38/01/28
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/01/28
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- مسألة(26) الغش - المكاسب المحرمة.
تشتمل المسألة المذكورة على مطلبين:-
المطلب الأوّل:- حكم الغش وأنه حرام.
المطلب الثاني:- مناشئ الغش ، وذكر خمسة مناشئ ، ولا يبعد أنه لا يقصد من ذلك الحصر وإنما بيان المناشئ الواضحة والغالبة والمتعارفة.
حكم الغش والروايات الواردة في ذلك:- أما بالنسبة إلى حكم الغش فهو الحرمة التكليفية ولم ينقل خلاف في ذلك ، قال في الجواهر:- ( إنَّ حرمته بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه والنصوص بها مستفيضة أو متواترة )[1] ، إذن الحرمة بين الفقهاء مجمعٌ ومتفق عليها ولا كلام في ذلك.
وأما الروايات:- فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:-
القسم الأوّل:- ما يدلّ على الحرمة بدلالة مقبولة واضحة.
القسم الثاني:- ما يدلّ على الحرمة على كلامٍ وتأملٍ.
القسم الثالث:- ما لا يدلّ على ذلك.
أما بالنسبة إلى القسم الأوّل:- فنذكر ورايتين:-
الأولى:- ما رواه الكليني عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم قال:- ( كنت أبيع السابري[2] في الظِّلال فمر بي أبو الحسن الأوّل موسى عليه السلام فقال لي:- يا هشام إنَّ البيع في الظلال غشّ والغشّ لا يحلّ )[3] .
وهي أحسن الروايات دلالةً على الحرمة ، حيث قالت ( والغشّ لا يحلّ ) ، فدلالتها على الحرمة واضحة ولا تأمل فيها ، فهو أعطى قانوناً وقاعدةً كلّية ، والسند لا مشكلة فيه أيضاً.
يبقى أن تقول:- إنَّ إبراهيم بن هاشم لا توثيق في حقّه فتتوقّف من جهته على مبناك فهذه قضية ثانية ، أما بناءً على فأنه لا مشكلة فيه إما لإكثار ولده عنه ، أو لأنه نشر حديث الكوفيين في قم ، ومن الذي يستطيع أن ينشر حديث مدرسة الكوفة في قم إذا لم يكن ثقة ؟! فدائماً الذي يتمكّن أن ينشر الأحاديث وتقبل منه فهو ثقة ، فإذن السند لا مشكلة فيه.
الثانية:- الشيخ الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين عن زيد عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام في حديث المناهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:- ( ومن غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنهم أغشّ الخلق )[4] ، وقريبٌ من ذلك ما رواه في عقاب الأعمال[5] .
وإنما الكلام في السند ، فلو رجعنا إلى مشيخة الصدوق لوجدنا أنَّ سند الصدوق إلى شعيب لس بتام ، ونفس شعيب لم تثبت وثاقته.
وأما الحسين بن زيد:- فهو الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام فلا يوجد توثيق في حقّه إلا بطريقين:-
الأوّل:- أنه ابن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام فإنّ جدّه السجاد عليه السلام ، فهذا ابنٌ قريبٌ ، وأبناء الأئمة مثلاً الأصل الأوّلي فيهم الوثاقة ، فإذا بنيت على هذا فلا تأمّل.
الثاني:- أن نقول:- ورد في ترجمته على ما نقل النجاشي ( الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام يلقّب ذا الدمعة كان أبو عبد الله عليه السلام تبنّاه وربّاه وزوّجه بنت الأرقط )[6] ، بتقريب:- أنّ النجاشي قال ( كان أبو عبد الله تبناه وربّاه ) فإذا ربّاه الصادق عليه السلام وزوّجه فهل هو ليس بثقة ؟! إنه ربما تقول هذا يكفي لتوثيقه وحينئذٍ تثبت واقته.
ولكن هذا قد يخدش فيه لأنَّ بعض أولاد الأئمة لم يكونوا كذلك فكيف بابن ابنه ؟!! ، فإذا كان عندك هكذا مبنى والأصل الأوّلي هو الوثاقة فيهم فلا كلام عندنا ، وأنا لا أريد المناقشة في هذا ولكن أريد إلى ذلك الاشارة فقط.
