38/05/22
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/05/22
بسم الله الرحمن الرحيم
كان كلامنا فيما إذا علم الراشي أنه يوجد له مجوز لاسترجاع الرشوة ففي مثل هذه الحالة هل يجب على القاضي ردّ المال ؟
تعرض الشيخ الأعظم(قده) لهذه القضية وذكر صورتين:-
الصورة الأولى:- أن يدفع الراشي الأجرة مقابل الحكم بالباطل ، فهنا سوف تصير إجارة.
الصورة الثانية:- أن يدفع له المال لا في مقابل الحكم بالباطل بل الحكم بالباطل يكون داعياً لا أنه يكون مقابلاً بالمال فيكون المورد بناء على هذا من باب الهبة ، فأنا وهبت له المال بداعي أن يلين قلبه لكي يحكم لي.
أما بالنسبة إلى الصورة الأولى:- فقد حكم الشيخ الأعظم(قده) بالضمان ، بمعنى ارجاع عين الرشوة إن كانت موجودة والبدل إن كانت تالفة ، ولماذا ؟ لم يتعرّض الشيخ إلى ذلك ولعلّه اعتمد على وضوح المطلب ، وكان من المناسب له أن يشير إلى النكتة في ذلك ، ونحن قلنا إنَّ النكتة في ذلك هي أنه مادامت المعاوضة فاسدة والعقد فاسد فالمال المدفوع باقٍ على ملك الدافع – الراشي – فإذا طالب به يلزم إرجاع عينه إن كانت موجودة والبدل إن كانت العين تالفة.
ثم قلنا:- إنه قد أذن بالاتلاف ومعه لماذا يطالب بالبدل إذا كانت العين تالفة ؟
أجبنا عن ذلك:- بأنه قد أَذِن بالإتلاف بتخيّل أنَّ هذا العقد صحيح وأما إذا كان باطلاً واتضح له أنه باطل فهو حينئذٍ لا يأذن بهذا التصرّف فإذنه ضمن العقد الفاسد فإذا اتضح أن العقد فاسد فإذنه يكون كلا إذن ، إلا اللهم إذا أذِنَ بذلك حتى لو كان العقد فاسداً فهو يدفعه على جميع التقادير ويكون آذناً بإتلافه فهنا لا ضمان ، نعم فعله حرام ولكن لا ضمان ، ونحن كلامنا في الضمان فيما إذا كان متديناً وكان يتخيّل الجواز فدفعه إلى القاضي فهنا الإذن هو إذنٌ ضمن العقد الفاسد بتخيّل أنَّ هذا العقد صحيح ، فإذا تبين أنَّ العقد فاسد فالإذن يكون كلا إذن.
ثم بيّنا أنَّ مرجع كلّ كلامنا هذا إلى جملة واحدة وهي أنَّ المدرك في الضمان قاعدة اليد ، فبالتالي القاضي تنطبق عليه قاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤدّي ) ، فإذن لابد إرجاع العين إذا كانت موجودة والبدل إذا كان تالفاً ، اللهم إلا إذا كان التسليط تسليطاً مجانياً وقد أَذِن في الاتلاف المجاني حتى إذا كان العقد فاسداً ، فإذا كان هكذا فهذا سوف يكون خارجاً عن قاعدة على اليد ، فمرجع كل كلامنا إلى التمسّك بقاعدة على اليد.
إن قلت:- إنَّ مدرك قاعدة على اليد هو السيرة والقدر المتيقن منها أنَّ اليد تكون ضامنة إذا فرض أنَّ العين كانت موجودة وأما إذا كانت تالفة والمفروض أنَّ الراشي قد أَذِن بالإتلاف فهنا لا نجزم بانعقاد السيرة على الحكم بالضمان لأنَّ السيرة دليل لبّي وفي الدليل اللبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن والقدر المتيقن من الضمان عند العقلاء بالسيرة هو ما إذا كانت العين موجودة أما إذا تلفت وقد فرض أنَّ الدافع هو قد أَذِن مسبقاً فلا نجزم بانعقاد السيرة في مثل هذه الحالة فلا مدرك للضمان فنتمسّك بأصل البراءة لنفي الضمان ، لأنه بالتالي نشك في أنه يوجد ضمان أو لا فنجري أصل البراءة ككل حكمٍ إلزامي إذا شككنا في ثبوته يمكن نفيه بأصل البراءة ، فأنا أشك هل اشتغلت ذمّتي وهل يلزمني أن أدفع البدل إذا كانت العين تالفة أو لا فأجري أصل البراءة.
والخلاصة:- إنَّ السيرة قاصرة لأنها دليل لبّي والقدر المتيقن منها هو ما إذا لم يأذن بالاتلاف ، وهنا هو قد أَذِن بالاتلاف ففي مثل هذه الحالة لا يمكن التمسّك بقاعدة على اليد.
