35/05/04
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام فيما إذا فُرضت أهمية أحد المحتملين، أو احتمال الأهمية بالنسبة إلى الآخر، فيقع الكلام في أنّ التخيير بين الفعل والترك ابتدائياً، أو استمرارياً على الخلاف هل يبقى على حاله ولا تُلاحظ الأهمية، أو احتمال الأهمية، أو يجب تقديم محتمل الأهمية، أو ما ثبت كونه أهم ؟
قلنا أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) في قوله الأوّل، وكذلك السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذهبوا إلى بقاء التخيير على حاله ولا مجال لملاحظة الأهمية، أو احتمال الأهمية، واستدلّ على ذلك بدليلين، الدليل الأوّل تقدّم في الدرس السابق، وكان حاصله هو: أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، وليس كذلك بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، بمعنى أنّ تأثير العلم الإجمالي وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، يعني معلّق على عدم وجود مانع يمنع من وجود هذا التأثير، بينما تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تأثير تنجيزي ليس معلّقاً على شيءٍ، إذن، العلم الإجمالي يؤثر في حرمة المخالفة القطعية، فتحرم المخالفة القطعية لهذا العلم، وهذا يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية. الذي يُراد إثباته في محل الكلام باعتبار أنّ هذا أهم، أو محتمل الأهمية، في مثالنا، الوجوب فرضاً، فيقال بأنّ هذا التكليف الأهم المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعية، وإن استلزم ذلك حرمة المخالفة القطعية، فهنا يقال أنّ وجوب الموافقة القطعية يمنع منه حرمة المخالفة القطعية المنجزة، والذي يكون تأثير العلم الإجمالي فيها تأثيراً تنجيزياً، بينما تأثير ذاك في وجوب الموافقة القطعية حتّى نلتزم بالموافقة القطعية معلّق على عدم وجود مانع والمانع موجود وهو حرمة المخالفة القطعية.
بعبارة أخرى: أنّ حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي الآخر يمنع من تأثير العلم الإجمالي الأوّل في وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني يقول أنّ الفعل حرام في اليوم الأوّل، والعلم الإجمالي الأوّل يقول الفعل إمّا واجب، أو حرام في اليوم الآخر، فهو يؤثر في وجوب الموافقة القطعية، فيجب الإتيان بالفعل، بينما وجوب الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي الأوّل هي عبارة عن مخالفة قطعية للعلم الإجمالي الثاني؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني يقول بأنّ الفعل حرام، إمّا حرام في هذا اليوم، أو واجب في اليوم الآخر، فيكون منافياً لحرمة المخالفة القطعية، فإذا كان تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تنجيزياً، إذن، فهو يمنع من المخالفة القطعية، فلا يؤثر العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فإذا لم يكن مؤثراً؛ فحينئذٍ كيف يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال، كيف يمكن إثباته ؟ التكليف الأهم المعلوم بالإجمال موافقته القطعية مستلزمة للمخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال أيضاً، وتأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تنجيزي، فيكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، وبناءً على هذا لا تلاحظ الأهمية ولا دليل على وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال، وإنّما الذي يثبت فقط هو حرمة المخالفة القطعية، وتقدّم أنّ حرمة المخالفة القطعية لكلا التكليفين هي التي تنتج وجوب الموافقة الاحتمالية، فيبقى المكلّف بين الفعل والترك ولا يتعيّن عليه الإتيان بالفعل لكون الوجوب معلوم الأهمية، أو محتمل الأهمية، يبقى هو مخيّر بين الفعل وبين الترك، لا يجب عليه إلاّ الموافقة الاحتمالية ويتحقق بالفعل كما يتحقق بالترك، لا دليل من العقل ينجّز عليه وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال.
لكن هذا الدليل لم يُشر إليه السيد الخوئي(قدّس سرّه) بشكلٍ واضح في ما نُقل من تقريراته، وإنّما الموجود في كلامه هو الدليل الثاني الذي سنذكره.
