34/12/20
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة/ الاحتياط/ الاحتياط الشرعي
كان الكلام في استصحاب عدم التذكية: وقلنا أنّهم ذكروا أربع أنحاء متصوّرة للشك في حلّية الحيوان وحرمته بعد زهاق روحه، حيوان زهقت روحه، نشكّ في حلّيّته وحرمته، هذا الشكّ في حليته وحرمته له أربع أنحاء:
النحو الأوّل: تقدّم ذكرها وكان المراد بها هو الشكّ من جهة حرمة الأكل ذاتاً، أنّ هذا الحيوان هل هو محللّ الأكل ذاتاً، أو لا ؟ يعني نحرز التذكية، وقابلية الحيوان للتذكية، لكن نشكّ في أنّ التذكية هل تؤثر في حلّيّة الأكل، أو لا تؤثر إلاّ في طهارة جلده فقط ؟ ، هذا النحو من الشكّ قد يكون شبهة حكميّة، وقد يكون شبهة موضوعيّة كما مثّلنا.
النحو الثاني: أنْ يكون الشكّ في حلّيّة لحم الحيوان، أو حرمته من جهة الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية. في النحو السابق كنّا نحرز قابلية الحيوان للتذكية في الجملة، بينما هنا نشكّ في أنّه يقبل التذكية أو لا ؟ وهذا الشكّ ينشأ من أنّ هناك بعض الحيوانات الغير القابلة للتذكية أصلاً، ويُمثّل لها بالحشرات والمسوخات وأمثالها. هنا نشكّ في أنّ أكل هذا الحيوان هل هو حلال، أو حرام؛ للشكّ في أنّه قابل للتذكية، او لا ؟ يعني أننّا نحرز التذكية، لكن نشكّ في قابلية الحيوان للتذكية. هذا الشكّ أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، كما إذا شككنا في أنّ أسد البحر هل هو قابل للتذكية، أو لا ؟ هذه شبهة حكميّة يُسئل عنها الشارع لحَلِّها. وقد يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، وهو فيما إذا شككنا في أنّ هذا الحيوان المذكّى هل هو شاة، حتّى يكون قابلاً للتذكية، أو أنّه من المسوخات حتّى لا يكون قابلاً للتذكية، هذه شبهة موضوعية ليس لها علاقة بالشارع، وإنّما هي شبهة موضوعيّة لابدّ من حلّها عن طريق الإمارات التي تحلّ بها الشُبه الموضوعيّة.
النحو الثالث: أنْ نشكّ في حرمة الأكل وحلّيته من جهة الشكّ في طرو ما يمنع من قبوله للتذكية، حيث هناك أمور ثبت شرعاً أنّها إذا طرأت على الحيوان القابل للتذكية تمنع من قبوله للتذكية، أي أنّ الحيوان بحسب ذاته قابل للتذكية، لكن إذا طرأت هذه الموانع، فأنّها تمنع من قبوله للتذكية كالجلل، فأنّه يمنع من قابليّة الحيوان للتذكية، وهذا أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، وقد يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا شككنا في مانعية شيءٍ كالجلل، كما لو لم يكن لدينا دليل على مانعيته، وحدث الجلل، وشككنا في أنّه هل يمنع من قبول الحيوان للتذكية، أو لا يمنع، هذه شبهة حكميّة، فأنّ مانعية الجلل إنّما يحددها الشارع المقدّس. وأخرى تكون الشبهة موضوعيّة، كما إذا شككنا في حصول الجلل مع العلم بكونه مانعاً.
النحو الرابع: أنْ يكون الشكّ في الحلّيّة والحرمة من جهة الشكّ في تحققّ جميع ما هو معتبر في التذكية خارجاً، كأنْ نشكّ بأنّ ما هو معتبر في التذكية هل هو متحققّ فيه، أو ليس متحققاً فيه. هذا يمكن تصوّره بنحو الشبهة الحكميّة وبنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا شككنا ـــــ مثلاً ـــــ في اعتبار التسمية في التذكية، ونعلم بأنّ هذا الحيوان لم يُسمَ عليه، بطبيعة الحال هذا الشكّ يوجب الشكّ في حلّيّة أكل لحم هذا الحيوان، أو عدم حليّته، بأنْ كانت التسمية معتبرة، فهذا يحرم أكله، وإنْ لم تكن معتبرة فهذا يحلّ أكله. هذه الشبهة حكميّة؛ لأنّ الشكّ هو في اعتبار التسمية في التذكية وعدم اعتبارها، وهذا شيء يُراجَع فيه الشارع. وأخرى يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، كما إذا شككنا في تحقق التسمية مع العلم باعتبارها شرعاً، يعني نعلم باعتبار التسمية شرعاً، لكننّا نشكّ في تحققّها خارجاً.
