصه، ثمّ قامت الإمارة الأخرى على طهارة الإناء الآخر بخصوصه، نفس الكلام يجري؛ لأنّ الإمارة لسانها لسان الإحراز، فالإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الإناءين كيف يجتمع ــــــــــــ كما يقول ــــــــــــ مع الإحراز الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما من دون فرقٍ بين هذا المثال وبين عكسه، فلو علمنا بطهارة أحد إناءين وقامت إمارة وليس استصحاباً، على نجاسة هذا بخصوصه وقامت إمارة أخرى على نجاسة الآخر، هذان أيضاً لا يمكن الجمع بينهما؛ إذ كيف يمكن الحكم ببقاء الحالة السابقة في كلا الإناءين وإحراز ذلك مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الإناءين، يجري نفس الكلام، فكلامه ولو من باب تنقيح المناط يشمل ما إذا كان الجاري في كلا الطرفين هو إمارة ولا يختصّ ذلك بالاستصحاب؛ لأنّ العلّة بنظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي كون الاستصحاب محرزاً للواقع من الأصول العملية التنزيلية، والإحراز في باب الإمارات أوضح.
من هنا يظهر أنّ المانع بنظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو مانع ثبوتي، هو يدّعي استحالة جعل هذا المؤدى في كلا الطرفين مع العلم الوجداني بالخلاف. يقول أصلاً يستحيل جعل مؤدّى الاستصحاب في كلا الطرفين؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب مؤدى إحرازي، هو يحرز الواقع، إحراز بقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين لا يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، فالمانع بنظره مانع ثبوتي وعلى هذا الأساس يكون المانع الثبوتي الذي يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ليس هو المانع الأوّل الذي نقلناه عنه، وإنّما مانع أوسع من ذلك، المانع الثبوتي الأوّل يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً حتّى يكون الترخيص في الأطراف ترخيصاً في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، هذا هو المحذور الأوّل. هذا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً له مخالفة عملية، بينما هذا المانع الذي يذكره أوسع من ذلك، كما يجري في ذاك المورد يجري فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً لا حكماً تكليفياً، فهو يراه مانعاً ثبوتياً.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) وافقه في أصل المطلب، ولكنّه لم يوافقه في الاستصحاب، بمعنى أنّه لا يرى الاستصحاب من الأصول العملية التنزيلية، فيكون حاله حال سائر الأصول الأخرى، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) صبّ كلامه على الإمارات، يعني فيما لو كان إثبات ما يخالف المعلوم بالإجمال في كلا الطرفين كان بإمارة لا باستصحاب، هذا ما استشكل به(قدّس سرّه) يعني أنّه لا يرى إشكالاً في إجراء الاستصحاب في كلا الطرفين بنحوٍ يخالف المعلوم بالإجمال، كما هو الحال في الترخيص الثابت بالبراءة في كلا الطرفين، لا مشكلة فيه؛ لأنّ هذه أحكام ظاهرية موضوعها محفوظ في كلا الطرفين بخصوصه، فلا مانع من جريانه في كلا الطرفين، لكن عندما يكون الحكم الظاهري الثابت في كلا الطرفين المخالف للمعلوم بالإجمال، عندما يكون ثابتاً بالإمارة، هنا ذكر مانعاً من جريان الإمارة في الطرفين، لكنّ المانع الذي ذكره غير المانع الذي أشار إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذكر مانعاً آخر من جريان الإمارة في الطرفين، وهذا المانع هو التعارض، التعارض هو الذي يمنع من جريان الإمارة في كلا الطرفين، ولنمثّل بما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءين وقامت إمارة على نجاسة هذا بخصوصه، وقامت إمارة أخرى على نجاسة الطرف الآخر، يقول هنا لا تجري الإمارة؛ لأنّ الإمارة حجّة في مداليلها الالتزامية كما هي حجّة في مداليلها المطابقية، هذه الإمارة وإن كان مدلولها المطابقي هو نجاسة هذا الإناء بخصوصه، لكنّها بالدلالة الالتزامية تدلّ على طهارة الآخر، فيكون لها مدلولان، أحدهما مطابقي وهو نجاسة هذا، والتزامي وهو طهارة الآخر بضميمة العلم الإجمالي المفروض في محل الكلام بأنّ أحدهما طاهر، إذا ضممنا هذا العلم الإجمالي إلى الإمارة الدالة على نجاسة هذا الإناء سوف يتكوّن مدلول التزامي لهذه الإمارة وهو أنّ الإناء الآخر طاهر، فإذن، هذه الإمارة الجارية في هذا الطرف كما هي حجّة في مدلولها المطابقي هي حجّة في مدلولها الالتزامي، ومدلولها الالتزامي هو أنّ الإناء الآخر طاهر، فتعارض الإمارة الثانية الدالّة على نجاسة الطرف الآخر؛ لأنّ هذه الإمارة تدل على طهارة الطرف الآخر بينما الإمارة الأخرى تدلّ على نجاسته بالدلالة المطابقية، فيقع التعارض بين الدلالة الالتزامية لهذه الإمارة والدلالة المطابقية لتلك الإمارة، وهكذا العكس، تلك الإمارة الجارية في الطرف الآخر أيضاً لها مدلول التزامي وهو طهارة هذا الطرف، فتكون معارضة للإمارة الجارية في الطرف الأوّل بمدلولها المطابقي، فيكون هناك تعارض بين الإمارتين، وعند حصول التعارض بينهما؛ حينئذٍ لا يكون دليل الحجّية شاملاً لكلٍ منهما؛ لأنّ دليل الحجّية لا يمكن أن يشمل كلاً منهما للتنافي ولا يمكن أن يشمل أحدهما؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فيسقط دليل الحجّية حينئذٍ عن الشمول لكلٍ منهما، فتسقط الإمارتان عن الحجّية، وهذا هو المانع بنظره بالنسبة إلى جريان الإمارتين المخالفتين للمعلوم بالإجمال في أطراف العلم الإجمالي.
