34-03-16
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
34/03/16
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:- مسألة ( 370 ) / الواجب الثاني من واجبات حج التمتع ( الوقوف بعرفات ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
مسألة ( 370 ):- تحرم الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس عالماً عامداً لكنها لا تفسد الحج فإذا ندم ورجع إلى عرفات فلا شيء عليه وإلا كانت عليه كفارة بدنة ينحرها في منى فإن لم يتمكن منها صام ثمانية عشر يوماً متواليات . ويجري هذا الحكم فيممن أفاض من عرفات أو جهلاً منه بالحكم فيجب عليه الرجوع بعد العلم أو التذكر فإن لم يرجع حينئذ فعليه الكفارة على الأحوط.
تشتمل المسألة المذكورة على النقاط التالية:-
النقطة الأولى:- تحرم الإفاضة من عرفات قبل الغروب بقطع النظر عن كون الغروب هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة.
والظاهر أنه لا خلاف في أصل الحرمة ، قال في المدارك:- ( أجمع الأصحاب على أن من أفاض قبل الغروب عامداً فقد فعل حراماً ... )
[1]
.
وإذا رجعنا إلى الروايات فربما يصعب تحصيل رواية تدل على الحرمة إلا على بعض المباني فمن الروايات التي قد يتمسك بها صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة:- ( قال أبو عبد الله عليه السلام:- إن المشركين كانوا يفيضون قبل أن تغيب الشمس فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأفاض بعد غروب الشمس ) ، وهذه الرواية كما ترى يمكن التأمل في دلالتها باعتبار أن مخالفة الرسول وذلك بالإفاضة بعد الغروب لا يدل على اللزوم فلعل ذلك راجح ومستحب لا أنه لازم.
ومن ذلك صحيحة يونس بن يعقوب:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- متى نفيض من عرفات فقال:- إذا ذهبت الحمرة من ههنا وأشار بيده إلى المشرق ) وقد تقدمت أيضاً . ويرد نفس ما ذكرناه على الرواية السابقة فإن ذكر الإمام بقوله ( إذا ذهبت الحمرة ) لا يدل على اللزوم فلعله ذلك بنحو الرجحان إذ لا توجد صيغة أمر أو نهي حتى نستفيد من ذلك اللزوم ، اللهم إلا أن تقول إن سؤال السائل هو عن الوقت الجائز أي - متى يجوز - فمقصوده من قوله ( متى نفيض ) أي متى يجوز أن نفيض ؟ فإذا أجابه الإمام ( بعد ذهاب الحمرة ) فيستفاد الوجوب ، وهذا جيد إن ثبت ذلك وهو شيء قريب ولكن لعل الجزم به صعب.
ومن ذلك أيضاً روايات الكفارة التي ستاتي وأن من أفاض عليه بدنة بناءً على أن ثبوت الكفارة يلازم الحرمة فإنه بناءً على هذا يثبت التحريم.
ولعل الأجدر من كل هذا التمسك بالبيان السيّال الذي ذكرناه في غير موضع وذلك بأن يقال:- إن المسألة المذكورة ابتلائية فلابد أن يكون حكمها واضحاً وحيث إن الفقهاء لم يقع بينهم خلاف في عدم جواز الإفاضة قبل الغروب فذلك يدل على أن الحكم الواضح الذي وصلهم يداً بيد هو ذلك - أي الحرمة - وإلا فلا يحتمل أن يكون الحكم الواضح هو الكراهة وهم يتفقون على الحرمة . إذن ينبغي عدم التأمل في حرمة الإفاضة قبل الغروب وإنما الكلام في الطريق الفنّي لإثبات ذلك.
ثم إنه ينبغي أن يكون واضحاً أن الحرمة مختصة - كما أشار في المتن - بالعالم العامد والوجه واضح فإن العلم شرط عام في التكاليف - بمعنى أنه شرط في تنجزها واستحقاق العقوبة على مخالفتها وإن لم يكن شرطا في أصل ثبوتها الواقعي - وهذا مطلب واضح أيضاً.