هذه هي الأنحاء الأربعة المذكورة في كلامهم والتي بحثوا في ضمنها أصالة استصحاب عدم التذكية، أو ما يُسمّى بأصالة عدم التذكية.
أمّا النحو الأوّل: فمن الواضح أنّه خارج عن محل الكلام الذي هو استصحاب عدم التذكية، بطبيعة الحال أنّ استصحاب عدم التذكية إنّما نتكلّم عن جريانه وعدمه حينما تكون التذكية أمراً مشكوكاً، أو على الأقل قابلية الحيوان للتذكية تكون أمراً مشكوكاً، بينما في النحو الأوّل افترضنا انّ التذكيّة ليست مشكوكة، ولا قابلية الحيوان للتذكية مشكوكة، وإنّما المشكوك هو أنّ الشارع هل حكم بحلّيّة أكل لحم هذا الحيوان بعد تذكيته كما هو الحال في الشاة والبقرة والجمل، أو لم يحكم بحليّة أكل لحم هذا الحيوان بعد تذكيته كما هو الحال في السباع، فالتذكية معلومة، وقابلية الحيوان للتذكية في الجملة، ولو لإثبات الطهارة أمر معلوم، وإنّما الشك في تأثير التذكية في حلّية اللّحم وعدم تأثيرها، فلا معنى للكلام عن أنّه هل تجري أصالة عدم التذكية؛ إذ ليس لدينا شكّ في التذكية حتّى نجري أصالة عدم التذكية، لكن ذكرو هذا الفرع الأوّل استطراداً، وهو أننّا نشكّ في حيوانٍ أنّه محرّم الأكل، أو محلل الأكل، فإذا كان محلل الأكل، فهذا يعني أنّ التذكية مؤثرة في حلّيّة لحمه، كما هي مؤثرة في طهارة جلده، أمّا إذا كان محرّم الأكل، فهذا يعني أنّ التذكية ليست مؤثرة شرعاً في حلّيّة أكل لحمه، وهذا أيضاً قلنا أنّه يمكن تصوّره بنحو الشبهة الحكميّة، وبنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة بأنْ لا نعلم أنّ تذكية هذا الحيوان هل هي موجبة لحلّيّة أكل لحمه، أو لا ؟ هل حكم الشارع بأنّ التذكية مؤثرة في حلية الأكل، أو لا، فقط التذكية مؤثرة في طهارته، هذا شكٌ في الحكم الشرعي، يعني شبهة حكميّة. وأخرى تكون الشبهة موضوعيّة، بأنْ لا نعلم أنّ هذا الحيوان هل هو شاة، أو هو من السباع، فإذا كان هذا الحيوان شاة، فأنّه يحلّ أكله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع جعل التذكية في الشاة موجبة لحلية الأكل. أمّا إذا كان من السباع، فلا يحلّ أكله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع لم يجعل التذكية في السباع موجبة لحليّة الأكل. في هذا النحو الأوّل ذكروا أنّه إذا كانت الشبهة الحكميّة كما مثّلنا؛ حينئذٍ لابدّ أنْ نفتّش عن عامّ فوقاني يدلّ على حلّيّة الأكل، أو على حرمته، قد نعثر على عامّ فوقاني يدلّ على حلّية كل حيوان إلاّ أمور معيّنة استثناها الشارع، وقد نعثر ـــــ مثلاً ـــــ على عامّ فوقاني يدلّ على حرمة كل حيوانٍ إلاّ ما استُثني، إذا عثرنا على هكذا عمومات فوقانية، فبلا إشكال يتعيّن حينئذٍ الرجوع إليها؛ لأنّ الشبهة شبهة حكميّة، فنسأل عنها الشارع، فإذا كان لدينا دليل يقول أنّ كل حيوان هو محلل الأكل إلاّ ما استُثني، فنتمسّك بهذا الدليل في هذه الشبهة الحكميّة؛ لأنّ هذا ليس تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية كما سيأتي في الشبهة الموضوعيّة؛ لأننّا نحرز عدم انطباق ما استُثني على هذا الحيوان، فهو ليس داخلاً في المستثنى قطعاً، فنتمسّك بهذا العام لإثبات حلّية أكل لحمه، لكنّ الكلام في أنّه هل يوجد هكذا عامّ فوقاني يمكن الرجوع إليه واستنطاقه لمعرفة حكم هذا الحيوان الذي نشكّ في أنّه حلال الأكل، أو لا ؟ إذا وجد، يتعيّن التمسّك به ولا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.
قد يقال: أنّ هناك ما يُستفاد منه هذا العموم، وهو قوله تعالى ﴿قل لا أجد في ما أوحي أليّ محرّم على طاعمٍ يطعمه إلاّ أنْ يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير﴾.[1] فيُستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ كلّ حيوانٍ ما عدا ما استُثني الغير المنطبق على محل الشكّ ـــــ بحسب الفرض ـــــ يكون حلالاً.