هذا الذي ذكره قال أنّه غير موجود في الاستصحاب؛ لأنّ مثبتات الاستصحاب ليست حجّة، الاستصحاب لا يكون حجّة في مدلوله الالتزامي، الاستصحاب الذي يجري في هذا الطرف الأوّل ويثبت نجاسته ليس له دلالة التزامية بطهارة الطرف الآخر حتّى يكون معارضاً للاستصحاب الذي يجري في الطرف الآخر، كلا، دلالته الالتزامية ليست حجّة؛ فحينئذٍ هذا الوجه الموجب لسقوط الإمارتين عن الحجّية في محل الكلام لا يجري في باب الاستصحاب، والفرق هو أنّ الإمارة حجّة في مداليلها الالتزامية، بينما الاستصحاب كسائر الأصول العملية الأخرى ليس حجّة في مدلوله الالتزامي.
هذا المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) كأنّه مانع إثباتي وليس مانعاً ثبوتياً؛ بل هو مانع ثبوتي مرتبط بدلالة الدليل الذي يثبت حكماً في الطرفين مخالفاً للحكم المعلوم بالإجمال، مؤدّى الإمارة ومؤدّى الاستصحاب هذا مانع إثباتي وهو غير المانع الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذاك مانع ثبوتي راجع إلى استحالة الجمع بين الإحراز التعبّدي والإحراز الوجداني بالنحو المذكور سابقاً؛ ولذا ذكره في عداد الموانع الثبوتية، بينما هذا المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وإن كانت كلماته غير واضحة، لكن الظاهر أنّه مانع إثباتي، وهذا هو نفس المانع الذي سيأتي حيث أنّه في المسألة القادمة، وهي مسألة (جريان الأصول في بعض الأطراف) يصرّح بأنّه لا مانع ثبوتاً من جريان الأصول في بعض الأطراف،[2] لكنّ المانع إثباتي ويذكر التعارض كمانع إثباتي من جريان الأصل في أحد الطرفين، إذن، مسألة التعارض مانع إثباتي، نفس هذا المانع ذكره في محل الكلام، لكن عندما يُفترض أنّ الحكم الظاهري ثابت بالإمارة وليس ثابتاً بالأصول العملية الأخرى.
اقول: لا يبعُد أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يرتضي هذا المانع الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، كاحتمال هو لا يرتضي أنّ المانع ثبوتي في محل الكلام؛ بل يرى أنّ المانع إثباتي في محل الكلام، بمعنى أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) كأنّه يرى أنّ المانع من جريان الأصول العملية في الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعية فقط، هذا المانع الثبوتي. وهذا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً له مخالفة عملية ولا يجري ذلك المانع الأوّل الذي ذكرناه فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً، السيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يرى أنّ هناك مانعاً آخر ثبوتياً يمنع من جريان الأصول العملية حتّى الاستصحاب فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً، لا يرى أنّ المانع ثبوتي، وإنّما يرى أنّ المانع في حالةٍ من هذا القبيل حيث لا تلزم مخالفة عملية، المانع منحصر بالتعارض، والتعارض إنّما يتم فيما إذا كان ما يثبت الحكم الظاهري في الطرفين حجّة في مثبتاته، حجّة في مداليله الالتزامية وهذا منحصر بالإمارات ولا يتم في الاستصحاب، إذن، السيد الخوئي(قدّس سرّه) في موارد العلم الإجمالي بالتكليف يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف للمانع الثبوتي المتقدّم نقله عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو مسألة أنّ جريانه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل. وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً هو لا يرى مانعاً من جريان الأصول حتّى الاستصحاب في تمام الأطراف.
