35/02/03
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
بعد أنْ استعرضنا الاحتمالات المتقدّمة الثبوتية في مفاد أخبار(من بلغ) تكلّمنا عن الفوارق بين هذه الاحتمالات، هناك كلام ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) ظاهره أنّه ينكر وجود ثمرة فقهية بين الاحتمالين الثاني والثالث المتقدّمين،[1] يعني بين القول بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الاستحباب للعمل بعنوان(البلوغ)، وبين كون مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في المستحبّات، يقول لا ثمرة عملية فقهية بينهما؛ لأنّه على كلا التقديرين المجتهد يفتي باستحباب العمل، أمّا على الثاني فواضح؛ لأنّ مفاد الأخبار على الثاني هو استحباب العمل بالعنوان الثانوي. وأمّا على الثالث، فأيضاً واضح؛ لأنّ الخبر الضعيف هو حجّة في إثبات الاستحباب، فالفقيه ينتهي إلى نتيجة ثبوت الاستحباب ويفتي حينئذٍ باستحباب العمل على كلا التقديرين، غاية الأمر أنّ الاستحباب الثابت على التقدير الثاني هو استحباب واقعي ثانوي ثابت بعنوان(البلوغ)، بينما على الثالث هو استحباب واقعي أوّلي ثابت للعمل باعتبار دلالة الخبر الضعيف الحجّة بناءً على الاحتمال الثالث على استحبابه.
ثمّ ذكر السيد الخوئي(قدّس سرّه) وقال: قد يقال بظهور الثمرة في مورد وهو ما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب ما ثبتت حرمته بعمومٍ، أو إطلاق. تقدّم ذكر هذا عند نقل كلامه في البحوث التي قال بأنّها مبنيّة على اختيار أحد الاحتمالين الثاني، أو الثالث، وحيث أنّه في المصباح ـــــ مثلاً ـــــ لم يرتضِ كلاً منهما، فقال حينئذٍ يلغو هذا البحث، ويكون بلا فائدة؛ لأنّه مبني على اختيار البحث الأوّل، أو البحث الثاني، إذا قام خبر ضعيف على استحباب شيءٍ وكان مقتضى عموم دليل، أو مقتضى إطلاق دليل حرمة ذلك الشيء، هنا ذكروا بأنّه بناءً على القول الثاني حينئذٍ يقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي وبين الحكم التحريمي؛ لأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ على استحبابه، بينما العموم والإطلاق يدلّ على تحريمه، فيقع التزاحم بين هذين الحكمين، ولا إشكال في تقديم الحكم الإلزامي في هذا المجال، فيُحكم بحرمته، بينما على الاحتمال الثالث، يعني حجّية الخبر الضعيف في المستحبّات؛ حينئذٍ يكون هذا أخص مطلقاً من العموم، أو الإطلاق، فيخصصّ العموم، أو يقيّد الإطلاق، وبالتالي يُلتزم باستحبابه لا بحرمته، وهذه ثمرة بين القولين، السيد الخوئي(قدّس سرّه) سابقاً كان يقول هذا البحث يلغو؛ لأنّه على أحد الاحتمالين الثاني، أو الثالث، وكما قلنا أنّه في المصباح لم يرتضِ كلاً منهما، الآن يقول قد يقال: بأنّ الثمرة بين القولين تظهر في هذا الفرض؛ لأنّه على الاحتمال الثاني يُحكم بحرمة الفعل، بينما على الاحتمال الثالث يُحكم باستحبابه؛ لأنّه على الاحتمال الثالث يكون الخبر الضعيف الحجّة ــــــ بحسب الفرض ــــــ مقيّداً للعموم والإطلاق، العموم يشمله بعمومه، فيخصصّه هذا الخبر، والإطلاق يشمله بإطلاقه، فيقيّده هذا الخبر، وبالتالي نلتزم بمضمون هذا الخبر، يعني نلتزم بالاستحباب، وهذه ثمرة تظهر بين القولين، فقد يقال: بأنّ هناك ثمرة بين القولين تظهر في هذا المورد.
وأجاب عن ذلك:[2] بادعاء أنّ مثل هذا الخبر في هذا المورد الخاص أصّلاً لا تشمله أخبار(من بلغ) حتّى نتكلّم أنّه بناءً على الاحتمال الثالث فيها نلتزم بالتخصيص وبالتالي بالاستحباب، وأمّا على الاحتمال الثاني فيها، فيُلتزم بالتزاحم وبالتالي يُلتزم بالتحريم، يقول هذا الخبر أصلاً ليس مشمولاً لأخبار(من بلغ)؛ لأنّه يرى أنّ الأخبار منصرفة عن مثله، ومختصّة بمن بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه العقاب مضافاً إلى بلوغ الثواب كما هو في هذا المورد؛ لأنّ هذا المورد بلغه الثواب بالخبر الضعيف، وبلغه العقاب بالعموم والإطلاق الدال على حرمته بإطلاقه، أو بعمومه، فيكون المكلّف قد بلغه العقاب أيضاً على هذا العمل، يقول الأخبار منصرفة عن ذلك، والأخبار لا تشمل إلاّ من بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه الثواب والعقاب، فهذا لا تكون الأخبار شاملة له؛ بل منصرفة عنه، وفي (المصباح)[3] ذكر وجهاً يمكن جعله هو الوجه في دعوى الانصراف، وهو دعوى أنّ الأخبار لا تشمل مقطوع الحرمة، ولو قطعاً تعبّدياً كما هو المفروض في محل الكلام؛ لأننّا نفترض أنّ العموم والإطلاق ثابت اعتباراً؛ فحينئذٍ يكون موجباً للقطع بالحرمة، ولو قطعاً ـــــ كما قلنا ـــــ تعبّدياً، والقطع بالحرمة يستلزم القطع بالعقاب واستحقاق العقاب، باعتبار الملازمة بين القطع بالحرمة والقطع باستحقاق العقاب؛ حينئذٍ كيف يمكن الالتزام بترتّب الثواب على الاتيان به مع القطع باستحقاق العقاب على الاتيان به، هذا غير ممكن أصّلاً، ومن هنا، فإنّ أخبار(من بلغ) لا تشمل مقطوع الحرمة؛ لأنّ القطع بحرمته يساوق القطع بترتّب العقاب على فعله، ومع القطع بالعقاب على الفعل كيف يمكن الالتزام بترتّب الثواب على الفعل، ومن هنا تختص أخبار(من بلغ) بخصوص من بلغه الثواب، فلا تشمل محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام فرضنا بلوغ الثواب وبلوغ العقاب، وأخبار(من بلغ) منصرفة عن ذلك ولا تشمله، فإذن: لا يصح دعوى وجود الثمرة بالشكل الذي ثبوته فرع الالتزام بشمول أخبار(من بلغ) لذلك الخبر الضعيف حتّى يُفصَّل على الاحتمال الثاني وعلى الاحتمال الثالث، بينما أخبار(من بلغ) أساساً هي لا تشمل مثل هذا الخبر؛ حينئذٍ هذه الثمرة لا تكون صحيحة.
