35/03/04
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
بالنسبة إلى الأمر الثالث ـــــــ نرجع إلى الأمر الثالث وبعده نكمل الأمر الرابع ــــــ الذي لا تشمله الأخبار، بالنسبة إلى نقل فضائل أهل البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام) ومصائبهم، دعوى شمول الأخبار لنقل فضائل أهل البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام)، قررّناه في الدرس السابق بلحاظ الدليل الضعيف الدال على استحباب نقل فضائلهم، أو ترتب الثواب على نقل فضائلهم، هكذا قررّناه، بأنْ يقوم خبر ضعيف على استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، فتطبّق قاعدة التسامح على هذا الخبر الضعيف؛ وحينئذٍ يقال: يثبت بها استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام). هذا الذي تقدّم مناقشته بأنّه إنّما يتم لو كان لدينا دليل يدلّ على استحباب نقل فضائلهم مطلقاً، يعني وإنْ لم تثبت الفضيلة بمدركٍ معتبر، فيثبت استحباب نقل الفضيلة وإنْ لم تثبت بمدركٍ معتبر، لو كان الدليل الضعيف هذا مفاده يثبت استحبابه على بعض المباني، فإذا جاءت رواية غير معتبرةٍ دلّت على فضيلةٍ، يثبت استحباب نقل هذه الفضيلة؛ لأنّ الدليل الضعيف الأوّل دلّ على استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وإنْ لم تثبت بدليلٍ معتبر، لكن قلنا أنّه لا يوجد عندنا مثل هذا الدليل، وإنّما الموجود هو استحباب نقل فضائلهم، والمقصود بذلك، كما هو الحال في أيّ دليلٍ آخر، في أيّ موضوع ذُكر في الدليل، الموضوع هو الفضيلة الواقعية التي تثبت إمّا بالوجدان، أو بدليلٍ معتبر. هذا يثبت استحباب نقلها، وأمّا مع التشكيك وعدم إحراز ذلك، والتشكيك في كونها فضيلة، قلنا أنّه لا يمكن إثبات الاستحباب؛ لأنّ هذا تمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعية للدليل.
لكن هناك تقريباً آخراً لشمول أخبار(من بلغ) لنقل الفضائل، هذا التقريب منقول عن الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وحاصله: هو تطبيق القاعدة والأخبار على نفس الدليل الضعيف الدال على الفضيلة لا على الدليل الدال على استحباب نقل فضائلهم، والفرق بينهما واضح، فذاك دليل في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ مفاده هو استحباب نقل الفضيلة، أو مفاده ترتّب الثواب على نقل الفضيلة، هذه شبهة حكمية، بينما الثاني هو دليل ضعيف وارد في الشبهة الموضوعية، الحديث يقول هذه فضيلة، فنطبّق قاعدة التسامح على هذا الخبر، باعتبار أنّ الخبر وإنْ كان مفاده المطابقي هو نقل موضوع وهو الفضيلة، لكنّ مدلوله الإلتزامي هو نقل الحكم، الإخبار عن الموضوع هو إخبار عن استحباب نقل هذه الفضيلة بالملازمة، وقد تقدّم سابقاً أنّه لا فرق في شمول الأخبار للبلوغ إذا تحقق بالدلالة المطابقية والبلوغ إذا تحقق بالدلالة الالتزامية، هذا خبر ضعيف يقول هذه فضيلة، هذا الخبر يحددّ موضوعاً، لكن بالملازمة كأنّه يقول يستحب نقلها، فيدلّ خبر ضعيف على استحباب نقل هذه الفضيلة، فتشمله أخبار(من بلغ) وبذلك يثبت استحباب نقل هذه الفضيلة بالرغم من أنّها لم تثبت إلاّ بخبر ضعيف، باعتبار الملازمة بين نقل الموضوع وبين نقل الحكم المترتب عليه، وهذا الكلام هو نفس الكلام الذي ذكرناه في الشبهات الموضوعية في المورد الأوّل، يقول الخبر الضعيف(هذا مسجد) ومن الواضح أنّ هذا لا يشمله؛ لأنّه يقول(هذا مسجد) وهذا ليس إخباراً بترتب الثواب، توهم الشمول كان مبنيّاً على أنّ الخبر وإنْ كان يقول(هذا مسجد) بالمطابقة، لكنّه بالالتزام يقول(تستحب الصلاة فيه) فهو إخبار عن استحباب الصلاة في هذا المسجد، فتشمله الأخبار بهذا الاعتبار. هنا أيضاً يقال بذلك، خبر ضعيف ينقل فضيلة لأهل البيت(عليهم السلام)، فهو بالالتزام كأنّه يقول(يستحب نقل هذه الفضيلة)؛ لأنّ استحباب النقل بالنسبة للفضيلة كاستحباب الصلاة بالنسبة إلى المسجد، هناك ملازمة بين كون الشيء مسجداً وبين الصلاة فيه، هنا أيضاً ملازمة بين كون هذه فضيلة وبين استحباب نقلها، فالإخبار عن الفضيلة هو إخبار عن استحباب نقلها، فإذا صار إخباراً عن استحباب نقلها، وترتّب الثواب على نقلها تشمله الأخبار، ويثبت بذلك استحباب نقل هذه الفضيلة. هذا تقريب آخر غير التقريب السابق.
