32/10/19


تحمیل

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

32/10/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 ثم إنه لا إشكال عندنا في أن القضاء من مناصب النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) وأوصيائه فهؤلاء هم أصحاب الولاية العامة والقضاء يُعدّ فرعاً من هذه الولاية العامة ولا يشرع القضاء إلا لمن أذنوا له في ذلك إما إذناً عاماً أو خاصاً وبدونه لا يكون القضاء جائزاً ومشروعاً ، وهذا المعنى مما لا إشكال ولا خلاف فيه بيننا وقد دلّت عليه الروايات المستفيضة :
 منها : مقبولة عمر بن حنظلة : " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك ؟ فقال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى طاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سُحتاً وإن كان حقّه ثابتاً لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يُكفَر به قال الله تعالى : (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به) .. إلخ " [1] .
 ومنها : رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح : يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي " [2] .
 ومنها : رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اتّقوا الحكومة [3] فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي " [4] .
 وهذه الروايات فيها ما هو صحيح سنداً كالمقبولة بناءً على ما تقدّم في بحث سابق [5] من أنها صحيحة سنداً - ، وكذلك رواية سليمان بن خالد فإنها تامة سنداً ولكن لا بسند الشيخ الكليني في الكافي الذي ينقل عنه الشيخ صاحب الوسائل لوجود سهل بن زياد فيه وإنما بطريق الصدوق فإنه رواها في الفقيه بإسناده عن سليمان بن خالد وسندُه إليه كما في المشيخة صحيح فتكون الرواية صحيحة بطريق الشيخ الصدوق .
 
 إلى غير ذلك من الروايات التي يُفهم منها أن القضاء من المناصب الخاصة التي هي من فروع الولاية العامة التي لا يجوز لكل أحد ممارستها بدون إذن من النبي أو الوصي ولذا نصّ فقهاؤنا على أنه ليس لأهل بلد أن يرتضوا قاضياً وينصبوه لأن القضاء كما ذكرنا - من المناصب التي لا تثبت إلا بالنصّ والتعيين من قبل من له الحق في ذلك وهو النبي أو الوصي كما هو مدلول تلك الروايات ، نعم .. يبقى شيء وهو أن قاضي التحكيم ليس كذلك فإنه يُشرع له القضاء من غير نصب فيقع السؤال أنه كيف يُشرع له القضاء مع عدم نصبه من قبل النبي أو الإمام (عليه السلام) أو نائبهما ؟ وسيأتي الكلام حوله مفصّلاً إن شاء الله تعالى عند تعرّض السيد الماتن له .
 وقد يُعترض على ما تقدّم بأن الحكومة هي للإمام (عليه السلام) خاصة كما صرّحت بذلك رواية سليمان بن خالد مع أن ثبوت الحكومة لغيره من الضروريات والواضحات فإنه يمكن بلا إشكال لغير الإمام (عليه السلام) وهو المجتهد الجامع للشرائط ممارسة القضاء وهو مشروع له وصحيح منه فقد يُتساءل بدواً أنه كيف يمكن الجمع بين ما نعلمه قطعاً من جواز القضاء ومشروعيته لغير الإمام (عليه السلام) وبين هذه الروايات التي تنصّ على أن القضاء لا يكون إلا لنبي أو وصي نبي .
 ولا يخفى جوابه فإن المجتهد لم يثبت له القضاء في عرض النبي والوصي وإنما هو بإذن منهما لأن الإمام (عليه السلام) هو الذي نصب الفقيه الجامع للشرائط بشخصه أو بعنوانه كما تشهد بذلك رواية أبي خديجة حيث قال (عليه السلام) : " اجعلوا بينكم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته قاضياً " [6] وعلى هذا فلا يُشكّل الاعتراض المزبور نقضاً على مضمون الروايات المتقدمة .
 وقد يقال : نسلّم أنه قد ثبت أن القضاء من المناصب الخاصة وهو لا يثبت إلا لمن أذن له الإمام (عليه السلام) ولكن ما الدليل على أنه (عليه السلام) قد أذن لشخص أو أشخاص معيّنين بالقضاء ؟
 فيقال : إنه لا إشكال ولا خلاف بيننا أيضاً في أن الإمام (عليه السلام) قد أذن للفقيه الجامع للشرائط فـي تولّـي القضـاء ويـدلّ علـى نصـب الفقيـه قاضيـاً من قِبَلـه (عليـه السـلام) مقبولـة عمـر بـن حنظلـــــــــــــة
 ومعتبرة أبي خديجة [7] فقد ورد عقيبَ ما ذكرناه من المقبولة قولُه (عليه السلام) : " فإني قد جعلته عليكم حاكماً " [8] ، والرواية وإن لم تُصرّح بالفقيه إلا أنها ذكرت صفاتٍ لمن جعله (عليه السلام) حاكماً لو نوزع في اختصاص هذه الصفات بالفقيه فلا يمكن المنازعة في أن القدر المتيقّن منها هو ذلك فعليه يكون الفقيه منصوباً قطعاً من قبل الإمام (عليه السلام) بمقتضى هذه الرواية ، وكذا ورد في المعتبرة : " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه " [9] فإن هذه الرواية صريحة في نصب من يعرف شيئاً من قضائهم أو قضاياهم حاكماً وقاضياً ويأتي هاهنا ما تقدّم من كون القدر المتيقّن منها هو الفقيه .
 نعم .. هنا كلام سيأتي مفصّلاً في أن القضاء هل يثبت لغير المجتهد - الذي هو القدر المتيقّن من مورد الإذن - وهل يكون مشروعاً له ، وبعبارة أخرى هل أن الاجتهاد شرط في القضاء أو ليس شرطاً ؟ سيأتي التعرّض له قريباً وسيتبيّن أن في قبال المشهور رأياً بعدم الاشتراط .
 هذا .. ويدلّ على مشروعية القضاء للفقيه وأنه القدر المتيقّن منها مع قطع النظر عمّا تقدّم - ما ذُكر في كلماتهم من أن القضاء - الذي هو بمعنى نفوذ حكم شخص على غيره على خلاف الأصل إذ الأصل عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد فإذا كان الأمر كذلك والدليل دلّ على وجوب القضاء فحينئذ ينبغي الاقتصار في هذا الدليل على القدر المتيقّن ولا إشكال في أن القدر المتيقّن من ذلك هو الفقيه فالفقيه هو الذي يجب عليه القضاء وهو الذي يُشرع له وما عداه يبقى على مقتضى الأصل القاضي بعدم نفوذ حكم شخص بحقّ شخص آخر .
 
