35/01/29
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الثاني
الكلام في الإشكال الذي أورد على إمكان الاحتياط في العبادات، والذي كان يقول بأنّ قصد القربة، والإتيان بالعبادة كعبادة غير ممكن في حال الشكّ وعدم العلم بالأمر الذي هو المفروض في محل الكلام، فلا يمكن تصوّر الاحتياط في العبادات.
الجواب عن هذا الإشكال: وهو جواب صحيح، وهو أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه ويكون له وجه عندما نفترض أننّا نختار القول بأنّ عبادية العبادة تتوقّف على الاتيان بها بقصد أمرها الجزمي، واشترطنا في صحّة العبادة قصد امتثال الأمر الجزمي؛ حينئذٍ يتوجه الإشكال كما هو واضح؛ لأنّه لا يتمكّن من امتثال الأمر الجزمي؛ لأنّه لا جزم بالأمر حتّى يقصد امتثاله، والمفروض أنّ عبادية العبادة تتوقّف على ذلك، وهو غير ممكن، إذن، الاحتياط غير ممكن في ظرف الشكّ وعدم العلم.
لكن هذا القول ليس صحيحاً؛ بل الصحيح هو أنّه يكفي في عبادية العبادة مجرّد إضافتها إلى المولى(سبحانه وتعالى)، وهذه الإضافة تتحققّ بلا إشكال بالإتيان بالعبادة برجاء احتمال أنْ تكون مأموراً بها، يعني قصد امتثال الأمر الاحتمالي كقصد امتثال الأمر الجزمي يكون محققّاً لعبادية العبادة من دون أنْ يكون هناك فرق بينهما في تحقق عبادية العبادة، حيث لم يدل دليل على اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمي فيها؛ بل ما يُستفاد من الدليل هو أنْ يأتي بالعبادة قربة إلى الله تعالى، مضافة إلى الله تعالى، وكما أنّ هذا يتحقق بقصد امتثال الأمر الجزمي كذلك يتحقق بقصد امتثال الأمر الاحتمالي، بالنتيجة هو جاء بها لله(سبحانه وتعالى) ولم يأتِ بها لغيره، هذه إضافة، والإتيان بالعمل على هذا ألأساس يُعتبر انقياداً للمولى وتقرّباً إليه، وهذا يكفي في كون العبادة وقعت على نحو قربي، ونحن لا نريد أكثر من أنْ يقع الفعل بنحوٍ قربي، والمكلّف قد جاء بالعبادة على هذا النحو سواء قصد امتثال الأمر الجزمي عندما يكون عالماً بوجود الأمر، أو يقصد امتثال الأمر الاحتمالي عندما لا يكون عالما وجازماً بوجود الأمر، على كلا التقديرين انبعاثه وتحرّكه يصدق عليه أنّه نحو من التقرّب، وهذا المقدار يكفي في عبادية العبادة وصحّتها.
وعليه: يرتفع الإشكال السابق؛ لأنّه كان مبنيّاً على افتراض اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمي، وأمّا إذا قلنا بعدم اعتبار ذلك، وكفاية قصد امتثال الأمر الاحتمالي، فهذا الإشكال يرتفع من أساسه ولا وجه له إطلاقاً، ولم يُناقش أحد في كون هذا التحرّك والانبعاث من احتمال الأمر نوعاً من التقرّب إلى المولى، هذه قضية مسلّمة عند الجميع ولا إشكال فيها، فالجميع يسلّمون أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر هو نحو تقرّبٍ إلى المولى(سبحانه وتعالى) ويتحققّ به قصد القربة المعتبر في العبادة.
نعم، تكلّموا في ناحية أخرى أثارها الشيخ(قدّس سرّه) وهي أنّه هل هناك طولية بين الامتثال الاحتمالي والاحتمال الجزمي، أو لا ؟ بمعنى أنّه هل يعتبر في صحة الامتثال الاحتمالي، يعني الإتيان بالعبادة لاحتمال تعلّق الأمر بها، الذي هو محل كلامنا، هل يعتبر في ذلك عدم التمكّن من الامتثال الجزمي ؟ بحيث إذا تمكّن من الامتثال الجزمي لا يصح منه الامتثال الاحتمالي، أو لا يُعتبر ذلك ؟ وهذا كلام آخر، لكن الكل يتّفقون على أنّ التقرّب يتحققّ بالامتثال الاحتمالي كما يتحقق بالامتثال الجزمي، والكل يتّفقون على أنّ الانبعاث والتحرّك عن الأمر الاحتمالي كالانبعاث والتحرّك عن الأمر الجزمي، كل منهما تقرّب إلى المولى، وكل منهما يتحقق فيه قصد التقرّب المعتبر في العبادة. وهذا الجواب عن الإشكال لا يُفرّق فيه بين ما يُختار في باب قصد القربة المعتبر في العبادة من أنّ الحاكم به هو العقل، أو أنّ الحاكم به هو الشارع، أنّه هل أنّ قصد القربة معتبر في الغرض من دون أنْ يكون داخلاً في الأمر ومتعلّق الأمر إطلاقاً بحيث يكون الأمر المتعلّق بالواجبات التوصّلية كالأمر المتعلّق بالواجبات العبادية، قصد القربة خارج عن كلٍ منهما، وكما هو خارج ــــــ قصد القربة ــــــ وليس له علاقة بمتعلّق الأمر التوصّلي، أيضاً قصد القربة ليس مأخوذاً في متعلّق الأمر العبادي، وإنّما قصد القربة في العبادات دخيل في الغرض، ويكون معتبراً من ناحية الغرض، بمعنى أنّ المأمور به يتحققّ، لكن الغرض لا يترتّب على الواجب العبادي إلاّ إذا جاء به على نحو قربي، بخلاف الواجب التوصّلي، فأنّ الغرض يتحقق منه حتّى إذا جاء به لا بنحو قربي، ومن هنا يكون الحاكم باعتبار قصد القربة، ولا بدّية قصد القربة هو العقل، فأنّه هو الذي يحكم باعتبار قصد القربة كما هو رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه). أو نقول أنّ قصد القربة مأخوذ في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، سواء كان في متعلّق نفس الأمر المتعلّق بالعبادة، أو في متعلّق أمر آخر سمّاه المحقق النائيني(قدّس سرّه) بمتممّ الجعل بناءً على استحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، فقال بأنّه أخذ في متعلّق الأمر الآخر المتممّ للجعل، فكأنّه على رأيه هناك أمران،[1] أمر يتعلّق بذات العبادة، وأمر يتعلّق بالعبادة مع قصد امتثال الأمر الأوّل المتعلّق بالعبادة، يعني بالإتيان بها على نحو قربي. أمر يتعلّق بذات العبادة فقط ولم يؤخذ فيه قصد القربة، والأمر الثاني يتعلّق بإتيانها على نحو قربي. على كل حال هنا يكون الحاكم باعتبار قصد القربة هو الدليل والشارع. على كل هذه التقادير، سواء كان الحاكم هو العقل، أو كان الحاكم هو الشرع، وسواء أخذناه في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، أو أخذناه في متعلّق أمر آخر متمم للجعل، على كل هذه التقادير يصح هذا الجواب، وعند أصحاب كل هذه الأقوال لا إشكال في أنّ الامتثال الاحتمالي والانبعاث عن احتمال الأمر هو كافي في تصحيح العبادة، كما هو الحال في الامتثال الجزمي والانبعاث عن الأمر الجزمي من دون فرقٍ بين هذه الأقوال.
إذن: لا ينبغي التوقّف في هذه المسألة، وبالتالي في إمكان الاحتياط في العبادة التي لا يعلم المكلّف تعلّق الأمر بها، وإنّما هو يحتمل تعلّق الأمر بها. نعم، على الاحتمال الآخر، بناءً على أنّه يُشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزمي يكون هذا الإشكال وارداً لما تقدّم من عدم الجزم بالأمر في محل الكلام الذي هو الشكّ في تعلّق الأمر بالعبادة.
قد يقال: حتّى لو ذهبنا إلى الرأي الثاني الذي يقول باعتبار قصد الأمر الجزمي في صحّة العبادة، مع ذلك يمكن تصحيح الإتيان بالعبادة احتياطاً؛ بأنْ لا يقصد الأمر المتعلّق بالعبادة حتّى يقال بأنّه لا جزم فيه، فلا يمكن قصده إلاّ على نحو التشريع، وإنّما ما يقصده هو الأمر المتعلّق بالاحتياط، يقصد امتثال الأمر بالاحتياط، فأنّ الأمر بالاحتياط هو في واقعه أمر بالعبادة لكن بعنوان الاحتياط، حيث أنّه شاكّ في أنّ هذه العبادة مأمور بها، أو ليست مأموراً بها، وهناك أمر بالاحتياط ولو بنحو الاستحباب، هذا الأمر بالاحتياط هو في واقعه أمر بالإتيان بالعبادة، لكن بعنوان الاحتياط، وهذا أمر جزمي لا شك فيه، تعلّق الأمر بالاحتياط ولو على نحو الاستحباب بحسب الفرض أيضاً جزمي نجزم به، أو لا أقل بناءً على ثبوت استحباب الاحتياط، هذا أمر معلوم للمكلّف؛ فيمكنه حينئذٍ أنْ يأتي بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتياط، باعتبار أنّ الأمر بالاحتياط هو أمر بالعبادة لكن بعنوان الاحتياط، فيأتي بالعبادة ويقصد امتثال هذا الأمر؛ وحينئذٍ تصح العبادة ويتحققّ الشرط المعتبر فيها وهو قصد الأمر الجزمي، وهنا قصد امتثال الأمر الجزئي، وبذلك يرتفع الإشكال حتّى على الرأي الآخر.