الدليل الثاني، وحاصله: أنّه في مقام الاستدلال على عدم ملاحظة الأهمية في محل الكلام، يقول: أنّ التزاحم بين الحكمين الذي يوجب التقديم على أساس الأهمية لا ينطبق في محل الكلام، وخلاصة كلامه: أنّ محل الكلام لا يدخل في باب التعارض، ولا يدخل في باب التزاحم، إذن، لا موجب للتقديم على أساس الأهمية، نقدّم الوجوب على التحريم ونلتزم بوجوب موافقته القطعية وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للتكليف المهم. أمّا أنّ المقام لا يدخل في باب التعارض، فواضح، باعتبار عدم وجود تنافي بين الحكمين في عالم الجعل الذي هو المناط والملاك في التعارض، ولا مانع من جعلهما، أن يكون الفعل واجباً على تقدير الحلف على فعله، ويكون الفعل حراماً على تقدير الحلف على تركه، وجوب السفر إذا حلف على فعله، وحرمة السفر إذا حلف على تركه، لا مانع من اجتماعهما ولا مانع من افتراض جعلين للوجوب والتحريم في محل الكلام، إذن، لا يدخل المقام في باب التعارض وهذا واضح. لكن لماذا لا يدخل في باب التزاحم الذي يكون التقديم فيه على اساس الأهمية، أو احتمال الأهمية ؟ يقول: لا يدخل في باب التزاحم باعتبار أنّ الحكمين المتزاحمين الذين يُقدّم أحدهما على الآخر على أساس الأهمية واحتمال الأهمية، التزاحم بينهما الموجب لهذا التقديم ينشأ من عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثاليهما، المكلّف غير قادر على أن يجمع بين امتثال هذا التكليف وامتثال التكليف الآخر. حكمان لا مانع من جعلهما وليس بينهما تعارض، لا تنافي بينهما في عالم الجعل، لكن يوجد بينهما تنافٍ في عالم الامتثال؛ لأنّ المكلّف له قدرة واحدة، إمّا أن يصرفها في امتثال هذا التكليف، أو يصرفها في امتثال التكليف الآخر، فينشأ التزاحم الموجب للتقديم على أساس الأهمية من عدم قدرة المكلّف على الجمع بين الامتثالين؛ وحينئذٍ تجري قواعد باب التزاحم، وقواعد باب التزاحم تقول: إن كان الحكمان متساويين من حيث الأهمية واحتمال الأهمية؛ فلابدّ من رفع اليد عن إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر؛ لأنّه لا يمكن أن نفترض أن يبقى هذا الحكم مطلقاً حتّى لحالة الاشتغال بالآخر، وهذا الحكم يبقى دليله مطلقاً حتّى لحالة الاشتغال بالأوّل، فلابدّ من تقييد إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، فيقال له صلِ إذا لم تُزل النجاسة، أو أزل النجاسة إذا لم تصلِ. هذا بناءً على فكرة الترتّب. وأمّا إذا كان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية؛ حينئذٍ الإطلاق الذي يكون ساقطاً هو إطلاق المهم، أمّا إطلاق الأهم فيبقى على حاله ولا موجب لسقوطه؛ وحينئذٍ يقيّد إطلاق المهم بعد سقوطه بعدم الاشتغال بالأهم، فالتقييد يكون من جانبٍ واحدٍ، فيكون الأهم مأموراً به على الإطلاق حتّى في حالة الاشتغال بالمهم، بمعنى أنّه يدعو المكلّف الذي يشتغل بالمهم إلى جانب الأهم، أمّا المهم فيقال له في حالة الاشتغال بالأهم هو لا يدعوه إلى المهم، وإنّما يدعوه إلى المهم على تقدير عدم الاشتغال بالأهم. هذه فكرة الترتّب.
هذا إذا كان لكلٍ منهما إطلاق، أمّا إذا لم يكن لكلٍ منهما إطلاق؛ حينئذٍ لابدّ أن نذهب إلى الملاك، حكمان تزاحما ليس فيهما إطلاق؛ حينئذٍ لابد أنّ نذهب إلى عالم الملاك، في هذه الحالة إذا فرضنا أنّ ملاك أحد الحكمين كان أهم، أو محتمل الأهمية؛ حينئذٍ يتعيّن تقديمه على الآخر، فيتقدّم الأهم ملاكاً على الآخر الذي هو أقل أهمية، أو لا يوجد فيه احتمال الأهمية في قبال الأوّل، ويقول: أنّ سرّه هو لأننا نقطع بجواز تفويت الملاك المهم لتحصيل الملاك الأهم، لكن هل يجوز تفويت الملاك الأهم لأجل تحصيل الملاك المهم، هذا لا يحكم به العقل ولا يُعلم جوازه؛ وحينئذٍ تصح العقوبة عليه من ناحية العقل، أن يفوّت الملاك الأهم لصالح الملاك المهم، أمّا أن يفوّت الملاك المهم لصالح الملاك الأهم، هذا قطعاً ليس فيه محذور، والعقل يحكم به، ولا تترتب عليه عقوبة، لكن تفويت الملاك الأهم لأجل تحصيل الملاك المهم هذا لا يحكم العقل بجوازه ؛ فحينئذٍ يستحق عليه العقاب والنتيجة هي لابدّ من تقديم الملاك الأهم، أو محتمل الأهمية، وإذا تساويا في الملاك؛ فحينئذٍ لابدّ من الالتزام بالتخيير، يتخيّر المكلّف بينهما، ينقذ هذا الغريق، أو يُنقذ هذا الغريق في فرض التساوي. هذا لا يجري في محل الكلام ــــــــــ هذا هو الجواب الحقيقي ـــــــــــ الجواب الثاني هو أنّ هذا لا يجري في محل الكلام حتّى يقال أننا هنا أيضاً نرجّح على أساس الأهمية، وذلك باعتبار أنّ المفروض في محل كلامنا أنّ الإطلاق في دليلي الحكمين باقٍ على حاله ولا موجب لرفع اليد عنه، ولا موجل للالتزام بسقوطه في أحدهما، لا في الأهم ولا في المهم، والسرّ في هذا أنّه في محل الكلام المكلّف يتمكّن من امتثال كلٍ منهما وقادر على أن يمتثل كلاً منهما، بخلاف باب التزاحم بين الصلاة وبين الإزالة، أو بين إنقاذ هذا الغريق، أو إنقاذ هذا الغريق، هناك المكلّف غير قادر على أن يمتثل كلاً منهما، بينما في محل الكلام المكلّف قادر على أن يمتثل كلاً منهما، هو قادر على أن يمتثل الوجوب بأن يأتي بالفعل في اليوم الأوّل، وهو قادر على أن يمتثل التحريم بأن يترك الفعل في اليوم الأوّل.