على كل حال، المانع الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بلسان أنّ الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين يستحيل أن يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، هذا لابدّ من تقييمه، هل هو مانع ثبوتي يمنع من جريان الأصول في الأطراف بقطع النظر عن المخالفة العملية ؟ بحيث يجري حتّى إذا لم يلزم من جريان الأصول في الأطراف مخالفة عملية، أو أنّه ليس كذلك ؟ هذا مطلب لابدّ من بحثه وهو مطلب مهم جدّاً؛ لأنّه من هنا يتبيّن أنّه لا يكفينا في أن ننكر وجود مانع ثبوتي من جريان الأصول مجرّد أن نقول كما نقلنا سابقاً وسيأتي أيضاً بأنّ هذا المانع الثبوتي مبني على أن يكون الحكم العقلي بالمنجّزية حكماً تنجيزياً، فإذا أنكرنا كونه تنجيزياً وقلنا بأنّ الحكم العقلي تعليقي، إذن، لا مانع ثبوتاً من جريان الأصول في تمام الأطراف، هذا الكلام لا يكفي؛ لأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) أبرز مانعاً آخر ليس له علاقة بالمخالفة العملية للتكليف المعلوم بالإجمال، هذا المانع الاخر يجري حتّى في الموارد التي لا يلزم من جريان الأصول في الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل، عندما ينحصر المانع بالمانع الأوّل يجري هذا الجواب، وهو أنّ هذا مبني على أن يكون الحكم العقلي تنجيزياً وهو ليس كذلك وإنّما هو تعليقي، فلا منافاة ولا مشكلة في جريان الأصول في تمام الأطراف، هذا لا ينفع، لوجود مانع آخر يمنع من جريانه بقطع النظر عن مسألة الترخيص في المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لابدّ من بحث هذا المانع، أنّ هذا المانع تام، أو ليس بتام.
بعبارة أخرى: نطرح هذا السؤال: هل يستحيل بنظر العقل جريان أصلين من الأصول العملية التنزيلية؛ لأنّها هي مورد كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هو سلّم أنّه لا مانع من جريان الأصول العملية البحتة، هل يستحيل بنظر العقل جريان أصلين من الأصول العملية التنزيلية على خلاف العلم الإجمالي، بقطع النظر عن الترخيص في المخالفة العملية كما نصبّ الكلام على هذا المثال ما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءين إجمالاً مع العلم بأنّهما كانا نجسين، هل يدرك العقل استحالة جريان استصحاب النجاسة؛ لتوفر أركان الاستصحاب في كلٍ من الطرفين باعتبار أنّ هذا ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما ؟ حتّى نكون بعيدين عن مسألة المخالفة العملية. هل يدرك العقل استحالة هذا ؟ بحيث أنّ العالم بالإجمال بطهارة أحد الإناءين لا يتقبّل جريان الاستصحاب في كلا الطرفين، ويعتبره أمراً غير معقول ؟ الظاهر أنّه لا موجب لهذا، العقل لا يرى مانعاً من جريان الاستصحاب في كلا الطرفين بقطع النظر عن المخالفة العملية؛ وذلك:
أولاً: يمكن أن نجيب عن هذا بجوابٍ مبنائي، وتقدّم سابقاً أيضاً، وهو أنّ اصل فكرة جعل الطريقية وجعل العلمية وإلغاء احتمال الخلاف وتنزيل الشك منزلة العلم والإحراز الواقع، هذه غير مستفادة من دليل الاستصحاب، جعل الطريقية محل مناقشة كما تقدّم في الإمارات فضلاً عن الاستصحاب بهذا المعنى الذي يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هذا جواب مبنائي، سيأتي في باب الاستصحاب ما هو مؤدّى دليل الاستصحاب ؟ هل هو عبارة عن وظيفة عملية تُعطى للشاك الذي يشك في بقاء الحالة السابقة حتّى لا يبقى متردّداً في أمره، بحيث يكون حاله حال الأصول العملية الأخرى ؟ أو أنّ فيه جنبة إحرازٍ للواقع وتنزيل الشاك منزلة العالم وتنزيل مؤدى الاستصحاب منزلة الواقع وأمثال هذه التعابير، اصل المبنى ــــــــــــ جعل الطريقية ــــــــــــ هو غير مسلّم في الإمارات، فضلاً عن الاستصحاب. بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يكون هناك فرق بين الاستصحاب وبين سائر الأصول العملية الأخرى التي اعترف هو(قدّس سرّه) بجريانها في تمام الأطراف، وإنّما الذي منعه من ذلك في باب الاستصحاب باعتبار أنّه يرى أنّ الاستصحاب لسانه لسان إحراز الواقع، فإذا أنكرنا هذا اللّسان ولم يبقَ فرق بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية؛ فحينئذٍ تنتهي المشكلة. هذا هو الجواب المبنائي.