هذا الكلام كأنّه غير مقبول، أمّا على الاحتمال الثالث، بناءً على أنّ مفاد أخبار(من بلغ) هو جعل الحجّية للخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف بناءً على هذا الاحتمال يصير حجّة في إثبات الاستحباب، وإذا صار حجّة يكون موجباً للقطع بترتّب الثواب على الفعل، كما أنّ دليل الحرمة الحجّة يوجب القطع بترتّب العقاب على الفعل، على الاحتمال الثالث يكون الخبر الضعيف موجباً للقطع بترتّب الثواب على الفعل، فيجب أنْ نتعامل معهما على هذا الأساس، يوجب القطع بترتّب الثواب على الفعل، ولا يمكن أنْ نقول أنّ الأخبار لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ القطع بالحرمة يستلزم ترتّب العقاب على الفعل؛ إذ لا فرق بين دليل الحرمة ودليل الاستحباب بناءً على الاحتمال الثالث، فأنّ كلاً منهما حجّة، يعني القطع بترتّب العقاب يقابله القطع بترتّب الثواب، فلا وجه لأنْ نقول بأنّ القطع بالحرمة يوجب القطع بترتّب العقاب، فلا تشمله هذه الأخبار، إبراز هذه النكتة وحدها فقط غير كافية لإثبات الانصراف؛ لأنّ القطع بترتّب العقاب يقابله القطع بترتّب الثواب على الاحتمال الثالث؛ بل لعلّ الأمر كذلك على الاحتمال الثاني أيضاً بناءً على أنّ مفاد الأخبار هو ثبوت الاستحباب للفعل بالعنوان الثانوي، أي بعنوان(البلوغ)؛ لأنّه بناءً عليه الاستحباب في الحقيقة لا يثبت للخبر الضعيف كما هو الحال بناءً على الاحتمال الثالث، الاستحباب لا يثبت للخبر الضعيف على الاحتمال الثاني؛ لأننّا لم نصل إلى نتيجة أنّ الخبر الضعيف حجّة في المستحبات، وإنّما الاستحباب يثبت لأخبار(من بلغ) غاية الأمر أنّ الخبر الضعيف يحقق موضوع هذا الاستحباب وشرطه وهو عنوان(البلوغ) يحققه وجداناً، وإنْ كان خبراً ضعيفاً ليس حجّة، لكن يحقق عنوان(البلوغ)، فإذا تحققّ عنوان(البلوغ) حينئذٍ يثبت الاستحباب بأخبار(من بلغ) لا بالخبر الضعيف، بمعنى أنّ الاستحباب يثبت لا بالخبر الضعيف حتّى على الاحتمال الثاني، وإنّما يثبت بأخبار(من بلغ) والمفروض أنّ أخبار(من بلغ) تامّة سنداً وحجّة ومعتبرة، ويكون هذا موجباً للقطع بالاستحباب بعد تحقق موضوعه وجداناً بالخبر الضعيف، والقطع بالاستحباب أيضاً يوجب القطع بترتّب الثواب، فكما أنّ هناك قطعاً بترتّب العقاب على الفعل، هناك قطع بترتّب الثواب على الفعل، دليل الحرمة يوجب القطع بترتّب العقاب على الفعل، الخبر الضعيف على الاحتمال الثالث، أخبار من بلغ على الاحتمال الثاني توجب القطع بترتّب الثواب، فيقع التعارض بينهما. إبراز هذه النكتة كنكتةٍ للانصراف ليس واضحاً.
نعم، يمكن إدّعاء الانصراف بنكتةٍ أخرى، يعني انصراف أخبار(من بلغ) عن مورد بلوغ العقاب على العمل، مضافاً إلى بلوغ الثواب يُدّعى الانصراف بقرينة أخرى وهي قوله(عليه السلام):(فعمله التماساً لذلك الثواب) هذا لا يبعد انصرافه إلى حالة بلوغ الثواب فقط، ولعلّ ظاهره أيضاً بلوغ الثواب فقط؛ لأنّ التماس ذلك الثواب تصوّره ليس صحيحاً عندما يكون الشخص بلغه ثواب وبلغه عقاب على العمل، فعندما يبلغه ثواب على العمل ويبلغه عقاب على العمل، خصوصاً في مورد الكلام الذي بلغه عقاب على العمل بدليلٍ معتبر، بينما بلغه الثواب بخبر ضعيف ــــــ بحسب الفرض ــــــ ونحن نريد أنْ نتكلّم عن أخبار(من بلغ) أنّها تدل على حجّية الخبر الضعيف، أو لا ؟ بالنتيجة هو بلغه ثواب بخبر ضعيف، وبلغه عقاب على العمل بخبر معتبر بعموم، أو إطلاق، الخبر عندما يقول:(فعمله التماساً لذلك الثواب) منصرف عن هذه الحالة، ظاهر في بلوغ الثواب فقط، هذا غير بعيد، ولا يبعُد أنْ يقال ذلك، أنّ الخبر منصرف عن حالة بلوغ العقاب مع بلوغ الثواب، فلا يكون شاملاً لذلك، وإنّما هو يختص بحالة بلوغ الثواب، أنّ الشخص الذي يبلغه العقاب على عمل بخبر معتبر، ويبلغه الثواب على العمل نفسه بخبر ضعيف عادةً لا يأتي بالعمل التماساً للثواب مع وصول العقاب عليه بدليل معتبر، الأخبار ليست ناظرة إلى هذه الحالة، وإنّما ناظرة إلى حالة بلوغ الثواب فقط، جاءه خبر يدلّ على ثبوت الثواب لشيءٍ، هذا تكون الأخبار شاملة له، وأمّا افتراض أنّه بلغه الثواب وبلغه العقاب بخبر المعتبر كما هو المفروض في هذا المقام، لا يبعُد كما قال انصراف الأخبار عنه، فعلى كل حالٍ يمكن ذكر ثمرة، أو بعض الثمرات بين القولين الثاني والثالث غير ما ذُكر، وتتفرّع هذه الثمرة على ما قلناه من أنّ الاستحباب الثابت بناءً على الاحتمال الثاني هو استحباب واقعي ثانوي، يعني ثابت للفعل بعنوانه الثانوي، أي بعنوان(البلوغ) بينما الاستحباب إذا ثبت على الاحتمال الثالث يكون استحباباً واقعياً ثابتاً للفعل بعنوانه الأوّلي بناءً على حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات، يترتب على ذلك هذه الثمرة، وهي تظهر فيما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب شيءٍ ودلّ خبر صحيح على عدم استحبابه وليس على حرمته.