لكن هناك تأمّل في إمكان التمسّك بالآية ودلالة الآية على هذا العموم حتّى بالنسبة إلى مورد الشكّ بالنظر إلى ما ثبت عندهم من أنّ الأحكام بُيّنت بشكلٍ تدريجي، فبالنظر إلى تدريجيّة بيان الأحكام الشرعية يمكن أنْ يقال أنّ الآية ليست ناظرة إلى كلّ المحرّمات وفي جميع الأزمنة، وإنّما هي ناظرة إلى المحرّمات في زمان نزولها، وكأنّ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عُلِّم أنْ يقول أنّي لا أجد في هذه المحرّمات التي وصلت إليّ في زمان نزول الآية محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أنْ يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير.....الخ. فلا يكون فيها عموم أو إطلاق يشمل كلّ الأزمنة، هو ليس ناظراً إلى جميع المحرّمات وفي جميع الأزمنة، وإنّما ناظر إلى المحرمات التي كانت موجودة ونازلة على النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند نزول الآية الشريفة في أوّل الشريعة، لكن لا يوجد فيها عموم بعدم وجود محرّم إلاّ هذه الأمور حتّى بلحاظ الأزمنة الآتية؛ لأنّ الشريعة بُيّنت بشكلٍ تدريجي، وقد تُضاف إلى المُستثنيات بعض المحرّمات، ولعلّ هذا المشكوك منها. قد يُستشكل بدلالة الآية بهذا الشكل.
على كل حال. من ناحية أصوليّة نقول: إنْ كان هناك عموم فوقاني يدلّ على حلّيّة كل حيوان إلاّ ما استُثني، أو يدلّ على حرمة كل حيوان إلاّ ما استثني، يتعيّن الأخذ به، ولا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة. لكن إذا شككنا في ذلك، أو منعنا من ذلك، وقلنا لا يوجد لدينا عموم قرآني بهذه المثابة؛ حينئذٍ تصل النوبة إلى الأصول العمليّة، ما هو الأصل الذي يمكن التمسّك به في المقام ؟ هنا احتمالات ثبوتية:
الاحتمال الأوّل: الرجوع إلى أصالة الحل(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) ولحم هذا الحيوان لا نعلم أنّه حرام، فنثبت حلّيّة لحم هذا الحيوان.
الاحتمال الثاني: استصحاب عدم التذكية.
الاحتمال الثالث: استصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع.
الاحتمال الرابع: استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة.
هذه الأصول محتملة، ولو احتمالات ثبوتية، فأصالة الحل، واستصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع يثبتان حلّية أكل لحم هذا الحيوان، واستصحاب عدم التذكية، واستصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، أي استصحاب الحرمة المتيّقنة حال حياة هذا الحيوان تثبتان حرمة أكل لحم هذا الحيوان. أيّ أصل من هذه الأصول هو الذي يجري ؟
لا إشكال في أنّ استصحاب عدم التذكية لا يجري في هذا الفرع؛ ولذا قلنا أنّ هذا الفرع ليس له ربط بمحل الكلام الذي هو عبارة عن استصحاب عدم التذكية؛ لأنّه ليس لدينا شكّ من ناحية التذكية في هذا الفرع حتّى نستصحب عدمها، فاستصحاب عدم التذكية لا موقع له في هذا المقام، ولا معنى لإجرائه لعدم الشكّ في التذكية. أو بعبارة أخرى: لأننا نقطع بتحققّ التذكية، فلا معنى لاستصحاب عدم التذكية، إنّما يكون هناك معنى لهذا الاستصحاب إذا شككنا في تحققّ التذكية وعدم تحقّقها، أمّا مع العلم بعدم تحققّها، لا يجري هذا الاستصحاب. إذن: استصحاب عدم التذكية ينبغي عزله على حِدى.
وأمّا استصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع، فلا محذور فيه على غرار ما تقدّم من استصحاب البراءة قبل التشريع، حيث قلنا أننّا إذا عجزنا عن إثبات البراءة بأدلّتها تصل النوبة إلى استصحاب البراءة، وقلنا أنّ استصحاب البراءة له تقريبات، استصحاب البراءة قبل البلوغ، استصحاب البراءة قبل عروض الحالة الخاصّة على الموضوع، ومنها استصحاب البراءة الثابت قبل التشريع، باعتبار أنّ البراءة هي الثابتة قبل التشريع، إنّما الحرمة هي التي تحتاج إلى تشريع. فإذا شككنا أنّ هذه البراءة والحلّيّة الثابتة قبل التشريع هل لا زالت باقية، أو ارتفعت بجعل الشارع تشريعاً للحرمة، حيث ترتفع البراءة والحلّية إذا شرّع الشارع الحرمة، فشكّنا هو أنّ الشارع شرّع الحرمة أو لا ؟ فيجري استصحاب الحلّية المتيقنة قبل زمان التشريع على غرار استصحاب البراءة المتيقنة قبل التشريع، وإذا جرى هذا الاستصحاب وآمنا به؛ حينئذٍ لا تصل النوبة إلى أصالة الحل؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على أصالة الحل بالحكومة، أو بالورود، فلا تصل النوبة إلى أصالة الحل، وإنّما الذي يجري هو استصحاب الحل الثابت قبل التشريع، وهذا يثبت حلّيّة أكل لحم هذا الحيوان. وأمّا إذا ناقشنا في جريان هذا الاستصحاب؛ حينئذٍ نتمسّك لإثبات الحلّيّة بأصالة الحل.