ثانياً: الجواب الآخر الذي قد يقال في المقام، حتّى إذا فرضنا أنّ مفاد الاستصحاب هو إحراز الواقع، فاستصحاب النجاسة في هذا الطرف مفاده إحراز الواقع، يعني إحراز الحالة السابقة التي هي النجاسة المتيقنة سابقاً، الظاهر أنّه أيضاً لا ينافي العلم الوجداني بطهارة أحد الإناءين؛ لأنّ هذا الإحراز مهما كان هو إحراز للواقع، إحراز للحالة السابقة، لكنّه يبقى إحرازاً تعبّدياً غير واقعي، إحراز تعبّدي للنجاسة في هذا الطرف، وإحراز تعبّدي للنجاسة في الطرف الآخر، فهو إحراز تعبّدي وليس إحرازاً واقعياً، إحراز واقعي ينافي العلم الوجداني بطهارة أحد الإناءين، لا يمكن الجمع بينهما بحيث يُحرز واقعاً نجاسة كل منهما، وأيضاً يحرز طهارة أحدهما، لا يمكن الجمع بينهما، أمّا الإحراز التعبّدي الذي فيه جانب التعبّد، يعني ليس إحرازاً واقعياً، هذا لا نرى مانعاً من أن يجتمع مع العلم الوجداني بطهارة أحدهما، ويمكن للمكلّف أن يصدّق أنّ أحدهما طاهر ويقول أنّ الشارع لمصالح يعلمها قال أنا أحرز لك النجاسة في هذا الإناء وأحرز لك النجاسة في هذا الإناء تعبّداً، يعني أبنِ على أنّ هذا الإناء نجس، أبنِ على أنّ هذا الإناء نجس بلسان إحراز الواقع لا يتنافى ظاهراً مع العلم الوجداني بأنّ أحدهما طاهر، يعني يمكن للمكلّف العالم بالإجمال بطهارة أحدهما أن يصدّق بأنّ الشارع جعل النجاسة الظاهرية في هذا الإناء وجعل النجاسة الظاهرية في هذا الإناء، في خلاف هذا المثال لا يمكنه أن يصدّق؛ لأنّ جعل الطهارة ظاهرية في كلا الإناءين عندما يكون عالماً بنجاسة أحدهما سوف يكون ترخيصاً في المخالفة القطعية وهي قبيحة بنظر العقل ويستحيل الترخيص في القبيح. هذا المانع الأوّل. لكن في عكسه لا يرى مانعاً من أنّه يعلم بطهارة أحد الإناءين، لكن الشارع يجعل حكماً ظاهرياً بالنجاسة هنا وحكماً ظاهرياً بالنجاسة هنا، سواء كان هذا بلسان الأصل العملي البحت، أو بلسان الأصل العملي التنزيلي. ومن هنا يبدو ـــــــــــــ والله العالم ـــــــــــــ أنّ النتيجة التي نصل إليها هي أنّه لابدّ أن نرجع إلى المانع الأوّل ونحاسبه، هل المانع الأوّل تام، أو لا ؟ يعني ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) أيضاً، قلنا أنّ كلاً منهما ادّعى المانع الثبوتي، لكنّ المانع الثبوتي إنّما يتم بناءً على دعواهما بناءً على أنّ حكم العقل بالاشتغال وبلزوم الامتثال والموافقة والمنجّزية التكليف المعلوم بالامتثال حكماً تنجيزياً غير معلّق، فلابدّ من بحث هذه النقطة حتّى نرى أنّ المانع في المقام هل هو مانع ثبوتي، أو ليس مانعاً ثبوتياً.
كان الكلام في المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) حيث ذكر بعنوان المناقضة بين الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع وبين العلم الوجداني بثبوت التكليف في أحد الطرفين، مقصوده من الحكم الظاهري الترخيص في بعض الأمثلة، وإن كان هذا المانع لا يختص بذلك كما أشرنا، لكن إذا نطبّق على الترخيص؛ حينئذٍ تكون هناك مناقضة بين الترخيص المجعول في الطرفين الناظر إلى الواقع وبين العلم الوجداني بثبوت التكليف في أحدهما، في غير موردٍ أيضاً نفس الشيء فيما إذا كان الجاري في الطرفين ليس هو الترخيص؛ بل قد يكون الذي يثبت في الطرفين هو التكليف في موارد العلم بالترخيص في أحد الطرفين إذا كان المعلوم هو طهارة أحد الطرفين مع كونهما نجسين سابقاً، الاستصحاب بناءً على أنّه أصل محرز يثبت النجاسة فيهما، هذا أيضاً يرد فيه المانع للممانعة بين ثبوت هذا الحكم الظاهري وهو النجاسة في كلٍ من الطرفين مع العلم الوجداني بطهارة أحدهما. هذا الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) الظاهر أنّه مأخوذ من كلمات أستاذه المحقق النائيني(قدّس سرّه) حيث ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه)[1] هذا المطلب بعد أن ذكر في كلامه أنّه لا يوجد ما يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف باعتبار انحفاظ موضوع تلك الأصول في تمام الأطراف؛ لأنّه مشكوك الوجوب، موضوع الأصول هو الشكّ، والشك موجود في هذا الطرف وموجود أيضاً في ذاك الطرف ولا مشكلة في أن تجري البراءة في كلٍ من الطرفين؛ لأنّ البراءة تجري في هذا الطرف بخصوصه وموضوع البراءة في هذا الطرف بخصوصه محفوظ وتجري في ذاك الطرف بخصوصه وموضوعها أيضاً فيه محفوظ، بعد أن ذكر ذلك وذكر كلاماً آخر أيضاً لا داعي لذكره استدرك على نفسه الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب بنظره باعتباره أصل تنزيلي محرز، قال هذا نمنع