بعبارة أخرى: أنّ هذا التكليف الذي هو مكلّف به، إن كان هو الوجوب هو قادر على امتثاله، وإن كان هو التحريم، فهو أيضاً قادر على امتثاله، له القدرة على امتثال كلٍ منهما، بأن يأتي بالفعل، وأن يترك الفعل لا مشكلة في هذا وليس عنده ضيق في قدرته على امتثال كلٍ منهما، وإنّما الذي يوجد عنده هو أنّ إحراز امتثال التكليف الواقعي هو غير قادر عليه. هناك فرق بين قدرته على الامتثال واقعاً وبين إحرازه لتحقق الامتثال واقعاً، هو إذا جاء بالفعل هو قادر على الفعل، لكن لا يحرز تحقق الامتثال واقعاً؛ لأجل الاشتباه والاختلاط؛ لأنّ المفروض أنّه لا يدري أنّ التكليف المكلّف به هل هو الوجوب، أو التحريم، فإذا امتثل الوجوب هو لا يحرز تحقق الامتثال به؛ لأجل الاشتباه والاختلاط، إذا امتثل التحريم وترك الفعل هو قادر على امتثال التحريم واقعاً، لكنّه غير قادر على إحراز الامتثال واقعاً؛ لأنّه لا يعلم هل هو مكلّف بالفعل، أو مكلّف بترك الفعل، لذلك قالوا في المقام هو قادر على الامتثال ولا يكون حاله حال باب التزاحم الذي يُفترض فيه عدم القدرة على الامتثال، عدم القدرة على امتثال هذين التكليفين، في محل الكلام هو قادر على أن يمتثل هذين التكليفين، قادر على أن يمتثل الوجوب وقادر على أن يمتثل التحريم، بلحاظ العلم الإجمالي الأوّل قادر على أن يمتثل الوجوب وأن يمتثل التحريم، ولا مانع منهما؛ لأنّ العلم الإجمالي يقول له هذا إمّا واجب عليك يوم الخميس، أو حرام عليك يوم الجمعة، هو قادر على امتثال التكليف المعلوم بالإجمال الموجود بينهما، قادر على امتثال هذا الطرف وقادر على امتثال ذاك الطرف بأن يفعل في يوم الخميس ويترك يوم الجمعة، وهكذا الحال بالنسبة للعلم الإجمالي الآخر، فهو يعلم بأنّ الفعل إمّا حرام يوم الخميس، أو واجب يوم الجمعة، فهو قادر على امتثالهما، قادر على أن يترك الفعل في يوم الخميس ويأتي بالفعل في يوم الجمعة، إذن: كل علم إجمالي إذا لاحظناه هو قادر على امتثال كلا المحتملين فيه، وليس هناك مشكلة في أن يمتثل كلاً منهما، هو قادر واقعاً على امتثال كلا المحتملين في العلم الإجمالي، فأين التزاحم بينهما ؟
نعم، هو قادر على إحراز الامتثال، بأنّه هل يحرز الامتثال باليوم الأوّل بالفعل، أو يحرز الامتثال باليوم الثاني؛ لأنّ التكليف أساساً مشتبه وغير معلوم هل هو الوجوب حتّى يحرز امتثاله بالفعل في اليوم الأوّل، أو هو التحريم حتّى يحرز امتثاله بالترك في اليوم الثاني ؟ هو كان قادراً على هذا، لا أنّه غير قادر على أن يمتثل كلا المحتملين وكلا التكليفين في هذا العلم الإجمالي؛ لذا لا يدخل المقام في باب التزاحم؛ ولذا لا يمكن أن نلتزم بالترجيح في محل الكلام على أساس الأهمية، ولا يمكن أن نلتزم بتقييد إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، أو تقييد إطلاق المهم بحالة الاشتغال بالآخر دون الأهم، هنا لا يمكن أن نلتزم بذلك بأن نقول: أنّ التحريم مقيّد بعدم الاشتغال بالفعل، أمّا الوجوب فيبقى على إطلاقه، فهو يدعو المكلّف إلى الإتيان بالفعل، وهذا هو المقصود، أنّ الأهم لابدّ من الإتيان به ولو استلزم حرمة المخالفة القطعية للمهم، هو يقول: كلا؛ بل يبقى كل منهما على إطلاقه كما لو تساويا، يعني هذا يجر المكلّف لناحيته، يجرّه عن امتثال المهم إلى فعل الأهم، الأمر بالمهم أيضاً يدعو المكلّف إلى امتثاله وترك الأهم؛ لأنّ المقام لا يدخل في باب التزاحم؛ لأنّه لا موجب لهذا التقييد إلاّ عدم قدرة المكلّف على امتثال التكليفين.