تكلّموا عن هذا الطرح وعن التخلّص عن هذا الإشكال على الرأي الآخر، هل هذا الطرح تام، وهل يلزم منه محذور، أو لا ؟ وقد ذكروا محذوراً عقلياً لهذا الفرض، بأنْ يأتي المكلّف بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتياط بحيث يكون قصد امتثال الأمر بالاحتياط هو المصحح لعبادية العبادة كما هو المطلوب في المقام؛ لأنّ المصحح لعبادية العبادة هو قصد الأمر الجزمي المتعلّق بالعبادة، هنا كأنّه محاولة لإثبات تصحيح العبادة بقصد امتثال الأمر بالاحتياط، قالوا أنّ هذا يلزم منه محذور، والمحذور هو محذور الدور، أو ما يشبه الدور، وذلك باعتبار أنّ الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط توقف كل أمر على متعلّقه، وتوقف كل عارض على معروضه؛ لأنّ الأمر يعرض على الاحتياط، فيكون الأمر متوقفاً على ما يعرض عليه وهو الاحتياط، قالوا: فلو أردنا تصحيح الاحتياط بالأمر لزم الدور؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الاحتياط يتوقف على الأمر به، بينما الأمر بالاحتياط كان متوقفاً بحسب الفرض على الاحتياط توقف كل عارض على معروضه، فيلزم شيء يشبه الدور، الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط، والاحتياط لا يمكن أنْ يتوقف على الأمر به، إذا أردنا تصحيح الاحتياط في المقام بالأمر بالاحتياط، فهذا معناه أنّ الاحتياط توقف على الأمر به، والحال أنّ الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط، فيلزم شيء من هذا القبيل. وتكلموا كثيراً في هذه الناحية، وأنّه ممكن، أو غير ممكن، وأطالوا الكلام في ذلك، ولا نرى داعياً في الحقيقة للدخول في تفاصيل ذلك باعتبار أنّ كل هذه التفاصيل وكل هذا الكلام مبني على فرض غير صحيح، وهو افتراض اعتبار قصد الأمر الجزمي في صحّة العبادة. بناءً على هذا حاولوا التخلّص من الإشكال بقصد الأمر بالاحتياط، بينما هذا الفرض غير صحيح، وليس هو غير صحيح عند جماعة؛ بل عند الجميع، الجميع يتّفقون على كفاية الأمر الاحتمالي، والظاهر أنّه لا أحد يستشكل في صحّة العبادة إذا قصد الأمر الاحتمالي، أمّا أنّه مع تمكنه من قصد الأمر الجزمي هل يمكنه الامتثال الاحتمالي، أو لا ؟ فهذه مسألة أخرى أشرنا إليها، لكن لنفترض أنّ المكلّف غير متمكن من الأمر الجزمي كما هو مفروض في محل كلامنا، حيث المفروض في محل كلامنا أنّ المكلّف لا علم له بتعلّق الأمر بتلك العبادة، الجميع يتّفقون على كفاية الامتثال الاحتمالي وأنّ الانبعاث عن احتمال الأمر يكون مقرّب إلى المولى سبحانه وتعالى، فيتحقق فيه قصد القربة والإتيان بالفعل بنحوٍ قربي، وكل الأمور المعتبرة في العبادة تتحقق كذلك، فإذن: لا داعي للدخول في هذه التفاصيل، ونختم البحث بذلك.
النتيجة: لا إشكال في إمكان الاحتياط في العبادات كما هو ممكن في غير العبادات.
هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة.
التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة
التنبيه الثالث: ما يُسمّى بقاعدة(التسامح في أدلّة السنن)، أو في أحاديث من(بلغه). هذا البحث هو من توابع البراءة كما هو مقتضى التسلسل الموجود حيث ذُكر في تنبيهات البراءة، يكون من توابع البراءة بناءً على تفسير الأحاديث التي هي مستند هذه القاعدة والتي هي المدرك في هذا البحث، تفسيرها بتفسير؛ فحينئذٍ من المناسب إدراج البحث عن هذه القاعدة في ذيل البحث عن البراءة وجعلها من تنبيهات البراءة، وهذا التفسير هو أنْ يقال: أنّ مفاد أخبار(من بلغ) التي هي مدرك هذه القاعدة هو الإتيان بالعمل برجاء موافقة الواقع مع الشكّ في الحكم، عندما لا يعلم المكلّف بحكم هذا ويشكّ به ولا يثبت عنده ثبوتاً واضحاً، الأخبار تقول ليأتي به برجاء أنْ يكون هذا الشيء الذي بلغه ثابتاً، إذا احتمل استحباب شيءٍ، الذي هو مورد القاعدة، لم يثبت عنده الاستحباب، ولم يدل عليه دليل تام السند، وإنّما دلّ عليه خبر ضعيف، لا يوجد إلاّ احتمال الاستحباب، الأخبار تقول ليأتي بالفعل برجاء أنْ يكون هذا الاستحباب ثابتاً، ويكون له ثواب حتّى إذا لم يكن ذلك الاستحباب ثابتاً. هذا يناسب جعله من تنبيهات البراءة؛ لأنّه ناظر إلى حثّ المكلّف على الإتيان بالعمل المشكّوك حكمه، ولو كان حكمه حكماً غير إلزامي كما هو مورد القاعدة. إذن: كأنّ الأخبار تتحدّث عن حكم الفعل الذي لا يُعلم ما هو حكمه، ليس حكمه الواقعي، وإنّما بمقدار أنّه لو جاء به برجاء أنْ يكون مستحبّاً يكون له ذلك الثواب، فهي تعالج هذه القضية، فلعلّها تناسب جعلها من تنبيهات البراءة.