أمّا على الاحتمال الثاني فلا توجد مشكلة، فنأخذ بكلا الخبرين، بمعنى أننّا نلتزم باستحباب الفعل بعنوانه الثانوي، وعدم استحبابه بعنوانه الأوّلي عملاً بالخبر الصحيح الدال على عدم استحبابه، بأنّه ينفي الاستحباب عنه بعنوانه الأوّلي، وهذا لا ينافي أنْ نلتزم بأنّ نفس هذا الفعل، لكن بعنوانه الثانوي يكون مستحبّاً عملاً بأخبار(من بلغ) بعد أنْ نختار في تفسيرها وتحديد مفادها الاحتمال الثاني الذي يثبت استحباب الفعل بعنوان(البلوغ)، ولا محذور في أنْ نلتزم بأنّه مستحب بعنوانه الثانوي، وليس مستحبّاً بعنوانه الأوّلي، فنأخذ بكلا الدليلين، يعني بالخبر الصحيح النافي للاستحباب، وبأخبار(من بلغ) الدالة على الاستحباب بالعنوان الثانوي.
وأمّا على الاحتمال الثالث، يعني بناءً على حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات؛ حينئذٍ يقع التعارض بين الخبرين؛ لأنّه على الاحتمال الثالث الخبر الضعيف يكون حجّة في باب الاستحباب، فيعارض الخبر الصحيح النافي للاستحباب، فيقع التعارض بينهما.
هذه ثمرة بين القولين على الاحتمال الثاني نأخذ بكلا الدليلين، ونلتزم بالاستحباب بالعنوان الثانوي، بينما على الاحتمال الثالث يقع التعارض بين الخبرين، فالثمرة بين القولين الثاني والثالث تظهر في هذا المورد وفي غيره من الموارد لا داعي للتعرّض لها.
نأتي إلى البحث الإثباتي، إنّ هذه الاحتمالات المتعددّة في أخبار(من بلغ) ما هو الاحتمال الأقرب منها على ضوء ما يُفهم من الأدلّة ؟ نتعرّض أولاً للاحتمال الثالث وهو أنّ مفاد الأخبار هو عدم اعتبار شرائط الحجّية في الخبر في باب المستحبات، أو بعبارة أخرى: جعل الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبات.
هذا الاحتمال الثالث استُشكل في إفادته من أخبار(من بلغ) بهذا الإشكال المعروف، وهو أنّ دليل الحجّية لابدّ أنْ يكون ناظراً إلى الواقع، ومثبتاً للواقع بإلغاء احتمال الخلاف، بينما هذه الأخبار كما نفهمها صريحة في إثبات ترتّب الثواب مع عدم التعرّض لإلغاء احتمال الخلاف؛ بل ــــــ وهو المهم ــــــ التعرّض لتقرير هذا الاحتمال بقوله:(وإنْ لم يكن كما بلغه) كما في بعض الروايات، أو(وإنْ كان رسول الله لم يقله) هذا التصريح بأنّ هذا حجّة وطريق لإدراك الواقع، وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع لا يناسب لسان الحجّية، فلسان الحجّية لسان إلغاء احتمال الخلاف، لسان أنّ هذا يحرز الواقع، هذا لا يناسبه أنْ يُصرّح بأنّ هذا حجّة وإنْ لم يحرز الواقع، هذا التصريح بأنّه وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع يُعبر عنه في الروايات(وإنْ لم يكن كما بلغه)، أو(وإنْ لم يكن كما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) حسب اختلاف التعبيرات، هذا لا يناسب الحجّية، فلسان الحجّية أنّ هذا يحرز الواقع وموصل إلى الواقع، إلغِ احتمال الخلاف، ولا تعتني باحتمال الخلاف، وتتميم الكشف، وأمثال هذه التعبيرات، وكلّها ترجع إلى جعل هذا طريقاً موصلاً إلى الواقع، فما معنى أنْ يقول: أبنِ على أنّ هذا طريق إلى الواقع، محرز للواقع، والغ احتمال الخلاف وإنْ كان غير مطابقاً للواقع، هذا لا يناسب لسان الحجّية، فاللّسان الموجود في هذه الأخبار لا يناسب لسان الحجّية. ومن هنا يكون هذا الاحتمال الثالث مستبعداً على هذا الأساس. هذا الإشكال منقول عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، نقله عنه تلامذته.[4]
أجيب عن هذا الكلام: كما هو موجود في كلامٍ للشيخ حسين الحلّي(قدّس سرّه) تعليقاً على كلام استاذه بعد أنْ نقله بهذا المضمون علّق عليه، ذكر ما حاصله: أنّ إبداء احتمال المخالفة وإنْ كان لا يناسب جعل الحجّية كما ذكر؛ لأنّ المناسب له هو صرف نظر المكلّف عن احتمال المخالفة وتحويل نظره إلى البناء على المطابقة لا جعل احتمال المخالفة نصب عينيه، وكأنّ الروايات تجعل احتمال المخالفة نصب عينيه عندما تقول(وإنْ لم يكن كما قاله)، أو (وإن كان ليس كما بلغك) يقول هذا لا يناسب جعل الحجّية، إلاّ أنّه مع ذلك لعلّ المقام مقام إبداء ذلك الاحتمال، فيمكن أنْ نفترض أنّ المقام يستدعي إبداء ذلك الاحتمال وسدّه تعبّداً