نعم، في المقام يوجد حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال وإحراز الطاعة وتحصيل الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا حكم عقلي موجود وثابت، ولكنّ هذا الحكم العقلي يقول ثابت في جميع التكاليف الإلزامية، كما يجب الموافقة القطعية للوجوب، كذلك تجب الموافقة القطعية للحرمة، هذا حكم إلزامي، وهذا أيضاً حكم إلزامي، الحكم العقلي لا يفرّق بين الحكمين الإلزاميين بلحاظ وجوب الموافقة القطعية وبلحاظ لزوم الطاعة وأمثال هذه الأمور، سواء كان أحدهما أهم من الآخر، أو كانا متساويين، ولا داعي للالتزام بالموافقة القطعية لهذا التكليف حتّى إن استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر، فبالتالي لا إطلاق الحكمين يكون مقيداً بعدم الاشتغال بالآخر، كما أنّه بلحاظ الحكم العقلي لا فرق بنظر العقل بين هذين الحكمين، وإن كان أحدهما أهم من الآخر؛ بل لابدّ أن نلحظ هذا الحكم العقلي بوجوب الموافقة القطعية، فيأتي الكلام الذي ذُكر سابقاً، وهو أنّ الموافقة القطعية لكلٍ منهما غير ممكنّة؛ فحينئذٍ يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، ولكن بما أنّ المخالفة القطعية ممكنة بحسب الفرض للتكليف المعلوم بالإجمال في كل واحد من العلمين، فالعلم الإجمالي ينجّز هذه المخالفة القطعية، تتنجّز المخالفة القطعية في كل واحد من العلمين، فيأتي حينئذٍ الكلام السابق أنّ هذا يؤدي إلى لزوم الالتزام بوجوب الموافقة الاحتمالية، يحرم على المكلّف مخالفة العلم الإجمالي الأوّل، ويحرم عليه مخالفة العلم الإجمالي الثاني، بأن تفعل في كلا اليومين، أو تترك في كلا اليومين؛ حينئذٍ لا يكون المكلّف قد خالفهما قطعاً، حرمة المخالفة القطعية تتنجّز بهذين العلمين وهذا ينتج وجوب الموافقة الاحتمالية، ومعناها التخيير بينهما، أي أن المكلّف مخيّر بين الفعل والترك ولا يتعيّن عليه الفعل بمجرّد أنّ الوجوب محتمل الأهمية بالنسبة إلى التحريم؛ بل يبقى الحكم العقلي على حاله كما كان في السابق، كما كان في فرض التساوي أيضاً يثبت في فرض المقام وهو أنّ وجوب الموافقة القطعية يسقط، والعلم الإجمالي لا ينجّزها لعدم إمكانها، والمخالفة القطعية حيث أنّها ممكنة العلم الإجمالي ينجّز حرمتها في كلٍ من العلمين وهذا ينتج وجوب الموافقة الاحتمالية، فما هو الدليل على تقديم التكليف الأهم المعلوم بالإجمال على التكليف المهم المعلوم بالإجمال ؟ هذا الوجه الثاني الذي يستفاد من كلمات السيد الخوئي(قدّس سرّه)، هناك وجهان لعدم رعاية الأهمية، وأنّ النتيجة واحدة سواء تساوى المحتملان في الأهمية، أو كان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية بالنسبة إلى الآخر.
بالنسبة إلى الوجه الأوّل الذي ذُكر، اعترض عليه: بأنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، بناءً على الاقتضاء، بينما تأثيره في حرمة المخالفة القطعية تأثير تنجيزي، وتسلسل في كلامه أنّ العلم الإجمالي يؤثر في حرمة المخالفة القطعية ويمنع من تأثيره في وجوب الموافقة القطعية.
الاعتراض الأوّل هو أنّ تعليقية تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية عندما يقال بأنّها تأثير تعليقي لا يُراد به أنّه معلّق على عدم تأثير المقتضي العقلي الآخر، بمعنى أنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية معلّق على عدم تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية، وعدم كون تأثيره تنجيزياً، بحيث أنّه بمجرّد أن يؤثر العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية يكون مانعاً عن تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، ليس هذا هو المقصود به، المصّرح به في كلمات القائلين بالاقتضاء أنّه تعليقي بمعنى أنّه معلّق على عدم ورود ترخيصٍ من قبل الشارع في المخالفة القطعية، في قبال القائل بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية يقول لا يُعقل ورود ترخيص، القائل بالاقتضاء والتعليقية يقول العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية إلاّ إذا رخّص الشارع في ترك الموافقة القطعية، العلم الإجمالي يحكم بلزوم الموافقة القطعية، لكن معلّقاً على عدم ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية، عدم ورود ترخيص من قبل الشارع في ترك الموافقة القطعية لا أنّه معلّق على عدم تأثير المقتضي العقلي الآخر في حرمة المخالفة القطعية بحيث بمجرّد أن يؤثر تأثير تنجيزي هو يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، وإنّما هو معلّق على عدم ورود ترخيص من قبل الشارع في ترك الموافقة القطعية، والمفروض في محل كلامنا عدم ورود ترخيص، في كلا الجانبين لا يوجد ترخيص، لم يرد ترخيص في ترك الموافقة القطعية، ولا ورد ترخيص من قبل الشارع في فعل المخالفة القطعية، المفروض في محل كلامنا عدم ورود ترخيص من قبل الشارع، إذا تحقق ما عُلّق عليه التأثير يكون التأثير تنجيزياً، صحيح هو أساساً معلّق على عدم ورود ترخيص، لكن هذا محقق وثابت، فإذا تحقق المعلّق عليه يكون تأثير المعلّق عليه في وجوب الموافقة القطعية أيضاً تأثيراً تنجيزياً، كما أنّ تأثيره في حرمة المخالفة يكون تنجيزياً، إذن: حينئذٍ يكون حديث التعليق وتنجيزية هذا تكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية غير صحيح؛ بل كل منهما يكون تنجيزياً وتأثيره تنجيزياً ويكون التزاحم حينئذٍ بين مقتضيين تنجيزيين وليس بين مقتضيين أحدهما تنجيزي والآخر تعليقي حتّى يقال أنّ هذا التنجيزي يمنع من تأثير المقتضي التعليقي فيما يقتضيه؛ بل كل منهما تأثيره تنجيزي بين مقتضيين تنجيزيين لا كما ذُكر في الوجه الأوّل. هذه ملاحظة بالنسبة إلى الوجه الأوّل.
