38/05/07
تحمیل
آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض
بحث الأصول
38/05/07
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: أصالة البراءة
ذكرنا أن الأحكام الظاهرية إذا كانت إلزامية فهي أحكام طريقية ولا شأن لها إلا تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ وإلا فهي ليست أحكاما مولوية شرعية لأنه لا مصلحة في متعلقاتها ولا عقوبة على مخالفتها ولا مثوبة على موافقتها فمن أجل ذلك ليس شأنها إلا تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ وأما الأحكام الظاهرية الترخيصية كأصالة البراءة الشرعية وأصالة الطهارة واستصحاب الحكم الترخيصي أو استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة والجامع استصحاب عدم الحكم الإلزامي أعم من الحكم التكليفي والوضعي فهي أحكام ترخيصية والداعي على جعل هذه الأحكام التخريصية هي المصلحة العامة وهي مصلحة التسهيل بالنسبة إلى نوع المكلفين ولا عقوبة على مخالفة الواقع إذا كانت مخالفة الواقع مستندة إلى ترخيص المولى من جهة الحكم الظاهري فهي ناشئة من مصلحة عامة.
وأما الأمارات الشرعية المعتبرة شرعا كأخبار الثقة وظواهر الالفاظ فهي إن كانت متكفلة للأحكام الالزامية فهي أحكام طريقية شأنها تنجيز الواقع فقط عند الإصابة والتعذير عند الخطأ ولا شأن لها غير ذلك ولا تجب موافقتها إلا من جهة موافقة الواقع ولا تحرم مخالفتها إلا من جهة مخالفة الواقع ولهذا لا مصلحة في متعلقاتها ولا مثوبة على موافقتها إلا المثوبة على موافقة الواقع ولا عقوبة على مخالفتها إلا المخالفة على الواقع فجعلها إنما هو للحفاظ على الأحكام الالزامية الواقعية بما لها من المبادئ والملاكات حتى في موارد الاشتباه والالتباس باعتبار أن اهتمام المولى في الحفاظ على الأحكام الواقعية هو الملاك في جعل الأحكام الظاهرية الالزامية الطريقية لأنها طريق إلى الحفاظ على الأحكام الواقعية في موارد الاشتباه والالتباس.
واما الأمارات المتكفلة للأحكام الترخيصية فهي مجعولة على أساس مصلحة عامة وهي مصلحة التسهيل بالنسبة إلى نوع المكلفين فلا فرق بينها وبين الأصول العملية من هذه الناحية.
وعلى هذا فما هو الفرق بين الأمارات وبين الأصول العملية؟
والجواب عن ذلك: أن الأصوليين قد فرقوا بينهما بفروق متعددة: وهذه الفروق تتمثل في ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أن الأمارات تفترق عن الأصول العملية في سنخ المجعول فإن سنخ المجعول في باب الأمارات غير سنخ المجعول في باب الأصول العملية، وقد تبنت هذا الرأي مدرسة المحقق النائيني[1] (قده) فذكرت أن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي، فالشارع جعل خبر الثقة علما تعبديا وجعل ظواهر الالفاظ علما تعبديا وطريقا إلى الواقع وكاشفا عنه فمن أجل ذلك تكون مثبتات الأمارات حجة باعتبار ان العلم بالملزوم يستلزم العلم باللازم والعلم بأحد المتلازمين يستلزم العلم بالملازم الآخر فمن أجل ذلك تكون مثبتات الأمارات حجة. واما سنخ المجعول في باب الأصول العملية فهي الجري العملي على طبقها خارجا في ظرف الجهل بالواقع والشك فيه بدون النظر إلى الواقع أصلا ومن هنا لا تكون مثبتاتها حجة.
وللمناقشة فيه مجال من جهتين:
الجهة الأولى: هي أنا قد ذكرنا غير مرة أنه لا جعل ولا مجعول في باب الأمارات أصلاً؛ فإن جعل الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي غير ممكن ثبوتا لأنه إن أريد بالطريقية المجعولة الطريقية التكوينية فهي غير معقولة لأن طريقية أخبار الثقة الناقصة ذاتية وهي عين خبر الثقة كطريقية القطع فإنها عين القطع وليست لازمة للقطع وطريقية أخبار الثقة إلى الواقع طريقية ناقصة فهي عين خبر الثقة، وأما جعل الطريقية التكوينية لاستكمال الطريقية الناقصة والتأكيد عليها فهو غير معقول لأن الجعل الشرعي لا يمكن ان يتعلق بالأمر التكويني باعتبار أن المجعول إذا كان أمرا تكوينيا فلا بد أن يكون الجعل أمرا تكوينيا لأن الجعل عين المجعول وليس شيئا آخر والاختلاف بينهما بالاعتبار كالإيجاد والوجود فهما متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا فلا يعقل على هذا ان يكون المجعول أمرا تكوينيا وهو الطريقية التكوينية والعلم التكويني والجعل أمرا اعتباريا بل لا بد إذا كان الجعل أمرا تكوينيا أن يكون المجعول أمرا تكوينيا ولا يعقل أن يكون الجعل أمرا اعتباريا فلا يمكن تكوين الشيء بالجعل الشرعي باعتبار ان الجعل الشرعي إنما يتعلق بالأمور الشرعية الاعتبارية ولا يعقل تعلقه بالأمور التكوينية فلا يمكن جعل الطريقية التكوينية بحيث تكون إكمالا للطريقية الناقصة وتتأكد الطريقية الناقصة بها فلا يعقل ان تتأثر طريقية خبر الثقة الناقصة بالطريقية المجعولة وتتأكد بها وتكون هذه الطريقية المجعولة إكمالا لها.
