35/03/24
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الرابع
كان الكلام في النحو الثالث: وهو ما إذا كان الحكم متعلّقاً بتمام الأفراد على نحو الارتباط بنحو العموم المجموعي. هنا إذا كانت الشبهة وجوبية، فلا إشكال عندهم في جريان البراءة عند الشكّ في مصداقية فردٍ للعنوان بنحو الشبهة الموضوعية، باعتبار أنّ هذا شكّ في التكليف، ولو كان شكّاً في التكليف الضمني، وشكّاً أيضاً في سعة دائرة المحرّكية وضيقها، وقالوا أنّ هذه المسألة تدخل في كبرىدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، ومشهور المتأخرين ذهبوا إلى جريان البراءة لنفي الزائد على الأقل، يعني البراءة عن وجوب الأكثر.
الكلام في الشبهة التحريمية: ــــــــــ مثلاً ـــــــــ نفترض أنّ المفسدة التي ينشأ منها النهي كانت موجودة وقائمة في مجموع الأفعال بنحو الارتباط لا بكل فعلٍ من هذه الأفعال، وإنّما مجموع الأفعال فيها مفسدة، فيتعلّق النهي بمجموع هذه الأفعال، للتوضيح: لو فرضنا ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ من قبيل النهي عن أكل السمك، وشرب اللّبن، يتعلّق النهي بمجموع الأفعال لا بكل واحدٍ واحدٍ منها، امتثال هذا النهي المتعلّق بمجموع الأفعال يتحققّ بترك واحدٍ من هذه الأفعال، فإذا ترك واحدٍ من هذه الأفعال يكون قد امتثل النهي حتّى إذا فعل الباقي، المهم أنْ يترك المجموع، وترك المجموع يتحقق بترك واحدٍ من هذا المجموع. أمّا عصيان النهي فيتوقّف على ترك الجميع، فلا يكون عاصياً إلاّ إذا ترك الجميع، وأمّا إذا ترك المعظم وجاء بالبعض، فلا يكون عاصياً؛ بل يكون ممتثلاً. والكلام هو في ما إذا شُكّ في مصداقية فردٍ لمتعلّق التكليف، في مثل هذه الحالة؛ حينئذٍ يقال: هل يكفي في امتثال النهي ترك هذا الفرد المشكوك، حتّى إذا جاء بتمام الأفراد الأخرى، أو لا ؟ هل الفرد المشكوك كالفرد الذي يُعلم كونه مصداقاً للمتعلّق في أنّ تركه يحقق امتثال النهي ولو جاء بباقي الأفراد، أو لا يجوز له الاكتفاء بترك الفرد المشكوك والمجيء بسائر الأفراد الأخرى ؟
بعبارةٍ أخرى: هل يجوز للمكلّف أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ــــــــــــ والمقصود من كونها معلومة يعني معلوم كونها مصداقاً لمتعلّق النهي ــــــــــــــ والاكتفاء في امتثال النهي بترك الفرد المشكوك استناداً إلى البراءة، باعتبار عدم العلم بحرمة فعل الأفراد المعلومة، أي لا يعلم بحرّمة المجموع، فيجوز له ارتكابها جميعاً استناداً إلى البراءة، أمّا لماذا لا يعلم بحرمة الأفراد المعلومة ؟ فذلك لأنّه يحتمل أنْ يكون هذا الفرد المشكوك مصداقاً للعنوان، ومصداقاً لمتعلّق التكليف، وإذا كان مصداقاً لمتعلّق التكليف، جاز له ارتكاب الأفراد المعلومة وترك هذا الفرد الذي فُرض كونه مصداقاً للعنوان المتعلّق به التكليف، هذا يجعله في حالة شكٍّ في أنّه هل يحرم عليه ارتكاب الأفراد المعلومة، أو لا يحرم عليه ؟
إذن: هو يشكّ في حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة، فتجري البراءة للتأمين من ناحية هذه الحرمة، أو أنّ البراءة هل تجري للتأمين من ناحية حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة والاكتفاء بترك الفرد المشكوك وبهذا يكون قد امتثل النهي المتعلّق بالمجموع، هل يجوز له ذلك، أو لا يجوز له ذلك ؟ بل لابدّ من ترك واحدٍ من الأفراد المعلومة حتّى يكون ممتثلاً للنهي المتعلّق بالمجموع، ولا يجوز له الاكتفاء بترك الفرد المشكوك مع ارتكاب الأفراد المعلومة، هذا محل الكلام.