كان الكلام فيما إذا فُرضت أهمية أحد المحتملين، أو احتمال الأهمية بالنسبة إلى الآخر، فيقع الكلام في أنّ التخيير بين الفعل والترك ابتدائياً، أو استمرارياً على الخلاف هل يبقى على حاله ولا تُلاحظ الأهمية، أو احتمال الأهمية، أو يجب تقديم محتمل الأهمية، أو ما ثبت كونه أهم ؟
قلنا أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) في قوله الأوّل، وكذلك السيد الخوئي(قدّس سرّه) ذهبوا إلى بقاء التخيير على حاله ولا مجال لملاحظة الأهمية، أو احتمال الأهمية، واستدلّ على ذلك بدليلين، الدليل الأوّل تقدّم في الدرس السابق، وكان حاصله هو: أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، وليس كذلك بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، بمعنى أنّ تأثير العلم الإجمالي وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، يعني معلّق على عدم وجود مانع يمنع من وجود هذا التأثير، بينما تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تأثير تنجيزي ليس معلّقاً على شيءٍ، إذن، العلم الإجمالي يؤثر في حرمة المخالفة القطعية، فتحرم المخالفة القطعية لهذا العلم، وهذا يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية. الذي يُراد إثباته في محل الكلام باعتبار أنّ هذا أهم، أو محتمل الأهمية، في مثالنا، الوجوب فرضاً، فيقال بأنّ هذا التكليف الأهم المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعية، وإن استلزم ذلك حرمة المخالفة القطعية، فهنا يقال أنّ وجوب الموافقة القطعية يمنع منه حرمة المخالفة القطعية المنجزة، والذي يكون تأثير العلم الإجمالي فيها تأثيراً تنجيزياً، بينما تأثير ذاك في وجوب الموافقة القطعية حتّى نلتزم بالموافقة القطعية معلّق على عدم وجود مانع والمانع موجود وهو حرمة المخالفة القطعية.
بعبارة أخرى: أنّ حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي الآخر يمنع من تأثير العلم الإجمالي الأوّل في وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني يقول أنّ الفعل حرام في اليوم الأوّل، والعلم الإجمالي الأوّل يقول الفعل إمّا واجب، أو حرام في اليوم الآخر، فهو يؤثر في وجوب الموافقة القطعية، فيجب الإتيان بالفعل، بينما وجوب الموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي الأوّل هي عبارة عن مخالفة قطعية للعلم الإجمالي الثاني؛ لأنّ العلم الإجمالي الثاني يقول بأنّ الفعل حرام، إمّا حرام في هذا اليوم، أو واجب في اليوم الآخر، فيكون منافياً لحرمة المخالفة القطعية، فإذا كان تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تنجيزياً، إذن، فهو يمنع من المخالفة القطعية، فلا يؤثر العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، فإذا لم يكن مؤثراً؛ فحينئذٍ كيف يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال، كيف يمكن إثباته ؟ التكليف الأهم المعلوم بالإجمال موافقته القطعية مستلزمة للمخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال أيضاً، وتأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تنجيزي، فيكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، وبناءً على هذا لا تلاحظ الأهمية ولا دليل على وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال، وإنّما الذي يثبت فقط هو حرمة المخالفة القطعية، وتقدّم أنّ حرمة المخالفة القطعية لكلا التكليفين هي التي تنتج وجوب الموافقة الاحتمالية، فيبقى المكلّف بين الفعل والترك ولا يتعيّن عليه الإتيان بالفعل لكون الوجوب معلوم الأهمية، أو محتمل الأهمية، يبقى هو مخيّر بين الفعل وبين الترك، لا يجب عليه إلاّ الموافقة الاحتمالية ويتحقق بالفعل كما يتحقق بالترك، لا دليل من العقل ينجّز عليه وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال.
لكن هذا الدليل لم يُشر إليه السيد الخوئي(قدّس سرّه) بشكلٍ واضح في ما نُقل من تقريراته، وإنّما الموجود في كلامه هو الدليل الثاني الذي سنذكره.