وإن أريد بالطريقية الطريقية الاعتبارية فهي لا واقع موضوعي لها في الخارج لأن الأمر الاعتباري لا واقع موضوعي له في الخارج إلا في عالم الاعتبار وعالم الذهن ولا وجود له في الخارج فلا يمكن ان تؤثر الطريقية الاعتبارية في الطريقية التكوينية ولا يمكن أن تتأثر طريقية خبر الثقة التكوينية الناقصة بالطريقية الاعتبارية فتتأكد بها لأنه لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار . فوجود الطريقية الاعتبارية مجرد لقلقة لسان ولا يترتب عليها أي اثر.
كما لا يمكن ان يكون مراد مدرسة المحقق النائيني من جعل الطريقية تنزيل الأمارات منزلة العلم الوجداني فإن التنزيل يختلف عن جعل الطريقية باعتبار ان مبنى مدرسة المحقق النائيني هو جعل الموضوع ومفاد مبنى التنزيل هو جعل الحكم مع بقاء الموضوع فتنزيل خبر الثقة منزلة العلم معناه ترتيب أثر العلم على خبر الثقة لا جعل خبر الثقة علما ولا جعله طريقا فهناك فرق بين جعل الطريقية وبين التنزيل فلا يمكن حمل ما بنت عليه مدرسة المحقق النائيني من جعل الطريقية على التنزيل.
فما ذكرته مدرسة المحقق النائيني(قده) غير معقول ثبوتا.
ومع الإغماض عن ذلك وتسليم أنه ممكن ثبوتا فلا بد من الرجوع إلى أدلة الحجية والبحث عن أنه مدى دلالتها على أن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي. وسنبين ذلك.
هذه هي الجهة الأولى.
الجهة الثانية: أن هدف مدرسة المحقق النائيني من البناء على ان المجعول في باب الأمارات هي الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي إثبات أن مثبتات الأمارات حجة دون الأصول العملية باعتبار أن العلم بالملزوم علم باللازم وإن كان علما تعبديا فإن كان المجعول في باب الأمارات هو العلم التعبدي فلا محالة تكون مثبتاتها حجة من جهة ان العلم بالملزوم علما باللازم وإن كان اللازم لازما عقليا او لازما عاديا أو عرفيا.
ولكن لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف بما ذكرته هذه المدرسة لأن العلم الوجداني بالملزوم يستلزم العلم باللازم كما أن العلم الوجداني بأحد المتلازمين يستلزم العلم بالملازم الآخر سواء كان عاديا أم كان عقليا، واما إذا كان العلم علما تعبديا فالعلم التعبدي ليس علما في الحقيقة في نفس الإنسان بل علما باعتبار الشارع وحينئذ يكون تابعا لمقدار التعبد في السعة والضيق، لأنه كما يحتمل في مقام الثبوت ان يكون الشارع قد جعل خبر الثقة علما بمدلوله المطابقي والالتزامي كذلك يحتمل أن يكون قد جعل خبر الثقة علما في مدلوله المطابقي فقط دون مدلوله الالتزامي وعندئذ لا بد في مقام الإثبات من الرجوع إلى أدلة الحجية والبحث عن إمكان شمول جعل العلم التعبدي حتى للمدلول الالتزامي، وحيث إن عمدة الدليل على حجية أخبار الثقة وظواهر الالفاظ السيرة القطعية من العقلاء الممضاة شرعا فمن الواضح انها جارية على أن خبر الثقة كما هو حجة في مدلوله المطابقي كذلك هو حجة في مدلوله الالتزامي أيضا وكذلك ظواهر الالفاظ.
وعلى هذا يكون الفرق بين ماذكرته مدرسة المحقق النايئني وبين ما ذكرناه هو أن السيرة هي الدالة على أن مثبتات الأمارات تكون حجة فيكون الفرق بينهما إثباتي لا ثبوتي.