37/02/02


تحمیل
الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وأما الوجه الثاني والثالث - أعني روايتي[1]أبي بصير - فيمكن أن يقال:- إنّ الروايتين ناظرتان إلى بيان حكم حصّتين، فهناك حصة لا بأس بالكسّب بها وهي المغنّية إذا زفّت العرائس، كما توجد حصّة ثانية فيها بأسٌ وهي التي يدخل عليها الرجال، أمّا إذا فرض أنّ الغناء والمغنّية لم تكن من هذين القبيلين - يعني هي تغنّي في البيت إمّا لنفسها أو لعائلتها أو لمن معها من النساء فإنَّ هذه لا تزف العرائس ولا يدخل عليها الرجال - فهذه مسكوتٌ عن حكمها.
إذن سوف لا يثبت بذلك أنَّ الغناء الذي لم يكن من هذا القبيل ولا من ذاك هو جائز، فبالرواية لا يمكن أن نستفيد جوازه كما أراد الكاشاني والسبزواري بل هو مسكوتٌ عنه، فهما أرادا أن يثبتا أنّ الغناء المحرّم هو المقترن بالحرام فقط - يعني التي يدخل عليها الرجال - أمّا غير ذلك فليس بحرام، ونحن نقول هناك حصّة ثالثة لم يُشَر إليها في الرواية ومسكوتٌ عنها ولعلّ حكمها حلال ولعلّ حكمها حرام، والمناسب الآن أن نقول لعلّ حكمها هو الحرام في مقابل الكاشاني والسبزواري، فلا يمكن من الرواية إثبات حلّية هذا القسم.
إن قلت:- لماذا لم تبيّن الرواية حكم هذه الحصّة الثالثة وتعرضت إلى الحصتين فقط ؟
قلت:- لعلّ الشيء عامّ الابتلاء هو التي تزف العرائس أو المغنّية المعلنة – أي التي يدخل عليها الرجال -، أمّا المغنية في الوسط الضيّق - يعني التي في داخل العائلة أو وحدها - فهذا ليس هو الحالة العامّة، فالرواية ليست بصدد بيان ذلك وإنما هي بصدد بيان الحالة المتعارفة وهي إحدى هاتين الحصتين.
ونحن لا نريد أن ندّعي من خلال كلامنا هذا أنّ المقصود هو هذا حتماً - يعني بيان حكم حصّتين مع السكوت عن الحصّة الثالثة - وإنما نريد أن نقول إنّ هذا احتمالٌ وجيهٌ وما أراده الكاشاني والسبزواري من استفادة الجواز إذا لم يقترن بمحرّم احتمالٌ وجيهٌ أيضاً، فتعود بذلك الرواية مجملة من هذه الناحية لا يصحّ التمسّك بها على ما أرادا، فتبقى مطلقات حرمة الغناء بلا مقيّدٍ فيؤخذ بها حينئذٍ. هذا احتمالٌ.
ويحتمل أنّ الرواية تريد أن تبين هذا المطلب:- وهو أنّ التي تزف العرائس لا بأس بكسبها شريطة أن لا يدخل عليها الرجال، فهي ناظرة إلى بيان حصّةٍ واحدةٍ لا بيان حصتين كما كان على الاحتمال السابق، فإذن هي ناظرة فقط وفقط إلى من تزفّ العرائس وتقول إنَّ الغناء في العرس لا بأس به لكن شريطة أن لا يقترن ذلك بمحرّمٍ، أما في غير العرس فالرواية ساكتة عنه وليست بصدده.
والنتيجة:- هي أنّ الرواية تبقى مجملة فلا يصحّ التمسّك بها لإثبات ما أراده العلمان.
إذن هذا جوابٌ عن كِلا الوجهين.
وأما الوجه الرابع[2]:- فيحتمل أنّ المقصود من قوله عليه السلام ( ما لم يعص به ) يعني ما لم يكن الصوت الغنائي صوتاً لهوياً ومناسباً لألحان أهل الفسق والفجور، فالغناء غناءان.
وواضحٌ أنّه يُقصَد من الغناء هنا المعنى اللغوي بمعنى تحسين الصوت كما هو أحد الاحتمالات اللغوية التي نقلها الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[3]، حيث نقل أنّ أحد الآراء في معنى الغناء لغةً هو حسن الصوت فــ( هذا يغنّي ) أي يقرأ بصوتٍ حسنٍ، بل العبارة في المنهاج هي كذلك لأنّ نصّ المسألة هكذا ( الغناء حرامٌ إذا وقع على وجه اللهو والباطل )، فالمقصود هنا هو المعنى اللغوي، يعني أنَّ الصوت الحسن إذا وقع على كيفية مناسبةٍ لأهل الفسق والفجور فهو حرام، فاستعملت كلمة الغناء بالمعنى اللغوي - وهذا ما وسوف نبيّنه في نهاية المسألة -.