منه، ما كان من قبيل البراءة لا مانع من جريانه في تمام الأطراف، لكن ما كان من قبيل الاستصحاب ــــــــــــــ بناءً على أنّه من الأصول العملية التنزيلية ـــــــــــــــ منع من جريانه في تمام الأطراف، باعتبار أنّ المجعول في هذه الأصول التنزيلية هو البناء العملي والأخذ بأحد الطرفين من الشك على أنّه هو الواقع، هذه جنبة الإحراز الموجودة في باب الاستصحاب التي يدّعيها في باب الاستصحاب، وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم تعبّداً، هذا المجعول في دليل الاستصحاب، وهذا المعنى من الإحراز ـــــــــــــ البناء على الحالة السابقة في باب الاستصحاب بلسان إحراز الواقع، بلسان تنزيل الشك منزلة العدم، أبنِ على بقاء الحالة السابقة ـــــــــــــ لا يمكن جعله في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، يمكن جعله في الشبهات البدوية، ويمكن جعله في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي لكن حينما تكون الشبهة غير محصورة، يمكن جعله في بعض أطراف الشبهة، لكن لا يمكن جعله في تمام أطراف الشبهة الذي هو محل الكلام، باعتبار أنّ الإحراز التعبّدي بعدم انتقاض الحالة السابقة في كلا الطرفين لا يمكن أن يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما. هذا نفس ما يقوله السيد الخوئي(قدّس سرّه)، أنّ الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين الذي هو معنى الاستصحاب لا يجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، وكيف يحكم ببقاء الطهارة الواقعية، ولو تعبّداً في كلٍ من الإناءين مع العلم بنجاسة أحدهما ؟ لا يمكن الجمع بينهما. هو نفسه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ثم قال المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ هذا لا يختصّ بما إذا لزم من جريان الأصلين مخالفة عملية كما قال السيد الخوئي(قدّس سرّه)، يعني لا يختص بمثال ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين معلومي الطهارة سابقاً، هنا جريان أصالة الطهارة في هذا الطرف وفي هذا الطرف يلزم منه مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ العلم بنجاسة أحدهما يستتبع تكليفاً له مخالفة عملية، يقول هذا المانع لا يختصّ بهذا؛ بل يجري حتّى ما إذا كان إجراء الأصول في الأطراف لا يستلزم مخالفة عملية كما لو عكسنا المثال، كما لو علمنا بطهارة أحد إناءين نعلم بنجاستهما سابقاً، فالأصل الجاري في هذا الطرف هو استصحاب النجاسة والأصل الجاري في هذا الطرف أيضاً هو استصحاب النجاسة باليقين السابق والشك اللاحق، موضوعه محفوظ ولا يلزم من جريانهما في الطرفين مخالفة عملية للتكليف المعلوم؛ لأنّه لا علم بالتكليف، يوجد علم بطهارة أحدهما، فليس له مخالفة عملية، فلا يلزم من جريان الاستصحاب في هذا المثال مخالفة عملية. يقول مع ذلك هذا المانع موجود، وهو أنّه لا يُعقل أن يجتمع الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، هذان لا يمكن الجمع بينهما؛ فلذا هذا المانع لا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً إلزامياً له مخالفة عملية؛ بل يشمل حتّى ما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً.
هذا الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، صحيح هو ذكره في الاستصحاب، لكن يمكن تنقيح المناط لأمثاله وتعميمه حتّى للإمارة، بمعنى أنّه لو علمنا بنجاسة أحد إناءين، ثمّ قامت الإمارة على طهارة هذا الإناء بخصوصه، ثمّ قامت الإمارة الأخرى على طهارة الإناء الآخر بخصوصه، نفس الكلام يجري؛ لأنّ الإمارة لسانها لسان الإحراز، فالإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الإناءين كيف يجتمع ــــــــــــ كما يقول ــــــــــــ مع الإحراز الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما من دون فرقٍ بين هذا المثال وبين عكسه، فلو علمنا بطهارة أحد إناءين وقامت إمارة وليس استصحاباً، على نجاسة هذا بخصوصه وقامت إمارة أخرى على نجاسة الآخر، هذان أيضاً لا يمكن الجمع بينهما؛ إذ كيف يمكن الحكم ببقاء الحالة السابقة في كلا الإناءين وإحراز ذلك مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الإناءين، يجري نفس الكلام، فكلامه ولو من باب تنقيح المناط يشمل ما إذا كان الجاري في كلا الطرفين هو إمارة ولا يختصّ ذلك بالاستصحاب؛ لأنّ العلّة بنظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي كون الاستصحاب محرزاً للواقع من الأصول العملية التنزيلية، والإحراز في باب الإمارات أوضح.