قلت:- لو فرض أنَّ العقلاء نُبِّهوا على ذلك وقيل لهم أيها العقلاء هذا العقد – وهو عقد الرشوة - كلا عقد شرعاً وهو قد أَذِن بتخيّل أنَّ هذا العقد صحيح والآن تبيّن أنه فاسد فنجد أنهم يحكمون بالضمان في مثل هذه الحالة من دون شك في ذلك ، وهذا هو المرتكز العقلائي ولا توقّف من الجنبة العقلائية في الحكم بالضمان ، نعم إذا كان إذنه إذناً مطلقاً وهو لا يبالي بالشرع فهنا نسلّم بعدم الضمان .
فإذن لا يمكن أن يقال بأنَّ قاعدة على اليد هي إنَّ مدركها عقلائي فنقصر على القدر المتيقّن والقدر المتيقن ما إذا لم يأذن المالك في الاتلاف أما إذا أذن كما هو المفروض - لأنه هو الذي أعطى الرشوة - فلا ضمان له ، حيث أجبنا عنه بأنَّ هذا ليس بصحيح فإنَّ العقلاء إذا التفتوا إلى أنَّ هذا العقد باطل وأن إذنه كان بتخيّل الصحّة فلا يتأملون في الحكم بالضمان بل يجزمون به.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ ما ذكرناه في تعليل الضمان أولى مما ذكره السيد الخوئي(قده) في مصباح الفقاهة[1] في مقام توجيه الضمان الذي ذكره الشيخ الأعظم(قده) حيث قال:- إنَّ المورد من الاجارة الفاسدة أو بحكم الاجارة الفاسدة وحينئذٍ نطبق قاعدة ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) ، وحيث إنَّ صحيح الاجارة فيها ضمان ففاسد الاجارة فيه ضمان أيضاً ، وفي موردنا حيث إنَّ هذه الاجارة فاسدة ففي مثل هذه الحالة يكون العقد فاسداً ، فالحاكم قد أخذ لأجرة فإذا اتضح بعد ذلك أنَّ هذا العقد فاسد فالضمان يكون على القاضي فإذا كانت العين موجودة لزمه ردّها إلى صاحبها وإلا فعليه أن يدفع البدل.
ونعلّق ونقول:- إنَّ هذه القاعدة هي قاعدة مؤسسة من قبلنا لا أنها مبيّنة في النصوص حتى نتمسّك بإطلاقها ومستندها هو قاعدة على اليد ، فلماذا تذهب إلى قاعدة ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) حتى يأتي شخص ويقول أنا لا أؤمن بهذه القاعدة ، بل عليك أن تتمسّك رأساً بقاعدة ( على اليد ) ولا حاجة إلى التمسّك بقاعدة ( ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) ، هذا بالنسبة إلى ما أفاده السيد الخوئي(قده) والصورة الأولى
وأما بالنسبة إلى الصورة الثانية:- وهي أن تدفع الرشوة لا في مقابل الحكم بل بداعي الحكم له بالباطل ، وهنا يكون المورد من الهبة الفاسدة ، وحينئذٍ إذا صار هبة فاسدة فلا ضمان على القاضي ، لأنَّ الدافع للمال هو قد أعطاها له من دون مقابل فيكون الدفع دفعاً مجانياً فلا ضمان لقاعدة ( ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ) ، فإن المورد مصداق للهبة غايته أنَّ الهبة فاسدة والهبة ليس في صحيحها ضمان فلا يكون في فاسدها ضمان ، فلا ضمان حينئذٍ.
ثم قال الشيخ الأعظم(قده)[2] :- وإذا تمسّكت بعموم على اليد ، أجبتك:- بأنَّ قاعدة على اليد مختصّة بغير حالة التسليط المجاني والمفروض أنَّ هذا الشخص قد سلّط القاضي مجاناً ، فإذا كان يوجد تسليط مجاني فقاعدة على اليد لا يمكن تطبيقها.
وتعليقنا على ما أفاده هو:- إنَّ ما ذ كره جيّد ولكنه تطويل بلا طائل ، فإنَّ الجزء الأوّل من كلامه حشوٌ زائد - وهو أنَّ المورد من موارد الهبة الفاسدة والهبة ليس في صحيحها ضمان فليس في فاسدها ضمان - فإنَّ هذا الكلام لا نحتاجه ، والمهم هو الجزء الثاني من كلامه وهو قوله إنَّ عوم قاعدة على اليد لا يمكن التمسّك به لأنه مختصّ بغير حالة التسليط المجاني ، فلو ذكر الكلام الثاني فقط لأغنانا عن كلامه الأوّل إذ الجزء الثاني وافٍ بالمراد حيث إنَّ المدرك للضمان هو عموم ( على اليد ) وعموم ( على اليد ) مختصّ بغير حالة التسليط المجاني وهنا التسليط مجاني فلا ضمان ، وما ذكره أوّلاً لسنا بحاجة إليه ، نعم إذا كان مدرك قاعدة ( ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ) غير عموم على اليد فالتمسّك به يصير وجيهاً ولا بأس به ، ولكن بعد فرض أنَّ تلك القاعدة ترجع إلى قاعدة على اليد فحينئذٍ التمسّك بالقسم الثاني من كلامه ولا حاجة إلى القسم الأوّل من كلامه ، وهذه قضية فنّية يجدر الالتفات إليها.