38/05/04
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/05/04
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسألة ( 31 ) حكم الفحش – المكاسب المحرمة.
وتقريب الدلالة: هو أنَّه قد يتمسّك بهذه الرواية باعتبار ان الامام عليه السلام قال له ( إياك أن تكون فحّاشاً ) أي حذّره من الفحش وأيضا أمره بالاستغفار وثالثاً قال له لا تَعُد ، فهذه الثلاثة كل واحد منها في نفسه قد يكون صالحاً لإثبات الحرمة فكيف إذا اجتمعت كلّها ، هكذا قد يقال.
ولكن يرد عليه:
أوّلاً: إنَّ الوارد فيها كلمة ( فحّاش ) وهي كما قلنا من صيغ المبالغة فاذا دلت على الحرمة فغاية ما تدل عليه هو أن يكون الانسان فحّاشاً أي طبعه الفحش لا أنه يحرم عليه صدور الفحش منه مرّة أو مرتين أو ثلاثة.
ثانياً: إنَّ استفادة الحرمة منها بقطع النظر عن كون فحّاش من صيغ المبالغة أي لو تنزلنا وقلنا إنها ليست من صيغ المبالغة أمر مشكل ، لأنَّ كلمة ( إياك ) تلتئم مع التحذير فإنه حتى عن الأمور غير المحبّذة قد نحذّر منها بـ( إياك ) ، فكلمة إياك أعمّ من الحرمة.
ثالثاً: مضافاً الى أنه ربما يقال بوجود قرينة على ارادة الأعم وهي كلمة ( سخّابا ) أو ( صخّابا ) وهو عالي الصوت فإنَّ رفع الصوت ليس محرّماً وانما هو شيء ليس محبّباً عقلائياً ، فلعل هذا يشكّل قرينة على ارادة الأعم.
وأما من ناحية الأمر بالاستغفار والأمر بعدم العود فيمكن أن يقال: إنه لا يمكن أن نستفيد منه حرمة الفحش وذلك لنكتتين.
الأولى: إنه لا ندري ماذا صدر منه ، فهل كان الصادر هو فحّاشاً أو صخاّبا فإن هذا غير معلوم لأن الامام (عليه السلام) جعلها عائمة غائمة فقال إياك ان تكون كذا أو كذا أو كذا.
وبتعبيرٍ آخر: إنه صدر منه أحد هذه الأمور الثلاثة ولكنه غير محدّد ولعلّ الذي صدر منه هو لفظ صخّاب وليس فحّاشاً ، فالأمر بالاستغفار حينئذٍ لا يكون أمراً بالاستغفار عن المحرّم بل من هذا الفعل الذي هو ليس مناسباً عقلائياً ومكروه للمؤمن ، وهذه نكتة ظريفة ينبغي الالتفات اليها.
اذن حتى لو سلّمنا أن الاستغفار يدلّ على الحرمة وأن الذي استغفر لأجله هو محرّم لكن لم يتعيّن أيّ واحدٍ من الثلاثة هو الذي قد صدر منه.
نعم لو فرض أنَّ الصادر من سماعة هو الفحش والامام عليه السلام قال له ( إياك ان تكون فحّاشاً ) ثم أمره الامام عليه السلام بالاستغفار وعدم العودة فهنا يمكن أن يقال باستفادة الحرمة من الأمر بالاستغفار ولا بأس به ، لأنَّ الصادر منه الفحش وهو متعيّن ولكن مع التحذير من أمورٍ ثلاثة وعدم تعيين الـمُحَّذَر منه فلا يستفاد التحريم ، فلعله كان متّصفاً بواحدٍ من الثلاثة وإلا لو كان متصفاً بالثلاثة لكان المفروض أن يعطف بـ( الواو ) لا بـ( او ) ، فإذن التعبير بـ( أو ) بدل ( الواو ) قد يقرِّب أنَّ الصادر منه شيء واحد ولعلّ هذا الشيء الواحد هو السخّاب ، فعلى هذا الأساس لا يمكن أن نثبت من الأمر بالاستغفار وعدم العود أنه قد صدر منه فحشٌ وبالتالي يكون محرّماً.
