37/03/03


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) حرمة الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

كما أنّه أشرنا قد سابقاً إلى أنّ المقصود من العرف الذي يُرجَع إليه في المقام هو العرف الخاص وليس العرف العام ، باعتبار أنّ هذا المفهوم له عرف خاصٌّ به ، ومادام له عرف خاصٌّ فلابد من الرجوع إليه ، وعلى هذا الأساس لو فرض أنا أحرزنا العرف الخاص من خلال الرجوع إليه أو من خلال الخبرويّة الموجودة لنا أحياناً فإنه إن أمكن تشخيص المصداق وأنّه مناسبٌ لمجالس أهل اللهو والطرب فبها ، وأمّا إذا فرض أنّه حصل لنا الشك إمّا لاختلافهم أو لأنه حصل لنا الشك وجداناً بعد تجريد أنفسنا عن المحيط الضيّق فشككنا أنّ هذا الصوت مناسبٌ لمجالس أهل الفسوق أو لا فهنا ماذا نصنع ؟

إنَّ المرجع هو البراءة سواء فرض أنّ الشك كان بنحو الشبهة المفهوميّة أو كان بنحو الشبهة الموضوعيّة والمصداقيّة.

أمّا إذا كانت بنحو الشبهة المفهوميّة[1] بأن فرض أنّنا شككنا إمّا لاختلاف أهل العرف الخاص أو لأيّ سببٍ كان فالمرجع هو البراءة ، لأنّ المقدار المتيقّن - وهو الذي فيه ترجيعٌ وطربٌ - مجزوم الحرمة ، أمّا الزائد على ذلك - أي الذي فيه طربٌ من دون ترجيعٍ أو فيه ترجيعٌ من دون طربٍ - فسوف نشك في حرمته فالمرجع آنذاك البراءة.

ومن الواضح أنّ الذي يقوم بإجراء البراءة إذا كانت الشبهة مفهوميّة - أي حكمية - هو الفقيه ، فإنّ تشخيص الأحكام الكلّية هو للفقيه لأنّه يحتاج إلى يلاحظ أنّه هل يحتاج معارضٍ أو هل يوجد شيءٌ آخر ، وكلّ هذه الأمور لا يتمكن منها إلا الفقيه.

وهكذا الحال لو فرض أنّ الشبهة كانت موضوعيّة كما هو الغالب عندنا ، كما لو استمعنا إلى الراديو أو التلفزيون وشككنا في نشيدٍ أو غيره أنّه مناسبٌ لمجالس أهل الفسوق والفجور أو لا فالمرجع أيضاً هو البراءة ككلّ شبهةٍ موضوعيّة.

فلو شككنا في أنّ هذا السائل حلال أو حرام - خمرٌ أو ماء - فالمرجع هو البراءة لقانون ( كلّ شيءٍ حلال حتى تعرف أنه حرام ) فإنه مطلقٌ وبإطلاقه يعمّ الشبهة الموضوعيّة ، وهكذا حديث ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) فإنّه مطلقٌ فنتمسّك بإطلاقه.

إذن في جميع موارد الشبهة الموضوعيّة يمكن التمسّك بالبراءة.

وهل يلزم الفحص ونرجع إلى الفقيه أو غيره ؟

كلّا ، لأنّ الشبهة الموضوعيّة لا يجب فيها الفحص ، والنكتة هي إطلاق المدرك - وهو ( كلّ شيءٍ لك حلال ) أو إطلاق ( رفع عن أمتي ما لا يعلمون ) -.

وواضحٌ أنّ هذا الاطلاق نتمسّك به في الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة لأنّ تعلّم الأحكام لازمٌ وإلا لو جاز التمسّك به حتى في الشبهة الحكميّة فإذن كلّ شيء نشك فيه فهو حلال وبذلك لا يكون تعلم الأحكام واجباً ويسقط وجوبه عن الاعتبار. فالمقصود هو أنّه إذا حصل الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة فالمرجع أيضاً هو البراءة والفحص ليس بلازم ، نعم الفحص لازمٌ في الشبهة الحكميّة.

وللشيخ الأنصاري(قده) عبارة في المكاسب تشير إلى كلّ هذا المطلب أو إلى بعضه حيث قال:- ( ثم إنّ المرجع في اللهو إلى العرف والحاكم بتحققه هو الوجدان حيث يجد الصوت المذكور مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص ولحضور ما تستلذّه القوى الشهويّة )[2] .

فالشيخ الأنصاري(قده) أرجع قد إلى العرف ، وأوضح أنّ المرجعيّة إلى العرف هي بمعنى المرجعيّة إلى الوجدان - لكن قلنا بعد تجريد الشخص نفسه عن المحيط الضيّق والمصطلحات الضيقة والخاصّة - وجعل المدار على كون الصوت مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص.

إذن المدار على المناسبة لمجالس أهل اللهو والطرب ، والمقصود من اللهو هو مناسبة الصوت لمجالس أهل اللهو والطرب.

النقطة الرابعة:- يحرم استماع الغناء كنفس الغناء ، فكما أنّ غناء المغنّي حرامٌ فالاستماع إليه حرام أيضاً.

ولم يتعرّض الشيخ الأعظم(قده) إلى حكم الاستماع في مكاسبه ، ولعلّ غيره لم يشر إلى ذلك أيضاً.