هنا يوجد رأيان:
الرأي الأوّل: أنّ هذا يكون مورداً لجريان البراءة، أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهات التحريمية هو حاله حال دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهات الوجوبية، كما تجري البراءة هناك تجري البراءة في محل الكلام، وعليه، فيجوز للمكلّف ارتكاب جميع الأفراد المعلومة والاكتفاء بترك الفرد المشكوك، باعتبار أنّ هذا الشكّ كما قلنا وقالوا يرجع إلى الشكّ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، والمختار في تلك المسألة هو جريان البراءة في كلٍ من الشبهة في باب الواجبات وفي باب المحرّمات، غاية الأمر أنّ البراءة في الشبهة الوجوبية تجري لنفي وجوب الأكثر، أو نعبّر عنه وجوب الزائد، كالسورة التي يحتمل وجوبها في الصلاة، فيدور الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، باعتبار أنّ الأكثر هو الذي يُشكّ في وجوبه، بينما الأقلّ في الشبهات الوجوبية لاشكّ في وجوبه؛ بل هو معلوم الوجوب على كلّ حال، سواء كانت السورة واجبة، أو لم تكن واجبة، الأقل معلوم الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، الأكثر هو الذي يُشكّ في وجوبه، فتجري فيه البراءة، في حين أنّ البراءة في الشبهة التحريمية تجري لنفي حرمة الأقل، والأقلّ هو الأفراد المعلوم كونها مصداقاً للحرام، والأكثر هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك، هنا تجري البراءة لنفي حرمة الأقل، باعتبار أنّ هذه الحرمة هي التي يُشكّ فيها، لا يعلم أنّ مجموع الأفراد المعلومة هل يحرم ارتكابها، أو لا ؟ لا يقين بحرمة ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا كان المشكوك مصداقاً للعنوان المأخوذ في الدليل لمتعلّق التكليف لا يحرم ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة، وإنّما الحرام هو ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك، على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً واقعياً لمتعلّق التكليف، على هذا التقدير لا يحرم ارتكاب جميع الأفراد المعلومة؛ بل يجوز له أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ويترك هذا الفرد. نعم، على تقدير أنْ لا يكون الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف تتعلّق الحرمة بمجموع الأفراد المعلومة، هي التي يحرم فعلها. إذن: هو يشكّ في حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة الذي نعبّر عنه بالأقل، فيكون الأقل مشكوك الحرمة، فتجري فيه البراءة، بينما الأكثر يكون معلوم الحرمة عكس الشبهة الوجوبية، حيث في الشبهة الوجوبية كان معلوم الوجوب هو الأقل، أمّا الأكثر فهو مشكوك الوجوب، وفي الشبهة التحريمية يكون الأقل مشكوك الحرمة، والأكثر معلوم الحرمة، لماذا الأكثر معلوم الحرمة ؟ لأنّ الأكثر قطعاً حرام، إمّا لأنّه حرام لنفسه، وإمّا لاشتماله على الحرام، فإمّا هو حرام بحرمةٍ استقلاليةٍ لنفسه فيما لو لم يكن الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف، فإذا لم يكن مصداقاً، فأنّ مجموع الأفراد المعلومة يكون مُحرّماً بحرمةٍ استقلالية لنفسه. نعم، على تقدير أنْ يكون الفرد مصداقاً للحرام الواقعي، للعنوان لمتعلّق التكليف، فالأكثر الذي هو مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك يكون حراماً باعتبار اشتماله على الحرام؛ لأنّ الفرد المشكوك ليس مصداقاً لمتعلّق التكليف بحسب الفرض، لكن الأكثر يكون حراماً لاشتماله على الأقل الذي هو حرام بحسب الفرض.
إذن: الأكثر حرام على كل تقدير، سواء كان هذا مصداقاً للطبيعة، أو ليس مصداقاً للطبيعة، فإذا كان مصداقاً، فالأكثر حرام لنفسه بحرمةٍ استقلالية، وإذا لم يكن مصداقاً، فالأكثر حرام لأنّه يشتمل على الحرام وهو الأقل، فإذن: الأكثر يكون معلوم الحرمة، فلا تجري فيه البراءة، بينما الأقل هو الذي يكون مشكوك الحرمة، فتجري البراءة لنفي حرمة الأقل، والأقل هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة، وبهذا يصل إلى هذه النتيجة: أنّ المكلّف في هذه الحالة بإمكانه أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ويكتفي بترك الفرد المشكوك؛ لأنّه يشكّ في حرمة الأقل، يعني يشكّ في حرمة مجموع الأفراد المعلومة، فتجري البراءة؛ لأنّه شكّ في التكليف، والبراءة تجري عند الشكّ في التكليف.
الرأي الثاني: لا تجري البراءة في المقام؛ بل المقام مجرى لقاعدة الاشتغال بخلاف الشبهة الوجوبية، في الشبهة الوجوبية تجري البراءة لكن في المقام لا تجري البراءة، وإنّما تجري قاعدة الاشتغال، وذلك باعتبار أنّ البراءة الجارية لنفي وجوب الأكثر في الشبهة الوجوبية لا تُعارض بالبراءة في وجوب الأقل، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر بلا معارضة، باعتبار أنّ الأقل معلوم الوجوب تفصيلاً؛ إذ عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشبهة الوجوبية يكون الأقل معلوم الوجوب على كل حال، سواء كانت السورة واجبة، أو لم تكن واجبة، ومع العلم التفصيلي بوجوب الأقل؛ حينئذٍ لا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر بلا معارض، فيُلتزم بجريان البراءة في الشبهة الوجوبية لنفي وجوب الأكثر.