جواب هذا التقريب هو نفس الجواب الذي ذكرناه في الشبهات الموضوعية، وهو أنّ هذا الخبر في الشبهة الموضوعية ليس نقلاً لترتب الثواب، لا بالمطابقة، ولا بالالتزام، وموضوع القاعدة وموضوع الأخبار هو بلوغ ترتّب الثواب على عمل، هذا لا يحقق بلوغ ترتّب الثواب على العمل، فهو ليس إخباراً بترتّب الثواب على العمل، وإنّما إخبار بأنّ هذا مسجد، أو إخبار بأنّ هذه فضيلة، الإخبار بأنّ هذا مسجد ليس إخباراً عن ترتب الثواب على الصلاة فيه، وليس إخباراً عن استحباب الصلاة فيه؛ لأنّه لا توجد ملازمة عرفية واضحة بين كون الشيء مسجداً وبين استحباب الصلاة فيه حتّى يكون الإخبار عن كونه مسجداً إخباراً عن استحباب الصلاة فيه ونقلاً لاستحباب الصلاة فيه، فيصدق البلوغ وتشمله الأخبار، وعلى تقدير أنْ تكون هناك ملازمة فهي ملازمة شرعية، هي ملازمة ثابتة بلحاظ الأدلّة، باعتبار أنّ الشارع حكم باستحباب الصلاة في المساجد تكون ملازمة شرعية ناشئة من الدليل، وهكذا ملازمة لا تصحّح أنْ يكون الإخبار عن الموضوع إخباراً عن الحكم الثابت له، يعني يكون محققّاً لصدق البلوغ؛ لأننّا قلنا مراراً أنّ البلوغ متقوّم بالإخبار، ولا يصح للمنقول إليه أنْ يقول بلغني إلاّ إذا أخبر من قبل شخصٍ، أو نقل له شخص بلوغ ترتب الثواب، فيقول بلغني ترتّب الثواب، كون حكم هذا المسجد هو الصلاة فيه، أو كون الفضيلة حكمها شرعاً هو جواز النقل، هذا لا يعني أنّ الإخبار بأنّ هذه فضيلة هو إخبار ونقل لاستحباب نقلها بحيث أنّ هذا الشخص الذي يقال له أنّ هذا مسجد يقول بلغني استحباب الصلاة فيه، قوله بلغني استحباب الصلاة فيه هذا غير واضح، وهو الذي نشكك فيه، فهو ليس نقلاً عن ترتّب الثواب لا بالمطابقة كما هو واضح، ولا بالالتزام، فلا يكون شمول الأخبار له واضحاً، ومن هنا يظهر أنّ نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ومصائبهم، لا يمكن جعله مشمولاً للقاعدة لا بالتقريب الأوّل المتقدّم في الدرس السابق، ولا بهذا التقريب.
الأمر الرابع: استشكل على المشهور بأنّه كيف يفتي بالاستحباب مطلقاً وبلا قيد، مع أنّه يبني على أنّ المستفاد من أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسي للعمل لكن بعنوان البلوغ، العمل بعنوانه الأوّلي ليس مستحبّاً، وإنّما يكون مستحبّاً استحباباً نفسياً بعنوانه الثانوي(البلوغ)، هذان الأمران لا يمكن الجمع بينهما، هذا هو الإشكال. أنّ المفروض بناءً على هذا التفسير للأخبار أنّ الاستحباب ثابت للعمل بالعنوان الثانوي، يعني بعنوان البلوغ، يعني العمل الذي يبلغك ثواب عليه يكون مستحبّاً استحباباً نفسياً، فالبلوغ شرط في ثبوت الاستحباب النفسي للعمل، وهذا الفقيه بلغه ثواب على هذا العمل فلا يجوز له أنْ يفتي للعامّي بالاستحباب مطلقاً على نحو ما يفتي ــــــ مثلاً ــــــ باستحباب صلاة اللّيل مطلقاً؛ لأنّه هو بلغه ثواب عليه، هذا لا يصح بناءً على هذا المبنى والتفسير للأخبار؛ لأنّ الاستحباب ثابت بعنوان(البلوغ)، فلا يثبت الاستحباب إلاّ في حقّ من بلغه الثواب على العمل، أمّا العامّي الذي لم يبلغه الثواب على العمل أصلاً، فلا يثبت الاستحباب في حقّه، فكيف يمكن للمشهور أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً ؟ هذا هو التساؤل.