بأنْ يقال له هذا الخبر حجّة كاشف عن الواقع، فيلزمك البناء على المطابقة للواقع وإنْ كنت وجداناً تحتمل المخالفة للواقع، حتّى إذا كنت تحتمل المخالفة للواقع أبنِ على أنّ هذا مطابق للواقع، الذي هو معنى الحجّية، وذكر بأنّ هذا يصح إذا فرض تشكيكه في ذلك، ولو من جهة ظاهر حاله، أنّ المخاطَب فُرض فيه أنّه يشكّك في جعل الحجّية حتّى مع احتمال المخالفة للواقع، يُشككّ في جعل الحجّية، فيقال له هذا الكلام، فيُبرَز له هذا الاحتمال ويُحكم بإلغائه وأنّه لا قيمة له، أنّ هذا أجعله حجّة وطريقاً موصلاً إلى الواقع حتّى إنْ كنت تشكّ في مطابقته للواقع، إبداء هذا الاحتمال وإبرازه قد يكون لغرض، صحيح طبيعة جعل الحجّية يقتضي أنْ لا يُبرَز هذا الاحتمال وأنْ يُجعَل نصب عينيه كما قال، هذا هو المناسب لجعل الحجّية، لكن لا مانع من فرض أنّه في حالة معيّنة قد يستدعي المقام إبراز هذا الاحتمال من قبل نفس جاعل الحجّية، فيبرز هذا الاحتمال له حتّى يسدّه، حتّى يحكم بإلغائه، فيقول له وإنْ كنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة للواقع، أنا أقول لك أجعله طريقاً للواقع، فيكون مناسباً لجعل الحجّية، بناءً على هذا لا يكون هذا اللّسان لساناً منافياً لجعل الحجّية.
هذا الكلام ـــــ فرضاً ـــــ ممكن، لكن المشكلة أنّ أخبار(من بلغ) عندما جعلت الحجّية لا تنظر إلى خصوص هذا، وإنّما جعلت الحجّية مطلقاً، جعلت الحجّية لكل شخصٍ لا خصوص هذا الذي يفترض كونه يشككّ في جعل الحجّية مع المخالفة، ليس فقط لهذا، وإنّما جُعلت الحجّية بهذا اللّسان بإبراز احتمال المخالفة للواقع مطلقاً، ولكل أحد، هذا يقال أنّه لا يناسب جعل الحجّية، خصوصاً وأنْ الأخبار تقول(وإنْ لم يكن كما قاله)، وليس أنّها تقول(وإن كنت تحتمل أنّها مخالفة) كما هو ذكر، وإنّما تقول(وإنْ لم يكن كما قاله رسول الله)، أو(وإنْ لم يكن كما بلغك) يعني إبداء احتمال المخالفة الواقعية لا أنّ المكلّف، وإن كنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة له، وإنّما اللّسان واضح في أنّ جعل الحجّية بمعنى الطريقية، بمعنى الكشف عن الواقع، بمعنى أصالة الواقع وإلغاء احتمال الخلاف، وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع، هذا مفاد الأخبار، التصريح بهذا ليس مناسباً لجعل الحجّية، وإنّما المناسب لجعل الحجّية أنْ يجعلها طريقاً، ولا يصرّح بأنّه حجّة حتّى إذا كان مخالفاً للواقع، هو في الواقع هكذا، هو حجّة حتّى إذا كان مخالفاً للواقع، لكن الكلام ليس في هذا، وإنّما الكلام في تصريح الجاعل نفسه، كما ذكر هو(قدّس سرّه) بأنّ المناسب ليس أنْ يبرز هذا الاحتمال ويجعله أمام عينيه، المناسب أنْ يجعل هذا طريقاً إلى الواقع ويسكت، ويلغي احتمال الخلاف أمّا أنْ يقول أبنِ على أنّ هذا مطابق للواقع، وإنْ كان مخالفاً في الواقع، فهذا لا يناسب لسان جعل الحجّية.
نعم، أصل الإشكال مبني على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجّية، بمعنى أنه بناءً على جعل الطريقية وتتميم الكشف، وإلغاء احتمال الخلاف يأتي هذا الكلام، أنّ هذا اللّسان الموجود في الأخبار لا يناسب جعل الحجّية؛ لأنّ جعل الحجّية يعني تتميم الكشف، يعني جعله طريقاً إلى الواقع، فلا معنى لأنْ يقول له هذا طريق إلى الواقع، وإنْ لم يطابق الواقع.
وأمّا إذا فسّرنا الحجّية بمسالك أخرى من قبيل جعل الحكم المماثل، أو من قبيل المنجّزية والمعذرية؛ فحينئذٍ لا يرد هذا الكلام، فلسان الأخبار ليس منافياً للسان جعل الحجّية بهذا المعنى، بمعنى جعل الحكم المماثل، لا علاقة له بالواقع، يجعل حكماً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، أو أنّ مؤدّى الإمارة منجّز عليه، أو معذّر له، هذا لا يرد عليه الإشكال؛ لأنّ أصل الإشكال مبني على الطريقية وتتميم الكشف وأمثال هذه الأمور، لكن بالرغم من هذا ـــــ أنّ هذا مبني على مسلك جعل الطريقية، وأننّا إذا فسّرنا الحجّية بتفسير آخر، فهذا الإشكال لا يرد ـــــ مع ذلك يمكن أنْ يقررّ الإشكال بتقرير آخر خالٍ من هذا، يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى ، يعني يجري على كل المسالك في تفسير الحجّية.