وهناك شيء لا بأس بالتعرض إليه:- وهو أن المدار حسب هذه الروايات وفتوى الفقهاء هو الإفاضة قبل الغروب فمتى ما صدق هذا العنوان تثبت الحرمة أما إذا لم يصدق أو شك في صدقه فلا يمكن الحكم بها وذلك كما لو فارق المكلف عرفات قبل الغروب لأجل حاجة بأن يشتري شيئاً ويرجع بسرعة أو يفتش عن شيء ضاع منه ولم يكن قصده الإفاضة قبل الغروب إن مثله يمكن أن يقال هذا لا يصدق عليه عرفاً الإفاضة قبل الغروب لأنه من العناوين القصديّة مثلاً وهو لم يقصد ذلك ولا أقل من الشك في أنه يصدق أو لا ومع الشك لا يمكن التمسك بعموم العام الذي يدل على حرمة الإفاضة قبل الغروب لأنه من التمسك بالعام إما عند اجمال المفهوم أو عند الشك في المصداق وعلى التقديرين هو لا يجوز - يعني مرّة نقول إن مفهوم الإفاضة عرفاً هو مردّد وغير واضح وهل أخذ فيه قصد القربة أو لا ؟ وهل أن لا تكون الإفاضة لحاجة أو لا ؟ وأخرى يكون أصل المفهوم واضحاً ولكن يشكل في انطباقه على المصداق فإنه على كلا التقديرين لا يجوز التمسك بالعام - بل يتمسك بالبراءة ، وهذا مطلب ينبغي أن يكون واضحاً.
وهكذا الحال لو فرض أن المكلف بعد أن ذهب إلى عرفات يعني بعد الزوال وقف خمس دقائق مثلاً وأفاض إنه في مثل ذلك أيضاً إما أن يجزم بعدم صدق الإفاضة قبل الغروب والقدر المتيقن من العنوان المذكور هو أن تكون الإفاضة قبل الغروب بفاصلٍ غير طويل كربع ساعة أو نصف أما إذا كان بخمس ساعات فهنا لا يصدق العنوان المذكور إما جزماً أو بنحو التردد والشك وعلى كلا التقديرين لا يجوز التمسك بالعام فنرجع إلى البراءة.
النقطة الثانية:- إن من أفاض قبل الغروب هو وإن فعل محرماً ولكنه لا يفسد حجّه بذلك رغم أن القاعدة تقتضي الفساد بناءً على أن الواجب هو الفترة بالكامل - أي من الزوال إلى الغروب - إنه بناءً على هذا الرأي المشهور ينبغي أن تكون القاعدة هي الفساد إذ لم يحقق الجزء الواجب فينتفي المركب بانتفاء جزئه ، ولكن روايات الكفارة يستفاد منها عدم الفساد بتقريب أن الحج لو كان يفسد وكانت تجب اعادته في السنة التالية للزم على الإمام عليه السلام أن ينبه على ذلك لا أن يذكر الكفارة فقط فإثبات الكفارة مع السكوت عن الإعادة يفهم منه عرفاً عدم الفساد فلاحظ صحيحة مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس ، قال:- إن كان جاهلاً فلا شيء عليه وإن كان متعمداً فعليه بدنة )
[2]
، وصحيحة أبي ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام:- ( سألته عن رجل أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس ، قال:- عليه بدنة ينحرها يوم النحر فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكة أو في الطريق أو في أهله )
[3]
.
النقطة الثالثة:- لو فرض أن المكلف أفاض قبل الغروب وفعل محرماً ولكنه ندم على ما ارتكب فرجع إلى عرفات وبالتالي غربت عليه الشمس وهو في عرفات فهنا هل تجب عليه الكفارة باعتبار أنه أفاض قبل الغروب وإن رجع أو أنه لا تجب عليه باعتبار أنه قبل الغروب هو في عرفات ؟
إن هذه المسألة وقعت محلاً للخلاف بين الأعلام وقد نقل صاحب المدارك(قده) عن المنتهى رأياً للعامّة وهو أنه حينما أفاض ثبتت الكفارة وزالها بعد ذلك يحتاج إلى دليل فالمناسب هو ثبوت الكفارة ، ولكن صاحب المدارك(قده) ذكر أن الكفارة ساقطة وذلك لما يأتي وسنذكره انشاء الله تعالى ، وعبارته بعد أن نقل عن المنتهى أن بعض العامة قال بثبوت الكفارة هكذا:- ( باعتبار حصول الافاضة المحرمة المقتضية للزوم الدم فلا يسقط إلا بدليل ) ثم قال صحاب المدارك ( وهو غير بعيد وإن كان الأقرب السقوط )
[4]
، وقال في الحدائق ( المسألة عندي محل توقف لفقد النصّ في المقام والتعليلات التي ذكروها عليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية والقول العامي لا يخلو من قوة )
[5]
، ومقصوده من القول العامي هو ما ذهب إليه بعض العامة الذي نقل عن المنتهى ، وقال في كشف اللثام:- ( وفي النزهة:- إن سقوط الكفارة بعد ثبوتها يفتقر إلى دليل وليسٌ ، وهو متجه )
[6]
. إذن هؤلاء قووّا رأي العامة.
وقال في الجواهر ( وفي كشف اللثام " وهو متجه " وفيه منع الثبوت بعد ظهور الدليل في غير العائد )
[7]
. إذن صاحب الجواهر يظهر منه الميل إلى عدم ثبوت الكفارة .