وأمّا استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، فقد يقال: أنّ الأصل الذي يجري في المقام ليس هو استصحاب الحل الثابت قبل التشريع، وإنّما الذي ينبغي إجرائه هو استصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح، يعني في حال الحياة، حيث أنّ هذا الحيوان كان يحرم أكله، وبعد أنْ زُهقت روحه نشكّ في أنّ هذه الحرمة ارتفعت، فيما إذا كانت التذكية سبباً للحلّية، أو لم ترتفع، فيما إذا كانت التذكية ليست سبباً لحلّيته، فنستصحب الحرمة المتيقنة في حال الحياة، وهذا يثبت نتيجة معاكسة لاستصحاب الحلّية قبل التشريع. هذا الاستصحاب يجري، أو لا ؟
قد يقال: بجريانه؛ بل لعلّه يظهر من بعضهم جريانه في المقام، حيث نُسب إلى البعض أنّه تمسّك بهذا الاستصحاب ووصل إلى نتيجة أنّ الحيوان المشكوك بالنحو الأوّل في الشبهة الحكميّة يحرم أكله؛ لاستصحاب الحرمة المتيقنة حال الحياة، ودليله على جريان هذا الاستصحاب هو أنّه كانت هناك حرمة ثابتة في حال الحياة ويُشك بها لاحقاً، فتكون أركان الاستصحاب متوفرة، يقين سابق بالحرمة في حال الحياة، فهذا الحيوان في حال حياته كان يحرم أكله، وشكٌّ لاحق في بقاء هذه الحرمة وزوالها، فتتوفّر أركان الاستصحاب، فيجري الاستصحاب، وهذا الاستصحاب إذا جرى فأنّه يمنع من استصحاب الحل الثابت قبل التشريع؛ لأنّه ناظر إلى حالة متأخّرة.
ولكن هناك عدّة مشاكل في هذا الاستصحاب:
المشكلة الأولى: المناقشة في اليقين السابق، من قال أنّ الحرمة ثابتة في حال الحياة ؟ أو فلنقل: من قال أنّ الحيوان الحي يحرم أكله ؟ لا دليل على هذا؛ لأنّ كلّ العناوين التي ثبتت فيها حرمة الأكل لا تنطبق على هذا الحيوان في حال الحياة، لا عنوان الميتة ينطبق عليه، ولا عنوان غير المذكي....الخ، فأنّ المُذكى وغير المُذكى هو وصف للعنوان الميت، فالحيوان الميت يقال عنه أنّه مذكى، أو غير مُذكى، أمّا الحيوان الحي لا يتّصف لا بالمُذكى، ولا بغير المُذكى، فلا هو ميتة، ولا هو غير مذكّى؛ لأنّ غير المذكّى من صفات الحيوان الميت بعد إزهاق روحه، وليس من صفات الحيوان الحي، فلا دليل على حرمة أكل الحيوان وهو حي، وعلى هذا الأساس أفتى جماعة من فقهائنا؛ بل لعلّ المعروف جواز ابتلاع السمك الصغير وهو حي، مع وضوح أنّ ذكاة السمك ليست بإخراجه من الماء، وإنّما بموته خارج الماء، وليس بمجرّد إخراج السمك من الماء تكون هذه تذكية له بحيث يقال يجوز ابتلاعه لأنّه ذُكي بإخراجه من الماء؛ بل تذكيته هي موته خارج الماء، فإذا بقي حيّاً وبلعه، فأنّه يكون قد بلع حيواناً قبل تذكيته، وقالوا بجوازه؛ لأنّه لا دليل على حرمة لحم الحيوان في حال حياته، فإذن: القضية ليست مسلّمة حتّى يقال لدينا يقين سابق وشكّ لاحق، أنّ هذا الحيوان في حال حياته كان يحرم أكله، والآن يُشكّ في بقاء الحرمة، فنستصحب الحرمة المتيّقنة في حال الحياة، فلا يوجد لدينا يقين بالحرمة سابقاً حتّى يجري هذا الاستصحاب.