بعد أنْ استعرضنا الاحتمالات المتقدّمة الثبوتية في مفاد أخبار(من بلغ) تكلّمنا عن الفوارق بين هذه الاحتمالات، هناك كلام ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) ظاهره أنّه ينكر وجود ثمرة فقهية بين الاحتمالين الثاني والثالث المتقدّمين،[1] يعني بين القول بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الاستحباب للعمل بعنوان(البلوغ)، وبين كون مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في المستحبّات، يقول لا ثمرة عملية فقهية بينهما؛ لأنّه على كلا التقديرين المجتهد يفتي باستحباب العمل، أمّا على الثاني فواضح؛ لأنّ مفاد الأخبار على الثاني هو استحباب العمل بالعنوان الثانوي. وأمّا على الثالث، فأيضاً واضح؛ لأنّ الخبر الضعيف هو حجّة في إثبات الاستحباب، فالفقيه ينتهي إلى نتيجة ثبوت الاستحباب ويفتي حينئذٍ باستحباب العمل على كلا التقديرين، غاية الأمر أنّ الاستحباب الثابت على التقدير الثاني هو استحباب واقعي ثانوي ثابت بعنوان(البلوغ)، بينما على الثالث هو استحباب واقعي أوّلي ثابت للعمل باعتبار دلالة الخبر الضعيف الحجّة بناءً على الاحتمال الثالث على استحبابه.
ثمّ ذكر السيد الخوئي(قدّس سرّه) وقال: قد يقال بظهور الثمرة في مورد وهو ما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب ما ثبتت حرمته بعمومٍ، أو إطلاق. تقدّم ذكر هذا عند نقل كلامه في البحوث التي قال بأنّها مبنيّة على اختيار أحد الاحتمالين الثاني، أو الثالث، وحيث أنّه في المصباح ـــــ مثلاً ـــــ لم يرتضِ كلاً منهما، فقال حينئذٍ يلغو هذا البحث، ويكون بلا فائدة؛ لأنّه مبني على اختيار البحث الأوّل، أو البحث الثاني، إذا قام خبر ضعيف على استحباب شيءٍ وكان مقتضى عموم دليل، أو مقتضى إطلاق دليل حرمة ذلك الشيء، هنا ذكروا بأنّه بناءً على القول الثاني حينئذٍ يقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي وبين الحكم التحريمي؛ لأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ على استحبابه، بينما العموم والإطلاق يدلّ على تحريمه، فيقع التزاحم بين هذين الحكمين، ولا إشكال في تقديم الحكم الإلزامي في هذا المجال، فيُحكم بحرمته، بينما على الاحتمال الثالث، يعني حجّية الخبر الضعيف في المستحبّات؛ حينئذٍ يكون هذا أخص مطلقاً من العموم، أو الإطلاق، فيخصصّ العموم، أو يقيّد الإطلاق، وبالتالي يُلتزم باستحبابه لا بحرمته، وهذه ثمرة بين القولين، السيد الخوئي(قدّس سرّه) سابقاً كان يقول هذا البحث يلغو؛ لأنّه على أحد الاحتمالين الثاني، أو الثالث، وكما قلنا أنّه في المصباح لم يرتضِ كلاً منهما، الآن يقول قد يقال: بأنّ الثمرة بين القولين تظهر في هذا الفرض؛ لأنّه على الاحتمال الثاني يُحكم بحرمة الفعل، بينما على الاحتمال الثالث يُحكم باستحبابه؛ لأنّه على الاحتمال الثالث يكون الخبر الضعيف الحجّة ــــــ بحسب الفرض ــــــ مقيّداً للعموم والإطلاق، العموم يشمله بعمومه، فيخصصّه هذا الخبر، والإطلاق يشمله بإطلاقه، فيقيّده هذا الخبر، وبالتالي نلتزم بمضمون هذا الخبر، يعني نلتزم بالاستحباب، وهذه ثمرة تظهر بين القولين، فقد يقال: بأنّ هناك ثمرة بين القولين تظهر في هذا المورد.
وأجاب عن ذلك:[2] بادعاء أنّ مثل هذا الخبر في هذا المورد الخاص أصّلاً لا تشمله أخبار(من بلغ) حتّى نتكلّم أنّه بناءً على الاحتمال الثالث فيها نلتزم بالتخصيص وبالتالي بالاستحباب، وأمّا على الاحتمال الثاني فيها، فيُلتزم بالتزاحم وبالتالي يُلتزم بالتحريم، يقول هذا الخبر أصلاً ليس مشمولاً لأخبار(من بلغ)؛ لأنّه يرى أنّ الأخبار منصرفة عن مثله، ومختصّة بمن بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه العقاب مضافاً إلى بلوغ الثواب كما هو في هذا المورد؛ لأنّ هذا المورد بلغه الثواب بالخبر الضعيف، وبلغه العقاب بالعموم والإطلاق الدال على حرمته بإطلاقه، أو بعمومه، فيكون المكلّف قد بلغه العقاب أيضاً على هذا العمل، يقول الأخبار منصرفة عن ذلك، والأخبار لا تشمل إلاّ من بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه الثواب والعقاب، فهذا لا تكون الأخبار شاملة له؛ بل منصرفة عنه، وفي (المصباح)[3] ذكر وجهاً يمكن جعله هو الوجه في دعوى الانصراف، وهو دعوى أنّ الأخبار لا تشمل مقطوع الحرمة، ولو قطعاً تعبّدياً كما هو المفروض في محل الكلام؛ لأننّا نفترض أنّ العموم والإطلاق ثابت اعتباراً؛ فحينئذٍ يكون موجباً للقطع بالحرمة، ولو قطعاً ـــــ كما قلنا ـــــ تعبّدياً، والقطع بالحرمة يستلزم القطع بالعقاب واستحقاق العقاب، باعتبار الملازمة بين القطع بالحرمة والقطع باستحقاق العقاب؛ حينئذٍ كيف يمكن الالتزام بترتّب الثواب على الاتيان به مع القطع باستحقاق العقاب على الاتيان به، هذا غير ممكن أصّلاً، ومن هنا، فإنّ أخبار(من بلغ) لا تشمل مقطوع الحرمة؛ لأنّ القطع بحرمته يساوق القطع بترتّب العقاب على فعله، ومع القطع بالعقاب على الفعل كيف يمكن الالتزام بترتّب الثواب على الفعل، ومن هنا تختص أخبار(من بلغ) بخصوص من بلغه الثواب، فلا تشمل محل الكلام؛ لأنّه في محل الكلام فرضنا بلوغ الثواب وبلوغ العقاب، وأخبار(من بلغ) منصرفة عن ذلك ولا تشمله، فإذن: لا يصح دعوى وجود الثمرة بالشكل الذي ثبوته فرع الالتزام بشمول أخبار(من بلغ) لذلك الخبر الضعيف حتّى يُفصَّل على الاحتمال الثاني وعلى الاحتمال الثالث، بينما أخبار(من بلغ) أساساً هي لا تشمل مثل هذا الخبر؛ حينئذٍ هذه الثمرة لا تكون صحيحة.