وقد يقال: إنَّ سماعة حتى لو صدر منه شيء واحد لكن مع ذلك نهاه الامام عليه السلام عن ثلاثة وهذا لغوٌ ؟
فيقال في جوابه: إنَّ الامام عليه السلام ينقل مضامين عالية صدرت من أجداده عليهم السلام فهو يريد أن ينقلها وما صدر من سماعة واحد منها ، فهذا ليس بقبيح بل هو حسن.
إذن لهذه القرينة وهو عدم تعيّن ما صدر من سماعة يكون المراد من الاستغفار هو الأعم.
الثانية: إنه ذكر في الرواية لفظ ( سخّاب ) وهو حيث إنه ليس بصفة محرّمة فلابد من حمل الأمر بالاستغفار على الأعم.
والفرق بين هذه القرينة والقرينة الأولى هو أنه في الأولى قلنا إنّا لا ندري ماذا صدر من سماعة فلعل الذي صدر منه السخّاب فلا يمكن أن نستفيد من ذلك حرمة الفُحش ، بينما في القرينة الثانية قلنا إنه لا يمكن استفادة التحريم حتى لو فرضنا أنه صدر منه الفحش لأن الأمر بالاستغفار لا يستفاد منه التحريم لأنه قد ذكر السخّاب وهذا يكون قرينة على ارادة الأعم من التحريم.
هذا كلّه لو قلنا إن الأمر بالاستغفار في حدّ نفسه يدل على التحريم لكن في مورد الرواية لا يمكن أن نستفيد منه التحريم لهاتين النكتتين.
إذن هذه الرواية يشكل التمسّك بها ، ولا أقل أن يقال إنَّ الوارد فيها صيغة المبالغة فلا تدل على حرمة الفحش في حدّ نفسه ، وإنما اقصى ما تدل عليه لو دلت على الحرمة أن يكون الفحش طبعاً للشخص أيّ يكون فحّاشاً ، إذن هي قابلة للتأمل من حيث الدلالة.
وأما من حيث السند: فقد ورد فيها الحسين بن محمد الأشعري الذي يروي عنه الكليني كثيراً وهو من ثقاة أصحابنا ولا كلام فيه ،أما المعلّى فيمكن توثيقة من خلال قول النجاشي ( إن كتبه قريبة ) فقد يستفاد من ذلك أنها قريبة الى أصول أصحابنا وكتب أصحابنا ومذهبنا وهذا مدحٌ أو توثيقٌ ، أو توثيقه من خلال كامل الزيارات ، ولكن تبقى المشكلة في أحمد بن غسّان فانه لم يذكر بتوثيق بل هو مجهول.
إن قلت: إنَّ الراوي ينقل شيئاً في غير صالحه وضدّه إذ يقول صدر مني شيء غير مناسب والامام عليه السلام حذرني ، فإذن هذا نقلٌ لشيءٍ هو ضده ويضرّه وهذا يوجب الاطمئنان بالحقّانية والصدور ، وقد يقال إنَّ هذا قرينة ويمكن التمسّك بها في مثل هذا المورد حتى لو فرضنا أنَّ الراوي لم يكن ثقة.
ولكن نقول: إنَّ هذا ينفع بشرطين:
الأوّل: أن يكون نفس الراوي عن الامام عليه السلام لم تثبت وثاقته ، بينما في محلّ الكلام المشكلة في أحمد بن غسّان بينما الراوي عن الامام عليه السلام هو سماعة ، وحينئذ لا ينفعنا هذا.
الثاني: فيما إذا فرض أنَّ الراوي عن الامام عليه السلام كان مجهول الحال أما البقيّة فكلهم ثقاة ، أي من الكليني إلى هذا الذي يروي عن الإمام لابد وأن يكون الجميع ثقاة ، وإلا اذا لم يكونوا ثقاة فلعلّهم اختلقوها عليه ، فاذا كانوا ثقاة وكانت المشكلة فيه فقط فحينئذٍ نقول إذا نقل شيئاً في غير صالحه فهذا يوجب الاطمئنان بالصدور.
