37/03/15


تحمیل

الموضـوع:- هل يجوز الحُداء ؟ - مسألة ( 17 ) حكم الغناء - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

وأمّا إذا قلنا هو من الغناء فما هو الحكم ؟

والجواب:- قد يقال باستثنائه من حرمة الغناء لثلاث روايات - ولعلّه يوجد أكثر من ذلك - اثنتان منها من طرق غيرنا وواحدة من طرقنا:-

أمّا اللتان من طرق غيرنا فهما:-

الأولى:- ما رواه البخاري بسنده المنتهي إلى سلمة بن الأكوع:- ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجلٌ من القوم لعامر يا عامر ألا تسمعنا من هُنَياتك وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم يقول " اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ... " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله من هذا السائق ؟ قالوا عامر بن الأكوع ، قال:- يرحمه الله )[1] [2] .

إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ عامر أخذ يحدو بأراجيزه حيث قالت ( فنزل يحدو بالقوم ) ، فهي لم تكن مطلقةٌ بل كانت بنحو الحداء فلا يمكن أن يقال آنذاك لعلّ هذه الأراجيز لم تكن بطور الحداء ، بل قالت ( فنزل يحدو بالقوم ) والنبي صلى الله عليه وآله قرّر ذلك بسكوته ، بل أكثر من سكوته حيث ترحّم عليه ، فالرواية لا بأس بدلالتها على جواز الحداء.

ولكن يرد عليها بعد غضّ النظر عن مسألة السند كما هو واضح:- أنّ هذه قضيّة في واقعة ، وفي مورد القضيّة في واقعة لا يمكن التمسّك بالإطلاق ، يعني صحيحٌ أنّ عامر أخذ يحدو بأراجيزه لكن من قال أنّ حُداءه كان بنحو الغناء ؟! ونحن وإن سلّمنا سابقاً بأنّ الحداء من الغناء لكن لا يعني ذلك أنّه كذلك بجميع أفراده ، فلعلّ الفرد الذي أتى به - والمفروض أنّه أتى بفردٍ معيّن وهذا معنى القضيّة في واقعة يعني قضية جزئيّة أي حُداءٌ جزئيٌّ خاصٌّ في هذه القضيّة - لم يكن بحو الغناء.

فإذن لا يمكن أن نثبت أنّ الحداء حتى لو كان بنحو الغناء جائز لما أشرنا إليه.

الثانية:- عن سنن البيهقي عنه صلى الله عليه وآله أنَّه قال لعبد الله بن رواحة:- ( حرّك بالنوق ، فاندفع يرتجز وكان جيّد الحُداء )[3] [4] .

ووجه دلالتها هو أنها قالت:- ( وكان جيّد الحُداء ) فيثبت بذلك أنّ الحداء جائزٌ وسكوته صلى الله عليه وآله إمضاءٌ لحدائه.

وفيه:- إنّه لو قطعنا النظر عن السند يمكن أن يقال:-

أوّلاً:- إنّ الرواية قالت ( فاندفع يرتجز ) أمّا أن رجزه كان بنحو الحداء فلم يذكر في الرواية ذلك . نعم الراوي قال بعد ذلك ( وكان جيّد الحداء ) وهذا لعلّه ذكره كصفةٍ من صفات عبد الله بن رواحة لا أنّ رجزه كان بنحو الحُداء ، فالرواية يمكن أن يقال بأنها مجملة من هذه الناحية ، فلا يستفاد منّها أنّه قد صدر منه الحُداء.

ثانياً:- لو تنزلنا وقلنا إنّ فقرة ( وكان جيد الحداء ) قرينة على أنّ ارتجازه كان بنحو الحُداء ، ولكن نقول من قال إنّ حُداءه كان بنحو الغناء ؟! حيث قلنا إنّه لا يلزم أن تكون جميع أفراد الحُداء من الغناء ، والإطلاق لا يمكن التمسّك به لما أشرنا إليه من أنّ هذه قضيّة في واقعة يعني هي ناظرة إلى ما صدر من عبد الله بن رواحة بخصوصه فلا يمكن آنذاك التمسّك بالإطلاق ، وهذه قاعدة عامّة - وهي أنّ التمسّك بالإطلاق في القضايا الجزئية شيء غير ممكن -.

وأمّا الرواية التي وردت من طرقنا:- فهي ما رواه الشيخ الصدوق(قده) بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله:- زاد المسافر الحُداء والشعر ما كان منه ليس فيه جفاء - خناء[5] - )[6] .