كان الكلام في استصحاب عدم التذكية: وقلنا أنّهم ذكروا أربع أنحاء متصوّرة للشك في حلّية الحيوان وحرمته بعد زهاق روحه، حيوان زهقت روحه، نشكّ في حلّيّته وحرمته، هذا الشكّ في حليته وحرمته له أربع أنحاء:
النحو الأوّل: تقدّم ذكرها وكان المراد بها هو الشكّ من جهة حرمة الأكل ذاتاً، أنّ هذا الحيوان هل هو محللّ الأكل ذاتاً، أو لا ؟ يعني نحرز التذكية، وقابلية الحيوان للتذكية، لكن نشكّ في أنّ التذكية هل تؤثر في حلّيّة الأكل، أو لا تؤثر إلاّ في طهارة جلده فقط ؟ ، هذا النحو من الشكّ قد يكون شبهة حكميّة، وقد يكون شبهة موضوعيّة كما مثّلنا.
النحو الثاني: أنْ يكون الشكّ في حلّيّة لحم الحيوان، أو حرمته من جهة الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية. في النحو السابق كنّا نحرز قابلية الحيوان للتذكية في الجملة، بينما هنا نشكّ في أنّه يقبل التذكية أو لا ؟ وهذا الشكّ ينشأ من أنّ هناك بعض الحيوانات الغير القابلة للتذكية أصلاً، ويُمثّل لها بالحشرات والمسوخات وأمثالها. هنا نشكّ في أنّ أكل هذا الحيوان هل هو حلال، أو حرام؛ للشكّ في أنّه قابل للتذكية، او لا ؟ يعني أننّا نحرز التذكية، لكن نشكّ في قابلية الحيوان للتذكية. هذا الشكّ أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، كما إذا شككنا في أنّ أسد البحر هل هو قابل للتذكية، أو لا ؟ هذه شبهة حكميّة يُسئل عنها الشارع لحَلِّها. وقد يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، وهو فيما إذا شككنا في أنّ هذا الحيوان المذكّى هل هو شاة، حتّى يكون قابلاً للتذكية، أو أنّه من المسوخات حتّى لا يكون قابلاً للتذكية، هذه شبهة موضوعية ليس لها علاقة بالشارع، وإنّما هي شبهة موضوعيّة لابدّ من حلّها عن طريق الإمارات التي تحلّ بها الشُبه الموضوعيّة.
النحو الثالث: أنْ نشكّ في حرمة الأكل وحلّيته من جهة الشكّ في طرو ما يمنع من قبوله للتذكية، حيث هناك أمور ثبت شرعاً أنّها إذا طرأت على الحيوان القابل للتذكية تمنع من قبوله للتذكية، أي أنّ الحيوان بحسب ذاته قابل للتذكية، لكن إذا طرأت هذه الموانع، فأنّها تمنع من قبوله للتذكية كالجلل، فأنّه يمنع من قابليّة الحيوان للتذكية، وهذا أيضاً قد يكون بنحو الشبهة الحكميّة، وقد يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا شككنا في مانعية شيءٍ كالجلل، كما لو لم يكن لدينا دليل على مانعيته، وحدث الجلل، وشككنا في أنّه هل يمنع من قبول الحيوان للتذكية، أو لا يمنع، هذه شبهة حكميّة، فأنّ مانعية الجلل إنّما يحددها الشارع المقدّس. وأخرى تكون الشبهة موضوعيّة، كما إذا شككنا في حصول الجلل مع العلم بكونه مانعاً.
النحو الرابع: أنْ يكون الشكّ في الحلّيّة والحرمة من جهة الشكّ في تحققّ جميع ما هو معتبر في التذكية خارجاً، كأنْ نشكّ بأنّ ما هو معتبر في التذكية هل هو متحققّ فيه، أو ليس متحققاً فيه. هذا يمكن تصوّره بنحو الشبهة الحكميّة وبنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة كما إذا شككنا ـــــ مثلاً ـــــ في اعتبار التسمية في التذكية، ونعلم بأنّ هذا الحيوان لم يُسمَ عليه، بطبيعة الحال هذا الشكّ يوجب الشكّ في حلّيّة أكل لحم هذا الحيوان، أو عدم حليّته، بأنْ كانت التسمية معتبرة، فهذا يحرم أكله، وإنْ لم تكن معتبرة فهذا يحلّ أكله. هذه الشبهة حكميّة؛ لأنّ الشكّ هو في اعتبار التسمية في التذكية وعدم اعتبارها، وهذا شيء يُراجَع فيه الشارع. وأخرى يكون بنحو الشبهة الموضوعيّة، كما إذا شككنا في تحقق التسمية مع العلم باعتبارها شرعاً، يعني نعلم باعتبار التسمية شرعاً، لكننّا نشكّ في تحققّها خارجاً.
هذه هي الأنحاء الأربعة المذكورة في كلامهم والتي بحثوا في ضمنها أصالة استصحاب عدم التذكية، أو ما يُسمّى بأصالة عدم التذكية.