 نعم .. قد يُناقش في دلالة الروايتين السابقتين [10] بإنكار كون الجعل فيهما حكماً عامّاً سارياً في جميع الأزمنة كما هو الحال بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الواقعية الأخرى وإنما هو جعلٌ من باب إعمال الولاية من قبل الإمام ومن الواضح أن الأحكام الولائية موقّتة تنتهي بانتهاء حياة جاعلها فبعد موت الإمام الذي صدر منه هذا النصب فإن مقتضى القاعدة أن لا يكون هناك نصب فلا دليل حينئذ على نصب الفقيه قاضياً في هذه الأزمنة .
 ويمكن دفعه بالخدشة في كون النصب في الروايتين من باب إعمال الولاية وإنما هو إخبار عن حكم إلهي شرعي فيكون وزانه وزان سائر الروايات التي تخبر عن أحكام شرعية واقعية فمدلول الروايتين هو إخبار عن أن من كان واجداً للصفات المذكورة فيهما فله أهلية القضاء وهذا حكم شرعي واقعي لا مبرّر لتقييده بزمان الإمام الذي صدر منه هذا النصب وعلى ذلك فيمكن الاستدلال بالروايتين في محلّ الكلام .
 ولكن يمكن التأمل في هذا الدفع بأنه على خلاف الظاهر فإن قول الإمام (عليه السلام) : " فإني قد جعلته قاضياً " يأبى الحمل على كونه في مقام الإخبار عن حكم شرعي واقعي بل الظاهر أنه (عليه السلام) في مقام إعمال الولاية حيث رأى أن المصلحة تقتضي جَعْلَ من عرف حلالهم وحرامهم قاضياً فالرواية ليست ظاهرة كما يُدّعى في أنه حكم شرعي واقعي كسائر الأحكام الشرعية الواقعية فلا يكون محدوداً وموقّتاً وإنما هي ظاهرة في كون ذلك الجعل من باب إعمال الولاية .
 ولكن يمكن أن يقال في مقام دفع الإشكال المذكور بأن الأحكام الولائية وإن كانت تختلف بلا إشكال عن الأحكام الواقعية إلا أنها تشترك معها في قضية الدوام والاستمرار إلى أن يأتي ما يرفعها ، والرافع للحكم الواقعي هو النسخ الإلهي الذي يُخبر به الإمام (عليه السلام) وأما الحكم الولائي فهو كالحكم الواقعي إذا وجد فمن شأنه البقاء والاستمرار إلا أن الذي يرفعه هو الإمام اللاحق وذلك عندما تتغيّر المصالح التي اقتضت جعله من قبل الإمام السابق ويكون الحكم الجديد من باب إعمال الولاية أيضاً، وأما إذا فرض عدم صدور الرافع من قبل الإمام اللاحق فلا ضير في أن نقول بأن ذلك الحكم
 (مسألة 1) : القضاء واجب كفائي (1)
 الولائي الذي ثبت بإعمال الولاية من قِبَل الإمام السابق يبقى مستمراً باستمرار الزمان فليس التوقيت إذاً مأخوذاً في الحكم الولائي بل هو حكم ثابت طبق المصالح التي يُدركها الإمام (عليه السلام) ولا يرتفع إلا بحكم آخر من قبله أو من قبل الإمام اللاحق ومع فرض عدم الرافع فإنه يكون حينئذ باقياً ومستمراً حتى بعد انتهاء حياة الإمام الجاعل له ، ومن المعلوم عدم ثبوت الرافع في مدلول الروايات الواردة في هذا الباب .
 ومما يمكن أن يُذكر مؤيداً لما تقدّم أن النصب لم يكن نصباً شخصياً بل كان نصباً للعنوان العام أعني من عرف أحكامهم وعرف حلالهم وحرامهم فيساعد هذا على الفهم المذكور من كون الحكم الولائي كالواقعي حكماً مستمراً وباقياً .
 وكذا يمكن أن يُذكر مؤيداً أيضاً أن هذا النصب حتى لو فرض كونه نصباً شخصياً فلا نجد في ارتكاز المتشرعة أنهم بعد موت الإمام الذي صدر منه هذا النصب يسارعون إلى الإمام اللاحق ويطلبون منه تجديده كما هو مقتضى ما ذُكر من كون الأحكام الولائية محدودة وموقّتة بحياة من أعمل الولاية بل المرتكز لديهم أن من عيّنه الإمام قاضياً في بلدة مّا فإنه يبقى فيها قاضياً ولا ينعزل بمجرد موت الإمام الذي عيّنه ليحتاج في بقائه إلى إقرارٍ من الإمام اللاحق .
 هذا ما يمكن ذكره مختصراً بما يرتبط بالمقدمة التي ذكرها السيد الماتن (قده) [11] .
 (1) لا خلاف عند فقهائنا على ما هو مذكور في كتبهم الاستدلالية في وجوب القضاء واستُدل له بوجوه عمدتها وجهان :
 الأول : دعوى توقّف حفظ النظام على القضاء مع القطع بأن الشارع المقدّس لا يرضى بالإخلال بالنظام فإن إحقاق الحقوق ومنع المظالم الذي هو من جملة ما يتوقف عليه حفظ النظام لا يتأتّى إلا بنصب القضاة الذين يتولّون ذلك .
 