نعم، لا إشكال في أنّ المشهور يمكنه أنْ يفتي بالاستحباب على نهج القضية الحقيقية، يعني يقول للمكلّف العامّي إذا بلغك ثواب على عمل، فأنا أفتي بالاستحباب، هذا لا بأس به، ويقلّده العامّي في هذه المسألة؛ لأنّه استنبطها من الدليل الذي هو أخبار(من بلغ)، وهي أخبار معتبرة، استفاد منها أنّ كل من بلغه ثواب على عمل، فالعمل يكون مستحبّاً بالنسبة إليه، فهو يقول أنّ كل من بلغه ثواب على عمل، فالعمل يكون مستحبّاً بالنسبة إليه، هذا لا محذور فيه؛ لأنّ هذه القضية الحقيقية مستنبطة من الدليل المعتبر الذي هو عبارة عن أخبار(من بلغ)، فهو يفتي بمضمون هذا الدليل المعتبر، فلا محذور فيه، وإنّما المحذور في أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً وبلا قيد، بحيث يثبت الاستحباب مطلقاً في حق من بلغه الثواب وفي حقّ من لم يبلغه الثواب أصلاً، الإشكال من هنا ينشأ، فيقال كيف يمكن الجمع بينهما ؟ كما أنّ الإشكال كما ذكروا إنّما يتوجّه على المشهور باعتبار أنّ المشهور يلتزم باستفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ من أخبار(من بلغ)، وأمّا إذا فرضنا أنّ المشهور كان لا يلتزم بذلك، وإنّما يلتزم بالحجّية، يعني حجّية الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، لو كان يلتزم بذلك، فلا محذور في أنْ يفتي المشهور بالاستحباب مطلقاً، باعتبار أنّ الخبر الضعيف بناءً على استفادة الحجّية من أخبار(من بلغ) يكون حجّة ومعتبراً كالخبر الصحيح، فكما أنّ المجتهد لو قام عنده خبر صحيح على استحباب عمل بإمكانه أنْ يفتي العامّي بالاستحباب مطلقاً بحيث يثبت الاستحباب في حقّ الجميع، كذلك إذا قام عنده خبر ضعيف على استحباب عمل واستفاد من أخبار(من بلغ) جعل الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب للتسامح في أدلّة السنن، هذه أحكام غير إلزامية وهناك تسامح فيها، والشارع وسّع من دائرة الحجّية وجعلها شاملة للخبر الضعيف بحيث يصبح الخبر الضعيف حجّة، فإذا صار عنده حجّة فبإمكانه أنْ يفتي بالاستحباب ويثبت الاستحباب في حق الجميع، ومن هنا فهذا الإشكال مبني على افتراض اختيار هذا الاحتمال في أخبار من بلغ وهو استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً على استفادة الحجّية فالحجّية ثابتة للخبر لا بعنوان البلوغ، يعني أنّ هذا الخبر الضعيف حجّة ومعتبر، فإذا كان حجّة ومعتبراً؛ فحينئذٍ يثبت مفاده وهو استحباب العمل وترتب الثواب عليه.
فالنتيجة هي هذه: أنّ هذا الإشكال يتوجّه على المشهور عندما يفتي بالاستحباب مطلقاً، وعندما يبني المشهور على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ.
بالنسبة إلى أنّ الإشكال يتوجّه على المشهور بناءً على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، الظاهر أنّ هذا الإشكال وارد على المشهور، فلا يمكن الجمع بين الافتاء بالاستحباب مطلقاً وبين البناء على الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ؛ لأنّ الاستحباب بعنوان البلوغ معناه أنّ هذا العنوان هو الذي أوجب الاستحباب، من بلغه ثواب على عمل يكون العمل له مستحبّاً، فلا يثبت الاستحباب حتّى في حقّ من لم يبلغه الثواب على العمل، وإنّما يختصّ الاستحباب بمن بلغه ثواب على عمل.
وأمّا أنّ الإشكال يرتفع ولا يرد بناءً على أنْ يستفاد من أخبار(من بلغ) حجّية الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، بيّنا كيف يرتفع الإشكال، وحاصله: أنّ الخبر الضعيف بناءً على هذا المبنى والتفسير لأخبار(من بلغ) يصبح حجّة لإثبات مفاده، فيكون حاله حال الخبر الصحيح الدال على استحباب عمل، فكما يمكن للمجتهد أنْ يفتي باستحباب الخبر الذي دلّ عليه الخبر الصحيح، كذلك بإمكانه أنْ يفتي للعامّي باستحباب هذا العمل الذي دلّ عليه الخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف الدال على الاستحباب حجّة في إثبات الاستحباب.