وبعبارة أخرى: عند الشكّ في وجوب السورة يحصل لدينا علم إجمالي بأنّه إمّا أنّ الأقل واجب، أو أنّ الأكثر واجب، هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كلّ حال، فإذا أنحل العلم الإجمالي يكون الشكّ في وجوب الأكثر شكّاً بدوياً لا مانع من جريان البراءة فيه عن وجوب الأكثر.
يقول صاحب هذا الرأي: أنّ هذا في الشبهة الوجوبية، لكن الأمر ينعكس في الشبهة التحريمية، وذلك باعتبار أنّ البراءة التي يُراد إجراؤها لنفي حرمة الأقل، ولغرض إثبات جواز الاكتفاء بترك الفرد المشكوك، هذه البراءة معارضة بالبراءة في الأكثر؛ لأننّا كما لا علم لنا بحرمة الأقل، حيث نحتمل أنّه حرام ونحتمل أنّه ليس حراماً، فلا علم لنا بحرمة مجموع الأقل؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون هذا مصداقاً للفرد المشكوك، الأقل لا يكون حراماً، كما لا علم لنا بحرمة الأقل، كذلك لا علم لنا بحرمة الأكثر بما هو أكثر. نعم، نعلم بحرمته باعتبار اشتماله على أحد التقديرين على الحرام، لكن الأكثر بما هو أكثر في مقابل الأقل لا علم لنا بحرمته؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك ليس مصداقاً، فلا حرمة للأكثر، ولا حرمة لمجموع الأفعال المؤلّفة من الأفراد المعلومة والفرد المشكوك؛ لأنّ الفرد المشكوك ليس مصداقاً لمتعلّق التكليف. نعم، على تقدير أنْ يكون مصداقاً يكون الأكثر حراماً. إذن: الأكثر بما هو أكثر في مقابل الأقل لا علم بحرمته أيضاً، فتجري البراءة في الأكثر كما تجري في الأقل، وبهذا تكون البراءة التي يُراد إجراؤها لنفي حرمة الأقل معارضة بالبراءة لنفي حرمة الأكثر، باعتبار أنّ كلاً منهما مشكوك الحرمة؛ فحينئذٍ تجري فيهما البراءة وتكون معارَضة، فكيف يقال بأننّا نجري البراءة لننفي وجوب الأقل ونرتّب على ذلك أنّه يجوز له أنْ يكتفي بترك الفرد المشكوك، البراءة لا تجري في الأقل؛ لأنّها معارَضة بالبراءة في الأكثر، وما تقدّم في الرأي الأوّل من أنّ الأكثر معلوم الحرمة، إمّا لنفسه، وإمّا لاشتماله على الحرام الذي هو الأقل، هذا في الحقيقة هو عبارة أخرى عن العلم الإجمالي بحرمة إمّا الأقل، أو الأكثر وليس شيئاً آخر؛ لأنّ حرمة الأكثر لنفسه هي عبارة عن حرمة الأكثر، أحد طرفي العلم الإجمالي، وحرمة الأكثر لاشتماله على الحرام هي عبارة عن حرمة الأقل التي هي أيضاً الطرف الآخر للعلم الإجمالي، فهو يعلم إمّا بحرمة الأكثر، وإمّا بحرمة الأقل، كما أنّ الأقل مشكوك وغير معلوم الحرمة، كذلك الأكثر بحدّه أيضاً وبما هو أكثر مشكوك وغير معلوم الحرمة، وعليه: لا تجري البراءة؛ لأنّها معارَضة بالبراءة في الطرف الآخر، وبهذا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، فلا يجوز ارتكاب الأقل؛ بل لابدّ من ترك أحد الأفراد المعلومة حتّى يتحقق بذلك امتثال النهي المتعلّق بالمجموع، ولا يجوز له أنْ يكتفي في امتثاله بترك الفرد المشكوك، والاتيان بالأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا فعل ذلك لا يحرز امتثال التكليف؛ لأنّ إحراز امتثال هذا التكليف لا يكون إلاّ بترك أحد الأفراد المعلومة، وبذلك يكون قد امتثل التكليف قطعاً، أمّا إذا اكتفى بترك الفرد المشكوك فأنّه لا يحرز امتثال هذا التكليف. هذان رأيان في هذه المسألة.