أمّا النحو الأوّل: فمن الواضح أنّه خارج عن محل الكلام الذي هو استصحاب عدم التذكية، بطبيعة الحال أنّ استصحاب عدم التذكية إنّما نتكلّم عن جريانه وعدمه حينما تكون التذكية أمراً مشكوكاً، أو على الأقل قابلية الحيوان للتذكية تكون أمراً مشكوكاً، بينما في النحو الأوّل افترضنا انّ التذكيّة ليست مشكوكة، ولا قابلية الحيوان للتذكية مشكوكة، وإنّما المشكوك هو أنّ الشارع هل حكم بحلّيّة أكل لحم هذا الحيوان بعد تذكيته كما هو الحال في الشاة والبقرة والجمل، أو لم يحكم بحليّة أكل لحم هذا الحيوان بعد تذكيته كما هو الحال في السباع، فالتذكية معلومة، وقابلية الحيوان للتذكية في الجملة، ولو لإثبات الطهارة أمر معلوم، وإنّما الشك في تأثير التذكية في حلّية اللّحم وعدم تأثيرها، فلا معنى للكلام عن أنّه هل تجري أصالة عدم التذكية؛ إذ ليس لدينا شكّ في التذكية حتّى نجري أصالة عدم التذكية، لكن ذكرو هذا الفرع الأوّل استطراداً، وهو أننّا نشكّ في حيوانٍ أنّه محرّم الأكل، أو محلل الأكل، فإذا كان محلل الأكل، فهذا يعني أنّ التذكية مؤثرة في حلّيّة لحمه، كما هي مؤثرة في طهارة جلده، أمّا إذا كان محرّم الأكل، فهذا يعني أنّ التذكية ليست مؤثرة شرعاً في حلّيّة أكل لحمه، وهذا أيضاً قلنا أنّه يمكن تصوّره بنحو الشبهة الحكميّة، وبنحو الشبهة الموضوعيّة، بنحو الشبهة الحكميّة بأنْ لا نعلم أنّ تذكية هذا الحيوان هل هي موجبة لحلّيّة أكل لحمه، أو لا ؟ هل حكم الشارع بأنّ التذكية مؤثرة في حلية الأكل، أو لا، فقط التذكية مؤثرة في طهارته، هذا شكٌ في الحكم الشرعي، يعني شبهة حكميّة. وأخرى تكون الشبهة موضوعيّة، بأنْ لا نعلم أنّ هذا الحيوان هل هو شاة، أو هو من السباع، فإذا كان هذا الحيوان شاة، فأنّه يحلّ أكله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع جعل التذكية في الشاة موجبة لحلية الأكل. أمّا إذا كان من السباع، فلا يحلّ أكله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع لم يجعل التذكية في السباع موجبة لحليّة الأكل. في هذا النحو الأوّل ذكروا أنّه إذا كانت الشبهة الحكميّة كما مثّلنا؛ حينئذٍ لابدّ أنْ نفتّش عن عامّ فوقاني يدلّ على حلّيّة الأكل، أو على حرمته، قد نعثر على عامّ فوقاني يدلّ على حلّية كل حيوان إلاّ أمور معيّنة استثناها الشارع، وقد نعثر ـــــ مثلاً ـــــ على عامّ فوقاني يدلّ على حرمة كل حيوانٍ إلاّ ما استُثني، إذا عثرنا على هكذا عمومات فوقانية، فبلا إشكال يتعيّن حينئذٍ الرجوع إليها؛ لأنّ الشبهة شبهة حكميّة، فنسأل عنها الشارع، فإذا كان لدينا دليل يقول أنّ كل حيوان هو محلل الأكل إلاّ ما استُثني، فنتمسّك بهذا الدليل في هذه الشبهة الحكميّة؛ لأنّ هذا ليس تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية كما سيأتي في الشبهة الموضوعيّة؛ لأننّا نحرز عدم انطباق ما استُثني على هذا الحيوان، فهو ليس داخلاً في المستثنى قطعاً، فنتمسّك بهذا العام لإثبات حلّية أكل لحمه، لكنّ الكلام في أنّه هل يوجد هكذا عامّ فوقاني يمكن الرجوع إليه واستنطاقه لمعرفة حكم هذا الحيوان الذي نشكّ في أنّه حلال الأكل، أو لا ؟ إذا وجد، يتعيّن التمسّك به ولا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.
قد يقال: أنّ هناك ما يُستفاد منه هذا العموم، وهو قوله تعالى ﴿قل لا أجد في ما أوحي أليّ محرّم على طاعمٍ يطعمه إلاّ أنْ يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير﴾.[1] فيُستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ كلّ حيوانٍ ما عدا ما استُثني الغير المنطبق على محل الشكّ ـــــ بحسب الفرض ـــــ يكون حلالاً.