الدليل الثاني، وحاصله: أنّه في مقام الاستدلال على عدم ملاحظة الأهمية في محل الكلام، يقول: أنّ التزاحم بين الحكمين الذي يوجب التقديم على أساس الأهمية لا ينطبق في محل الكلام، وخلاصة كلامه: أنّ محل الكلام لا يدخل في باب التعارض، ولا يدخل في باب التزاحم، إذن، لا موجب للتقديم على أساس الأهمية، نقدّم الوجوب على التحريم ونلتزم بوجوب موافقته القطعية وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للتكليف المهم. أمّا أنّ المقام لا يدخل في باب التعارض، فواضح، باعتبار عدم وجود تنافي بين الحكمين في عالم الجعل الذي هو المناط والملاك في التعارض، ولا مانع من جعلهما، أن يكون الفعل واجباً على تقدير الحلف على فعله، ويكون الفعل حراماً على تقدير الحلف على تركه، وجوب السفر إذا حلف على فعله، وحرمة السفر إذا حلف على تركه، لا مانع من اجتماعهما ولا مانع من افتراض جعلين للوجوب والتحريم في محل الكلام، إذن، لا يدخل المقام في باب التعارض وهذا واضح. لكن لماذا لا يدخل في باب التزاحم الذي يكون التقديم فيه على اساس الأهمية، أو احتمال الأهمية ؟ يقول: لا يدخل في باب التزاحم باعتبار أنّ الحكمين المتزاحمين الذين يُقدّم أحدهما على الآخر على أساس الأهمية واحتمال الأهمية، التزاحم بينهما الموجب لهذا التقديم ينشأ من عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثاليهما، المكلّف غير قادر على أن يجمع بين امتثال هذا التكليف وامتثال التكليف الآخر. حكمان لا مانع من جعلهما وليس بينهما تعارض، لا تنافي بينهما في عالم الجعل، لكن يوجد بينهما تنافٍ في عالم الامتثال؛ لأنّ المكلّف له قدرة واحدة، إمّا أن يصرفها في امتثال هذا التكليف، أو يصرفها في امتثال التكليف الآخر، فينشأ التزاحم الموجب للتقديم على أساس الأهمية من عدم قدرة المكلّف على الجمع بين الامتثالين؛ وحينئذٍ تجري قواعد باب التزاحم، وقواعد باب التزاحم تقول: إن كان الحكمان متساويين من حيث الأهمية واحتمال الأهمية؛ فلابدّ من رفع اليد عن إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر؛ لأنّه لا يمكن أن نفترض أن يبقى هذا الحكم مطلقاً حتّى لحالة الاشتغال بالآخر، وهذا الحكم يبقى دليله مطلقاً حتّى لحالة الاشتغال بالأوّل، فلابدّ من تقييد إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، فيقال له صلِ إذا لم تُزل النجاسة، أو أزل النجاسة إذا لم تصلِ. هذا بناءً على فكرة الترتّب. وأمّا إذا كان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية؛ حينئذٍ الإطلاق الذي يكون ساقطاً هو إطلاق المهم، أمّا إطلاق الأهم فيبقى على حاله ولا موجب لسقوطه؛ وحينئذٍ يقيّد إطلاق المهم بعد سقوطه بعدم الاشتغال بالأهم، فالتقييد يكون من جانبٍ واحدٍ، فيكون الأهم مأموراً به على الإطلاق حتّى في حالة الاشتغال بالمهم، بمعنى أنّه يدعو المكلّف الذي يشتغل بالمهم إلى جانب الأهم، أمّا المهم فيقال له في حالة الاشتغال بالأهم هو لا يدعوه إلى المهم، وإنّما يدعوه إلى المهم على تقدير عدم الاشتغال بالأهم. هذه فكرة الترتّب.
هذا إذا كان لكلٍ منهما إطلاق، أمّا إذا لم يكن لكلٍ منهما إطلاق؛ حينئذٍ لابدّ أن نذهب إلى الملاك، حكمان تزاحما ليس فيهما إطلاق؛ حينئذٍ لابد أنّ نذهب إلى عالم الملاك، في هذه الحالة إذا فرضنا أنّ ملاك أحد الحكمين كان أهم، أو محتمل الأهمية؛ حينئذٍ يتعيّن تقديمه على الآخر، فيتقدّم الأهم ملاكاً على الآخر الذي هو أقل أهمية، أو لا يوجد فيه احتمال الأهمية في قبال الأوّل، ويقول: أنّ سرّه هو لأننا نقطع بجواز تفويت الملاك المهم لتحصيل الملاك الأهم، لكن هل يجوز تفويت الملاك الأهم لأجل تحصيل الملاك المهم، هذا لا يحكم به العقل ولا يُعلم جوازه؛ وحينئذٍ تصح العقوبة عليه من ناحية العقل، أن يفوّت الملاك الأهم لصالح الملاك المهم، أمّا أن يفوّت الملاك المهم لصالح الملاك الأهم، هذا قطعاً ليس فيه محذور، والعقل يحكم به، ولا تترتب عليه عقوبة، لكن تفويت الملاك الأهم لأجل تحصيل الملاك المهم هذا لا يحكم العقل بجوازه ؛ فحينئذٍ يستحق عليه العقاب والنتيجة هي لابدّ من تقديم الملاك الأهم، أو محتمل الأهمية، وإذا تساويا في الملاك؛ فحينئذٍ لابدّ من الالتزام بالتخيير، يتخيّر المكلّف بينهما، ينقذ هذا الغريق، أو يُنقذ هذا الغريق في فرض التساوي. هذا لا يجري في محل الكلام ــــــــــ هذا هو الجواب الحقيقي ـــــــــــ الجواب الثاني هو أنّ هذا لا يجري في محل الكلام حتّى يقال أننا هنا أيضاً نرجّح على أساس الأهمية، وذلك باعتبار أنّ المفروض في محل كلامنا أنّ الإطلاق في دليلي الحكمين باقٍ على حاله ولا موجب لرفع اليد عنه، ولا موجل للالتزام بسقوطه في أحدهما، لا في الأهم ولا في المهم، والسرّ في هذا أنّه في محل الكلام المكلّف يتمكّن من امتثال كلٍ منهما وقادر على أن يمتثل كلاً منهما، بخلاف باب التزاحم بين الصلاة وبين الإزالة، أو بين إنقاذ هذا الغريق، أو إنقاذ هذا الغريق، هناك المكلّف غير قادر على أن يمتثل كلاً منهما، بينما في محل الكلام المكلّف قادر على أن يمتثل كلاً منهما، هو قادر على أن يمتثل الوجوب بأن يأتي بالفعل في اليوم الأوّل، وهو قادر على أن يمتثل التحريم بأن يترك الفعل في اليوم الأوّل.