الرواية الرابعة: صحيحة أبي بصير ، وهي: الحسين بن سعيد في ( كتاب الزهد ) عن حمّاد بن عيسى ، عن شعيب العقرقوفي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنَّ من أشرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه )[1] .
والكلام يقع تارةً من حيث السند ، وأخرى من حيث الدلالة.
أما من حيث السند: فالحسين بن سعيد ( يعني الأهوازي ) هو وأخوه الحسن بن سعيد ثقتان جليلان ، وحمّاد بن عيسى الجهني أيضاً هو رجل جليل ، وشعيب أيضاً لا مشكلة فيه ، وأبو بصير لا مشكلة فيه ، ولكن المشكلة هي أنَّ هذه الرواية يرويها صاحب الوسائل(قده) من كتاب الزهد للحسين بن سعيد وهذا من أحد الكتب التي وصلت إلى صاحب الوسائل(قده) فإنَّه نفس كتاب عليّ بن جعفر ، وحينئذ نفس شبهة التبرّكية بلحاظ كتاب عليّ بن جعفر تأتي هنا ، فهناك قلنا إنَّ السيد الخوئي والسيد الشهيد قدس الله روحهما أوجدا طريقاً إلى كتاب عليّ بن جعفر فقالوا إنَّ صاحب الوسائل(قده) لديه طرق لكل هذه الكتب التي ينقل منها بالمباشرة تنتهي إلى الشيخ الطوسي ، ثم إنَّ الشيخ الطوسي لديه طرق إلى عليّ بن جعفر وهي مذكورة في الفهرست ، وحينئذ بالتلفيق بينهما نحصل على طريقٍ معتبرٍ من صاحب الوسائل إلى كتاب علي بن جعفر ، ونفس الكلام يقال في كتاب الزهد ، ونفس ما أوردناه هناك من احتمال أن تكون طرق صاحب الوسائل تبرّكية وليست على نسخة معينة يرد هنا.
ولكن هناك شيء يمكن الاستعانة به في مقامنا: وهو أنَّه من حسن الحظ أنَّ نفس هذه الرواية رواها الشيخ الكليني(قده) في الكافي هكذا: ( وعنهم[2] عن ابن خالد عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث: إنَّ النبي صلى الله عليه وآله قال: إنَّ من شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه ) ، وقد ذكر هذه الرواية صاحب الوسائل عن الكليني[3] ، فإذن لا مشكلة فيها من حيث السند .
وأما من حيث الدلالة: فاذا سلّمنا أن كلمة ( شر ) تدل على التحريم ولم نتأمّل من هذه الناحية باعتبار أنها في حدّ نفسها لا ظهور فيها في التحريم بل لعلّه أحيانا تستعمل في الأعم من قبيل الحديث الذي يقول: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أنبئكم بشرّ الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من سافر وحده ومنع رفده وضرب عبده )[4] ، فهنا جعل واحداً من شرّ الناس هو من سافر وحده ، ولا يتصوّر الحرمة فيمن سافر وحده ؟!! ، بل لا نريد أن نجعل هذا الحديث قرينة على الأعم ، بل هي نفسها لا ظهور فيها بالتحريم بل هي ظاهرة في الأعم ، فيقال أنها ناظرة إلى حال كون الفحش سجيّة للشخص لأنها هكذا قالت: ( إنَّ من شرّ عباد الله من تكره مجالسة لفحشه) يعني أنَّ هذا معناه هو أنه شخص معروفٌ بالفحش ولذا تكره مجالسته وأنَّ الفحش سجيّة له ، وإلا إذا صدر منه الفحش مرّة أو مرّتين فهذا لا يصدق عليه أنه تكره مجالسته.
إذن المقصود من الفحش هنا أن يكون سجية له رغم عدم ورود كلمة فحّاش لأنه لا يصدق عنوان تكره مجالسته لفحشه إلا فيمن كان ذلك طابعاً له ، وهذا الذي نقوله إن لم يكن هو الظاهر فلا أقل من كونه احتمالاً وجيهاً بحيث يجعل الرواية مجملة ، فلا يمكن التمسّك بها لإثبات حرمة الفحش الذي لا يكون عادةً وسجيّةً للشخص.
