36/12/22


تحمیل

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.

الصحيح أن يقال في مناقشة التمسك بالآية الكريمة بضمّ الروايات ما يلي:- إنّ الآية الكريمة اشتملت على كلمة ( الزور ) وهو بمعنى الباطل ، والباطل - يعني الباطل من القول - كما نعرف له مصاديق متعدّدة بعضها محرّمة وبعضها ليست محرّمة ، فمن القول الباطل المحرّم الغيبة والنميمة والبهتان وسبّ المؤمن وغير ذلك ، أمّا القول الباطل الذي لا يكون محرّماً فمن أمثلته الكلام اللغوي فقد يجلس اثنان ويتكلمان بكلامٍ لغويٍّ لا فائدة فيه ، نعم إذا انطبق عليه عنوان المزاح مع المؤمن أو فيه إدخال السرور عليه فهذا ليس لغواً من القول بل هو مستحب ، أما صدرت بعض الألفاظ من الإنسان وهي عبثٌ فهذه ليست محرّمة لكنّها ليست من القول العبثي والباطل واللغو.

ثم نضم إلى ذلك مقدّمة أخرى:- وهي أن الآية الكريمة قالت ( اجتنبوا ) والأمر ظاهر في الوجوب ، وحينئذٍ يدور الأمر بين ظهورين بين الأخذ بظهور الأمر بالوجوب ولازمه تخصيص قول الزور بخصوص المحرّم ، وحينئذٍ هذا ينفعنا لأنّ قول الزور حسب الروايات هو الغناء ، فالإمام عليه السلام هو يشهد بأنّ الغناء من قول الزور ، فإذا قلنا بأنّ المقصود من قول الزور خصوص المحرّم بقرينة ( اجتنبوا ) فحينئذٍ تكون الآية تامّة الدلالة.

ولكن هناك احتمال العكس ، وهو أنّ الأخذ بإطلاق قول الزور بحث يشمل حتى غير الحرام - أي الكلام العبثي - ولازمه حمل الأمر على مطلق المبغوضيّة لا المبغوضيّة الإلزامية ، وحينئذٍ هذا لا ينفعنا لأنّه لا يثبت بذلك أنّ الغناء محرّمٌ ، بل أقصى ما يثبت أنّه مبغوضٌ بالمبغوضيّة الأعمّ.

وهذا مطلبٌ سيّالٌ ولا يختصّ بمقامنا ، فكلما جاءنا تكليفٌ سواء كان وجوبايً أو تحريمياً وكان له متعلّق والمتعلّق كان له سعة أي له أفراد كثيره بعضها لا يحتمل الحكم الإلزامي فيها ففي مثل هذه الحالة يدور الأمر بين أن نأخذ بظهور الأمر أو النهي في الإلزام ولازمه تخصيص المتعلّق بخصوص الحصّة المحرّمة وبين أن نبقي المتعلّق - الموضوع - على إطلاقه ولازمه حمل ذلك على المبغوضيّة المطلقة أو المحبوبيّة المطلقة الشاملة للإلزام وغير الالزام ولا مرجّح لهذا على ذاك.

اللهم إلّا أن يقول قائل:- إنّ الحكم ذُكِر أوّلاً فيكون قرينةً على الإلزام.

ولكن نقول:- إنّ هذا الكلام موجودٌ في علم النحو ولكن واقع المطلب يصير عندنا إجمال ، فمثلاً إذا قيل ( أكرم أهل النجف ) فـــ( أكرم ) ظاهره الوجوب ، وأهل النجف فيهم أفرادٌ يستحقّون الإكرام الوجوبي - أو لا أقل ليس بدرجة الوجوب - وبعضم لا يستحقّون ذلك ، ففي مثل هذه الحالة يدور الأمر في أنّ ( أكرم ) يحمل على الوجوب ونخصّصه بالأفراد الذين هم كالملائكة وبين أن نبقي المتعلّق - الموضوع - على إطلاقه شامل لمن يجب إكرامه - الذي هو كالملائكة - ولمن هو أقل من الملائكة الذي يكون إكرامه ليس مبغوضاً ولكنه لا يوجد وجوب ، ولازم ذلك توسعة الأمر، فيصير المقصود منه مطلق المحبوبيّة ولا يوجد مرجّح بل يصير هنا إجمال ، وعلى أيّ حال هذا مطلبٌ عرفيٌّ.