الذي يُلاحظ على الرأي الأوّل الذي يقول بجريان البراءة لنفي حرمة الأقل وجواز الاكتفاء في الامتثال بترك الفرد المشكوك، ويقول أيضاً بأنّ البراءة تجري في الشبهة الوجوبية، وتجري أيضاً في الشبهة التحريمية، وإنْ كان هناك فرق، أنّ البراءة في الشبهة الوجوبية تجري لنفي وجوب الأكثر، بينما في الشبهة التحريمية تجري لنفي الحرمة الأقل، يُلاحظ عليه أنّ جريان البراءة في الشبهة الوجوبية واضح إنّما هو باعتبار أنّ الأقل متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر.
وحينئذٍ نسأل لماذا الأقل متيقّن الوجوب ؟ وما معنى أنّ الأقل متيقّن الوجوب ؟
الجواب: أنّه متيقّن الوجوب إمّا لنفسه، يعني إمّا بوجوب نفسي استقلالي متعلّق به، أو بوجوب ضمني متعلّق به، هذا هو معنى أنّ الأقل متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، هذا في الشبهة الوجوبية. الأقل متيقّن الوجوب لأنّه على تقدير أنْ تكون السورة واجبة يكون وجوب الأقل وجوباً ضمنياً، وليس وجوباً استقلالياً، وعلى تقدير أنْ تكون السورة غير واجبة في الواقع يكون وجوب الأقل وجوباً استقلالياً؛ لذا فهو متيقّن الوجوب؛ لأنّه إمّا أنْ يكون واجباً بوجوبٍ نفسيٍ استقلاليٍ، وإمّا أنْ يكون واجباً بوجوبٍ ضمني، فمن هذه الجهة يكون متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، بخلاف الأكثر، فأنّه يكون مشكوك الوجوب كما هو واضح في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ المكلّف لا يعلم أنّ السورة واجبة، أو لا. وبعبارة أخرى: لا يعلم بأنّه هل يجب عليه مجموع الأفعال العشرة، أو خصوص التسعة، إذن: الأكثر ــــــــــ العشرة مع السورة ـــــــــــ ليس معلوم الوجوب، فتجري فيه البراءة، بينما الأقل متيقن الوجوب. هذا المعنى الموجود في الشبهة الوجوبية الذي سمح لنا بإجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، باعتبار أنّ وجوب الأقل متيقن، نفسه يمكن إجراؤه في الشبهة التحريمية، وذلك بأنْ يقال بأنّ الأقل متيقن الحرمة، كما أنّ الأقل في الشبهة الوجوبية كان متيقن الحرمة نستطيع أنْ نقول أنّ الأقل في الشبهة التحريمية متيقّن الحرمة، إمّا استقلالاً في ما إذا لم يكن الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف للحرام يكون حراماً بحرمةٍ استقلاليةٍ، وإمّا ضمناً، على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً للحرام، فحرمة مجموع الأقل على هذا التقدير حرمة ضمنية، الحرمة متعلّقة بمجموع عشرة أفعال، حرمة تسعة من هذه الأفعال هي حرمة ضمنية وليست حرمة استقلالية.
إذن: نستطيع أنْ نقول أنّ الأقل معلوم الحرمة على كل حال، إمّا بحرمةٍ استقلاليةٍ، أو بحرمةٍ ضمنيةٍ، كما قيل ذلك في الشبهة الوجوبية وطُبّق على الأقل، وقيل بأنّ الأقل متيقن الحرمة، إمّا بحرمةٍ استقلاليةٍ، أو حرمة ضمنية، يمكن تطبيق ذلك على الأقل في الشبهة التحريمية؛ لأنّ الأقل إمّا حرام لنفسه في الشبهة التحريمية على تقدير أنْ لا يكون الفرد المشكوك مصداقاً، وإمّا حرام ضمناً على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً. إذن: هو معلوم الحرمة على كلّ حال، فكيف تجري فيه البراءة ؟
بعبارةٍ أخرى: ما هو الفرق الحقيقي الدقيق بين الشبهة الوجوبية وبين الشبهة التحريمية ؟ ولماذا عكستم الأمر، فقلتم في الشبهة الوجوبية تجري البراءة لنفي وجوب الأكثر؛ لأنّ الأقل متيقن الوجوب؛ لأنّه إمّا واجب بوجوبٍ استقلالي، أو واجب بوجوبٍ ضمني، نفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على الشبهة التحريمية، وعلى الأقل في الشبهة التحريمية؛ لأنّ الأقل أيضاً معلوم الحرمة قطعاً، إمّا حرمة استقلالية، وإمّا حرمة ضمنية، بينما هو يريد أنْ يجري البراءة لنفي حرمة الأقل، هذا هو غرضه من إجراء البراءة، وبالتالي يجوّز للمكلّف ارتكاب ترك الفرد المشكوك.