لكنّه قد يقال: أنّ هذا غير واضح؛ بل قد يناقش فيه بأنّه حتّى بناءً على الحجّية يرد الإشكال، وذلك باعتبار أنّ الحجّية التي نستفيدها من أخبار(من بلغ) هي أيضاً مقيّدة بعنوان البلوغ، وثابتة بعنوان البلوغ، وليس فقط الاستحباب بناءً على أنّ الاستحباب النفسي ثابت بعنوان البلوغ، وإنّما الحجّية أيضاً ثابتة بعنوان البلوغ، بنكتة أنّ الحجّية في أخبار(من بلغ) إنّما استفيدت من لحن الروايات التي يُفهم منها ــــــ على ما تقدّم ـــــــ الترغيب في العمل والحثّ عليه، وهذا تقدّم سابقاً، وقلنا أنّه لا يمكن إنكار دلالة الروايات على الترغيب في العمل والحث على الإتيان به، الحجّية استفيدت من هذا الترغيب والحثّ، فيستفاد منه أنّ الشارع اعتبر هذا حجّة؛ ولذا رغّب في العمل وحثّ عليه، ومن الواضح أنّ الترغيب والحثّ إنّما يثبت على عمل من بلغه الثواب، وأمّا من لم يبلغه الثواب، فالشارع لم يرغّبه في العمل، ولم يحثّه على العمل، وإنّما رغّب الشارع على عمل من بلغه ثواب عليه، فإذا كانت الحجّية مستفادة من هذا الترغيب والحثّ المختص بمن بلغه ثواب على عمل، فالحجّية أيضاً تكون مختصّة به ولا تثبت للجميع، هذا الذي بلغه الثواب على العمل، باعتبار أنّ الشارع حثّه على العمل استفدنا الحجّية، فتكون الحجّية مختصّة بمن بلغه الثواب على العمل، فالخبر يكون حجّة في حق من بلغه الثواب على العمل ولا يكون حجّة في حقّ الجميع، فإذا لم يكن حجّة في حقّ الجميع؛ حينئذٍ يتعذّر على المجتهد أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً وفي حقّ الجميع حتّى بناءً على الحجّية؛ إذ لا فرق بين أنْ نبني على الاستحباب النفسي وبين أنْ نبني على الحجّية، فكل منهما ثابت بعنوان البلوغ(من بلغه ثواب على عملٍ فعمله كان له ذلك الثواب)، تارة نستفيد منها الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وتارة نستفيد منها الحجّية أيضاً بعنوان البلوغ. ومن هنا لا يصح أن يقال أنّ هذا الإشكال على المشهور مبني على ما يراه المشهور من الاستحباب النفسي للعمل بعنوان البلوغ؛ بل هو كما يرد على هذا المبنى، يرد أيضاً على استفادة الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب في محل الكلام.
لكن يمكن الخدشة في ما قيل: بأنّ الذي يظهر ويُستفاد من أخبار(من بلغ) هو أنّ البلوغ ليس حيثية تقييدية في دليل الحجّية التي هي أخبار(من بلغ) ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ حتّى نقيّد هذه الحجّية بالبلوغ بحيث لا تثبت الحجّية إلاّ لمن بلغه الثواب بحيث يكون البلوغ هو موضوع الحجّية، ليس هكذا، هذا لا يُستفاد من الأخبار بحيث يكون البلوغ كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، فكما أنّ وجوب الحج لا يثبت لكل أحد، وإنّما يثبت للمستطيع، كذلك الحجّية لا تثبت إلاّ لمن بلغه الثواب على عمل ولا تثبت لكل أحدٍ؛ بل الظاهر والمستفاد من الأخبار أنّ البلوغ أشبه بالحيثية التعليلية للحجّية، بمعنى أنّ الحجّية تثبت لذات الخبر والبلوغ حيثية تعليلية لثبوت الحجّية لذات الخبر بحيث يكون البلوغ واسطة وسبباً لثبوت الحجّية للخبر، صحيح أنّ البلوغ ذُكر في الدليل، لكن لا يُفهم من الدليل أخذه قيداً وحيثية تقييدية في دليل الحجّية، وإنّما الذي يُفهم منه أنّه واسطة في ثبوت الحجّية لذات الخبر نظير ما إذا قيل(إذا أخبرك الثقة بشيء فهو حجّة)، هنا لا يُفهم من هذا الدليل أنّ إخبار الثقة لك يكون حيثية تقييدية للحجّية بحيث أنّ الحجّية لا تثبت لذات الخبر، وإنّما تثبت الحجّية للخبر لخصوص من أخبره الثقة به، أمّا الشخص الذي لم يخبره الثقة به لا يكون هذا الخبر حجّة بالنسبة إليه، لا يُفهم ذلك، وإنّما يُفهم أنّ الحجّية ثابتة لذات الخبر بعلّة كون المخبر به ثقة، فكون المخبر به ثقة واسطة في ثبوت الحجّية لذات الخبر، البلوغ أُخذ في الدليل بلا إشكال، لكن الظاهر أنّه لم يؤخذ على نحو الموضوعية والقيديّة، وإنّما أُخذ على نحو الطريقية والحيثية التعليلية، فتكون الحجّية ثابتة لذات الخبر، إذا ثبتت الحجّية لذات الخبر لا مقيّداً بالبلوغ؛ حينئذٍ يكون الإفتاء بالاستحباب مطلقاً في حقّ الجميع صحيحاً وليس فيه أيّ إشكال، وبإمكان الفقيه أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً بلا أيّ قيدٍ، لا أنْ يقول له إذا بلغك أيّها المكلّف ثواب على عمل فالخبر يكون حجّة في إثبات الاستحباب، كلا، فسواء بلغه أمّ لم يبلغه هو ثابت في حقّه الاستحباب؛ لأنّ الحجّية عند المجتهد ثبتت لذات الخبر لا للخبر بقيد البلوغ، وإنّما البلوغ أشبه بالحيثية التعليلية على ما ذكرنا. هذا هو الذي يُفهم من هذا الدليل. بناءً على هذا، إذا تمّ ما ذكرناه؛ حينئذٍ يصحّ ما ذكروه من أنّ الإشكال على المشهور مبني على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً على استفادة الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب، فلا يرد عليه الإشكال عندما يفتون بالاستحباب مطلقاً.