إذن هذا الاستعمال موجودٌ، فمن المحمل أنّ رواية عليّ بن جعفر حينما قالت ( سألته عن الغناء في الأضحى .. قال:- لا بأس ما لم يعص به ) يعني أنَّ الصوت الحسن لا بأس به ولكن شريطة شيءٍ وهو أنّه لا يعصى به، أي لا يؤتى به بنحوٍ لهويٍّ يناسب مجالس أهل الفسق والفجور.
ولعله يساعد على هذا المعنى تعبير الرواية بلفظ ( ما لم يعص به ) - أي بالباء -، بينما على الذي يريده الكاشاني لابد وأن يقول ( ما لم يعص معه ) . هذا احتمالٌ.
ويحتمل أنّ المقصود من ( ما لم يزمّر به ) - الواردة في الرواية على النقل الآخر - يعني ما لم يكن الصوت صوتاً كصوت المزمار، يعني مع اللحن الغنائي المتعارف عند أصحاب الفسق والفجور، يعني كصوت المزمار لا أنّ المقصود أنّه يستعمل معه المزمار كما أراد الكاشاني والسبزواري فإنّ المناسب على رأيهم أن يقال ( ما لم يزمّر معه ).
وعلى أيّ حال يحتمل أنّ المقصود هو أحد هذين وبالتالي تعود الرواية مجملة أيضاً لا يصحّ التمسّك بها وتبقى مطلقات حرمة الغناء على حالها.
وأمّا من حيث السند:- فنحن نعرف أن سند قرب الأسناد ضعيفٌ عادةً لأنه يوجد فيه عبد الله بن الحسن حفيد عليّ بن جعفر وهو لم يوثق.
ولكنّ صاحب الوسائل(قده) نقل الرواية عن كتاب عليّ بن جعفر وقد كان كتاب عليّ بن جعفر موجوداً عند صاحب الوسائل، كما بيّنا أنّ طريق صاحب الوسائل إلى كتاب عليّ بن جعفر يمكن أن نقول بصحته على مسلك العلمين السيد الخوئي والسيد الشهيد لأنّ كلّ المصادر التي ينقل عنها صاحب الوسائل تكون محطّة الأخيرة لها هي الشيخ الطوسي، والشيخ الطوسي في الفهرست له طرقٌ معتبرةٌ إلى كتاب وروايات عليّ بن جعفر، وبالتلفيق - أي بين هذه القطعة وتلك والقطعة - يحصل طريقٌ معتبرٌ لصاحب الوسائل ينتهي إلى عليّ بن جعفر، فإذا قبلنا بهذا فبها، وإن لم نقبل هذا لاحتمال أنّ طرق صاحب الوسائل تبركيّة فتبقى الرواية حينئذٍ محلّ تأمل، اللهم إلى أن يقول قائل إنّ اتحاد النقلين - أي نقل قرب الأسناد ونقل كتاب عليّ بن جعفر[4] - قد يورث الاطمئنان للفقيه بحقّانية صدور الرواية، فإن حصل هذا الاطمئنان فبها.
وأمّا الوجه الخامس[5]:- فسوف يأتي الجواب عنه فيما بعد - يعني حينما يقول السيد الماتن في العبارة ( ولا فرق في حرمة الغناء بين أن يكون في حق أو باطل ) -، وهناك ننقل جملة من الأقوال أحدها جواز الغناء في القرآن الكريم وهناك نردّ على هذا.
ولكن أقول هنا مجملاً:- إنّه قد أجاب الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب[6] بجوابٍ واضحٍ حيث قال:- إنّه لا معارضة بين الطائفتين، فإنّ الطائفة التي تقول إن قراءة القرآن بالصوت الحسن تجوز يعني من حيث نفسه، أمّا إذا انطبق عنوان محرّم كعنوان الغناء فهذا ليس بمنظورٍ إليه، فلا تعارض.