هذا الكلام كأنّه غير مقبول، أمّا على الاحتمال الثالث، بناءً على أنّ مفاد أخبار(من بلغ) هو جعل الحجّية للخبر الضعيف؛ لأنّ الخبر الضعيف بناءً على هذا الاحتمال يصير حجّة في إثبات الاستحباب، وإذا صار حجّة يكون موجباً للقطع بترتّب الثواب على الفعل، كما أنّ دليل الحرمة الحجّة يوجب القطع بترتّب العقاب على الفعل، على الاحتمال الثالث يكون الخبر الضعيف موجباً للقطع بترتّب الثواب على الفعل، فيجب أنْ نتعامل معهما على هذا الأساس، يوجب القطع بترتّب الثواب على الفعل، ولا يمكن أنْ نقول أنّ الأخبار لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ القطع بالحرمة يستلزم ترتّب العقاب على الفعل؛ إذ لا فرق بين دليل الحرمة ودليل الاستحباب بناءً على الاحتمال الثالث، فأنّ كلاً منهما حجّة، يعني القطع بترتّب العقاب يقابله القطع بترتّب الثواب، فلا وجه لأنْ نقول بأنّ القطع بالحرمة يوجب القطع بترتّب العقاب، فلا تشمله هذه الأخبار، إبراز هذه النكتة وحدها فقط غير كافية لإثبات الانصراف؛ لأنّ القطع بترتّب العقاب يقابله القطع بترتّب الثواب على الاحتمال الثالث؛ بل لعلّ الأمر كذلك على الاحتمال الثاني أيضاً بناءً على أنّ مفاد الأخبار هو ثبوت الاستحباب للفعل بالعنوان الثانوي، أي بعنوان(البلوغ)؛ لأنّه بناءً عليه الاستحباب في الحقيقة لا يثبت للخبر الضعيف كما هو الحال بناءً على الاحتمال الثالث، الاستحباب لا يثبت للخبر الضعيف على الاحتمال الثاني؛ لأننّا لم نصل إلى نتيجة أنّ الخبر الضعيف حجّة في المستحبات، وإنّما الاستحباب يثبت لأخبار(من بلغ) غاية الأمر أنّ الخبر الضعيف يحقق موضوع هذا الاستحباب وشرطه وهو عنوان(البلوغ) يحققه وجداناً، وإنْ كان خبراً ضعيفاً ليس حجّة، لكن يحقق عنوان(البلوغ)، فإذا تحققّ عنوان(البلوغ) حينئذٍ يثبت الاستحباب بأخبار(من بلغ) لا بالخبر الضعيف، بمعنى أنّ الاستحباب يثبت لا بالخبر الضعيف حتّى على الاحتمال الثاني، وإنّما يثبت بأخبار(من بلغ) والمفروض أنّ أخبار(من بلغ) تامّة سنداً وحجّة ومعتبرة، ويكون هذا موجباً للقطع بالاستحباب بعد تحقق موضوعه وجداناً بالخبر الضعيف، والقطع بالاستحباب أيضاً يوجب القطع بترتّب الثواب، فكما أنّ هناك قطعاً بترتّب العقاب على الفعل، هناك قطع بترتّب الثواب على الفعل، دليل الحرمة يوجب القطع بترتّب العقاب على الفعل، الخبر الضعيف على الاحتمال الثالث، أخبار من بلغ على الاحتمال الثاني توجب القطع بترتّب الثواب، فيقع التعارض بينهما. إبراز هذه النكتة كنكتةٍ للانصراف ليس واضحاً.
نعم، يمكن إدّعاء الانصراف بنكتةٍ أخرى، يعني انصراف أخبار(من بلغ) عن مورد بلوغ العقاب على العمل، مضافاً إلى بلوغ الثواب يُدّعى الانصراف بقرينة أخرى وهي قوله(عليه السلام):(فعمله التماساً لذلك الثواب) هذا لا يبعد انصرافه إلى حالة بلوغ الثواب فقط، ولعلّ ظاهره أيضاً بلوغ الثواب فقط؛ لأنّ التماس ذلك الثواب تصوّره ليس صحيحاً عندما يكون الشخص بلغه ثواب وبلغه عقاب على العمل، فعندما يبلغه ثواب على العمل ويبلغه عقاب على العمل، خصوصاً في مورد الكلام الذي بلغه عقاب على العمل بدليلٍ معتبر، بينما بلغه الثواب بخبر ضعيف ــــــ بحسب الفرض ــــــ ونحن نريد أنْ نتكلّم عن أخبار(من بلغ) أنّها تدل على حجّية الخبر الضعيف، أو لا ؟ بالنتيجة هو بلغه ثواب بخبر ضعيف، وبلغه عقاب على العمل بخبر معتبر بعموم، أو إطلاق، الخبر عندما يقول:(فعمله التماساً لذلك الثواب) منصرف عن هذه الحالة، ظاهر في بلوغ الثواب فقط، هذا غير بعيد، ولا يبعُد أنْ يقال ذلك، أنّ الخبر منصرف عن حالة بلوغ العقاب مع بلوغ الثواب، فلا يكون شاملاً لذلك، وإنّما هو يختص بحالة بلوغ الثواب، أنّ الشخص الذي يبلغه العقاب على عمل بخبر معتبر، ويبلغه الثواب على العمل نفسه بخبر ضعيف عادةً لا يأتي بالعمل التماساً للثواب مع وصول العقاب عليه بدليل معتبر، الأخبار ليست ناظرة إلى هذه الحالة، وإنّما ناظرة إلى حالة بلوغ الثواب فقط، جاءه خبر يدلّ على ثبوت الثواب لشيءٍ، هذا تكون الأخبار شاملة له، وأمّا افتراض أنّه بلغه الثواب وبلغه العقاب بخبر المعتبر كما هو المفروض في هذا المقام، لا يبعُد كما قال انصراف الأخبار عنه، فعلى كل حالٍ يمكن ذكر ثمرة، أو بعض الثمرات بين القولين الثاني والثالث غير ما ذُكر، وتتفرّع هذه الثمرة على ما قلناه من أنّ الاستحباب الثابت بناءً على الاحتمال الثاني هو استحباب واقعي ثانوي، يعني ثابت للفعل بعنوانه الثانوي، أي بعنوان(البلوغ) بينما الاستحباب إذا ثبت على الاحتمال الثالث يكون استحباباً واقعياً ثابتاً للفعل بعنوانه الأوّلي بناءً على حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات، يترتب على ذلك هذه الثمرة، وهي تظهر فيما إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب شيءٍ ودلّ خبر صحيح على عدم استحبابه وليس على حرمته.