تبقى مشكلة أخرى:- وهي أنّ النجاشي قال ( كان أبو عبد الله عليه السلام تبناه ورباه ) ومن قال ذلك فإنَّ هذا نقلٌ مرسل ونحن نقبل بشهادة النجاشي في التوثيقات أما إذا كان ينقل قضايا أخرى كنقله لحكمٍ شرعي أو ينقل سيرة معيّنة أو تاريخ فإنّ هذا يحتاج إلى مستند ، فهو في مجال التوثيق نستطيع أن نقول شهادته حجّة إما من باب أهل الفنّ والخبرة أو غير ذلك - على المباني في مدرك حجية شهادة الرجالي - ، أما إذا كان ينقل قضية أخرى ليس في جانب الوثاقة - كما هو الحال هنا فإنَّ هذه قضية تاريخية - فما هو مستنده في ذلك ؟ فإذا كان هذا النقل مرسل فلا نقبله.
وفي المقابل قد يجاب ويقال:- صحيحٌ أنَّ هذا النقل ليس مسنداً ونحن نقبل شهادة النجاشي في التوثيقات لأنه من أهل خبرة أو غير ذلك ولكن في خصوص المورد نقبل كلامه لأنه حينما قال ( كان أبو عبد الله تبناه ) كأن القضية كانت واضحة فإنَّ بعض القضايا تاريخية واضحة فحينما ينقل الشخص فهو ينقلها من باب أنها واضحة ، فحينئذٍ لا يحتاج هذا إلى سند ، فالإشكال من هذه الناحية ليس بالمهم.
وسواء كان الحسين بن زيد تم توثيقه أو لا فهذا ليس بمهم بل المشكلة تبقى من جهة شعيب بن واقد ، ولكن هذه نكات لا بأس بالالتفات إليها.
وأما روايات القسم الثاني:- فهي:-
الأولى:- صحيحة محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن علي بن الحكم عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام:- ( أنه سئل عن الطعام يخلط بعضه مع بعض وبعضه أجود من بعض ، قال:- إذا رئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغط الجيدُ الرديءَ )[7] . وهي واردة في مورد خاص وهو باب الطعام يخلط بعضه ببعضٍ أو يغطّى بعضه ببعضٍ ولم ترد في مورد عام فالاستدلال بها يبتني على إلغاء خصوصية المورد , وهذا لا بأس به فإنه يمكن أن يقول أحد إنَّ الخصوصية ملغاة ، ونحتاج إلى شيء آخر وهو أن يكون قول الامام ما لم بغطِّ الجيّدُ الرديءَ أنَّ الامام ناظر إلى مسألة الغشّ ولا يوجد تصريح في ذلك ، فلا يوجد تصريح في أنَّ هذا من باب الغش ، فلابدّ من استظهار أنَّ الامام عليه السلام حينما منع وقال ( ما لم يغطِّ الجيدُ الرديءَ ) من باب الغش ، وهذا لعلّه يمكن أن يُستظهر .
والشيء الثالث الذي نحتاجه هو أنَّه عليه السلام قال:- ( فلا بأس ما لم يغطِّ الجيدُ الرديءَ ) يعني وبالمفهوم نفهم أنه ( وأما إذا كان يغطّيه ففيه بأس ) ، فلابد أن نستظهر هذا كما يستظهر ذلك الشيخ النراقي(قده) من أنَّ البأس يستظهر منه التحريم ووافقه على ذلك السيد الخوئي(قده) في مجلس درسه فإنه يستفيد من البأس التحريم دائما ، وهو شيءٌ لا بأس به ، أما أننا نجزم بأنّ البأس يدلّ على التحريم فلا ، فإنه في استعمالاتنا العرفيّة البأس وعدم البأس يستعمل في الأعمّ إذا لم يكن يميل أكثر إلى التنزّه ، فحينئذٍ استظهار التحريم بضرسٍ قاطع قضيّة متروكة إليك ولكنّي من المتوقفين ، فلذلك قلت هذه الرواية دلالتها على مبنى أو استظهارٍ أو رأيٍ.
وأما سندها فهو جيّد ، فإنَّ الشيخ الكليني(قده) ينقلها عن استاذه محمد بن يحيى الأشعري القمّي ، ومحمد بن الحسين وهو ابن أبي الخطاب وهو من أعاظم أصحابنا ، وأما البقيّة فلا مشكلة فيهم.
الثانية:- محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد ، سعرهما بشيء[8] [9] ، وأحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما بسعر واحد فقال:- لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتى يبينه )[10] .