كان الكلام في النحو الثالث: وهو ما إذا كان الحكم متعلّقاً بتمام الأفراد على نحو الارتباط بنحو العموم المجموعي. هنا إذا كانت الشبهة وجوبية، فلا إشكال عندهم في جريان البراءة عند الشكّ في مصداقية فردٍ للعنوان بنحو الشبهة الموضوعية، باعتبار أنّ هذا شكّ في التكليف، ولو كان شكّاً في التكليف الضمني، وشكّاً أيضاً في سعة دائرة المحرّكية وضيقها، وقالوا أنّ هذه المسألة تدخل في كبرىدوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، ومشهور المتأخرين ذهبوا إلى جريان البراءة لنفي الزائد على الأقل، يعني البراءة عن وجوب الأكثر.
الكلام في الشبهة التحريمية: ــــــــــ مثلاً ـــــــــ نفترض أنّ المفسدة التي ينشأ منها النهي كانت موجودة وقائمة في مجموع الأفعال بنحو الارتباط لا بكل فعلٍ من هذه الأفعال، وإنّما مجموع الأفعال فيها مفسدة، فيتعلّق النهي بمجموع هذه الأفعال، للتوضيح: لو فرضنا ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ من قبيل النهي عن أكل السمك، وشرب اللّبن، يتعلّق النهي بمجموع الأفعال لا بكل واحدٍ واحدٍ منها، امتثال هذا النهي المتعلّق بمجموع الأفعال يتحققّ بترك واحدٍ من هذه الأفعال، فإذا ترك واحدٍ من هذه الأفعال يكون قد امتثل النهي حتّى إذا فعل الباقي، المهم أنْ يترك المجموع، وترك المجموع يتحقق بترك واحدٍ من هذا المجموع. أمّا عصيان النهي فيتوقّف على ترك الجميع، فلا يكون عاصياً إلاّ إذا ترك الجميع، وأمّا إذا ترك المعظم وجاء بالبعض، فلا يكون عاصياً؛ بل يكون ممتثلاً. والكلام هو في ما إذا شُكّ في مصداقية فردٍ لمتعلّق التكليف، في مثل هذه الحالة؛ حينئذٍ يقال: هل يكفي في امتثال النهي ترك هذا الفرد المشكوك، حتّى إذا جاء بتمام الأفراد الأخرى، أو لا ؟ هل الفرد المشكوك كالفرد الذي يُعلم كونه مصداقاً للمتعلّق في أنّ تركه يحقق امتثال النهي ولو جاء بباقي الأفراد، أو لا يجوز له الاكتفاء بترك الفرد المشكوك والمجيء بسائر الأفراد الأخرى ؟
بعبارةٍ أخرى: هل يجوز للمكلّف أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ــــــــــــ والمقصود من كونها معلومة يعني معلوم كونها مصداقاً لمتعلّق النهي ــــــــــــــ والاكتفاء في امتثال النهي بترك الفرد المشكوك استناداً إلى البراءة، باعتبار عدم العلم بحرمة فعل الأفراد المعلومة، أي لا يعلم بحرّمة المجموع، فيجوز له ارتكابها جميعاً استناداً إلى البراءة، أمّا لماذا لا يعلم بحرمة الأفراد المعلومة ؟ فذلك لأنّه يحتمل أنْ يكون هذا الفرد المشكوك مصداقاً للعنوان، ومصداقاً لمتعلّق التكليف، وإذا كان مصداقاً لمتعلّق التكليف، جاز له ارتكاب الأفراد المعلومة وترك هذا الفرد الذي فُرض كونه مصداقاً للعنوان المتعلّق به التكليف، هذا يجعله في حالة شكٍّ في أنّه هل يحرم عليه ارتكاب الأفراد المعلومة، أو لا يحرم عليه ؟
إذن: هو يشكّ في حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة، فتجري البراءة للتأمين من ناحية هذه الحرمة، أو أنّ البراءة هل تجري للتأمين من ناحية حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة والاكتفاء بترك الفرد المشكوك وبهذا يكون قد امتثل النهي المتعلّق بالمجموع، هل يجوز له ذلك، أو لا يجوز له ذلك ؟ بل لابدّ من ترك واحدٍ من الأفراد المعلومة حتّى يكون ممتثلاً للنهي المتعلّق بالمجموع، ولا يجوز له الاكتفاء بترك الفرد المشكوك مع ارتكاب الأفراد المعلومة، هذا محل الكلام.