بالنسبة إلى الأمر الثالث ـــــــ نرجع إلى الأمر الثالث وبعده نكمل الأمر الرابع ــــــ الذي لا تشمله الأخبار، بالنسبة إلى نقل فضائل أهل البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام) ومصائبهم، دعوى شمول الأخبار لنقل فضائل أهل البيت(عليهم أفضل الصلاة والسلام)، قررّناه في الدرس السابق بلحاظ الدليل الضعيف الدال على استحباب نقل فضائلهم، أو ترتب الثواب على نقل فضائلهم، هكذا قررّناه، بأنْ يقوم خبر ضعيف على استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، فتطبّق قاعدة التسامح على هذا الخبر الضعيف؛ وحينئذٍ يقال: يثبت بها استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام). هذا الذي تقدّم مناقشته بأنّه إنّما يتم لو كان لدينا دليل يدلّ على استحباب نقل فضائلهم مطلقاً، يعني وإنْ لم تثبت الفضيلة بمدركٍ معتبر، فيثبت استحباب نقل الفضيلة وإنْ لم تثبت بمدركٍ معتبر، لو كان الدليل الضعيف هذا مفاده يثبت استحبابه على بعض المباني، فإذا جاءت رواية غير معتبرةٍ دلّت على فضيلةٍ، يثبت استحباب نقل هذه الفضيلة؛ لأنّ الدليل الضعيف الأوّل دلّ على استحباب نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام) وإنْ لم تثبت بدليلٍ معتبر، لكن قلنا أنّه لا يوجد عندنا مثل هذا الدليل، وإنّما الموجود هو استحباب نقل فضائلهم، والمقصود بذلك، كما هو الحال في أيّ دليلٍ آخر، في أيّ موضوع ذُكر في الدليل، الموضوع هو الفضيلة الواقعية التي تثبت إمّا بالوجدان، أو بدليلٍ معتبر. هذا يثبت استحباب نقلها، وأمّا مع التشكيك وعدم إحراز ذلك، والتشكيك في كونها فضيلة، قلنا أنّه لا يمكن إثبات الاستحباب؛ لأنّ هذا تمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعية للدليل.
لكن هناك تقريباً آخراً لشمول أخبار(من بلغ) لنقل الفضائل، هذا التقريب منقول عن الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وحاصله: هو تطبيق القاعدة والأخبار على نفس الدليل الضعيف الدال على الفضيلة لا على الدليل الدال على استحباب نقل فضائلهم، والفرق بينهما واضح، فذاك دليل في الشبهة الحكميّة؛ لأنّ مفاده هو استحباب نقل الفضيلة، أو مفاده ترتّب الثواب على نقل الفضيلة، هذه شبهة حكمية، بينما الثاني هو دليل ضعيف وارد في الشبهة الموضوعية، الحديث يقول هذه فضيلة، فنطبّق قاعدة التسامح على هذا الخبر، باعتبار أنّ الخبر وإنْ كان مفاده المطابقي هو نقل موضوع وهو الفضيلة، لكنّ مدلوله الإلتزامي هو نقل الحكم، الإخبار عن الموضوع هو إخبار عن استحباب نقل هذه الفضيلة بالملازمة، وقد تقدّم سابقاً أنّه لا فرق في شمول الأخبار للبلوغ إذا تحقق بالدلالة المطابقية والبلوغ إذا تحقق بالدلالة الالتزامية، هذا خبر ضعيف يقول هذه فضيلة، هذا الخبر يحددّ موضوعاً، لكن بالملازمة كأنّه يقول يستحب نقلها، فيدلّ خبر ضعيف على استحباب نقل هذه الفضيلة، فتشمله أخبار(من بلغ) وبذلك يثبت استحباب نقل هذه الفضيلة بالرغم من أنّها لم تثبت إلاّ بخبر ضعيف، باعتبار الملازمة بين نقل الموضوع وبين نقل الحكم المترتب عليه، وهذا الكلام هو نفس الكلام الذي ذكرناه في الشبهات الموضوعية في المورد الأوّل، يقول الخبر الضعيف(هذا مسجد) ومن الواضح أنّ هذا لا يشمله؛ لأنّه يقول(هذا مسجد) وهذا ليس إخباراً بترتب الثواب، توهم الشمول كان مبنيّاً على أنّ الخبر وإنْ كان يقول(هذا مسجد) بالمطابقة، لكنّه بالالتزام يقول(تستحب الصلاة فيه) فهو إخبار عن استحباب الصلاة في هذا المسجد، فتشمله الأخبار بهذا الاعتبار. هنا أيضاً يقال بذلك، خبر ضعيف ينقل فضيلة لأهل البيت(عليهم السلام)، فهو بالالتزام كأنّه يقول(يستحب نقل هذه الفضيلة)؛ لأنّ استحباب النقل بالنسبة للفضيلة كاستحباب الصلاة بالنسبة إلى المسجد، هناك ملازمة بين كون الشيء مسجداً وبين الصلاة فيه، هنا أيضاً ملازمة بين كون هذه فضيلة وبين استحباب نقلها، فالإخبار عن الفضيلة هو إخبار عن استحباب نقلها، فإذا صار إخباراً عن استحباب نقلها، وترتّب الثواب على نقلها تشمله الأخبار، ويثبت بذلك استحباب نقل هذه الفضيلة. هذا تقريب آخر غير التقريب السابق.