لكن إذا فُسّرت الأخبار بتفسير آخر، بأنْ قيل أنّ المستفاد منها جعل الحجّية للخبر الضعيف في الأحكام غير الإلزامية، أمّا في الأحكام الإلزامية فالحجّة ثابت شرعاً فقط لخبر الثقة، لكن في الأحكام غير الإلزامية تتّسع دائرة الحجّية لتشمل خبر غير الثقة، فيكون الخبر الضعيف حجّة لإثبات الحكم الغير الإلزامي، فكما أنّ خبر الثقة حجّة لإثبات الحكم الإلزامي، خبر الضعيف أيضاً يكون حجّة لإثبات الخبر الغير الإلزامي، بناءً على هذا التفسير؛ حينئذٍ يناسب أنْ تكون هذه القاعدة من توابع خبر الواحد، خبر الواحد إذا كان راويه ثقة، وعادلاً؛ حينئذٍ يكون حجّة ودلّت الأدلة على حجّيتهّ في الأحكام الإلزامية، ويبحث بعد ذلك في الأحكام غير الإلزامية حيث دلّت الأدلة على أنّ دائرة الحجّية أوسع من ذلك، وأنّ الحجّية تثبت حتّى لخبر الضعيف، فالمناسب أنْ يبحث في ذلك البحث.
على كل حال، وردت روايات عديدة وبعضها تام سنداً بلا إشكال، ذكر هذه الرواية الشيخ صاحب الوسائل(قدّس سرّه) في مقدّمة العبادات في الباب 18، حيث جمع معظم هذه الروايات وعقد لها باباً مستقلاً، وهذه الروايات بمضمون من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب الذي بلغه كان له ذلك الثواب وإنْ لم يكن كما بلغه.[2]
الكلام عن هذه القاعدة يقع في جهات:
الجهة الأولى: تحديد مفاد هذه الأخبار، حتّى على ضوء تحديد مفادها نستطيع أنْ نتكلّم في الجهات الأخرى، توجد عدّة احتمالات ثبوتية في تعيين وتحديد مفاد هذه الأخبار. السيد الخوئي ذكر ثلاثة احتمالات، ورجّح أحد الاحتمالات على الاحتمالات الباقية، الاحتمالات التي ذكرها هي[3] :
الاحتمال الأوّل: أنْ يكون المراد بها هو الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد والانبعاث من المطلوبية الاحتمالية، هناك روايات إرشادية لا يُستفاد منها حكم مولوي تأسيسي، وإنّما مفادها الإرشاد الصرف إلى حكم العقل بحسن الانبعاث عن المطلوبية الاحتمالية، والعقل يحكم بحسن الانبعاث عن المطلوبية الاحتمالية، وقلنا سابقاً بأنّ العقل يحكم بحسن كل تقرّب إلى المولى سبحانه وتعالى.
الاحتمال الثاني: أنْ يكون مفاد هذه الأخبار ــــــ كما أشرنا قبل قليل ــــــ هو جعل واسقاط شرائط حجّية الخبر في المستحبّات، حيث أنّ أخبار(من بلغ) تُسقط الشرائط المعتبرة في حجّية الخبر في الأحكام الإلزامية، فاشتراط العدالة والوثاقة، وكل ما نشترط في حجّية الخبر في الأحكام الإلزامية، أخبار(من بلغ) تُسقِط هذه الشرائط في المستحبّات، يعني في الأحكام غير الإلزامية.
وبعبارة أخرى: أنّ مفادها هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في الأحكام غير الإلزامية.
الاحتمال الثالث: هو جعل استحباب نفسي موضوعه البلوغ، بمعنى أنّ العمل يكون مستحبّاً على حدّ استحباب سائر الأفعال الأخرى، فيكون العمل مستحباً لكن بالعنوان الثانوي، بعنوان أنّه بلغه ثواب عليه، لا أنّه مستحبّ بعنوانه الأوّلي، لكنّه يكون مستحبّاً نفسياً بعنوان ثانوي، وهو عنوان أنّه بلغه ثواب عليه، كأنّ هذا العنوان الثانوي عندما عرض على هذا العمل الذي هو ليس مستحبّاً بعنوانه الأوّلي، عندما عرض عليه أوجب حدوث ملاك ومصلحة فيه تقتضي أنْ يتعلّق به الاستحباب النفسي، فيكون العمل الذي بلغه ثواب عليه مستحبّاً على حدّ سائر المستحبّات الأخرى، وهذا ليس غريباً أنْ يكون عنوان ثانوي يوجب تغيّر الحكم، وهذا لا مشكلة فيه، حيث هناك الكثير من هذه العناوين التي توجب تغيّر الحكم كعنوان الضرر وعنوان الحرج وغيرها من العناوين، فيكون هناك حكم يُعبّر عنه بالحكم الثانوي، بمعنى أنّه حكم نفسي ثابت بعنوان ثانوي، يعني لولا العنوان الثانوي هذا الحكم النفسي لا يثبت لذات الفعل، فالبلوغ هو من هذا القبيل.