الرواية الخامسة: وهي هكذا: ( وعنهم عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن أبي عبدالله عليه السلام قال: البذاء من الجفاء ، والجفاء في النار )[5] .
وتوجد روايات أخرى في الوسائل غير هذه الرواية.
وهذه الرواية هي أحسن الروايات من حيث الدلالة: لأنه عليه السلام قال: ( البذاء من الجفاء والجفاء في النار ) ، والنتيجة هي أنَّ البذاء في النار فيثبت حرمة البذاء ، وحيث إنَّ البذاء هو عبارة عن الفحش فإذن قد ثبتت حرمة الفحش.
فإذن هي من حيث الدلالة تكون أقوى الروايات.
وأما من حيث السند: فأيضاً يمكن اعتبارها حسب المبنى ، فإنَّ الكلام في سهل بن زياد ، فإذا وثقه فقيه لسببٍ وآخر ولو من ناحية إكثار الأجلاء الرواية عنه أو غير ذلك ، فالرواية إذن يمكن أن نقول هي معتبرة سنداً ، وكذا دلالتها لا بأس بها.
هذا ويمكن ان يقال[6] : إنَّ كلمة ( البذاء ) وإن كانت عبارة عن الفحش لكن هل هو مطلق الفحش ولو صدر مرّة واحدة أو أنه الفحش بنحو العادة والطبيعة والخلق بحيث يقال هذا بذيء اللسان وبذيء يعني إذا كان له عادة ، فهل البذاء ولو مرّة أو إذا كان عادةً وخلقاً ؟ فصحيح أنَّ أهل اللغة قالوا إنَّ البذاء هو الفحش لكن من هذه الناحية هم لم يبينوا أنه مطلق حتى بنحو المرّة الواحدة أو بنحو العادة فإنَّ كلامهم مجمل من هذه الناحية ، فعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستفيد من الرواية إلا القدر المتيقن يعني ما كان عادةً وخلقاً للإنسان ، ولعلّ هناك قرينة داخلية على ذلك ، فصحيحٌ أننا سلّمنا أنه حرام ولو كان مرةً واحدةً ولكن ليس مسألة دخول النار ، يعني صار مثل الزنا أو أشدّ منه فإنَّ احتمال كون صدور اللفظ القبيح مرّة واحدة من الانسان موجباً للنار بعيد فقهياً ، فهذا ليس من البعيد أنه يشكل قرينة على أنَّ المقصود هو ما كان عادةً وخلقاً للإنسان.
يضاف إلى ذلك شيء آخر: وهو أنه لا يبعد أن يقال هناك سيرة بين المتديّنين خصوصاً في أيام المناسبات المفرحة تصدر منهم بعض الألفاظ فيما بينهم وهم يضحكون فالصدور من المؤمن مرّة واحدة حاصل والعادة قد جرت بين المتديّنين على ذلك ، وهذه ليست عادة جديدة بينهم بل جارية فيما سبق أيضاًً ، فإذن لا يبعد أن يقال إنَّ هناك قرينة قطعية على الجواز مرّة أو مرّتين بحيث لا يصير خلقاً واعادةً للشخص.
فعلى هذا الأساس من البعيد أن تكون المرّة الواحدة محرّمة ، ومن الواضح أنَّ ألفاظ الفحش متفاوتة فتوجد بعض الألفاظ قد لا تغتفر ولو المرّة الواحدة لأنها شديدة جداً وبعضها ليس بهذه الدرجة فحينئذٍ قد تصدر هذه من الانسان.
إذن النتيجة النهائية: هي أنه من خلال الروايات لا يمكن اثبات أنَّ صدور الفحش مرّة أو مرّتين لا بنحو العادة هو محرّم ، فعلى هذا الأساس يحرم الفحش بنحو أن يكون عادةً للشخص وخلقاً له وهو ما يعبّر عنه بالفحّاش ، لا كما ذكر السيد الماتن وغيره من الفقهاء من أنه يحرم الفحش من دون أن يقيدوا بأن يكون عادةً وخلقاً.