جواب هذا التقريب هو نفس الجواب الذي ذكرناه في الشبهات الموضوعية، وهو أنّ هذا الخبر في الشبهة الموضوعية ليس نقلاً لترتب الثواب، لا بالمطابقة، ولا بالالتزام، وموضوع القاعدة وموضوع الأخبار هو بلوغ ترتّب الثواب على عمل، هذا لا يحقق بلوغ ترتّب الثواب على العمل، فهو ليس إخباراً بترتّب الثواب على العمل، وإنّما إخبار بأنّ هذا مسجد، أو إخبار بأنّ هذه فضيلة، الإخبار بأنّ هذا مسجد ليس إخباراً عن ترتب الثواب على الصلاة فيه، وليس إخباراً عن استحباب الصلاة فيه؛ لأنّه لا توجد ملازمة عرفية واضحة بين كون الشيء مسجداً وبين استحباب الصلاة فيه حتّى يكون الإخبار عن كونه مسجداً إخباراً عن استحباب الصلاة فيه ونقلاً لاستحباب الصلاة فيه، فيصدق البلوغ وتشمله الأخبار، وعلى تقدير أنْ تكون هناك ملازمة فهي ملازمة شرعية، هي ملازمة ثابتة بلحاظ الأدلّة، باعتبار أنّ الشارع حكم باستحباب الصلاة في المساجد تكون ملازمة شرعية ناشئة من الدليل، وهكذا ملازمة لا تصحّح أنْ يكون الإخبار عن الموضوع إخباراً عن الحكم الثابت له، يعني يكون محققّاً لصدق البلوغ؛ لأننّا قلنا مراراً أنّ البلوغ متقوّم بالإخبار، ولا يصح للمنقول إليه أنْ يقول بلغني إلاّ إذا أخبر من قبل شخصٍ، أو نقل له شخص بلوغ ترتب الثواب، فيقول بلغني ترتّب الثواب، كون حكم هذا المسجد هو الصلاة فيه، أو كون الفضيلة حكمها شرعاً هو جواز النقل، هذا لا يعني أنّ الإخبار بأنّ هذه فضيلة هو إخبار ونقل لاستحباب نقلها بحيث أنّ هذا الشخص الذي يقال له أنّ هذا مسجد يقول بلغني استحباب الصلاة فيه، قوله بلغني استحباب الصلاة فيه هذا غير واضح، وهو الذي نشكك فيه، فهو ليس نقلاً عن ترتّب الثواب لا بالمطابقة كما هو واضح، ولا بالالتزام، فلا يكون شمول الأخبار له واضحاً، ومن هنا يظهر أنّ نقل فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ومصائبهم، لا يمكن جعله مشمولاً للقاعدة لا بالتقريب الأوّل المتقدّم في الدرس السابق، ولا بهذا التقريب.
الأمر الرابع: استشكل على المشهور بأنّه كيف يفتي بالاستحباب مطلقاً وبلا قيد، مع أنّه يبني على أنّ المستفاد من أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسي للعمل لكن بعنوان البلوغ، العمل بعنوانه الأوّلي ليس مستحبّاً، وإنّما يكون مستحبّاً استحباباً نفسياً بعنوانه الثانوي(البلوغ)، هذان الأمران لا يمكن الجمع بينهما، هذا هو الإشكال. أنّ المفروض بناءً على هذا التفسير للأخبار أنّ الاستحباب ثابت للعمل بالعنوان الثانوي، يعني بعنوان البلوغ، يعني العمل الذي يبلغك ثواب عليه يكون مستحبّاً استحباباً نفسياً، فالبلوغ شرط في ثبوت الاستحباب النفسي للعمل، وهذا الفقيه بلغه ثواب على هذا العمل فلا يجوز له أنْ يفتي للعامّي بالاستحباب مطلقاً على نحو ما يفتي ــــــ مثلاً ــــــ باستحباب صلاة اللّيل مطلقاً؛ لأنّه هو بلغه ثواب عليه، هذا لا يصح بناءً على هذا المبنى والتفسير للأخبار؛ لأنّ الاستحباب ثابت بعنوان(البلوغ)، فلا يثبت الاستحباب إلاّ في حقّ من بلغه الثواب على العمل، أمّا العامّي الذي لم يبلغه الثواب على العمل أصلاً، فلا يثبت الاستحباب في حقّه، فكيف يمكن للمشهور أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً ؟ هذا هو التساؤل.