الكلام في الإشكال الذي أورد على إمكان الاحتياط في العبادات، والذي كان يقول بأنّ قصد القربة، والإتيان بالعبادة كعبادة غير ممكن في حال الشكّ وعدم العلم بالأمر الذي هو المفروض في محل الكلام، فلا يمكن تصوّر الاحتياط في العبادات.
الجواب عن هذا الإشكال: وهو جواب صحيح، وهو أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه ويكون له وجه عندما نفترض أننّا نختار القول بأنّ عبادية العبادة تتوقّف على الاتيان بها بقصد أمرها الجزمي، واشترطنا في صحّة العبادة قصد امتثال الأمر الجزمي؛ حينئذٍ يتوجه الإشكال كما هو واضح؛ لأنّه لا يتمكّن من امتثال الأمر الجزمي؛ لأنّه لا جزم بالأمر حتّى يقصد امتثاله، والمفروض أنّ عبادية العبادة تتوقّف على ذلك، وهو غير ممكن، إذن، الاحتياط غير ممكن في ظرف الشكّ وعدم العلم.
لكن هذا القول ليس صحيحاً؛ بل الصحيح هو أنّه يكفي في عبادية العبادة مجرّد إضافتها إلى المولى(سبحانه وتعالى)، وهذه الإضافة تتحققّ بلا إشكال بالإتيان بالعبادة برجاء احتمال أنْ تكون مأموراً بها، يعني قصد امتثال الأمر الاحتمالي كقصد امتثال الأمر الجزمي يكون محققّاً لعبادية العبادة من دون أنْ يكون هناك فرق بينهما في تحقق عبادية العبادة، حيث لم يدل دليل على اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمي فيها؛ بل ما يُستفاد من الدليل هو أنْ يأتي بالعبادة قربة إلى الله تعالى، مضافة إلى الله تعالى، وكما أنّ هذا يتحقق بقصد امتثال الأمر الجزمي كذلك يتحقق بقصد امتثال الأمر الاحتمالي، بالنتيجة هو جاء بها لله(سبحانه وتعالى) ولم يأتِ بها لغيره، هذه إضافة، والإتيان بالعمل على هذا ألأساس يُعتبر انقياداً للمولى وتقرّباً إليه، وهذا يكفي في كون العبادة وقعت على نحو قربي، ونحن لا نريد أكثر من أنْ يقع الفعل بنحوٍ قربي، والمكلّف قد جاء بالعبادة على هذا النحو سواء قصد امتثال الأمر الجزمي عندما يكون عالماً بوجود الأمر، أو يقصد امتثال الأمر الاحتمالي عندما لا يكون عالما وجازماً بوجود الأمر، على كلا التقديرين انبعاثه وتحرّكه يصدق عليه أنّه نحو من التقرّب، وهذا المقدار يكفي في عبادية العبادة وصحّتها.
وعليه: يرتفع الإشكال السابق؛ لأنّه كان مبنيّاً على افتراض اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمي، وأمّا إذا قلنا بعدم اعتبار ذلك، وكفاية قصد امتثال الأمر الاحتمالي، فهذا الإشكال يرتفع من أساسه ولا وجه له إطلاقاً، ولم يُناقش أحد في كون هذا التحرّك والانبعاث من احتمال الأمر نوعاً من التقرّب إلى المولى، هذه قضية مسلّمة عند الجميع ولا إشكال فيها، فالجميع يسلّمون أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر هو نحو تقرّبٍ إلى المولى(سبحانه وتعالى) ويتحققّ به قصد القربة المعتبر في العبادة.
نعم، تكلّموا في ناحية أخرى أثارها الشيخ(قدّس سرّه) وهي أنّه هل هناك طولية بين الامتثال الاحتمالي والاحتمال الجزمي، أو لا ؟ بمعنى أنّه هل يعتبر في صحة الامتثال الاحتمالي، يعني الإتيان بالعبادة لاحتمال تعلّق الأمر بها، الذي هو محل كلامنا، هل يعتبر في ذلك عدم التمكّن من الامتثال الجزمي ؟ بحيث إذا تمكّن من الامتثال الجزمي لا يصح منه الامتثال الاحتمالي، أو لا يُعتبر ذلك ؟ وهذا كلام آخر، لكن الكل يتّفقون على أنّ التقرّب يتحققّ بالامتثال الاحتمالي كما يتحقق بالامتثال الجزمي، والكل يتّفقون على أنّ الانبعاث والتحرّك عن الأمر الاحتمالي كالانبعاث والتحرّك عن الأمر الجزمي، كل منهما تقرّب إلى المولى، وكل منهما يتحقق فيه قصد التقرّب المعتبر في العبادة. وهذا الجواب عن الإشكال لا يُفرّق فيه بين ما يُختار في باب قصد القربة المعتبر في العبادة من أنّ الحاكم به هو العقل، أو أنّ الحاكم به هو الشارع، أنّه هل أنّ قصد القربة معتبر في الغرض من دون أنْ يكون داخلاً في الأمر ومتعلّق الأمر إطلاقاً بحيث يكون الأمر المتعلّق بالواجبات التوصّلية كالأمر المتعلّق بالواجبات العبادية، قصد القربة خارج عن كلٍ منهما، وكما هو خارج ــــــ قصد القربة ــــــ وليس له علاقة بمتعلّق الأمر التوصّلي، أيضاً قصد القربة ليس مأخوذاً في متعلّق الأمر العبادي، وإنّما قصد القربة في العبادات دخيل في الغرض، ويكون معتبراً من ناحية الغرض، بمعنى أنّ المأمور به يتحققّ، لكن الغرض لا يترتّب على الواجب العبادي إلاّ إذا جاء به على نحو قربي، بخلاف الواجب التوصّلي، فأنّ الغرض يتحقق منه حتّى إذا جاء به لا بنحو قربي، ومن هنا يكون الحاكم باعتبار قصد القربة، ولا بدّية قصد القربة هو العقل، فأنّه هو الذي يحكم باعتبار قصد القربة كما هو رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه). أو نقول أنّ قصد القربة مأخوذ في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، سواء كان في متعلّق نفس الأمر المتعلّق بالعبادة، أو في متعلّق أمر آخر سمّاه المحقق النائيني(قدّس سرّه) بمتممّ الجعل بناءً على استحالة أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، فقال بأنّه أخذ في متعلّق الأمر الآخر المتممّ للجعل، فكأنّه على رأيه هناك أمران،[1] أمر يتعلّق بذات العبادة، وأمر يتعلّق بالعبادة مع قصد امتثال الأمر الأوّل المتعلّق بالعبادة، يعني بالإتيان بها على نحو قربي. أمر يتعلّق بذات العبادة فقط ولم يؤخذ فيه قصد القربة، والأمر الثاني يتعلّق بإتيانها على نحو قربي. على كل حال هنا يكون الحاكم باعتبار قصد القربة هو الدليل والشارع. على كل هذه التقادير، سواء كان الحاكم هو العقل، أو كان الحاكم هو الشرع، وسواء أخذناه في متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، أو أخذناه في متعلّق أمر آخر متمم للجعل، على كل هذه التقادير يصح هذا الجواب، وعند أصحاب كل هذه الأقوال لا إشكال في أنّ الامتثال الاحتمالي والانبعاث عن احتمال الأمر هو كافي في تصحيح العبادة، كما هو الحال في الامتثال الجزمي والانبعاث عن الأمر الجزمي من دون فرقٍ بين هذه الأقوال.
إذن: لا ينبغي التوقّف في هذه المسألة، وبالتالي في إمكان الاحتياط في العبادة التي لا يعلم المكلّف تعلّق الأمر بها، وإنّما هو يحتمل تعلّق الأمر بها. نعم، على الاحتمال الآخر، بناءً على أنّه يُشترط في صحّة العبادة قصد الأمر الجزمي يكون هذا الإشكال وارداً لما تقدّم من عدم الجزم بالأمر في محل الكلام الذي هو الشكّ في تعلّق الأمر بالعبادة.
قد يقال: حتّى لو ذهبنا إلى الرأي الثاني الذي يقول باعتبار قصد الأمر الجزمي في صحّة العبادة، مع ذلك يمكن تصحيح الإتيان بالعبادة احتياطاً؛ بأنْ لا يقصد الأمر المتعلّق بالعبادة حتّى يقال بأنّه لا جزم فيه، فلا يمكن قصده إلاّ على نحو التشريع، وإنّما ما يقصده هو الأمر المتعلّق بالاحتياط، يقصد امتثال الأمر بالاحتياط، فأنّ الأمر بالاحتياط هو في واقعه أمر بالعبادة لكن بعنوان الاحتياط، حيث أنّه شاكّ في أنّ هذه العبادة مأمور بها، أو ليست مأموراً بها، وهناك أمر بالاحتياط ولو بنحو الاستحباب، هذا الأمر بالاحتياط هو في واقعه أمر بالإتيان بالعبادة، لكن بعنوان الاحتياط، وهذا أمر جزمي لا شك فيه، تعلّق الأمر بالاحتياط ولو على نحو الاستحباب بحسب الفرض أيضاً جزمي نجزم به، أو لا أقل بناءً على ثبوت استحباب الاحتياط، هذا أمر معلوم للمكلّف؛ فيمكنه حينئذٍ أنْ يأتي بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتياط، باعتبار أنّ الأمر بالاحتياط هو أمر بالعبادة لكن بعنوان الاحتياط، فيأتي بالعبادة ويقصد امتثال هذا الأمر؛ وحينئذٍ تصح العبادة ويتحققّ الشرط المعتبر فيها وهو قصد الأمر الجزمي، وهنا قصد امتثال الأمر الجزئي، وبذلك يرتفع الإشكال حتّى على الرأي الآخر.