أمّا على الاحتمال الثاني فلا توجد مشكلة، فنأخذ بكلا الخبرين، بمعنى أننّا نلتزم باستحباب الفعل بعنوانه الثانوي، وعدم استحبابه بعنوانه الأوّلي عملاً بالخبر الصحيح الدال على عدم استحبابه، بأنّه ينفي الاستحباب عنه بعنوانه الأوّلي، وهذا لا ينافي أنْ نلتزم بأنّ نفس هذا الفعل، لكن بعنوانه الثانوي يكون مستحبّاً عملاً بأخبار(من بلغ) بعد أنْ نختار في تفسيرها وتحديد مفادها الاحتمال الثاني الذي يثبت استحباب الفعل بعنوان(البلوغ)، ولا محذور في أنْ نلتزم بأنّه مستحب بعنوانه الثانوي، وليس مستحبّاً بعنوانه الأوّلي، فنأخذ بكلا الدليلين، يعني بالخبر الصحيح النافي للاستحباب، وبأخبار(من بلغ) الدالة على الاستحباب بالعنوان الثانوي.
وأمّا على الاحتمال الثالث، يعني بناءً على حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات؛ حينئذٍ يقع التعارض بين الخبرين؛ لأنّه على الاحتمال الثالث الخبر الضعيف يكون حجّة في باب الاستحباب، فيعارض الخبر الصحيح النافي للاستحباب، فيقع التعارض بينهما.
هذه ثمرة بين القولين على الاحتمال الثاني نأخذ بكلا الدليلين، ونلتزم بالاستحباب بالعنوان الثانوي، بينما على الاحتمال الثالث يقع التعارض بين الخبرين، فالثمرة بين القولين الثاني والثالث تظهر في هذا المورد وفي غيره من الموارد لا داعي للتعرّض لها.
نأتي إلى البحث الإثباتي، إنّ هذه الاحتمالات المتعددّة في أخبار(من بلغ) ما هو الاحتمال الأقرب منها على ضوء ما يُفهم من الأدلّة ؟ نتعرّض أولاً للاحتمال الثالث وهو أنّ مفاد الأخبار هو عدم اعتبار شرائط الحجّية في الخبر في باب المستحبات، أو بعبارة أخرى: جعل الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبات.
هذا الاحتمال الثالث استُشكل في إفادته من أخبار(من بلغ) بهذا الإشكال المعروف، وهو أنّ دليل الحجّية لابدّ أنْ يكون ناظراً إلى الواقع، ومثبتاً للواقع بإلغاء احتمال الخلاف، بينما هذه الأخبار كما نفهمها صريحة في إثبات ترتّب الثواب مع عدم التعرّض لإلغاء احتمال الخلاف؛ بل ــــــ وهو المهم ــــــ التعرّض لتقرير هذا الاحتمال بقوله:(وإنْ لم يكن كما بلغه) كما في بعض الروايات، أو(وإنْ كان رسول الله لم يقله) هذا التصريح بأنّ هذا حجّة وطريق لإدراك الواقع، وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع لا يناسب لسان الحجّية، فلسان الحجّية لسان إلغاء احتمال الخلاف، لسان أنّ هذا يحرز الواقع، هذا لا يناسبه أنْ يُصرّح بأنّ هذا حجّة وإنْ لم يحرز الواقع، هذا التصريح بأنّه وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع يُعبر عنه في الروايات(وإنْ لم يكن كما بلغه)، أو(وإنْ لم يكن كما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) حسب اختلاف التعبيرات، هذا لا يناسب الحجّية، فلسان الحجّية أنّ هذا يحرز الواقع وموصل إلى الواقع، إلغِ احتمال الخلاف، ولا تعتني باحتمال الخلاف، وتتميم الكشف، وأمثال هذه التعبيرات، وكلّها ترجع إلى جعل هذا طريقاً موصلاً إلى الواقع، فما معنى أنْ يقول: أبنِ على أنّ هذا طريق إلى الواقع، محرز للواقع، والغ احتمال الخلاف وإنْ كان غير مطابقاً للواقع، هذا لا يناسب لسان الحجّية، فاللّسان الموجود في هذه الأخبار لا يناسب لسان الحجّية. ومن هنا يكون هذا الاحتمال الثالث مستبعداً على هذا الأساس. هذا الإشكال منقول عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، نقله عنه تلامذته.[4]
أجيب عن هذا الكلام: كما هو موجود في كلامٍ للشيخ حسين الحلّي(قدّس سرّه) تعليقاً على كلام استاذه بعد أنْ نقله بهذا المضمون علّق عليه، ذكر ما حاصله: أنّ إبداء احتمال المخالفة وإنْ كان لا يناسب جعل الحجّية كما ذكر؛ لأنّ المناسب له هو صرف نظر المكلّف عن احتمال المخالفة وتحويل نظره إلى البناء على المطابقة لا جعل احتمال المخالفة نصب عينيه، وكأنّ الروايات تجعل احتمال المخالفة نصب عينيه عندما تقول(وإنْ لم يكن كما قاله)، أو (وإن كان ليس كما بلغك) يقول هذا لا يناسب جعل الحجّية، إلاّ أنّه مع ذلك لعلّ المقام مقام إبداء ذلك الاحتمال، فيمكن أنْ نفترض أنّ المقام يستدعي إبداء