38/05/21
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/05/21
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة (32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.
ولكن نسأل ونقول:- هل هي باطلة بالإضافة إلى حرمتها كبيع الخمر فإنه حرام تكليفاً وباطل ، فهنا هل توجد حرمة تكليفية وبطلان أو أنه توجد حرمة تكليفية فقط من دون بطلان ؟
الجواب:- قد تعرّض الشيخ الأعظم(قده) إلى ذلك بشكل مختصر جداً ، حيث قال:- ( في فساد المعاملة المحابا فيها وجه قوي)[1] .
وأشكل عليه العلمان الميرزا علي الايرواني(قده)[2] والسيد الخوئي(قده)[3] :- بأنَّ البطلان يتم فيما إذا فرض أنَّ الحكم بالباطل أخذ شرطاً في المعاملة المحابا فيها وبنينا على أنَّ الشرط الفاسد مفسدٌ للمعاملة ، فإذا اجتمع هذان المطلبان بطلت المعاملة ، يعني يفترض أنَّ هذا الشخص المحابي قد أخذ الحكم بالباطل له شرطاً له بأن قال للقاضي أعطيك هذا الشيء بسعرٍ أقل في مقابل أن تحكم لي بالباطل ، فهو قد أُخِذَ شرطاً لا أنه لم يؤخذ شرطاً كما في الصورة الثالثة ، يعني إذا كان بنحو الهدية فإنَّ الحكم بالباطل يكون داعياً فإنَّ الهدف هو جلب المودّة حتى يحكم له بالباطل وإلا ففي العقد لا يذكر بنحو الشرط الصريح ولا بنحو الشرط الضمني وأنَّ هذا الشيء مقابل الحكم بالباطل وإنما قال له إنَّ هذا لك أيها القاضي لكنّ الهدف من اعطائه هو حصول المحبّة ومن ثم الحكم له بالباطل - فإذا فرض أنَّ الحكم بالباطل أخذ شرطاً لا أنه أخذ داعياً وبنينا على أنَّ الشرط الفاسد مفسدٌ للمعاملة فنعم يتم ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) من أنَّ المعاملة المحابا فيها تكون باطلة ، ولكن في خصوص النحوين الأوّلين ، أما في النحو الثالث فلا يتم لأنه في النحو الثالث لا يكون الحكم بالباطل شرطاً وإنما يكون داعياً ، فإن تم كلام الشيخ فهو يتم في النحوين الأولين لأنه يؤخذ الحكم بالباطل شرطاً ، فإذا بنينا على أنَّ الشرط الفاسد مفسدٌ يتم ما أفاده ، وأما إذا لم نبنِ على أنَّ الشرط الفاسد مفسدٌ أو بنينا عليه ولكن افترضنا الحالة الثالثة فلا وجه لبطلان المعاملة.
وفي هذا المجال قد يقال دفاعاً عن الشيخ الأعظم(قده):- بأنه إذا كانت المعاملة المحابا فيها محرّمة تكليفاً فكيف نثبت صحتها فإننا نحتاج إلى دليل لإثبات الصحة ، ودليل الصحة هو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإن هذا العموم يشمل هذه المعاملة التي هي محرّمة تكليفاً ، وهل يجب علينا الوفاء بالمحرّم ؟!! فكيف يوجب الله تعالى علينا الوفاء بالمعاملة المحرّمة ؟!! ، ومن هنا ذكرنا في باب الاجارة أنه متى ما كانت الاجارة على شيءٍ محرّم كأن يستأجر شخصاً ينقل له الخمر أو يصنعه له – فيوجد شيآن محرّمان ويحرم كلّ شيء يرتبط بهما وهما الخمر حيث ورد ( لعن الله الخمر وبائعها وعاصرها ) فيستفاد من هذا أنَّ كل ما يرتبط بالخمر محرّم والربا فإنه قد ورد أنه كلّ ما يرتبط بالربا محرّم – فهذه المعاملة محرّمة أصلاً لأنَّ النقل محرّم والاجارة تكون باطلة لأنّ المصحّح لها ليس إلا ( أوفوا ) وهو لا يمكن أن يشمل هذه المعاملة المحرّمة وإلا يلزم وجوب الوفاء بالمحرّم ولذلك تقع هذه المعاملة باطلة في باب الاجارة .