من قبيل أن يقال ( كُل الجبن أوّل الشهر )، فلو فرضنا أنّ شخصاً سرق جبناً من بائع الجبن وأكله تمسّكاً بالإطلاق فهل هذا الكلام صحيح ؟! كلا ليس بصحيح إذ نقول إنّه حينما نقول ( كُلّ الجبن ) يعني من حيث هو جبنٌ بقطع النظر عن الحيثيات الأخرى، أمّا الآن فقد طرأت حيثيّةٌ موجبةٌ للتحريم - وهي الغصب - فلا يجوز أكله حينئذٍ.
فالحكم ليس ناظراً من حيث العواض الأخرى، فحينئذٍ لا إطلاق من الجانبين، وبالتالي يقدّم دليل الحرمة على دليل الجواز ويقال بالحرمة.
ونفس هذا الكلام يأتي في مقامنا، فإنّ دليل حرمة الغناء يقدّم استحباب أو الحث على قراءة القرآن بالصوت الحسن، فهو حبّب بالصوت الحسن من حيث هو، أمّا إذا اقترن به شيء محرّم كأن كان هذا الصوت الحسن يؤذي الآخرين أو كان غنائياً كما في موردنا فلا يوجد حينئذٍ حثٌّ ورجحانٌ لقراءة القرآن الكريم به.


[1] ولا يبعد أنهما واحدة والاختلاف في كيفية النقل وهذا لا يهمنا الآن . وهناك قضيّة جانبية أخرى وهي أنّ الرواية الثانية لأبي بصير ورد فيها .( قال أبو عبد الله عليه السلام:- أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال ) حيث وردت الواو في كلمة ( وليست ) في الوسائل، ولكن إذا رجعنا إلى الكافي ج5، ص120، والتهذيب ج6 ص357، والاستبصار ج3، ص62، لم نجد ذكراً للواو، نعم هي موجودة في الفقيه ج3، ص161، وصاحب الوسائل يلتفت إلى مثل هذا ولكن قد تفوته بعض الموارد، وكان على المحقّق للوسائل أن يذكر هذا.
[2] الذي هو رواية عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الأسناد والتي قالت:- ( سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح، قال:- لا بأس به ما لم يعص به ) - وعلى نسخةٍ ( ما لم يؤمر ) -، ولكن هذا ركيكٌ كما قلنا والمناسب هو لفظ ( ما لم يُزمّر ) كما هو موجودٌ في المصدر.
[4] وفي الحقيقة أن كتاب علي بن جعفر وكتاب قرب الاسناد هما واحد عادةً ولكن احدهما مبوب والآخر ليس مبوباً.
[5] - أعني أنّه توجد عندنا طائفتان من الروايات طائفة تحبّذ وتحث على قراءة القرآن بالصوت الحسن ونعرف أنّ الصوت الحسن قد يكون غير غنائي وقد يكون غنائياً، وطائفة تنهى عن الغناء وهذه مطلقة أيضاً - يعني سواء كان في غير القرآن أو فيه -، ومورد الاجتماع - أي مادّة المعارضة - هو قراءة القرآن الكريم بالصوت الغنائي، فيصير تعارضٌ فنرجع إلى الأصل فيثبت الجواز . ونحن ساعدنا هذا الوجه حيث قلنا:- وبضمّ الأولويّة أو عدم احتمال الفصل نسرّي الحكم إلى غير القرآن الكريم، فإذا ثبت جواز الغناء في القرآن الكريم يثبت أيضاً في الأدعية والمراثي مثلاً وغير ذلك.
وفي البداية نلفت النظر إلى قضيّة:- وهي أنّ ضمّ عدم القول بالفصل أو الألويّة إلى الأصل لإثبات التعميم ليس بصحيحٍ، نعم لو كان عندك دليل اجتهادي يثبت أنّ الغناء في القرآن الكريم جائز فضمّ عدم الفصل أو الألويّة إليه شيءٌ جيّدٌ وطريقة فنية، أمّا الآن فنحن افترضنا أنّ الجواز ثابتٌ بالأصل العملي بعد التساقط وضممنا عدم الفصل أو الأولوية إلى الأصل وهذا يلزم منه محذور الأصل المثبت، فالجواز ثبت بالمورد الأوّل ولازمه هو الجواز في المورد الآخر - أي في غير القرآن الكريم - وهذا ليس أثراً شرعياً إذ لا يوجد نصّ يقول ( إذا ثبت جواز الغناء في القرآن الكريم فهو ثابتٌ في غير ذلك )، وإنما هي ملازمة عاديّة، وضمّ الملازمة العاديّة إلى الأصل معناه هو الأصل المثبت إذ أنّي أثبت بالأصل لازم المؤدّى العادي، وهذه نكتة وقاعدة علميّة لابد من الالتفات إليها.