تكلّموا عن هذا الطرح وعن التخلّص عن هذا الإشكال على الرأي الآخر، هل هذا الطرح تام، وهل يلزم منه محذور، أو لا ؟ وقد ذكروا محذوراً عقلياً لهذا الفرض، بأنْ يأتي المكلّف بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتياط بحيث يكون قصد امتثال الأمر بالاحتياط هو المصحح لعبادية العبادة كما هو المطلوب في المقام؛ لأنّ المصحح لعبادية العبادة هو قصد الأمر الجزمي المتعلّق بالعبادة، هنا كأنّه محاولة لإثبات تصحيح العبادة بقصد امتثال الأمر بالاحتياط، قالوا أنّ هذا يلزم منه محذور، والمحذور هو محذور الدور، أو ما يشبه الدور، وذلك باعتبار أنّ الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط توقف كل أمر على متعلّقه، وتوقف كل عارض على معروضه؛ لأنّ الأمر يعرض على الاحتياط، فيكون الأمر متوقفاً على ما يعرض عليه وهو الاحتياط، قالوا: فلو أردنا تصحيح الاحتياط بالأمر لزم الدور؛ لأنّ معنى ذلك أنّ الاحتياط يتوقف على الأمر به، بينما الأمر بالاحتياط كان متوقفاً بحسب الفرض على الاحتياط توقف كل عارض على معروضه، فيلزم شيء يشبه الدور، الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط، والاحتياط لا يمكن أنْ يتوقف على الأمر به، إذا أردنا تصحيح الاحتياط في المقام بالأمر بالاحتياط، فهذا معناه أنّ الاحتياط توقف على الأمر به، والحال أنّ الأمر بالاحتياط يتوقف على الاحتياط، فيلزم شيء من هذا القبيل. وتكلموا كثيراً في هذه الناحية، وأنّه ممكن، أو غير ممكن، وأطالوا الكلام في ذلك، ولا نرى داعياً في الحقيقة للدخول في تفاصيل ذلك باعتبار أنّ كل هذه التفاصيل وكل هذا الكلام مبني على فرض غير صحيح، وهو افتراض اعتبار قصد الأمر الجزمي في صحّة العبادة. بناءً على هذا حاولوا التخلّص من الإشكال بقصد الأمر بالاحتياط، بينما هذا الفرض غير صحيح، وليس هو غير صحيح عند جماعة؛ بل عند الجميع، الجميع يتّفقون على كفاية الأمر الاحتمالي، والظاهر أنّه لا أحد يستشكل في صحّة العبادة إذا قصد الأمر الاحتمالي، أمّا أنّه مع تمكنه من قصد الأمر الجزمي هل يمكنه الامتثال الاحتمالي، أو لا ؟ فهذه مسألة أخرى أشرنا إليها، لكن لنفترض أنّ المكلّف غير متمكن من الأمر الجزمي كما هو مفروض في محل كلامنا، حيث المفروض في محل كلامنا أنّ المكلّف لا علم له بتعلّق الأمر بتلك العبادة، الجميع يتّفقون على كفاية الامتثال الاحتمالي وأنّ الانبعاث عن احتمال الأمر يكون مقرّب إلى المولى سبحانه وتعالى، فيتحقق فيه قصد القربة والإتيان بالفعل بنحوٍ قربي، وكل الأمور المعتبرة في العبادة تتحقق كذلك، فإذن: لا داعي للدخول في هذه التفاصيل، ونختم البحث بذلك.
النتيجة: لا إشكال في إمكان الاحتياط في العبادات كما هو ممكن في غير العبادات.
هذا تمام الكلام في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة.
التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة
التنبيه الثالث: ما يُسمّى بقاعدة(التسامح في أدلّة السنن)، أو في أحاديث من(بلغه). هذا البحث هو من توابع البراءة كما هو مقتضى التسلسل الموجود حيث ذُكر في تنبيهات البراءة، يكون من توابع البراءة بناءً على تفسير الأحاديث التي هي مستند هذه القاعدة والتي هي المدرك في هذا البحث، تفسيرها بتفسير؛ فحينئذٍ من المناسب إدراج البحث عن هذه القاعدة في ذيل البحث عن البراءة وجعلها من تنبيهات البراءة، وهذا التفسير هو أنْ يقال: أنّ مفاد أخبار(من بلغ) التي هي مدرك هذه القاعدة هو الإتيان بالعمل برجاء موافقة الواقع مع الشكّ في الحكم، عندما لا يعلم المكلّف بحكم هذا ويشكّ به ولا يثبت عنده ثبوتاً واضحاً، الأخبار تقول ليأتي به برجاء أنْ يكون هذا الشيء الذي بلغه ثابتاً، إذا احتمل استحباب شيءٍ، الذي هو مورد القاعدة، لم يثبت عنده الاستحباب، ولم يدل عليه دليل تام السند، وإنّما دلّ عليه خبر ضعيف، لا يوجد إلاّ احتمال الاستحباب، الأخبار تقول ليأتي بالفعل برجاء أنْ يكون هذا الاستحباب ثابتاً، ويكون له ثواب حتّى إذا لم يكن ذلك الاستحباب ثابتاً. هذا يناسب جعله من تنبيهات البراءة؛ لأنّه ناظر إلى حثّ المكلّف على الإتيان بالعمل المشكّوك حكمه، ولو كان حكمه حكماً غير إلزامي كما هو مورد القاعدة. إذن: كأنّ الأخبار تتحدّث عن حكم الفعل الذي لا يُعلم ما هو حكمه، ليس حكمه الواقعي، وإنّما بمقدار أنّه لو جاء به برجاء أنْ يكون مستحبّاً يكون له ذلك الثواب، فهي تعالج هذه القضية، فلعلّها تناسب جعلها من تنبيهات البراءة.