ونفس هذا الكلام نسحبه إلى موردنا فنقول:- أنا حينما أجري معاملة البيع للحاكم والمفروض أني بعته بأقل من السعر مقابل أن يحكم لي بالباطل والمفروض أنّا بنينا على أنَّ هذه المعاملة محرّمة تكليفاً فلا يشملها عموم ( أوفوا ) وإلا يلزم وجوب الوفاء بالمحرّم ، وإذا لم يشملها عموم ( أوفوا ) فلا مثبت لصحّتها ، فإذن لا مدرك للصحّة ، ولعلّ مقصود الشيخ الأعظم(قده) من قوله ( وفي فساد المعاملة وجه قوي ) لعلّه يشير إلى هذا ، هكذا قد يقرّب بطلان المعاملة.
ولكن يمكن أن يقال:- هناك فارق بين باب الاجارة وبين باب البيع ، فإنَّ هذا الكلام يتم في باب الاجارة ، فالإجارة المحرّمة تكليفاً لا يمكن أن تقع صحيحة إذ مدرك صحّة الاجارة يعني الاطلاق أو العموم الذي يمكن التمسّك به هو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾.
وهذه فائدة علمية:- وهي أنه لا يوجد عندنا مدرك لصحة الاجارة بنحو الاطلاق نعم يوجد عندنا روايات خاصة مثل صحيحة أبي ولاد التي ورد فيها ( اكتريت بغلاً من قصر بني فلان ... ) لكن هذه الرواية ورادة في موردٍ خاص ونحن نريد اطلاقاً أو عموماً يثبت لنا صحّة كلّ إجارة مشكوكة الصحة وهذا ليس موجود عندنا ، ولو قلت:- توجد سيرة ، فأقول:- إنَّ السيرة خاصّة وليست عامّة ، ففي باب الاجارة لا يوجد عندنا مدرك لإثبات صحة المعاملة المشكوكة الصحة سوى ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإذا كان المدرك لها هو هذا فيأتي هذا الكلام وهو أنَّ ( أوفوا ) لا يمكن أن يشمل المعاملة المحرّمة وإلا يلزم وجوب الوفاء بما هو محرّم ، ولكن في باب البيع توجد مدارك أخرى غير ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ، بل يوجد ﴿ تجارة عن تراض ﴾ فهو يشمل البيع ، والمعاملة التي فيها محاباة هي نحوٌ من التجارة عن تراضٍ فتكون مشمولة لهذا الاطلاق ، ولا تقل لي:- لماذا لا يشمل هذا الاطلاق للإجارة ؟ قلت:- إنه لا يصدق عنوان التجارة على عنوان الاجارة وإنما التجارة تصدق على البيع - بناءً على هذا - ، فإذن يمكن التمسّك بـ ﴿ تجارة عن تراض ﴾ في باب البيع وإنما لا يمكن في باب الاجارة ، أو ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ بناءً على وجود إطلاق فيه يشمل موردنا ويثبت صحة كل بيع مشكوك الصحة إذ نتمسّك بإطلاقه بناءً على الاطلاق.
إذن يوجد عندنا دليل آخر غير ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فنتمسّك بإطلاقه لإثبات صحة هذه المعاملة المشكوك في صحتها.
إن قلت:- كيف يمضي الشرع المعاملة المبغوضة والمحرمة عنده - ولا أقول يوجب الوفاء وإنما أقول يمضي لأني لا أريد أن أتمسك بآية ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ وإنما التمسّك بـ ﴿ تجارة عن تراض ﴾ و ﴿ أحل الله البيع ﴾ - فإنَّ هذا إمضاء للمبغوض والمحرّم فتحصل منافاة ، فإنه مادام مبغوضاً للشرع فكيف يمضيه ؟! فكما لا يمكن أن يوجب الوفاء به لا يمكن أن يمضيه ؟!