نعم، لا إشكال في أنّ المشهور يمكنه أنْ يفتي بالاستحباب على نهج القضية الحقيقية، يعني يقول للمكلّف العامّي إذا بلغك ثواب على عمل، فأنا أفتي بالاستحباب، هذا لا بأس به، ويقلّده العامّي في هذه المسألة؛ لأنّه استنبطها من الدليل الذي هو أخبار(من بلغ)، وهي أخبار معتبرة، استفاد منها أنّ كل من بلغه ثواب على عمل، فالعمل يكون مستحبّاً بالنسبة إليه، فهو يقول أنّ كل من بلغه ثواب على عمل، فالعمل يكون مستحبّاً بالنسبة إليه، هذا لا محذور فيه؛ لأنّ هذه القضية الحقيقية مستنبطة من الدليل المعتبر الذي هو عبارة عن أخبار(من بلغ)، فهو يفتي بمضمون هذا الدليل المعتبر، فلا محذور فيه، وإنّما المحذور في أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً وبلا قيد، بحيث يثبت الاستحباب مطلقاً في حق من بلغه الثواب وفي حقّ من لم يبلغه الثواب أصلاً، الإشكال من هنا ينشأ، فيقال كيف يمكن الجمع بينهما ؟ كما أنّ الإشكال كما ذكروا إنّما يتوجّه على المشهور باعتبار أنّ المشهور يلتزم باستفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ من أخبار(من بلغ)، وأمّا إذا فرضنا أنّ المشهور كان لا يلتزم بذلك، وإنّما يلتزم بالحجّية، يعني حجّية الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، لو كان يلتزم بذلك، فلا محذور في أنْ يفتي المشهور بالاستحباب مطلقاً، باعتبار أنّ الخبر الضعيف بناءً على استفادة الحجّية من أخبار(من بلغ) يكون حجّة ومعتبراً كالخبر الصحيح، فكما أنّ المجتهد لو قام عنده خبر صحيح على استحباب عمل بإمكانه أنْ يفتي العامّي بالاستحباب مطلقاً بحيث يثبت الاستحباب في حقّ الجميع، كذلك إذا قام عنده خبر ضعيف على استحباب عمل واستفاد من أخبار(من بلغ) جعل الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب للتسامح في أدلّة السنن، هذه أحكام غير إلزامية وهناك تسامح فيها، والشارع وسّع من دائرة الحجّية وجعلها شاملة للخبر الضعيف بحيث يصبح الخبر الضعيف حجّة، فإذا صار عنده حجّة فبإمكانه أنْ يفتي بالاستحباب ويثبت الاستحباب في حق الجميع، ومن هنا فهذا الإشكال مبني على افتراض اختيار هذا الاحتمال في أخبار من بلغ وهو استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً على استفادة الحجّية فالحجّية ثابتة للخبر لا بعنوان البلوغ، يعني أنّ هذا الخبر الضعيف حجّة ومعتبر، فإذا كان حجّة ومعتبراً؛ فحينئذٍ يثبت مفاده وهو استحباب العمل وترتب الثواب عليه.
فالنتيجة هي هذه: أنّ هذا الإشكال يتوجّه على المشهور عندما يفتي بالاستحباب مطلقاً، وعندما يبني المشهور على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ.
بالنسبة إلى أنّ الإشكال يتوجّه على المشهور بناءً على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، الظاهر أنّ هذا الإشكال وارد على المشهور، فلا يمكن الجمع بين الافتاء بالاستحباب مطلقاً وبين البناء على الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ؛ لأنّ الاستحباب بعنوان البلوغ معناه أنّ هذا العنوان هو الذي أوجب الاستحباب، من بلغه ثواب على عمل يكون العمل له مستحبّاً، فلا يثبت الاستحباب حتّى في حقّ من لم يبلغه الثواب على العمل، وإنّما يختصّ الاستحباب بمن بلغه ثواب على عمل.
وأمّا أنّ الإشكال يرتفع ولا يرد بناءً على أنْ يستفاد من أخبار(من بلغ) حجّية الخبر الضعيف الدال على الاستحباب، بيّنا كيف يرتفع الإشكال، وحاصله: أنّ الخبر الضعيف بناءً على هذا المبنى والتفسير لأخبار(من بلغ) يصبح حجّة لإثبات مفاده، فيكون حاله حال الخبر الصحيح الدال على استحباب عمل، فكما يمكن للمجتهد أنْ يفتي باستحباب الخبر الذي دلّ عليه الخبر الصحيح، كذلك بإمكانه أنْ يفتي للعامّي باستحباب هذا العمل الذي دلّ عليه الخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف الدال على الاستحباب حجّة في إثبات الاستحباب.