ذلك الاحتمال وسدّه تعبّداً بأنْ يقال له هذا الخبر حجّة كاشف عن الواقع، فيلزمك البناء على المطابقة للواقع وإنْ كنت وجداناً تحتمل المخالفة للواقع، حتّى إذا كنت تحتمل المخالفة للواقع أبنِ على أنّ هذا مطابق للواقع، الذي هو معنى الحجّية، وذكر بأنّ هذا يصح إذا فرض تشكيكه في ذلك، ولو من جهة ظاهر حاله، أنّ المخاطَب فُرض فيه أنّه يشكّك في جعل الحجّية حتّى مع احتمال المخالفة للواقع، يُشككّ في جعل الحجّية، فيقال له هذا الكلام، فيُبرَز له هذا الاحتمال ويُحكم بإلغائه وأنّه لا قيمة له، أنّ هذا أجعله حجّة وطريقاً موصلاً إلى الواقع حتّى إنْ كنت تشكّ في مطابقته للواقع، إبداء هذا الاحتمال وإبرازه قد يكون لغرض، صحيح طبيعة جعل الحجّية يقتضي أنْ لا يُبرَز هذا الاحتمال وأنْ يُجعَل نصب عينيه كما قال، هذا هو المناسب لجعل الحجّية، لكن لا مانع من فرض أنّه في حالة معيّنة قد يستدعي المقام إبراز هذا الاحتمال من قبل نفس جاعل الحجّية، فيبرز هذا الاحتمال له حتّى يسدّه، حتّى يحكم بإلغائه، فيقول له وإنْ كنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة للواقع، أنا أقول لك أجعله طريقاً للواقع، فيكون مناسباً لجعل الحجّية، بناءً على هذا لا يكون هذا اللّسان لساناً منافياً لجعل الحجّية.
هذا الكلام ـــــ فرضاً ـــــ ممكن، لكن المشكلة أنّ أخبار(من بلغ) عندما جعلت الحجّية لا تنظر إلى خصوص هذا، وإنّما جعلت الحجّية مطلقاً، جعلت الحجّية لكل شخصٍ لا خصوص هذا الذي يفترض كونه يشككّ في جعل الحجّية مع المخالفة، ليس فقط لهذا، وإنّما جُعلت الحجّية بهذا اللّسان بإبراز احتمال المخالفة للواقع مطلقاً، ولكل أحد، هذا يقال أنّه لا يناسب جعل الحجّية، خصوصاً وأنْ الأخبار تقول(وإنْ لم يكن كما قاله)، وليس أنّها تقول(وإن كنت تحتمل أنّها مخالفة) كما هو ذكر، وإنّما تقول(وإنْ لم يكن كما قاله رسول الله)، أو(وإنْ لم يكن كما بلغك) يعني إبداء احتمال المخالفة الواقعية لا أنّ المكلّف، وإن كنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة له، وإنّما اللّسان واضح في أنّ جعل الحجّية بمعنى الطريقية، بمعنى الكشف عن الواقع، بمعنى أصالة الواقع وإلغاء احتمال الخلاف، وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع، هذا مفاد الأخبار، التصريح بهذا ليس مناسباً لجعل الحجّية، وإنّما المناسب لجعل الحجّية أنْ يجعلها طريقاً، ولا يصرّح بأنّه حجّة حتّى إذا كان مخالفاً للواقع، هو في الواقع هكذا، هو حجّة حتّى إذا كان مخالفاً للواقع، لكن الكلام ليس في هذا، وإنّما الكلام في تصريح الجاعل نفسه، كما ذكر هو(قدّس سرّه) بأنّ المناسب ليس أنْ يبرز هذا الاحتمال ويجعله أمام عينيه، المناسب أنْ يجعل هذا طريقاً إلى الواقع ويسكت، ويلغي احتمال الخلاف أمّا أنْ يقول أبنِ على أنّ هذا مطابق للواقع، وإنْ كان مخالفاً في الواقع، فهذا لا يناسب لسان جعل الحجّية.
نعم، أصل الإشكال مبني على مسلك جعل الطريقية في تفسير الحجّية، بمعنى أنه بناءً على جعل الطريقية وتتميم الكشف، وإلغاء احتمال الخلاف يأتي هذا الكلام، أنّ هذا اللّسان الموجود في الأخبار لا يناسب جعل الحجّية؛ لأنّ جعل الحجّية يعني تتميم الكشف، يعني جعله طريقاً إلى الواقع، فلا معنى لأنْ يقول له هذا طريق إلى الواقع، وإنْ لم يطابق الواقع.
وأمّا إذا فسّرنا الحجّية بمسالك أخرى من قبيل جعل الحكم المماثل، أو من قبيل المنجّزية والمعذرية؛ فحينئذٍ لا يرد هذا الكلام، فلسان الأخبار ليس منافياً للسان جعل الحجّية بهذا المعنى، بمعنى جعل الحكم المماثل، لا علاقة له بالواقع، يجعل حكماً مماثلاً لمؤدّى الإمارة، أو أنّ مؤدّى الإمارة منجّز عليه، أو معذّر له، هذا لا يرد عليه الإشكال؛ لأنّ أصل الإشكال مبني على الطريقية وتتميم الكشف وأمثال هذه الأمور، لكن بالرغم من هذا ـــــ أنّ هذا مبني على مسلك جعل الطريقية، وأننّا إذا فسّرنا الحجّية بتفسير آخر، فهذا الإشكال لا يرد ـــــ مع ذلك يمكن أنْ يقررّ الإشكال بتقرير آخر خالٍ من هذا، يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى ، يعني يجري على كل المسالك في تفسير الحجّية.