قلت:- إنَّ تحقق المبغوض يحتاج إلى تحقق شيئين الأوّل تحقق السبب ، وأعني بالسبب هنا ( بعت ) و ( اشتريت ) فإنه هو السبب لتحقق هذه المعاملة المحرّمة المحابا فيها ، والثاني هو أنه يحتاج إلى امضاء شرعي بعد تحقق السبب ، ومادمنا نحتاج إلى شيئين فنقول لعلّ المبغوض للشارع هو هذه المعاملة يعني المسبَّب من خلال السبب ، فهو يبغض هذا النقل والانتقال لكن من خلال سببه ، أما بعد تحقق سببه فلا يبغضه ، والمفروض أنَّ المكلّف أوجد السبب لأنه قال بعت واشتريت ، فعلى هذا الأساس الشارع يمضي هذه المعاملة لأنَّ مبغوضيته لها هي من ناحية السبب والمكلّف أوجد السبب فالإمضاء يكون وجيهاً ، وهذا كما هو الحال في السكّين ، فهو حينما يطعن إنساناً بها فتحقّق الموت للمضروب بالسكّين يستند إلى شيئين الأوّل الطعنه والثاني قانون السببيّة وهو أنَّ الطعنة تكون سبباً إلى الموت ، فتحقّق الموت يحتاج إلى شيئين إلى طعنٍ بالسكين وإلى قانون السببيّة أو قانون العادة الإلهية ، وحينئذٍ نقول إنَّه في الحقيقة الشرع يبغض أن يموت هذا الشخص ويُطعَن ولكن بعد تحقق الطعنة فهو لا يبغض الموت بل يكون وقوع الموت شيئاً في محلّه لأنَّ السكّين عملها هو هذا ، فالمبغوض هو الموت من ناحية الطعنة أما من ناحيته هو بعد تحقّق الطعنة فلا يكون مبغوضاً.
ومن المحتمل هنا في باب المعاملة أن يكون الأمر كذلك وأنَّ هذه المعاملة المحابا فيها هي مبغوضة للشارع لكن من ناحية إيجاد السبب أما بعد أن أوجد المكلّف السبب وقال بعت واشتريت مع القاضي فلا يبغض الشارع المسبّب فيمضيه حينئذٍ فإنه لا مانع من ذلك.
إن قلت:- هذا شيء وجيه ولكن مجرّد الوجاهة والإمكان لا يثبت الوقوع ، فتعال واثبت أنَّ الشارع أمضى ذلك بالفعل أما أن تقول يمكن أن يمضي الشارع ويحتمل أنَّ الشارع قد أمضى ذلك فهذا لا ينفعنا فإنَّ مجرد الإمكان لا يكفينا بل لابد من اثبات الوقوع.
قلت:- المفروض أنه يوجد عندنا اطلاق في البين وهو اطلاق ﴿ أحلّ الله البيع ﴾ بناءً على ثبوت الاطلاق فيه ، واطلاق آية ﴿ تجارة عن تراض ﴾ وبعد وجود هذا الاطلاق فسوف يكون هو دليلاً على الوقوع ، فإنه لابد من التمسك بالاطلاق مادام يمكن للشارع أن يمضي ذلك ، فلذلك بعد فرض وجود دليل الامضاء الذي يدلّ على الوقوع يكفينا الامكان والوجاهة فنتمسّك حينئذٍ بالاطلاق.
ومن خلال هذا كلّه اتضح أنَّ المناسب هو الحكم بصحة المعاملة المحابا فيها على طبق البيان المذكور.
كلامٌ لصاحب الجواهر(قده):- ذكر صاحب الجواهر(قده)[4] أن الرشوة تتحقق بوسائل مختلفة من جملتها أن يدفع المال إلى الحاكم ويؤشر له أو يقول له بالصراحة يلزم عليك أن تحكم لي بالباطل ، وهذا هو المصداق الواضح ، ومن مصاديقها المحاباة ، ومن مصاديق الرشوة أيضاً يمكن أن يقال مدح القاضي والثناء عليه وتبجيله والمبادرة إلى قضاء حوائجه – ولعلّ المناسب ذكر هذا في مجالٍ أسبق من هذا أو يذكر تحت عنوان أنحاء الرشوة -.