من هنا يظهر أنّ المانع بنظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو مانع ثبوتي، هو يدّعي استحالة جعل هذا المؤدى في كلا الطرفين مع العلم الوجداني بالخلاف. يقول أصلاً يستحيل جعل مؤدّى الاستصحاب في كلا الطرفين؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب مؤدى إحرازي، هو يحرز الواقع، إحراز بقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين لا يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، فالمانع بنظره مانع ثبوتي وعلى هذا الأساس يكون المانع الثبوتي الذي يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ليس هو المانع الأوّل الذي نقلناه عنه، وإنّما مانع أوسع من ذلك، المانع الثبوتي الأوّل يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً حتّى يكون الترخيص في الأطراف ترخيصاً في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، هذا هو المحذور الأوّل. هذا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً له مخالفة عملية، بينما هذا المانع الذي يذكره أوسع من ذلك، كما يجري في ذاك المورد يجري فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً لا حكماً تكليفياً، فهو يراه مانعاً ثبوتياً.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) وافقه في أصل المطلب، ولكنّه لم يوافقه في الاستصحاب، بمعنى أنّه لا يرى الاستصحاب من الأصول العملية التنزيلية، فيكون حاله حال سائر الأصول الأخرى، لكن السيد الخوئي(قدّس سرّه) صبّ كلامه على الإمارات، يعني فيما لو كان إثبات ما يخالف المعلوم بالإجمال في كلا الطرفين كان بإمارة لا باستصحاب، هذا ما استشكل به(قدّس سرّه) يعني أنّه لا يرى إشكالاً في إجراء الاستصحاب في كلا الطرفين بنحوٍ يخالف المعلوم بالإجمال، كما هو الحال في الترخيص الثابت بالبراءة في كلا الطرفين، لا مشكلة فيه؛ لأنّ هذه أحكام ظاهرية موضوعها محفوظ في كلا الطرفين بخصوصه، فلا مانع من جريانه في كلا الطرفين، لكن عندما يكون الحكم الظاهري الثابت في كلا الطرفين المخالف للمعلوم بالإجمال، عندما يكون ثابتاً بالإمارة، هنا ذكر مانعاً من جريان الإمارة في الطرفين، لكنّ المانع الذي ذكره غير المانع الذي أشار إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذكر مانعاً آخر من جريان الإمارة في الطرفين، وهذا المانع هو التعارض، التعارض هو الذي يمنع من جريان الإمارة في كلا الطرفين، ولنمثّل بما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءين وقامت إمارة على نجاسة هذا بخصوصه، وقامت إمارة أخرى على نجاسة الطرف الآخر، يقول هنا لا تجري الإمارة؛ لأنّ الإمارة حجّة في مداليلها الالتزامية كما هي حجّة في مداليلها المطابقية، هذه الإمارة وإن كان مدلولها المطابقي هو نجاسة هذا الإناء بخصوصه، لكنّها بالدلالة الالتزامية تدلّ على طهارة الآخر، فيكون لها مدلولان، أحدهما مطابقي وهو نجاسة هذا، والتزامي وهو طهارة الآخر بضميمة العلم الإجمالي المفروض في محل الكلام بأنّ أحدهما طاهر، إذا ضممنا هذا العلم الإجمالي إلى الإمارة الدالة على نجاسة هذا الإناء سوف يتكوّن مدلول التزامي لهذه الإمارة وهو أنّ الإناء الآخر طاهر، فإذن، هذه الإمارة الجارية في هذا الطرف كما هي حجّة في مدلولها المطابقي هي حجّة في مدلولها الالتزامي، ومدلولها الالتزامي هو أنّ الإناء الآخر طاهر، فتعارض الإمارة الثانية الدالّة على نجاسة الطرف الآخر؛ لأنّ هذه الإمارة تدل على طهارة الطرف الآخر بينما الإمارة الأخرى تدلّ على نجاسته بالدلالة المطابقية، فيقع التعارض بين الدلالة الالتزامية لهذه الإمارة والدلالة المطابقية لتلك الإمارة، وهكذا العكس، تلك الإمارة الجارية في الطرف الآخر أيضاً لها مدلول التزامي وهو طهارة هذا الطرف، فتكون معارضة للإمارة الجارية في الطرف الأوّل بمدلولها المطابقي، فيكون هناك تعارض بين الإمارتين، وعند حصول التعارض بينهما؛ حينئذٍ لا يكون دليل الحجّية شاملاً لكلٍ منهما؛ لأنّ دليل الحجّية لا يمكن أن يشمل كلاً منهما للتنافي ولا يمكن أن يشمل أحدهما؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فيسقط دليل الحجّية حينئذٍ عن الشمول لكلٍ منهما، فتسقط الإمارتان عن الحجّية، وهذا هو المانع بنظره بالنسبة إلى جريان الإمارتين المخالفتين للمعلوم بالإجمال في أطراف العلم الإجمالي.
هذا الذي ذكره قال أنّه غير موجود في الاستصحاب؛ لأنّ مثبتات الاستصحاب ليست حجّة، الاستصحاب لا يكون حجّة في مدلوله الالتزامي، الاستصحاب الذي يجري في هذا الطرف الأوّل ويثبت نجاسته ليس له دلالة التزامية بطهارة الطرف الآخر حتّى يكون معارضاً للاستصحاب الذي يجري في الطرف الآخر، كلا، دلالته الالتزامية ليست حجّة؛ فحينئذٍ هذا الوجه الموجب لسقوط الإمارتين عن الحجّية في محل الكلام لا يجري في باب الاستصحاب، والفرق هو أنّ الإمارة حجّة في مداليلها الالتزامية، بينما الاستصحاب كسائر الأصول العملية الأخرى ليس حجّة في مدلوله الالتزامي.
هذا المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) كأنّه مانع إثباتي وليس مانعاً ثبوتياً؛ بل هو مانع ثبوتي مرتبط بدلالة الدليل الذي يثبت حكماً في الطرفين مخالفاً للحكم المعلوم بالإجمال، مؤدّى الإمارة ومؤدّى الاستصحاب هذا مانع إثباتي وهو غير المانع الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذاك مانع ثبوتي راجع إلى استحالة الجمع بين الإحراز التعبّدي والإحراز الوجداني بالنحو المذكور سابقاً؛ ولذا ذكره في عداد الموانع الثبوتية، بينما هذا المانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وإن كانت كلماته غير واضحة، لكن الظاهر أنّه مانع إثباتي، وهذا هو نفس المانع الذي سيأتي حيث أنّه في المسألة القادمة، وهي مسألة (جريان الأصول في بعض الأطراف) يصرّح بأنّه لا مانع ثبوتاً من جريان الأصول في بعض الأطراف،[2] لكنّ المانع إثباتي ويذكر التعارض كمانع إثباتي من جريان الأصل في أحد الطرفين، إذن، مسألة التعارض مانع إثباتي، نفس هذا المانع ذكره في محل الكلام، لكن عندما يُفترض أنّ الحكم الظاهري ثابت بالإمارة وليس ثابتاً بالأصول العملية الأخرى.