لكن هناك تأمّل في إمكان التمسّك بالآية ودلالة الآية على هذا العموم حتّى بالنسبة إلى مورد الشكّ بالنظر إلى ما ثبت عندهم من أنّ الأحكام بُيّنت بشكلٍ تدريجي، فبالنظر إلى تدريجيّة بيان الأحكام الشرعية يمكن أنْ يقال أنّ الآية ليست ناظرة إلى كلّ المحرّمات وفي جميع الأزمنة، وإنّما هي ناظرة إلى المحرّمات في زمان نزولها، وكأنّ الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عُلِّم أنْ يقول أنّي لا أجد في هذه المحرّمات التي وصلت إليّ في زمان نزول الآية محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أنْ يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير.....الخ. فلا يكون فيها عموم أو إطلاق يشمل كلّ الأزمنة، هو ليس ناظراً إلى جميع المحرّمات وفي جميع الأزمنة، وإنّما ناظر إلى المحرمات التي كانت موجودة ونازلة على النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند نزول الآية الشريفة في أوّل الشريعة، لكن لا يوجد فيها عموم بعدم وجود محرّم إلاّ هذه الأمور حتّى بلحاظ الأزمنة الآتية؛ لأنّ الشريعة بُيّنت بشكلٍ تدريجي، وقد تُضاف إلى المُستثنيات بعض المحرّمات، ولعلّ هذا المشكوك منها. قد يُستشكل بدلالة الآية بهذا الشكل.
على كل حال. من ناحية أصوليّة نقول: إنْ كان هناك عموم فوقاني يدلّ على حلّيّة كل حيوان إلاّ ما استُثني، أو يدلّ على حرمة كل حيوان إلاّ ما استثني، يتعيّن الأخذ به، ولا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة. لكن إذا شككنا في ذلك، أو منعنا من ذلك، وقلنا لا يوجد لدينا عموم قرآني بهذه المثابة؛ حينئذٍ تصل النوبة إلى الأصول العمليّة، ما هو الأصل الذي يمكن التمسّك به في المقام ؟ هنا احتمالات ثبوتية:
الاحتمال الأوّل: الرجوع إلى أصالة الحل(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) ولحم هذا الحيوان لا نعلم أنّه حرام، فنثبت حلّيّة لحم هذا الحيوان.
الاحتمال الثاني: استصحاب عدم التذكية.
الاحتمال الثالث: استصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع.
الاحتمال الرابع: استصحاب الحرمة الثابتة في حال الحياة.
هذه الأصول محتملة، ولو احتمالات ثبوتية، فأصالة الحل، واستصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع يثبتان حلّية أكل لحم هذا الحيوان، واستصحاب عدم التذكية، واستصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، أي استصحاب الحرمة المتيّقنة حال حياة هذا الحيوان تثبتان حرمة أكل لحم هذا الحيوان. أيّ أصل من هذه الأصول هو الذي يجري ؟
لا إشكال في أنّ استصحاب عدم التذكية لا يجري في هذا الفرع؛ ولذا قلنا أنّ هذا الفرع ليس له ربط بمحل الكلام الذي هو عبارة عن استصحاب عدم التذكية؛ لأنّه ليس لدينا شكّ من ناحية التذكية في هذا الفرع حتّى نستصحب عدمها، فاستصحاب عدم التذكية لا موقع له في هذا المقام، ولا معنى لإجرائه لعدم الشكّ في التذكية. أو بعبارة أخرى: لأننا نقطع بتحققّ التذكية، فلا معنى لاستصحاب عدم التذكية، إنّما يكون هناك معنى لهذا الاستصحاب إذا شككنا في تحققّ التذكية وعدم تحقّقها، أمّا مع العلم بعدم تحققّها، لا يجري هذا الاستصحاب. إذن: استصحاب عدم التذكية ينبغي عزله على حِدى.
وأمّا استصحاب الحلّيّة الثابتة قبل التشريع، فلا محذور فيه على غرار ما تقدّم من استصحاب البراءة قبل التشريع، حيث قلنا أننّا إذا عجزنا عن إثبات البراءة بأدلّتها تصل النوبة إلى استصحاب البراءة، وقلنا أنّ استصحاب البراءة له تقريبات، استصحاب البراءة قبل البلوغ، استصحاب البراءة قبل عروض الحالة الخاصّة على الموضوع، ومنها استصحاب البراءة الثابت قبل التشريع، باعتبار أنّ البراءة هي الثابتة قبل التشريع، إنّما الحرمة هي التي تحتاج إلى تشريع. فإذا شككنا أنّ هذه البراءة والحلّيّة الثابتة قبل التشريع هل لا زالت باقية، أو ارتفعت بجعل الشارع تشريعاً للحرمة، حيث ترتفع البراءة والحلّية إذا شرّع الشارع الحرمة، فشكّنا هو أنّ الشارع شرّع الحرمة أو لا ؟ فيجري استصحاب الحلّية المتيقنة قبل زمان التشريع على غرار استصحاب البراءة المتيقنة قبل التشريع، وإذا جرى هذا الاستصحاب وآمنا به؛ حينئذٍ لا تصل النوبة إلى أصالة الحل؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على أصالة الحل بالحكومة، أو بالورود، فلا تصل النوبة إلى أصالة الحل، وإنّما الذي يجري هو استصحاب الحل الثابت قبل التشريع، وهذا يثبت حلّيّة أكل لحم هذا الحيوان. وأمّا إذا ناقشنا في جريان هذا الاستصحاب؛ حينئذٍ نتمسّك لإثبات الحلّيّة بأصالة الحل.