والجواب:- إنَّ عدّ هذا من الرشوة غريبٌ ، فإنَّ الرشوة هي أن تقدّم شيئاً فإنَّ هذا هو المعروف لغةً وعرفاً ، أما أنه يقف احتراماً وتبجيلاً له فهذا ليس برشوة ، نعم من المناسب الحكم بحرمته لعنوانٍ آخر كأن تقول هذا نوع تأييدٍ ودعمٍ للباطل أو من هذه العناوين الثانوية لا أنه يجعل مصداقاً للرشوة.
حكم الرشوة وضعاً:-
ذكرنا أنَّ دفع الرشوة إلى القاضي للحكم بالباطل محرّم ، والكلام هو أنه ما هو حكم المال المدفوع إلى القاضي فهل يجب ردّه أو لا ؟
والجواب واضح:- وهو أنه إذا كانت عين المال موجودة فيجب ردّها لأنَّ هذا المال لم ينتقل إلى ملك القاضي ، فنفس الرشوة هي اجارة باطلة لأنها نحوٌ من الاجارة فهي كما هي محرّمة تكليفاً تكون محرّمة وضعاً فيلزم ردّ العين إن كانت موجودة وردّ بدلها إن كانت تالفة ، وقد ذكر الشيخ الأعظم(قده)[5] هذا المقدار لا أكثر ، يعني قال يجب ردّ المال المدفوع رشوةً عيناً إن كان موجوداً وبدله إن كان تالفاً ولم يبيّن أكثر من هذا ، وكان من المناسب له أن يبيّن التوجيه الفنّي لذلك ، ولعله لم يبيّنه لوضح المطلب.
وتوجيهه الفني أن يقال هكذا:- إنَّ هذا المال حسب الفرض لم ينتقل إلى القاضي لأن المعاملة باطلة ، ومادامت المعاملة باطلة فلابد من ردّ العين إن كانت موجودة وبدلها إن كانت تالفة ، والقضية واضحة.
إن قلت:- هذا وجيه في حالة وجود نفس العين ، واما إذا تلفت والمفروض أن الدافع هو قد أذن بالإتلاف فعلى هذا الأساس هو قد أذِن بالإتلاف فلماذا يحكم على القاضي بالضمان مادام قد إذن له الراشي بالاتلاف ؟!
وجوابه:- صحيح أنه قد أذن له بالاتلاف ولكنه كان يتصوّر أن العقد صحيح ، فهو قد أذن له إذناً ضمن هذا العقد الذي يتخيّل صحته وأما إذا كان فاسداً فحينئذٍ لا إذن ، فيثبت بذلك الضمان ، نعم لو فرض أنَّ إذنه كان وسيعاً بمعنى أنه يقول له خذ هذا المال وهو لا يبالي بالشرع أبداً فكان الاذن إذناً مطلقاً وليس مقيّداً بالعقد فحينئذٍ هنا نسلّم أنه لا موجب للضمان ، أما إذا لم نستفد أنَّ الاذن إذنٌ مطلق وإنما بتخيّل صحة العقد ففي مثل هذه الحالة يكون ضامناً ، بل حتى لو فهم في الأثناء كان له الرجوع ، يعني قبل أن يحصل التلف لو اطلع على أنَّ هذا العقد باطل فيمكن أن يتراجع عن الاذن.
والخلاصة:- إذا كان إذنه إذناً مطلقاً فلا ضمان وإلا فالمناسب التمسّك بالضمان ، ومرجع ما ذكرناه في الحقيقة ليس إلا قاعدة اليد وإلا شيء آخر قد تمسّكنا به ، فالدلي المهم للضمان في حقّ القاضي هو قاعدة اليد حيث وضع يده على ملك الغير فحينئذٍ يكون موجباً للضمان.