اقول: لا يبعُد أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يرتضي هذا المانع الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، كاحتمال هو لا يرتضي أنّ المانع ثبوتي في محل الكلام؛ بل يرى أنّ المانع إثباتي في محل الكلام، بمعنى أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) كأنّه يرى أنّ المانع من جريان الأصول العملية في الأطراف هو الترخيص في المخالفة القطعية فقط، هذا المانع الثبوتي. وهذا يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال تكليفاً له مخالفة عملية ولا يجري ذلك المانع الأوّل الذي ذكرناه فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً، السيد الخوئي(قدّس سرّه) لا يرى أنّ هناك مانعاً آخر ثبوتياً يمنع من جريان الأصول العملية حتّى الاستصحاب فيما إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً، لا يرى أنّ المانع ثبوتي، وإنّما يرى أنّ المانع في حالةٍ من هذا القبيل حيث لا تلزم مخالفة عملية، المانع منحصر بالتعارض، والتعارض إنّما يتم فيما إذا كان ما يثبت الحكم الظاهري في الطرفين حجّة في مثبتاته، حجّة في مداليله الالتزامية وهذا منحصر بالإمارات ولا يتم في الاستصحاب، إذن، السيد الخوئي(قدّس سرّه) في موارد العلم الإجمالي بالتكليف يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف للمانع الثبوتي المتقدّم نقله عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهو مسألة أنّ جريانه يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل. وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال حكماً ترخيصياً هو لا يرى مانعاً من جريان الأصول حتّى الاستصحاب في تمام الأطراف.
على كل حال، المانع الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بلسان أنّ الإحراز التعبّدي ببقاء الحالة السابقة في كلا الطرفين يستحيل أن يجتمع مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحد الطرفين، هذا لابدّ من تقييمه، هل هو مانع ثبوتي يمنع من جريان الأصول في الأطراف بقطع النظر عن المخالفة العملية ؟ بحيث يجري حتّى إذا لم يلزم من جريان الأصول في الأطراف مخالفة عملية، أو أنّه ليس كذلك ؟ هذا مطلب لابدّ من بحثه وهو مطلب مهم جدّاً؛ لأنّه من هنا يتبيّن أنّه لا يكفينا في أن ننكر وجود مانع ثبوتي من جريان الأصول مجرّد أن نقول كما نقلنا سابقاً وسيأتي أيضاً بأنّ هذا المانع الثبوتي مبني على أن يكون الحكم العقلي بالمنجّزية حكماً تنجيزياً، فإذا أنكرنا كونه تنجيزياً وقلنا بأنّ الحكم العقلي تعليقي، إذن، لا مانع ثبوتاً من جريان الأصول في تمام الأطراف، هذا الكلام لا يكفي؛ لأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) أبرز مانعاً آخر ليس له علاقة بالمخالفة العملية للتكليف المعلوم بالإجمال، هذا المانع الاخر يجري حتّى في الموارد التي لا يلزم من جريان الأصول في الأطراف الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بنظر العقل، عندما ينحصر المانع بالمانع الأوّل يجري هذا الجواب، وهو أنّ هذا مبني على أن يكون الحكم العقلي تنجيزياً وهو ليس كذلك وإنّما هو تعليقي، فلا منافاة ولا مشكلة في جريان الأصول في تمام الأطراف، هذا لا ينفع، لوجود مانع آخر يمنع من جريانه بقطع النظر عن مسألة الترخيص في المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لابدّ من بحث هذا المانع، أنّ هذا المانع تام، أو ليس بتام.