بعبارة أخرى: أنّ هذا التكليف الذي هو مكلّف به، إن كان هو الوجوب هو قادر على امتثاله، وإن كان هو التحريم، فهو أيضاً قادر على امتثاله، له القدرة على امتثال كلٍ منهما، بأن يأتي بالفعل، وأن يترك الفعل لا مشكلة في هذا وليس عنده ضيق في قدرته على امتثال كلٍ منهما، وإنّما الذي يوجد عنده هو أنّ إحراز امتثال التكليف الواقعي هو غير قادر عليه. هناك فرق بين قدرته على الامتثال واقعاً وبين إحرازه لتحقق الامتثال واقعاً، هو إذا جاء بالفعل هو قادر على الفعل، لكن لا يحرز تحقق الامتثال واقعاً؛ لأجل الاشتباه والاختلاط؛ لأنّ المفروض أنّه لا يدري أنّ التكليف المكلّف به هل هو الوجوب، أو التحريم، فإذا امتثل الوجوب هو لا يحرز تحقق الامتثال به؛ لأجل الاشتباه والاختلاط، إذا امتثل التحريم وترك الفعل هو قادر على امتثال التحريم واقعاً، لكنّه غير قادر على إحراز الامتثال واقعاً؛ لأنّه لا يعلم هل هو مكلّف بالفعل، أو مكلّف بترك الفعل، لذلك قالوا في المقام هو قادر على الامتثال ولا يكون حاله حال باب التزاحم الذي يُفترض فيه عدم القدرة على الامتثال، عدم القدرة على امتثال هذين التكليفين، في محل الكلام هو قادر على أن يمتثل هذين التكليفين، قادر على أن يمتثل الوجوب وقادر على أن يمتثل التحريم، بلحاظ العلم الإجمالي الأوّل قادر على أن يمتثل الوجوب وأن يمتثل التحريم، ولا مانع منهما؛ لأنّ العلم الإجمالي يقول له هذا إمّا واجب عليك يوم الخميس، أو حرام عليك يوم الجمعة، هو قادر على امتثال التكليف المعلوم بالإجمال الموجود بينهما، قادر على امتثال هذا الطرف وقادر على امتثال ذاك الطرف بأن يفعل في يوم الخميس ويترك يوم الجمعة، وهكذا الحال بالنسبة للعلم الإجمالي الآخر، فهو يعلم بأنّ الفعل إمّا حرام يوم الخميس، أو واجب يوم الجمعة، فهو قادر على امتثالهما، قادر على أن يترك الفعل في يوم الخميس ويأتي بالفعل في يوم الجمعة، إذن: كل علم إجمالي إذا لاحظناه هو قادر على امتثال كلا المحتملين فيه، وليس هناك مشكلة في أن يمتثل كلاً منهما، هو قادر واقعاً على امتثال كلا المحتملين في العلم الإجمالي، فأين التزاحم بينهما ؟
نعم، هو قادر على إحراز الامتثال، بأنّه هل يحرز الامتثال باليوم الأوّل بالفعل، أو يحرز الامتثال باليوم الثاني؛ لأنّ التكليف أساساً مشتبه وغير معلوم هل هو الوجوب حتّى يحرز امتثاله بالفعل في اليوم الأوّل، أو هو التحريم حتّى يحرز امتثاله بالترك في اليوم الثاني ؟ هو كان قادراً على هذا، لا أنّه غير قادر على أن يمتثل كلا المحتملين وكلا التكليفين في هذا العلم الإجمالي؛ لذا لا يدخل المقام في باب التزاحم؛ ولذا لا يمكن أن نلتزم بالترجيح في محل الكلام على أساس الأهمية، ولا يمكن أن نلتزم بتقييد إطلاق كلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، أو تقييد إطلاق المهم بحالة الاشتغال بالآخر دون الأهم، هنا لا يمكن أن نلتزم بذلك بأن نقول: أنّ التحريم مقيّد بعدم الاشتغال بالفعل، أمّا الوجوب فيبقى على إطلاقه، فهو يدعو المكلّف إلى الإتيان بالفعل، وهذا هو المقصود، أنّ الأهم لابدّ من الإتيان به ولو استلزم حرمة المخالفة القطعية للمهم، هو يقول: كلا؛ بل يبقى كل منهما على إطلاقه كما لو تساويا، يعني هذا يجر المكلّف لناحيته، يجرّه عن امتثال المهم إلى فعل الأهم، الأمر بالمهم أيضاً يدعو المكلّف إلى امتثاله وترك الأهم؛ لأنّ المقام لا يدخل في باب التزاحم؛ لأنّه لا موجب لهذا التقييد إلاّ عدم قدرة المكلّف على امتثال التكليفين.