وأمّا استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة، فقد يقال: أنّ الأصل الذي يجري في المقام ليس هو استصحاب الحل الثابت قبل التشريع، وإنّما الذي ينبغي إجرائه هو استصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح، يعني في حال الحياة، حيث أنّ هذا الحيوان كان يحرم أكله، وبعد أنْ زُهقت روحه نشكّ في أنّ هذه الحرمة ارتفعت، فيما إذا كانت التذكية سبباً للحلّية، أو لم ترتفع، فيما إذا كانت التذكية ليست سبباً لحلّيته، فنستصحب الحرمة المتيقنة في حال الحياة، وهذا يثبت نتيجة معاكسة لاستصحاب الحلّية قبل التشريع. هذا الاستصحاب يجري، أو لا ؟
قد يقال: بجريانه؛ بل لعلّه يظهر من بعضهم جريانه في المقام، حيث نُسب إلى البعض أنّه تمسّك بهذا الاستصحاب ووصل إلى نتيجة أنّ الحيوان المشكوك بالنحو الأوّل في الشبهة الحكميّة يحرم أكله؛ لاستصحاب الحرمة المتيقنة حال الحياة، ودليله على جريان هذا الاستصحاب هو أنّه كانت هناك حرمة ثابتة في حال الحياة ويُشك بها لاحقاً، فتكون أركان الاستصحاب متوفرة، يقين سابق بالحرمة في حال الحياة، فهذا الحيوان في حال حياته كان يحرم أكله، وشكٌّ لاحق في بقاء هذه الحرمة وزوالها، فتتوفّر أركان الاستصحاب، فيجري الاستصحاب، وهذا الاستصحاب إذا جرى فأنّه يمنع من استصحاب الحل الثابت قبل التشريع؛ لأنّه ناظر إلى حالة متأخّرة.
ولكن هناك عدّة مشاكل في هذا الاستصحاب:
المشكلة الأولى: المناقشة في اليقين السابق، من قال أنّ الحرمة ثابتة في حال الحياة ؟ أو فلنقل: من قال أنّ الحيوان الحي يحرم أكله ؟ لا دليل على هذا؛ لأنّ كلّ العناوين التي ثبتت فيها حرمة الأكل لا تنطبق على هذا الحيوان في حال الحياة، لا عنوان الميتة ينطبق عليه، ولا عنوان غير المذكي....الخ، فأنّ المُذكى وغير المُذكى هو وصف للعنوان الميت، فالحيوان الميت يقال عنه أنّه مذكى، أو غير مُذكى، أمّا الحيوان الحي لا يتّصف لا بالمُذكى، ولا بغير المُذكى، فلا هو ميتة، ولا هو غير مذكّى؛ لأنّ غير المذكّى من صفات الحيوان الميت بعد إزهاق روحه، وليس من صفات الحيوان الحي، فلا دليل على حرمة أكل الحيوان وهو حي، وعلى هذا الأساس أفتى جماعة من فقهائنا؛ بل لعلّ المعروف جواز ابتلاع السمك الصغير وهو حي، مع وضوح أنّ ذكاة السمك ليست بإخراجه من الماء، وإنّما بموته خارج الماء، وليس بمجرّد إخراج السمك من الماء تكون هذه تذكية له بحيث يقال يجوز ابتلاعه لأنّه ذُكي بإخراجه من الماء؛ بل تذكيته هي موته خارج الماء، فإذا بقي حيّاً وبلعه، فأنّه يكون قد بلع حيواناً قبل تذكيته، وقالوا بجوازه؛ لأنّه لا دليل على حرمة لحم الحيوان في حال حياته، فإذن: القضية ليست مسلّمة حتّى يقال لدينا يقين سابق وشكّ لاحق، أنّ هذا الحيوان في حال حياته كان يحرم أكله، والآن يُشكّ في بقاء الحرمة، فنستصحب الحرمة المتيّقنة في حال الحياة، فلا يوجد لدينا يقين بالحرمة سابقاً حتّى يجري هذا الاستصحاب.