 الثاني : التمسّك بعموم ما دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
 ونوقش في الأول بإنكار دعوى توقّف حفظ النظام على القضاء وذلك لإمكان حفظ النظام وإحقاق الحقوق ومنع المظالم بطريق آخر غير القضاء ، وما يضيع بهذا الطريق من الحقوق لا يزيد على ما يضيع بالطريق الأول [12] فإن من الواضح أن القضاء لا يكون مصيباً دائماً فقد يُخطئ الواقع فتضيع به بعض الحقوق .
 أقول : من المحتمل أن المقصود بالطريق الآخر في كلام المستشكل هو القضاء غير الشرعي وهو ما يصدر من قبل القضاة الذين ينصبهم السلطان الجائر فإنه لا ريب في دعوى المستشكل من أن النظام يُحفظ بتلك القوانين الوضعية التي تنظّم للناس شؤون حياتهم فإنه يحصل بها إحقاق الحقوق ومنع المظالم ، نعم .. قد يفوت مقدار من الحقوق ولا يُمنع مقدار من المظالم ولكن ما يفوت من ذلك بهذا الطريق لا يزيد على ما يفوت بالقضاء الشرعي .
 فالنتيجة أن حفظ النظام لا يتوقّف على القضاء وبالتالي لا يمكن إثبات وجوبه باعتباره مقدمة لحفظ النظام .
 هذا .. ومن الواضح أن هذا الإشكال بهذا التقريب يتضمّن في حقيقته الاعتراف بتوقّف حفظ النظام على القضاء غاية الأمر أنه لا يرى انحصار التوقّف بالقضاء الشرعي بل على الأعمّ منه ومن القضاء الوضعي وعليه فيمكن إثبات الوجوب للقضاء بهذا الاعتبار .
 نعم .. لا يثبت بهذا الدليل وجوب القضاء الشرعي في حالة وجود قضاة منصوبين من قبل السلطان الجائر وذلك لوضوح ثبوت حفظ النظام بهم في ما لو سلّمنا مضمون الإشكال المتقدّم .
 فالنتيجة أن الدليل المتقدّم يُثبت لنا وجوب القضاء الصحيح في الجملة لا مطلقاً .


[1] الوسائل مج27 ص13 ، وفي الكافي (مج1 ص67) والتهذيب (مج6 ص301) بلفظ : فإنما تحاكم إلى الطاغوت .
[2] الكافي مج7 ص406 .
[3] أي القضاء .
[4] الكافي مج7 ص406 ، وفي الفقيه (مج3 ص5) بلفظ : كنبي .
[5] يُلاحظ بحث الخمس لسماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) .
[6] التهذيب مج6 ص303 .
[7] وهاتان الروايتان قد تقدّم الحديث عنهما سنداً ومتناً وأنه لا بأس بهما ، لاحظ بحث ولاية الفقيه في مبحث الخمس لسماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) حيث ذُكر هذا البحث استطراداً فيه .
[8] تمامه : " قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران [ إلى ] من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً " والمقصود بالحكومة هو القضاء ، وقد تقدم تخريج الحديث .
[9] الكافي مج7 ص412 ، وفي الفقيه (مج3 ص3) بلفظ : قضايانا .
[10] يعني مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة .
[11] نبّه الأستاذ (دامت بركاته) إلى أن طريقته في هذا البحث هي التركيز على المسائل المهمّة وأما المسائل التي ليس لها تلك الأهمية فسيتطرّق إليها باقتضاب .
[12] يعني القضاء .