وعلى أي حال مستند القوم بالثبوت كما عرفنا هو الإطلاق ، يعني بمعنى أن الكفارة تدور مدار عنوان الإفاضة قبل الغروب ولم يقيّد ذلك بأن لا يعود فمقتضى الإطلاق ثبوت الكفارة وإن عاد ، وهذا ما ذكره بعض العامة وارتضاه صاحب الحدائق وكشف اللثام.
ولكن في مقابل ذلك يمكن أن يقال بعدم الثبوت وذلك للوجوه التالية:-
الوجه الأول:- ما ذكره السيد الخوئي(قده) وحاصله:- إن الكفارة ثابتة لعنوان الإفاضة قبل لغروب وهذا غير صادق لأن الإفاضة قبل الغروب يعني أنه حين الغروب هو ليس في عرفات بل خارجها فهذا هو معنى الإفاضة قبل الغروب والمفروض في المقام أن هذا المكلف في عرفات حين الغروب فلا يصدق العنوان المذكور عليه وبالتالي يكون التمسك بالإطلاق لا معنى له بعد صدق العنوان.
وفيه:- إنه لو أردنا أن نتساير مع الألفاظ والحروف - كما هي طريقة السيد الخوئي(قده) - فهذا المكلف بالتالي قد أفاض قبل الغروب ولكنّه عاد لا أنه لم يُفِض قبل الغروب ، وأما إذا أردنا أن نتساير مع ما وراء الألفاظ والحروف فذلك شيء آخر وهو وما سنذكره فيما بعد انشاء الله تعالى.
الوجه الثاني:- ما ذكره صاحب بالمدارك(قده) وهو التمسك بأصالة البراءة فإن صاحب الشرائع حكم بسقوط الكفارة في حق من عاد بعد أن أفاض وعلّق صاحب المدارك بقوله:- ( لأصالة البراءة )
[8]
.
وفيه:- إنه لا مجال للتمسك بأصالة البراءة بعد ثبوت الإطلاق فلا بد وأن نمنع الإطلاق وآنذاك نتمسك بأصالة البراءة لا أن نتمسك بها ابتداءً ولعل هذا هو مقصوده ولكنه خانه التعبير.
الوجه الثالث:- ما ذكره صاحب المدارك(قده) أيضاً في نفس الموضع حيث قال:- إن الشخص الذي عصى ولم يذهب إلى عرفات من حين الزوال حتى مضت ساعات وقبيل الغروب بدقائق ذهب إلى عرفات فهل تثبت في حقه الكفارة ؟ كلا لأنه غابت عليه الشمس وهو في عرفات ومقامنا مثل ذلك لأنه موجود حين الغروب ، قال ما نصّه:- ( ولأنه لو لم يقف أوَّلاً ثم أتى قبل غروب الشمس ووقف بها حتى تغرب لم يجب عليه شيء فكذا هنا ).
وفيه:- إن الأحكام تدور مدار العناوين وفي الحالة الأولى المشبّه به أو المقيس عليه - وهو الذي لم يقف أصلاً - لا يصدق عليه عنوان الإفاضة قبل الغروب بخلاف الثاني فإنه أفاض قبل الغروب.
والأجدر في توجيه سقوط الكفارة أن يقال:- إن الروايات لا تشتمل على الإطلاق فإن الامام عليه السلام لم يقل ( من أفاض قبل العروب فلا يجوز ) أو ( عليه كفارة بدنة ) فلو كان هكذا يقول لكان هناك مجال ما للتمسك بالإطلاق ولكن المفروض أن السائل سأل عن ذلك فقال ( في رجل أفاض قبل الغروب ) فقال عليه السلام ( عليه كفارة بدنة ) ومعلوم أن السائل حينما سأل إن لم نجزم أن نظره إلى حالة عدم العود إذ لو كان في ذهنه العود لأشار ونبّه عليه ، فهو إذن تمام نظره متوجه إلى من أفاض من دون عودة ومعه كيف نتمسك بترك الاستفصال لإثبات العموم ، كلا إنه غير ممكن وبالتالي نرجع إلى البراءة ولعل هذا هو مقصود صاحب المدارك وغيره من الأعلام.
إذن لا دليل على ثبوت الكفارة في حق من عاد لاختصاص الروايات - بالبيان المذكور - في حق من لم يَعُد فنرجع إلى البراءة.
[1] المدارك 7 318.
[2] الوسائل 13 558 23 من ابوب احرام الحج والوقوف بعرفة ح1.
[3] المصدر السابق ح3.
[4] المدارك 7 399.
[5] الحدائق 16 383.
[6] كشف اللثام 6 70.
[7] الجواهر 19 29.
[8] المدارك 7 399.