هنا يوجد رأيان:
الرأي الأوّل: أنّ هذا يكون مورداً لجريان البراءة، أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهات التحريمية هو حاله حال دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين في الشبهات الوجوبية، كما تجري البراءة هناك تجري البراءة في محل الكلام، وعليه، فيجوز للمكلّف ارتكاب جميع الأفراد المعلومة والاكتفاء بترك الفرد المشكوك، باعتبار أنّ هذا الشكّ كما قلنا وقالوا يرجع إلى الشكّ في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، والمختار في تلك المسألة هو جريان البراءة في كلٍ من الشبهة في باب الواجبات وفي باب المحرّمات، غاية الأمر أنّ البراءة في الشبهة الوجوبية تجري لنفي وجوب الأكثر، أو نعبّر عنه وجوب الزائد، كالسورة التي يحتمل وجوبها في الصلاة، فيدور الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، باعتبار أنّ الأكثر هو الذي يُشكّ في وجوبه، بينما الأقلّ في الشبهات الوجوبية لاشكّ في وجوبه؛ بل هو معلوم الوجوب على كلّ حال، سواء كانت السورة واجبة، أو لم تكن واجبة، الأقل معلوم الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، الأكثر هو الذي يُشكّ في وجوبه، فتجري فيه البراءة، في حين أنّ البراءة في الشبهة التحريمية تجري لنفي حرمة الأقل، والأقلّ هو الأفراد المعلوم كونها مصداقاً للحرام، والأكثر هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك، هنا تجري البراءة لنفي حرمة الأقل، باعتبار أنّ هذه الحرمة هي التي يُشكّ فيها، لا يعلم أنّ مجموع الأفراد المعلومة هل يحرم ارتكابها، أو لا ؟ لا يقين بحرمة ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا كان المشكوك مصداقاً للعنوان المأخوذ في الدليل لمتعلّق التكليف لا يحرم ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة، وإنّما الحرام هو ارتكاب مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك، على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً واقعياً لمتعلّق التكليف، على هذا التقدير لا يحرم ارتكاب جميع الأفراد المعلومة؛ بل يجوز له أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ويترك هذا الفرد. نعم، على تقدير أنْ لا يكون الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف تتعلّق الحرمة بمجموع الأفراد المعلومة، هي التي يحرم فعلها. إذن: هو يشكّ في حرمة ارتكاب الأفراد المعلومة الذي نعبّر عنه بالأقل، فيكون الأقل مشكوك الحرمة، فتجري فيه البراءة، بينما الأكثر يكون معلوم الحرمة عكس الشبهة الوجوبية، حيث في الشبهة الوجوبية كان معلوم الوجوب هو الأقل، أمّا الأكثر فهو مشكوك الوجوب، وفي الشبهة التحريمية يكون الأقل مشكوك الحرمة، والأكثر معلوم الحرمة، لماذا الأكثر معلوم الحرمة ؟ لأنّ الأكثر قطعاً حرام، إمّا لأنّه حرام لنفسه، وإمّا لاشتماله على الحرام، فإمّا هو حرام بحرمةٍ استقلاليةٍ لنفسه فيما لو لم يكن الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف، فإذا لم يكن مصداقاً، فأنّ مجموع الأفراد المعلومة يكون مُحرّماً بحرمةٍ استقلالية لنفسه. نعم، على تقدير أنْ يكون الفرد مصداقاً للحرام الواقعي، للعنوان لمتعلّق التكليف، فالأكثر الذي هو مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك يكون حراماً باعتبار اشتماله على الحرام؛ لأنّ الفرد المشكوك ليس مصداقاً لمتعلّق التكليف بحسب الفرض، لكن الأكثر يكون حراماً لاشتماله على الأقل الذي هو حرام بحسب الفرض.
إذن: الأكثر حرام على كل تقدير، سواء كان هذا مصداقاً للطبيعة، أو ليس مصداقاً للطبيعة، فإذا كان مصداقاً، فالأكثر حرام لنفسه بحرمةٍ استقلالية، وإذا لم يكن مصداقاً، فالأكثر حرام لأنّه يشتمل على الحرام وهو الأقل، فإذن: الأكثر يكون معلوم الحرمة، فلا تجري فيه البراءة، بينما الأقل هو الذي يكون مشكوك الحرمة، فتجري البراءة لنفي حرمة الأقل، والأقل هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة، وبهذا يصل إلى هذه النتيجة: أنّ المكلّف في هذه الحالة بإمكانه أنْ يرتكب جميع الأفراد المعلومة ويكتفي بترك الفرد المشكوك؛ لأنّه يشكّ في حرمة الأقل، يعني يشكّ في حرمة مجموع الأفراد المعلومة، فتجري البراءة؛ لأنّه شكّ في التكليف، والبراءة تجري عند الشكّ في التكليف.
الرأي الثاني: لا تجري البراءة في المقام؛ بل المقام مجرى لقاعدة الاشتغال بخلاف الشبهة الوجوبية، في الشبهة الوجوبية تجري البراءة لكن في المقام لا تجري البراءة، وإنّما تجري قاعدة الاشتغال، وذلك باعتبار أنّ البراءة الجارية لنفي وجوب الأكثر في الشبهة الوجوبية لا تُعارض بالبراءة في وجوب الأقل، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر بلا معارضة، باعتبار أنّ الأقل معلوم الوجوب تفصيلاً؛ إذ عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الشبهة الوجوبية يكون الأقل معلوم الوجوب على كل حال، سواء كانت السورة واجبة، أو لم تكن واجبة، ومع العلم التفصيلي بوجوب الأقل؛ حينئذٍ لا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر بلا معارض، فيُلتزم بجريان البراءة في الشبهة الوجوبية لنفي وجوب الأكثر.