وعلى أيّ حال قد يستدلّ على ذلك:- بأنّ بعض الروايات المتقدّمة ذكرت الاستماع إلى جنب الغناء ، أو لعلّ مورد بعضها خصوص الاستماع ، من قبيل:-

الرواية الأولى:- صحيحة مسعدة بن زياد:- ( كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له رجل:- بأبي أنت وأمي إني أدخل كنيفاً ولي جيران وعندهم جوارٍ يتغنين ويضربن بالعود فربما أطلت الجلوس استماعاً منّي لهن ، فقال عليه السلام:- لا تفعل ، فقال الرجل:- والله ما آتيهن إنّما هو سماعٌ أسمعه بأذني ، فقال:- لله أنت - يا لله أنت - أما سمعت الله يقول " إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً " ، فقال:- بلى والله لكأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا عجميّ لا جرم أني لا أعود إن شاء الله وإني استغفر الله ، فقال له:- قم فاغتسل وصلّ - وسل - ما بدى لك فإنّك كنت مقيماً على أمرٍ عظيم ما كان أسوأ حالك لو متَّ على ذلك فاحمد الله وسله التوبة من كلّ ما يكره فإنّه لا يكره إلا كلّ قبيح والقبيح دعه لأهله فإنّ لكلٍّ أهلاً ).

إنّ هذه الرواية موردها الاستماع والإمام عليه السلام قال:- ( لا تفعل ) وصيغة النهي تدلّ على التحريم ، فإذن هي نصٌّ في المطلب.

ولكن يرد:-

أوّلاً:- إنّ المفروض أنّه يوجد ضربٌ بالعود مع الغناء لا أنّه غناءٌ لوحده ، ولعلّ المجموع المركب له مدخليّة في الحرمة وليس خصوص الغناء وحده من دون انضمام ضرب العود.

إذن لا نتمكن أن نقول إنَّ الغناء من دون ضرب العود يحرم الاستماع إليه لأنّ مورد الرواية كان هو الغناء مع الضرب بالعود ، فهذه الرواية إذن لا تنفعنا لإثبات حرمة الاستماع إلى الغناء بما هو غناء - يعني حتى وإن لم يكن مقرونا بالضرب بالعود -.

ثانياً:- إنّ المفروض أنّ الذي يغنّي هو الجواري ولعلّ لصوت الجارية المدخليّة ، فلا يمكن أن نحكم بأنّ سماع الغناء حتى لو كان من الرجل المغنّي حرام.

ثالثاً:- ذكرنا سابقاً أنّ الرواية مقرونة ببعض المستحبات ، مثل ( قم فاغتسل ) و ( وسل الله التوبة ) وما شاكل ذلك وهذا يزلزل ظهورها في التحريم - ولكن هذا يتمّ بناءً على مسلك الوضع في استفادة الوجوب والتحريم لا على مسلك حكم العقل فكلٌّ على مختاره -.

إذن الاستناد إلى هذه الرواية شيءٌ مشكل.

الرواية الثانية:- رواية سعيد بن محمد الطاطري - الطاهري - عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( قال:- سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات ، قال:- شراؤهن وبيعهن حرام وتعليمهن كفر واستماعهن نفاق ).

وموضع الشاهد هو قوله عليه السلام:- ( واستماعهن نفاق ) فإنها دلت على التحريم باعتبار أنّها أثبتت النفاق للاستماع.

ويرد عليه:-

أوّلاً:- يرد عليه ما أشرنا إليه أوّلاً في الرواية السابقة من أنّه المفروض أنّ المغنّي جارية فغاية ما يثبت هو أنّ استماع غناء الجارية حرام ، أمّا أن نتعدّى إلى استماع الغناء من غير الجارية فهذا مشكلٌ.

ثانياً:- إنّ الوارد هو ( واستماعهن نفاق ) وهذا التعبير هل يستفاد منه التحريم ؟! إنَّ الأمر لك ، فقد يقول شخصٌ يستفاد منه ذلك ، وقد يقول آخر إنّ هذه الكلمة تستخدم للتحذير وهي أعمّ من الحرمة فإنّها تستعمل حتى في موارد الكراهة.

وعلى أيّ حال يشكل استفادة التحريم من هذا التعبير.

مضافاً إلى سند الرواية فإنّ سعيد الطاطري - الطاهري - ووالده لم تثبت وثاقتهما.

الرواية الثالثة:- صحيحة زيد الشحام:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل " واجتنبوا قول الزور " قال:- قول الزور الغناء ) ، بتقريب:- أنّ الأمر بالاجتناب مطلقٌ فكما يشمل إيجاد الغناء يشمل الاستماع إليه فنتمسّك بإطلاق الرواية المذكورة.

وهذه الرواية ليس فيها عودٌ ولا جواري ، ولعلّ هذا المستند هو أقوى المستندات.


[1] وواضح أنّ الشبهة المفهوميّة دائماً هي من مصاديق الحكميّة فكلّما كان الشك في المفهوم سعةً وضيقاً فذلك يعني أنّا نشكّ في الحكم سعةً وضيقاً، فالشبهة المفهوميّة دائماً هي من قسم الشبهة الحكمية - فإذا شككنا في سعة المفهوم وضيقه.