إذن يحصل الإجمال في موردنا ، وبذلك لا يمكن أن نحكم بحرمة الغناء حتى بناءً على أنّ المقصود منه - كما ذهبنا إليه - الكيفيّة اللهويّة ، وما ذكره الشيخ الأنصاري(قده) مندفع ، ولكن لا يمكن أن نقول إنّ ( اجتنبوا ) يقصد منه الوجوب والإلزام لما ذكرناه من الإجمال الحاصل بسبب التعارض الذي أشرنا إليه.

إن قلت:- المفروض أنّ الإمام عليه السلام هو الذي طبّق في الرواية وذكر لفظ الغناء ، يعني هو ذكر مصداقاً لقول الزور وهو الغناء وجعله محرّماً ، وبعد تطبيق الإمام وحكمه بالتحريم يكون هذا الكلام والتطويل بلا داع ، وإنما يكون هذا الكلام وجيهاً لو كنّا نحن والآية الكريمة وحدها فيقال إنَّ ( اجتنبوا ) فيها ظهور في الإلزام ولازمه تخصيص قول الزور بخصوص الحصّة المحرّمة ويحتمل العكس ، أمّا بعدما قال الإمام إنّ قول الزور هو الغناء وهو حرامٌ فلا معنى حينئذٍ لهذا التطويل.

قلت:- إنّ الإمام عليه السلام قد حكم بأنّ الغناء من مصاديق الآية الكريمة أمّا أنّه حرامٌ فهو لم يقل ذلك !! بل قال ( واجتنبوا قول الزور يعني الغناء ) فأدخل الغناء تحت قول الزور ولم يقل هو حرامٌ ، فغاية ما يثبت لنا بضمّ الرواية إلى الآية هو أنّ الغناء من مصاديق قول الزور أمّا أن ( اجتنبوا ) يقصد منه الإلزام فلم يقله الإمام ، فنبقى آنذاك نحن والآية وغاية ما انتفعنا من الرواية أنّه عيّن لنا أنّ هذا مصداقٌ من مصاديق قول الزور ، فنبقى نحن والآية آنذاك والدوران يبقى على حاله.

إن قلت:- توجد قرينة على أنّ المقصود هنا هو الإلزام ، وهي قرينة السياق ، حيث إنّ الآية الكريمة قالت:- ﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ﴾[1] ، ومن الواضح أن المقصود من ( فاجتنبوا ) الأولى بقرينة ﴿ الرجس من الأوثان ﴾ هو الإلزام ولا يحتمل أنّ الحكم بلحاظ الاجتناب للأوثان ليس إلزامياً ، فبقرينة السياق سوف يثبت أنّ ( اجتنبوا ) الثانية هي أيضاً يقصد منها الإلزام ، وبذلك أثبتنا أنّ ( اجتنبوا ) يراد منه الإلزام بقرينة السياق والدوران حينئذٍ سوف يرتفع ويعتيّن أن يكون الحكم حكماً وجوبياً ، وبالتالي يلزم تضييق الموضوع فقول يلزم تضييق الزور بخصوص الحصّة المحرّمة.

قلت:- هذا ما يدافع به أصحاب مسلك الوضع[2] ، فإنّ هذا يتمّ بناءً على مسلك الوضع دون مسلك حكم العقل ، فإذا قلنا بأنّ الوجوب مدلولٌ وضعيّ - بسبب الوضع - كما هو رأي صاحب الكفاية والسيد الشهيد فبناء عليه تكون قرينة السياق جارية ، وأمّا بناء على مسلك حكم العقل كالشيخ النائيني والسيد الخوئي وغيرهم لا يمكن التمسّك بقرينة السياق لأنّ ( اجتنبوا ) الأولى مستعملة في أصل الطلب وليس في الطلب الوجوبي والثانية أيضاً إذا كانت مستعملة في أصل الطلب كما هو المفروض يصير حينئذٍ السياق سياقاً واحداً ، إنّما يحصل اختلافٌ في السياق لو قلنا أنّ ( اجتنبوا ) الأولى مستعملة في الطلب والوجوبي - كما هو رأي صاحب الكفاية - فلو كانت ( اجتنبوا ) الثانية لم تكن مستعملة في الطلب الوجوبي بل في أصل الطلب للزم اختلاف السياق وقرينة وحدة السياق التي هي عرفيّة تحكم بأنّ المقصود من السياق واحد فإذا كان المقصود في ( اجتنبوا ) الأولى هو الوجوب ففي الثانية أيضاً يكون المقصود هو الوجوب.