والتعبير بالغشّ وارد فيها فالتوقّف الذي كان يرد على السابقة لا يرد عليها لأنه صرّح هنا وقيل:- ( لا يصلح له أن يغش المسلمين ) ، ولكن الورد فيها هو تعبير ( ولا يصلح ) وهل يستفاد منه الحرمة ؟ إنَّ السيد الخوئي(قده) على ما سمعناه في مجلس درسه يستفيد منها التحريم ، ولكني من المتردّدين ، لذلك عددنا هذه الرواية من الصنف الثاني ، أما على رأي السيد الخوئي(قده) فهي والتي قبلها من المناسب أن تعدّ من الصنف الأوّل الذي كانت دلالته واضحة.
الثالثة:- بالإسناد السابق عن الحلبي قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق له أن يبلّه من غير أن يلتمس زيادته ، فقال:- إن كان بيعاً لا يصلحه إلا ذلك ولا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادةً فلا بأس وإن كان إنما يغشّ به فلا يصلح )[11] .
والتعبير بالغش قد ورد فيها ، كما ورد فيها التعبير بـ( لا يصلح ) وعلى مبنى السيد الخوئي(قده) أنَّ البأس ونفي الصلاح يدلّ على التحريم فتكون دلالتها تامّة وواضحة ولكن كما قلنا نحن من المتوقّفين.
الرابعة:- محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن صفوان عن خلف بن حمّاد عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبي صلة الله عليه وبناته وكانت تبيع منهنَّ العطر فجاء النبي صلى الله عليه وآله وهي عندهن فقال إذا أتيتينا طابت بيوتنا ، فقالت:- بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله ، قال:- إذا بعتِ فاحسني ولا تغشي فإنه أتقى[12] وأبقى للمال )[13] .
والمشكلة في الحسين بن زيد الهاشمي الذي قال عنه النجاشي ( وكان أبو عبد الله قد تبنّاه وربّاه ) ، أما خلف بن حمّاد فالظاهر أنه ابن ياسر وقد وثّقه النجاشي مضافاً إلى رواية صفوان عنه.
وهل تدلّ على التحريم فإنّ الوارد فيها ( ولا تغشي ) والنهي يدلّ على التحريم فما الموجب للتوقف ؟
إنّ الوارد فيها أيضاً تعبير ( فاحسني ) والاحسان في البين ليس بلازمٍ ، فلأجل الاقتران بكلمة ( أحسني ) وأمر أحسني ليس إلزامياً فحينئذٍ يتأمل في دلالة ( ولا تغشي ) ، مضافاً إلى أنَّ التعليل قد يتلاءم مع النزاهة.
ومن الواضح أنَّ الذي بينته وهو أنها مقترنة بـ( أحسني ) وهو للتنزّه هو مبني على استفادة التحريم بالوضع ، أما إذا قلنا باستفادة التحريم بحكم العقل فهناك دلّت القرينة على التنزّه أما هنا فلم تدلّ على ذلك فنستفيد التحريم ، وحيث أنّنا نبني على مسلك الوضع فمن هذه الناحية يكون الأمر مشكلاً ، ولذلك عددنا هذه الرواية من القسم الثاني ولم نعدّها من القسم الأوّل.
وقبل أن ننهي الكلام عن هذه الرواية نذكر قضية جانبية:- وهي أنَّ النبي صلى الله عليه وآله قال لها:- ( إذا بعتِ فأحسني ولا تغشي فإنه أتقى وأبقى للمال ) ، ولكن توجد تكملة للرواية وهي ظريفة لكنها لا ترتبط بمحلّ كلامنا وهي:- ( فقات:- يا رسول الله ما أتيت بشيء من بيعي وإنما أتيت أسألك عن عظمة الله عزّ وجلّ ، فقال:- جلّ جلال الله سأحدّثك عن بعض ذلك ....... ) ، والشيخ الأعظم(قده) ذكرها في مبحث الغيبة في فصل العيوب الظاهرة من كتاب المكاسب ، مثل ما نقول ( سعيد الأعرج ) فهذه صفة بارزة فيه وهو معروفٌ بها ولم يقصد من ذلك الذمّ ، فجاء الشيخ الأنصاري(قده) بهذه الرواية كدليلٍ على أنَّ ذكر العيوب الظاهرة التي لا يقصد بها الذمّ جائزٌ حيث رد في الرواية ( جاءت زينب العطارة الحولاء ) . ولكن هذا يختلف باختلاف الزمان والمكان وباختلاف النبرة ، وهذه قضيّة جانبيّة.