بعبارة أخرى: نطرح هذا السؤال: هل يستحيل بنظر العقل جريان أصلين من الأصول العملية التنزيلية؛ لأنّها هي مورد كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هو سلّم أنّه لا مانع من جريان الأصول العملية البحتة، هل يستحيل بنظر العقل جريان أصلين من الأصول العملية التنزيلية على خلاف العلم الإجمالي، بقطع النظر عن الترخيص في المخالفة العملية كما نصبّ الكلام على هذا المثال ما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءين إجمالاً مع العلم بأنّهما كانا نجسين، هل يدرك العقل استحالة جريان استصحاب النجاسة؛ لتوفر أركان الاستصحاب في كلٍ من الطرفين باعتبار أنّ هذا ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما ؟ حتّى نكون بعيدين عن مسألة المخالفة العملية. هل يدرك العقل استحالة هذا ؟ بحيث أنّ العالم بالإجمال بطهارة أحد الإناءين لا يتقبّل جريان الاستصحاب في كلا الطرفين، ويعتبره أمراً غير معقول ؟ الظاهر أنّه لا موجب لهذا، العقل لا يرى مانعاً من جريان الاستصحاب في كلا الطرفين بقطع النظر عن المخالفة العملية؛ وذلك:
أولاً: يمكن أن نجيب عن هذا بجوابٍ مبنائي، وتقدّم سابقاً أيضاً، وهو أنّ اصل فكرة جعل الطريقية وجعل العلمية وإلغاء احتمال الخلاف وتنزيل الشك منزلة العلم والإحراز الواقع، هذه غير مستفادة من دليل الاستصحاب، جعل الطريقية محل مناقشة كما تقدّم في الإمارات فضلاً عن الاستصحاب بهذا المعنى الذي يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هذا جواب مبنائي، سيأتي في باب الاستصحاب ما هو مؤدّى دليل الاستصحاب ؟ هل هو عبارة عن وظيفة عملية تُعطى للشاك الذي يشك في بقاء الحالة السابقة حتّى لا يبقى متردّداً في أمره، بحيث يكون حاله حال الأصول العملية الأخرى ؟ أو أنّ فيه جنبة إحرازٍ للواقع وتنزيل الشاك منزلة العالم وتنزيل مؤدى الاستصحاب منزلة الواقع وأمثال هذه التعابير، اصل المبنى ــــــــــــ جعل الطريقية ــــــــــــ هو غير مسلّم في الإمارات، فضلاً عن الاستصحاب. بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يكون هناك فرق بين الاستصحاب وبين سائر الأصول العملية الأخرى التي اعترف هو(قدّس سرّه) بجريانها في تمام الأطراف، وإنّما الذي منعه من ذلك في باب الاستصحاب باعتبار أنّه يرى أنّ الاستصحاب لسانه لسان إحراز الواقع، فإذا أنكرنا هذا اللّسان ولم يبقَ فرق بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية؛ فحينئذٍ تنتهي المشكلة. هذا هو الجواب المبنائي.
ثانياً: الجواب الآخر الذي قد يقال في المقام، حتّى إذا فرضنا أنّ مفاد الاستصحاب هو إحراز الواقع، فاستصحاب النجاسة في هذا الطرف مفاده إحراز الواقع، يعني إحراز الحالة السابقة التي هي النجاسة المتيقنة سابقاً، الظاهر أنّه أيضاً لا ينافي العلم الوجداني بطهارة أحد الإناءين؛ لأنّ هذا الإحراز مهما كان هو إحراز للواقع، إحراز للحالة السابقة، لكنّه يبقى إحرازاً تعبّدياً غير واقعي، إحراز تعبّدي للنجاسة في هذا الطرف، وإحراز تعبّدي للنجاسة في الطرف الآخر، فهو إحراز تعبّدي وليس إحرازاً واقعياً، إحراز واقعي ينافي العلم الوجداني بطهارة أحد الإناءين، لا يمكن الجمع بينهما بحيث يُحرز واقعاً نجاسة كل منهما، وأيضاً يحرز طهارة أحدهما، لا يمكن الجمع بينهما، أمّا الإحراز التعبّدي الذي فيه جانب التعبّد، يعني ليس إحرازاً واقعياً، هذا لا نرى مانعاً من أن يجتمع مع العلم الوجداني بطهارة أحدهما، ويمكن للمكلّف أن يصدّق أنّ أحدهما طاهر ويقول أنّ الشارع لمصالح يعلمها قال أنا أحرز لك النجاسة في هذا الإناء وأحرز لك النجاسة في هذا الإناء تعبّداً، يعني أبنِ على أنّ هذا الإناء نجس، أبنِ على أنّ هذا الإناء نجس بلسان إحراز الواقع لا يتنافى ظاهراً مع العلم الوجداني بأنّ أحدهما طاهر، يعني يمكن للمكلّف العالم بالإجمال بطهارة أحدهما أن يصدّق بأنّ الشارع جعل النجاسة الظاهرية في هذا الإناء وجعل النجاسة الظاهرية في هذا الإناء، في خلاف هذا المثال لا يمكنه أن يصدّق؛ لأنّ جعل الطهارة ظاهرية في كلا الإناءين عندما يكون عالماً بنجاسة أحدهما سوف يكون ترخيصاً في المخالفة القطعية وهي قبيحة بنظر العقل ويستحيل الترخيص في القبيح. هذا المانع الأوّل. لكن في عكسه لا يرى مانعاً من أنّه يعلم بطهارة أحد الإناءين، لكن الشارع يجعل حكماً ظاهرياً بالنجاسة هنا وحكماً ظاهرياً بالنجاسة هنا، سواء كان هذا بلسان الأصل العملي البحت، أو بلسان الأصل العملي التنزيلي. ومن هنا يبدو ـــــــــــــ والله العالم ـــــــــــــ أنّ النتيجة التي نصل إليها هي أنّه لابدّ أن نرجع إلى المانع الأوّل ونحاسبه، هل المانع الأوّل تام، أو لا ؟ يعني ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) وما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) أيضاً، قلنا أنّ كلاً منهما ادّعى المانع الثبوتي، لكنّ المانع الثبوتي إنّما يتم بناءً على دعواهما بناءً على أنّ حكم العقل بالاشتغال وبلزوم الامتثال والموافقة والمنجّزية التكليف المعلوم بالامتثال حكماً تنجيزياً غير معلّق، فلابدّ من بحث هذه النقطة حتّى نرى أنّ المانع في المقام هل هو مانع ثبوتي، أو ليس مانعاً ثبوتياً.