لكنّه قد يقال: أنّ هذا غير واضح؛ بل قد يناقش فيه بأنّه حتّى بناءً على الحجّية يرد الإشكال، وذلك باعتبار أنّ الحجّية التي نستفيدها من أخبار(من بلغ) هي أيضاً مقيّدة بعنوان البلوغ، وثابتة بعنوان البلوغ، وليس فقط الاستحباب بناءً على أنّ الاستحباب النفسي ثابت بعنوان البلوغ، وإنّما الحجّية أيضاً ثابتة بعنوان البلوغ، بنكتة أنّ الحجّية في أخبار(من بلغ) إنّما استفيدت من لحن الروايات التي يُفهم منها ــــــ على ما تقدّم ـــــــ الترغيب في العمل والحثّ عليه، وهذا تقدّم سابقاً، وقلنا أنّه لا يمكن إنكار دلالة الروايات على الترغيب في العمل والحث على الإتيان به، الحجّية استفيدت من هذا الترغيب والحثّ، فيستفاد منه أنّ الشارع اعتبر هذا حجّة؛ ولذا رغّب في العمل وحثّ عليه، ومن الواضح أنّ الترغيب والحثّ إنّما يثبت على عمل من بلغه الثواب، وأمّا من لم يبلغه الثواب، فالشارع لم يرغّبه في العمل، ولم يحثّه على العمل، وإنّما رغّب الشارع على عمل من بلغه ثواب عليه، فإذا كانت الحجّية مستفادة من هذا الترغيب والحثّ المختص بمن بلغه ثواب على عمل، فالحجّية أيضاً تكون مختصّة به ولا تثبت للجميع، هذا الذي بلغه الثواب على العمل، باعتبار أنّ الشارع حثّه على العمل استفدنا الحجّية، فتكون الحجّية مختصّة بمن بلغه الثواب على العمل، فالخبر يكون حجّة في حق من بلغه الثواب على العمل ولا يكون حجّة في حقّ الجميع، فإذا لم يكن حجّة في حقّ الجميع؛ حينئذٍ يتعذّر على المجتهد أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً وفي حقّ الجميع حتّى بناءً على الحجّية؛ إذ لا فرق بين أنْ نبني على الاستحباب النفسي وبين أنْ نبني على الحجّية، فكل منهما ثابت بعنوان البلوغ(من بلغه ثواب على عملٍ فعمله كان له ذلك الثواب)، تارة نستفيد منها الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وتارة نستفيد منها الحجّية أيضاً بعنوان البلوغ. ومن هنا لا يصح أن يقال أنّ هذا الإشكال على المشهور مبني على ما يراه المشهور من الاستحباب النفسي للعمل بعنوان البلوغ؛ بل هو كما يرد على هذا المبنى، يرد أيضاً على استفادة الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب في محل الكلام.
لكن يمكن الخدشة في ما قيل: بأنّ الذي يظهر ويُستفاد من أخبار(من بلغ) هو أنّ البلوغ ليس حيثية تقييدية في دليل الحجّية التي هي أخبار(من بلغ) ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ حتّى نقيّد هذه الحجّية بالبلوغ بحيث لا تثبت الحجّية إلاّ لمن بلغه الثواب بحيث يكون البلوغ هو موضوع الحجّية، ليس هكذا، هذا لا يُستفاد من الأخبار بحيث يكون البلوغ كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، فكما أنّ وجوب الحج لا يثبت لكل أحد، وإنّما يثبت للمستطيع، كذلك الحجّية لا تثبت إلاّ لمن بلغه الثواب على عمل ولا تثبت لكل أحدٍ؛ بل الظاهر والمستفاد من الأخبار أنّ البلوغ أشبه بالحيثية التعليلية للحجّية، بمعنى أنّ الحجّية تثبت لذات الخبر والبلوغ حيثية تعليلية لثبوت الحجّية لذات الخبر بحيث يكون البلوغ واسطة وسبباً لثبوت الحجّية للخبر، صحيح أنّ البلوغ ذُكر في الدليل، لكن لا يُفهم من الدليل أخذه قيداً وحيثية تقييدية في دليل الحجّية، وإنّما الذي يُفهم منه أنّه واسطة في ثبوت الحجّية لذات الخبر نظير ما إذا قيل(إذا أخبرك الثقة بشيء فهو حجّة)، هنا لا يُفهم من هذا الدليل أنّ إخبار الثقة لك يكون حيثية تقييدية للحجّية بحيث أنّ الحجّية لا تثبت لذات الخبر، وإنّما تثبت الحجّية للخبر لخصوص من أخبره الثقة به، أمّا الشخص الذي لم يخبره الثقة به لا يكون هذا الخبر حجّة بالنسبة إليه، لا يُفهم ذلك، وإنّما يُفهم أنّ الحجّية ثابتة لذات الخبر بعلّة كون المخبر به ثقة، فكون المخبر به ثقة واسطة في ثبوت الحجّية لذات الخبر، البلوغ أُخذ في الدليل بلا إشكال، لكن الظاهر أنّه لم يؤخذ على نحو الموضوعية والقيديّة، وإنّما أُخذ على نحو الطريقية والحيثية التعليلية، فتكون الحجّية ثابتة لذات الخبر، إذا ثبتت الحجّية لذات الخبر لا مقيّداً بالبلوغ؛ حينئذٍ يكون الإفتاء بالاستحباب مطلقاً في حقّ الجميع صحيحاً وليس فيه أيّ إشكال، وبإمكان الفقيه أنْ يفتي بالاستحباب مطلقاً بلا أيّ قيدٍ، لا أنْ يقول له إذا بلغك أيّها المكلّف ثواب على عمل فالخبر يكون حجّة في إثبات الاستحباب، كلا، فسواء بلغه أمّ لم يبلغه هو ثابت في حقّه الاستحباب؛ لأنّ الحجّية عند المجتهد ثبتت لذات الخبر لا للخبر بقيد البلوغ، وإنّما البلوغ أشبه بالحيثية التعليلية على ما ذكرنا. هذا هو الذي يُفهم من هذا الدليل. بناءً على هذا، إذا تمّ ما ذكرناه؛ حينئذٍ يصحّ ما ذكروه من أنّ الإشكال على المشهور مبني على استفادة الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً على استفادة الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب، فلا يرد عليه الإشكال عندما يفتون بالاستحباب مطلقاً.