نعم، في المقام يوجد حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال وإحراز الطاعة وتحصيل الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، وهذا حكم عقلي موجود وثابت، ولكنّ هذا الحكم العقلي يقول ثابت في جميع التكاليف الإلزامية، كما يجب الموافقة القطعية للوجوب، كذلك تجب الموافقة القطعية للحرمة، هذا حكم إلزامي، وهذا أيضاً حكم إلزامي، الحكم العقلي لا يفرّق بين الحكمين الإلزاميين بلحاظ وجوب الموافقة القطعية وبلحاظ لزوم الطاعة وأمثال هذه الأمور، سواء كان أحدهما أهم من الآخر، أو كانا متساويين، ولا داعي للالتزام بالموافقة القطعية لهذا التكليف حتّى إن استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر، فبالتالي لا إطلاق الحكمين يكون مقيداً بعدم الاشتغال بالآخر، كما أنّه بلحاظ الحكم العقلي لا فرق بنظر العقل بين هذين الحكمين، وإن كان أحدهما أهم من الآخر؛ بل لابدّ أن نلحظ هذا الحكم العقلي بوجوب الموافقة القطعية، فيأتي الكلام الذي ذُكر سابقاً، وهو أنّ الموافقة القطعية لكلٍ منهما غير ممكنّة؛ فحينئذٍ يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، ولكن بما أنّ المخالفة القطعية ممكنة بحسب الفرض للتكليف المعلوم بالإجمال في كل واحد من العلمين، فالعلم الإجمالي ينجّز هذه المخالفة القطعية، تتنجّز المخالفة القطعية في كل واحد من العلمين، فيأتي حينئذٍ الكلام السابق أنّ هذا يؤدي إلى لزوم الالتزام بوجوب الموافقة الاحتمالية، يحرم على المكلّف مخالفة العلم الإجمالي الأوّل، ويحرم عليه مخالفة العلم الإجمالي الثاني، بأن تفعل في كلا اليومين، أو تترك في كلا اليومين؛ حينئذٍ لا يكون المكلّف قد خالفهما قطعاً، حرمة المخالفة القطعية تتنجّز بهذين العلمين وهذا ينتج وجوب الموافقة الاحتمالية، ومعناها التخيير بينهما، أي أن المكلّف مخيّر بين الفعل والترك ولا يتعيّن عليه الفعل بمجرّد أنّ الوجوب محتمل الأهمية بالنسبة إلى التحريم؛ بل يبقى الحكم العقلي على حاله كما كان في السابق، كما كان في فرض التساوي أيضاً يثبت في فرض المقام وهو أنّ وجوب الموافقة القطعية يسقط، والعلم الإجمالي لا ينجّزها لعدم إمكانها، والمخالفة القطعية حيث أنّها ممكنة العلم الإجمالي ينجّز حرمتها في كلٍ من العلمين وهذا ينتج وجوب الموافقة الاحتمالية، فما هو الدليل على تقديم التكليف الأهم المعلوم بالإجمال على التكليف المهم المعلوم بالإجمال ؟ هذا الوجه الثاني الذي يستفاد من كلمات السيد الخوئي(قدّس سرّه)، هناك وجهان لعدم رعاية الأهمية، وأنّ النتيجة واحدة سواء تساوى المحتملان في الأهمية، أو كان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية بالنسبة إلى الآخر.
بالنسبة إلى الوجه الأوّل الذي ذُكر، اعترض عليه: بأنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، بناءً على الاقتضاء، بينما تأثيره في حرمة المخالفة القطعية تأثير تنجيزي، وتسلسل في كلامه أنّ العلم الإجمالي يؤثر في حرمة المخالفة القطعية ويمنع من تأثيره في وجوب الموافقة القطعية.
الاعتراض الأوّل هو أنّ تعليقية تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية عندما يقال بأنّها تأثير تعليقي لا يُراد به أنّه معلّق على عدم تأثير المقتضي العقلي الآخر، بمعنى أنّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية معلّق على عدم تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية، وعدم كون تأثيره تنجيزياً، بحيث أنّه بمجرّد أن يؤثر العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية يكون مانعاً عن تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، ليس هذا هو المقصود به، المصّرح به في كلمات القائلين بالاقتضاء أنّه تعليقي بمعنى أنّه معلّق على عدم ورود ترخيصٍ من قبل الشارع في المخالفة القطعية، في قبال القائل بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية يقول لا يُعقل ورود ترخيص، القائل بالاقتضاء والتعليقية يقول العلم الإجمالي مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية إلاّ إذا رخّص الشارع في ترك الموافقة القطعية، العلم الإجمالي يحكم بلزوم الموافقة القطعية، لكن معلّقاً على عدم ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية، عدم ورود ترخيص من قبل الشارع في ترك الموافقة القطعية لا أنّه معلّق على عدم تأثير المقتضي العقلي الآخر في حرمة المخالفة القطعية بحيث بمجرّد أن يؤثر تأثير تنجيزي هو يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، وإنّما هو معلّق على عدم ورود ترخيص من قبل الشارع في ترك الموافقة القطعية، والمفروض في محل كلامنا عدم ورود ترخيص، في كلا الجانبين لا يوجد ترخيص، لم يرد ترخيص في ترك الموافقة القطعية، ولا ورد ترخيص من قبل الشارع في فعل المخالفة القطعية، المفروض في محل كلامنا عدم ورود ترخيص من قبل الشارع، إذا تحقق ما عُلّق عليه التأثير يكون التأثير تنجيزياً، صحيح هو أساساً معلّق على عدم ورود ترخيص، لكن هذا محقق وثابت، فإذا تحقق المعلّق عليه يكون تأثير المعلّق عليه في وجوب الموافقة القطعية أيضاً تأثيراً تنجيزياً، كما أنّ تأثيره في حرمة المخالفة يكون تنجيزياً، إذن: حينئذٍ يكون حديث التعليق وتنجيزية هذا تكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية غير صحيح؛ بل كل منهما يكون تنجيزياً وتأثيره تنجيزياً ويكون التزاحم حينئذٍ بين مقتضيين تنجيزيين وليس بين مقتضيين أحدهما تنجيزي والآخر تعليقي حتّى يقال أنّ هذا التنجيزي يمنع من تأثير المقتضي التعليقي فيما يقتضيه؛ بل كل منهما تأثيره تنجيزي بين مقتضيين تنجيزيين لا كما ذُكر في الوجه الأوّل. هذه ملاحظة بالنسبة إلى الوجه الأوّل.