وبعبارة أخرى: عند الشكّ في وجوب السورة يحصل لدينا علم إجمالي بأنّه إمّا أنّ الأقل واجب، أو أنّ الأكثر واجب، هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كلّ حال، فإذا أنحل العلم الإجمالي يكون الشكّ في وجوب الأكثر شكّاً بدوياً لا مانع من جريان البراءة فيه عن وجوب الأكثر.
يقول صاحب هذا الرأي: أنّ هذا في الشبهة الوجوبية، لكن الأمر ينعكس في الشبهة التحريمية، وذلك باعتبار أنّ البراءة التي يُراد إجراؤها لنفي حرمة الأقل، ولغرض إثبات جواز الاكتفاء بترك الفرد المشكوك، هذه البراءة معارضة بالبراءة في الأكثر؛ لأننّا كما لا علم لنا بحرمة الأقل، حيث نحتمل أنّه حرام ونحتمل أنّه ليس حراماً، فلا علم لنا بحرمة مجموع الأقل؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون هذا مصداقاً للفرد المشكوك، الأقل لا يكون حراماً، كما لا علم لنا بحرمة الأقل، كذلك لا علم لنا بحرمة الأكثر بما هو أكثر. نعم، نعلم بحرمته باعتبار اشتماله على أحد التقديرين على الحرام، لكن الأكثر بما هو أكثر في مقابل الأقل لا علم لنا بحرمته؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك ليس مصداقاً، فلا حرمة للأكثر، ولا حرمة لمجموع الأفعال المؤلّفة من الأفراد المعلومة والفرد المشكوك؛ لأنّ الفرد المشكوك ليس مصداقاً لمتعلّق التكليف. نعم، على تقدير أنْ يكون مصداقاً يكون الأكثر حراماً. إذن: الأكثر بما هو أكثر في مقابل الأقل لا علم بحرمته أيضاً، فتجري البراءة في الأكثر كما تجري في الأقل، وبهذا تكون البراءة التي يُراد إجراؤها لنفي حرمة الأقل معارضة بالبراءة لنفي حرمة الأكثر، باعتبار أنّ كلاً منهما مشكوك الحرمة؛ فحينئذٍ تجري فيهما البراءة وتكون معارَضة، فكيف يقال بأننّا نجري البراءة لننفي وجوب الأقل ونرتّب على ذلك أنّه يجوز له أنْ يكتفي بترك الفرد المشكوك، البراءة لا تجري في الأقل؛ لأنّها معارَضة بالبراءة في الأكثر، وما تقدّم في الرأي الأوّل من أنّ الأكثر معلوم الحرمة، إمّا لنفسه، وإمّا لاشتماله على الحرام الذي هو الأقل، هذا في الحقيقة هو عبارة أخرى عن العلم الإجمالي بحرمة إمّا الأقل، أو الأكثر وليس شيئاً آخر؛ لأنّ حرمة الأكثر لنفسه هي عبارة عن حرمة الأكثر، أحد طرفي العلم الإجمالي، وحرمة الأكثر لاشتماله على الحرام هي عبارة عن حرمة الأقل التي هي أيضاً الطرف الآخر للعلم الإجمالي، فهو يعلم إمّا بحرمة الأكثر، وإمّا بحرمة الأقل، كما أنّ الأقل مشكوك وغير معلوم الحرمة، كذلك الأكثر بحدّه أيضاً وبما هو أكثر مشكوك وغير معلوم الحرمة، وعليه: لا تجري البراءة؛ لأنّها معارَضة بالبراءة في الطرف الآخر، وبهذا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، فلا يجوز ارتكاب الأقل؛ بل لابدّ من ترك أحد الأفراد المعلومة حتّى يتحقق بذلك امتثال النهي المتعلّق بالمجموع، ولا يجوز له أنْ يكتفي في امتثاله بترك الفرد المشكوك، والاتيان بالأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا فعل ذلك لا يحرز امتثال التكليف؛ لأنّ إحراز امتثال هذا التكليف لا يكون إلاّ بترك أحد الأفراد المعلومة، وبذلك يكون قد امتثل التكليف قطعاً، أمّا إذا اكتفى بترك الفرد المشكوك فأنّه لا يحرز امتثال هذا التكليف. هذان رأيان في هذه المسألة.