لكن إذا فُسّرت الأخبار بتفسير آخر، بأنْ قيل أنّ المستفاد منها جعل الحجّية للخبر الضعيف في الأحكام غير الإلزامية، أمّا في الأحكام الإلزامية فالحجّة ثابت شرعاً فقط لخبر الثقة، لكن في الأحكام غير الإلزامية تتّسع دائرة الحجّية لتشمل خبر غير الثقة، فيكون الخبر الضعيف حجّة لإثبات الحكم الغير الإلزامي، فكما أنّ خبر الثقة حجّة لإثبات الحكم الإلزامي، خبر الضعيف أيضاً يكون حجّة لإثبات الخبر الغير الإلزامي، بناءً على هذا التفسير؛ حينئذٍ يناسب أنْ تكون هذه القاعدة من توابع خبر الواحد، خبر الواحد إذا كان راويه ثقة، وعادلاً؛ حينئذٍ يكون حجّة ودلّت الأدلة على حجّيتهّ في الأحكام الإلزامية، ويبحث بعد ذلك في الأحكام غير الإلزامية حيث دلّت الأدلة على أنّ دائرة الحجّية أوسع من ذلك، وأنّ الحجّية تثبت حتّى لخبر الضعيف، فالمناسب أنْ يبحث في ذلك البحث.
على كل حال، وردت روايات عديدة وبعضها تام سنداً بلا إشكال، ذكر هذه الرواية الشيخ صاحب الوسائل(قدّس سرّه) في مقدّمة العبادات في الباب 18، حيث جمع معظم هذه الروايات وعقد لها باباً مستقلاً، وهذه الروايات بمضمون من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب الذي بلغه كان له ذلك الثواب وإنْ لم يكن كما بلغه.[2]
الكلام عن هذه القاعدة يقع في جهات:
الجهة الأولى: تحديد مفاد هذه الأخبار، حتّى على ضوء تحديد مفادها نستطيع أنْ نتكلّم في الجهات الأخرى، توجد عدّة احتمالات ثبوتية في تعيين وتحديد مفاد هذه الأخبار. السيد الخوئي ذكر ثلاثة احتمالات، ورجّح أحد الاحتمالات على الاحتمالات الباقية، الاحتمالات التي ذكرها هي[3] :
الاحتمال الأوّل: أنْ يكون المراد بها هو الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد والانبعاث من المطلوبية الاحتمالية، هناك روايات إرشادية لا يُستفاد منها حكم مولوي تأسيسي، وإنّما مفادها الإرشاد الصرف إلى حكم العقل بحسن الانبعاث عن المطلوبية الاحتمالية، والعقل يحكم بحسن الانبعاث عن المطلوبية الاحتمالية، وقلنا سابقاً بأنّ العقل يحكم بحسن كل تقرّب إلى المولى سبحانه وتعالى.
الاحتمال الثاني: أنْ يكون مفاد هذه الأخبار ــــــ كما أشرنا قبل قليل ــــــ هو جعل واسقاط شرائط حجّية الخبر في المستحبّات، حيث أنّ أخبار(من بلغ) تُسقط الشرائط المعتبرة في حجّية الخبر في الأحكام الإلزامية، فاشتراط العدالة والوثاقة، وكل ما نشترط في حجّية الخبر في الأحكام الإلزامية، أخبار(من بلغ) تُسقِط هذه الشرائط في المستحبّات، يعني في الأحكام غير الإلزامية.
وبعبارة أخرى: أنّ مفادها هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في الأحكام غير الإلزامية.
الاحتمال الثالث: هو جعل استحباب نفسي موضوعه البلوغ، بمعنى أنّ العمل يكون مستحبّاً على حدّ استحباب سائر الأفعال الأخرى، فيكون العمل مستحباً لكن بالعنوان الثانوي، بعنوان أنّه بلغه ثواب عليه، لا أنّه مستحبّ بعنوانه الأوّلي، لكنّه يكون مستحبّاً نفسياً بعنوان ثانوي، وهو عنوان أنّه بلغه ثواب عليه، كأنّ هذا العنوان الثانوي عندما عرض على هذا العمل الذي هو ليس مستحبّاً بعنوانه الأوّلي، عندما عرض عليه أوجب حدوث ملاك ومصلحة فيه تقتضي أنْ يتعلّق به الاستحباب النفسي، فيكون العمل الذي بلغه ثواب عليه مستحبّاً على حدّ سائر المستحبّات الأخرى، وهذا ليس غريباً أنْ يكون عنوان ثانوي يوجب تغيّر الحكم، وهذا لا مشكلة فيه، حيث هناك الكثير من هذه العناوين التي توجب تغيّر الحكم كعنوان الضرر وعنوان الحرج وغيرها من العناوين، فيكون هناك حكم يُعبّر عنه بالحكم الثانوي، بمعنى أنّه حكم نفسي ثابت بعنوان ثانوي، يعني لولا العنوان الثانوي هذا الحكم النفسي لا يثبت لذات الفعل، فالبلوغ هو من هذا القبيل.