وتقريب الدلالة:- هو أنّه صلى الله وآله قال ( زاد المسافر الحداء ) ، فهو إذن أمضى صدور وفعل الحُداء بل جعله زاداً للمسافر وهذا معناه الامضاء والتقرير - ولعله يستفاد منه نحوٌ من التشجيع وهذا شيء ليس بمهم - ، وهنا القضية ليست في واقعة - أي ليست جزئيّة - فلا يأتي ما أشرنا إليه سابقاً ، فإنّ ما سبق كان ناظراً إلى حُداء عامر بن الأكوع وعبد الله بن رواحة ولعلّ حُداء كلّ واحدٍ منهما لم يكن بنحو الغناء فلا يمكن التمسّك بالإطلاق ، أمّا هنا فليس الأمر كذلك بل النبي صلى الله عليه وآله أصدر حكماً بنحو القضيّة الحقيقية وقال ( زاد المسافر الحداء ) ، وحيث لم يقيّد بفردٍ دون فردٍ فيثبت بذلك الإطلاق وأنّ الحُداء بجميع أفراده حتى ما كان بنحو الغناء هو جائز.

هذا وقد يشكل على التمسّك بالرواية:- بأنّ وجود الحُداء الغنائي لعلّه لم يكن متحقّقاً في زمانه صلى الله عليه وآله ، فلا نستفيد آنذاك من إطلاق كلامه الحكم بجواز ما كان بنحو الغناء لأنّ المتعارف في زمانه لعلّه لم يكن بنحو الغناء.

وإذا قيل:- صحيح أنّه في زمانه لم يكن الحُداء الغنائي موجوداً ولكن في الأزمان الآتية سوف يتحقّق فكان عليه أن يقيّد مادام قد يتحقّق ذلك في الأزمان الآتية.

قلت:- إنّ وظيفة المتكلّم هي النظر إلى الزمان الذي هو فيه حيث يتكلّم مع ناس ذلك الزمان ، فإذا لم يكن الفرد الغنائي متحقّقاً في زمانهم لا موجب آنذاك للتقييد ، نعم هو بنحو العلم الغيبي يعلم بأنّه سوف يأتي ذلك في زمانٍ بعدي ولكن وظيفة المتكلّم هو أن يلحظ ما عليه زمانه ، فهذه من خصوصيّات المحاورة ، فدائماً حينما يتحاور شخصٌ فهو يتحاور مع أهل زمانه فينظر إلى الفترة التي يعيش فيها أهل زمانه ، فمادام لا يوجد فيها فردٌ غنائي فهو قد أطلق ، فإطلاقه لعلّه من هذا الباب ، ووجوده في الأزمان آلاتية لا يضرّ بالإطلاق لأنّ المتكلّم دائماً يلاحظ ما عليه زمانه ولا ينظر إلى قضاياه الغيبيّة ، وهذه قضيّةٌ سيّالةٌ ، وذاك إدخالُ عنايةٍ زائدةٍ عليه والمفروض أنّ المتكلّم بما هو متكلّم ليس بملزمٍ بأكثر من ملاحظة من يتحاور معه.

اللّهم إلّا أن نستفيد الجزم بعدم الخصوصيّة - يعني أنَّ هذا الفرد مع بقيّة الأفراد لا خصوصيّة له فنُدخِل ذلك العنصر - كما قلنا بالنسبة إلى الماء فإنّه حيمنا يقول ﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ﴾[7] يعني بالماء ، فالمنظور حينئذٍ هو الماء الموجود في تلك الفترة والإطلاق لعلّه قاصرٌ عن شمول الماء المقطّر - هذا على مبنانا - ولكن أدخلنا فكرة البديل وهو أنّ العرف يفهم أنّ الماء المشوب بالطين ليس له خصوصيّة بل المهم أن يصدق عليه أنّه ماء ، فمادام يصدق عليه أنّه ماء فهو حينئذٍ يكفي سواء كان مشوباً بالطين أو لم يكن كذلك ، بل حتى لو فرض أنّه قال له ( توضأ بهذا الماء ) وأشار إليه فيحمل هذا على المثاليّة ، كما لو فرض أنّ السائل قال ( أصاب ثوبي دم ) والإمام قال له ( أغسله ) فكيف نتعدّى إلى العباءة وغيرها ؟ إنّه بإلغاء الخصوصيّة ، وهنا أيضاً نقول بإلغاء الخصوصيّة ، فالمقصود أنه سوف لا تسقط جميع الإطلاقات بل فكرة البديل موجودةٌ - وهي الجزم بعدم الخصوصيّة -.