الذي يُلاحظ على الرأي الأوّل الذي يقول بجريان البراءة لنفي حرمة الأقل وجواز الاكتفاء في الامتثال بترك الفرد المشكوك، ويقول أيضاً بأنّ البراءة تجري في الشبهة الوجوبية، وتجري أيضاً في الشبهة التحريمية، وإنْ كان هناك فرق، أنّ البراءة في الشبهة الوجوبية تجري لنفي وجوب الأكثر، بينما في الشبهة التحريمية تجري لنفي الحرمة الأقل، يُلاحظ عليه أنّ جريان البراءة في الشبهة الوجوبية واضح إنّما هو باعتبار أنّ الأقل متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر.
وحينئذٍ نسأل لماذا الأقل متيقّن الوجوب ؟ وما معنى أنّ الأقل متيقّن الوجوب ؟
الجواب: أنّه متيقّن الوجوب إمّا لنفسه، يعني إمّا بوجوب نفسي استقلالي متعلّق به، أو بوجوب ضمني متعلّق به، هذا هو معنى أنّ الأقل متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، هذا في الشبهة الوجوبية. الأقل متيقّن الوجوب لأنّه على تقدير أنْ تكون السورة واجبة يكون وجوب الأقل وجوباً ضمنياً، وليس وجوباً استقلالياً، وعلى تقدير أنْ تكون السورة غير واجبة في الواقع يكون وجوب الأقل وجوباً استقلالياً؛ لذا فهو متيقّن الوجوب؛ لأنّه إمّا أنْ يكون واجباً بوجوبٍ نفسيٍ استقلاليٍ، وإمّا أنْ يكون واجباً بوجوبٍ ضمني، فمن هذه الجهة يكون متيقّن الوجوب، فلا تجري فيه البراءة، بخلاف الأكثر، فأنّه يكون مشكوك الوجوب كما هو واضح في الشبهة الوجوبية؛ لأنّ المكلّف لا يعلم أنّ السورة واجبة، أو لا. وبعبارة أخرى: لا يعلم بأنّه هل يجب عليه مجموع الأفعال العشرة، أو خصوص التسعة، إذن: الأكثر ــــــــــ العشرة مع السورة ـــــــــــ ليس معلوم الوجوب، فتجري فيه البراءة، بينما الأقل متيقن الوجوب. هذا المعنى الموجود في الشبهة الوجوبية الذي سمح لنا بإجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، باعتبار أنّ وجوب الأقل متيقن، نفسه يمكن إجراؤه في الشبهة التحريمية، وذلك بأنْ يقال بأنّ الأقل متيقن الحرمة، كما أنّ الأقل في الشبهة الوجوبية كان متيقن الحرمة نستطيع أنْ نقول أنّ الأقل في الشبهة التحريمية متيقّن الحرمة، إمّا استقلالاً في ما إذا لم يكن الفرد المشكوك مصداقاً لمتعلّق التكليف للحرام يكون حراماً بحرمةٍ استقلاليةٍ، وإمّا ضمناً، على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً للحرام، فحرمة مجموع الأقل على هذا التقدير حرمة ضمنية، الحرمة متعلّقة بمجموع عشرة أفعال، حرمة تسعة من هذه الأفعال هي حرمة ضمنية وليست حرمة استقلالية.
إذن: نستطيع أنْ نقول أنّ الأقل معلوم الحرمة على كل حال، إمّا بحرمةٍ استقلاليةٍ، أو بحرمةٍ ضمنيةٍ، كما قيل ذلك في الشبهة الوجوبية وطُبّق على الأقل، وقيل بأنّ الأقل متيقن الحرمة، إمّا بحرمةٍ استقلاليةٍ، أو حرمة ضمنية، يمكن تطبيق ذلك على الأقل في الشبهة التحريمية؛ لأنّ الأقل إمّا حرام لنفسه في الشبهة التحريمية على تقدير أنْ لا يكون الفرد المشكوك مصداقاً، وإمّا حرام ضمناً على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك مصداقاً. إذن: هو معلوم الحرمة على كلّ حال، فكيف تجري فيه البراءة ؟
بعبارةٍ أخرى: ما هو الفرق الحقيقي الدقيق بين الشبهة الوجوبية وبين الشبهة التحريمية ؟ ولماذا عكستم الأمر، فقلتم في الشبهة الوجوبية تجري البراءة لنفي وجوب الأكثر؛ لأنّ الأقل متيقن الوجوب؛ لأنّه إمّا واجب بوجوبٍ استقلالي، أو واجب بوجوبٍ ضمني، نفس هذا الكلام يمكن تطبيقه على الشبهة التحريمية، وعلى الأقل في الشبهة التحريمية؛ لأنّ الأقل أيضاً معلوم الحرمة قطعاً، إمّا حرمة استقلالية، وإمّا حرمة ضمنية، بينما هو يريد أنْ يجري البراءة لنفي حرمة الأقل، هذا هو غرضه من إجراء البراءة، وبالتالي يجوّز للمكلّف ارتكاب ترك الفرد المشكوك.