وجواب الإشكال على التمسك بالرواية أن يقال:- كون جميع الأفراد من الحداء في ذلك الزمن ليس غنائية شيءٌ بعيدٌ في حدّ نفسه بعد أن سلّمنا أنّ الحداء قسمٌ من الغناء ، فالمقصود حينئذٍ أنّه تكون فيه أفراد غنائية ، وكون جميع الأفراد في زمان النبي صلى الله عليه وآله لم تكن غنائية شيءٌ بعيدٌ ، فهذا الإشكال ضعيف من هذه الناحية ، فالتمسّك بالإطلاق شيءٌ وجيه.

نعم يبقى الإشكال من ناحية السند:- فإنّ الصدوق(قده) رواه بإسناده عن السكوني وطريقه إليه على ما هو الموجود في المشيخة هو:- ( أبي ومحمد بن الحسن[8] رضي الله عنهما ، عن سعد بن عبد الله[9] عن إبراهيم بن هاشم عن الحسين بن يزيد النوفلي عن اسماعيل بن مسلم السكوني الشعيري ) ، والسند كلّه تامٌّ إلّا في الحسين بن يزيد النوفلي ، وقد أشرنا أكثر من مرّة إلى أنّ هذا الرجل لا يوجد في حقّه توثيقٌ بخصوصه.

ولكن قد يقال في إثبات توثيقه:- بأنّ الشيخ الطوسي(قده) قال:- ( عملت الطائفة بروايات جماعة[10] ) ومنهم السكوني هذه مقدمة ، ثم نضيف مقدّمة أخرى وهي أنّ غالب روايات السكوني وصلتنا من طريق النوفلي ، فيثبت بذلك أنّ روايات النوفلي مقبولة أيضاً وإلا يلزم إلغاء ذلك الإجماع في المساحة الكبيرة ويبقى في المساحة الضيّقة وهذا احتماله بعيدٌ - وهو أنّ الطائفة تجمع على العمل بروايات السكوني في المساحة الضيّقة يعني التي لم ترد من طريق النوفلي - ، هذا ما قد يقال في إثبات توثيقه ، وقد كنّا فترةً نميل إلى ذلك ونقرّب هكذا.

ولكن يمكن أن يقال[11] :- إنّ هذا يتمّ إذا كان المقصود هو عمل الطائفة بروايات السكوني بنحو القضيّة الفعليّة ، يعني أنها تعمل بها بالفعل مع غضّ النظر عن الموجود في السند وإن كان ضعيفاً مادام السكوني هو الذي يروي.

إمّا إذا قلنا إنَّ المقصود من إجماع الطائفة على العمل برواياته يعني أنّها أجمعت من ناحيته على أنه لا يضرّ فإنّه وإن كان من غيرنا ولكن نعمل برواياته من حيث هو لا من حيث غيره وإلا صار حال السكوني أحسن من حال زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما فإنّ هؤلاء نلاحظ رجال السند الذين بعدهم بينما هذا لا نلاحظ رجال السند الذين بعده وهذا احتماله قد يكون ضعيفاً ، ولكن نحن لسنا بصدد أن نثبت أنّ هذا الاحتمال ضعيفٌ حتماً بل يكفينا الإجمال ، فالعبارة مردّدة بين احتمالين بين أن يكون هذا هو المقصود وبين أن يكون ذاك هو المقصود ويكفينا الإجمال آنذاك لعدم الاعتداد بالرواية التي يرد فيها النوفلي.

وبهذا اتضح أنّ الحُداء يمكن أن نحكم بجوازه من باب أنّه لم يثبت كونه فرداً من الغناء ، وعلى تقدير ثبوت كونه كذلك قد يشكل استثناؤه - إذا كان الحُداء غنائياً - لأنّ دليل الاستثناء إمّا الرويتان وقد اتّضح الضعف السندي والدلالة ، وإمّا هذه الرواية فهي من حيث السند قابلة للمناقشة.


[1] صحيح البخاري، البخاري، ج5، ص86، ح4196، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، طبعة دار الكتب العلمية في بيروت.
[3] سنن البيهقي، البيهقي، ج10، ص227.
[5] في نسخة، والخناء:- هو الفحش والانسب هو هذه الكلمة.
[8] محمد بن الحسن بن الوليد الذي هو استاذه.
[9] الاشعري القمي.
[10] أي من غيرنا.
[11] كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.