إذن هذا الكلام من المناسب أن يطرحه أصحاب مسلك الوضع لا أصحاب مسلك حكم العقل ، فأصحاب مسلك حكم العقل لا يمكنهم أن يتمسّكوا بقرينة السياق.

والذي يرد على التمسّك بقرينة السياق هو أن يقال:- إنّ هذا يتمّ إذا فرض أنّ ( اجتنبوا ) الثانية قصد منها الاستحباب ، فلو كان يقصد الاستحباب فهنا يلزم التفكيك في السياق الذي هو مرفوضٌ عرفاً ، أمّا إذا فرض أننا لم نقل بأنّ ( اجتنبوا ) الثانية مستعملة في الاستحباب أو في الكراهة وإنما هي مستعملة في جامع المبغوضيّة الملتئمة مع الإلزام وغيره فحينئذٍ هل يلزم بذلك تفكيك السياق المرفوض عرفاً ؟ إنّه يمكن أن يقال كلّا ، فالسياق المرفوض هو فيما إذا فرض أنّ الاولى مستعملة في الوجوب والثانية في الاستحباب فإنّ هذا مخالفةٌ وتفكيكٌ في السياق ، أما إذا فرض أنّ الأولى في الوجوب والثانية في جامع المبغوضيّة فهذا ليس من الثابت أنّه تفكيكٌ مرفوضٌ عرفاً.

وإذا قلت:- إنّه بالتالي يلزم تفكيك السياق لأنّه سوف يكون المقصود من الأولى الوجوب ومن الثانية المبغوضيّة بالمعنى الأعمّ وهذا تفكيكٌ في السياق ، فمن أين لك أن تقول إنّ هذا يمكن أن نقول بأنّه ليس بمرفوض ؟

قلت:- إنّ مدرك قضيّة أنّ تفكيك السياق مرفوضٌ ليس رواية حتى نتمسّك بحاقّ ألفاظها فنقول هنا يصدق تفكيك سياق ، وإنما المستند هو العرف ، فالعرف يرفض أن تكون ( اجتنبوا ) الأولى مستعملة في الوجوب و ( اجتنبوا ) الثانية مستعملة في الكراهة أو في الاستحباب بخصوصه فإنَّ هذا يراه تفكيكاً مرفوضاً ، أمّا إذا فرض أنّ الثاني قصد منه جامع المبغوضيّة فهو تفكيكٌ في السياق ولكن كونه مرفوضٌ عرفاً هو أوّل الكلام إذ يمكن أن يقال إنَّ بينهما تسانخٌ وتقاربٌ ولا يكون مرفوضاً عرفاً.

وبالتالي يكون التمسّك بالآية الكريمة محلّ إشكالٍ حتى بعد ضمّ تفسير الروايات إليها لما ذكرناه من الإشكال وليس لما ذكره العلمان.

الآية الثانية:- وهي قوله تعالى:- ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ﴾[3] ، فقدأشكل عليها الشيخ الأعظم(قده) بنفس الإشكال الأوّل لكن مع تغييرٍ في المفردات مع أنَّ روح الإشكال واحدة ، حيث ذكر أنّه إذا كانت إضافة اللهو إلى الحديث من باب إضافة الصفة إلى الموصوف فغاية ما يثبت بالآية حرمة الغناء بمعنى القول الباطل والذي هو خارج عن محلّ كلامنا ولا يثبت حرمة الكيفية التي هي محلّ الكلام.

توضح ذلك:- إذا كان هذا المورد من باب إضافة الصفة إلى الموصوف فالمعنى يصير هكذا:- ﴿ ومن الناس من يشتري الحديث اللهوي ﴾ لأنّ الحديث يصير موصوفاً واللهوي صفة والإمام عليه السلام طبّق الرواية على الحديث اللهوي فقال إنَّ من مصاديق الحديث اللهوي هو الغناء فغاية ما يثبت هو أنّ الغناء من مصاديق الحديث اللهوي ، يعني صار الغناء من مصاديق الحديث والقول والكلام واللفظ فلا ننتفع بالتمسّك بالآية الكريمة.

والاحتمال الثاني أنّ نقول:- إنّه لا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بل من باب إضافة المظروف إلى الظرف ، يعني أنَّ الحديث ظرفٌ فاللهو يطرأ في الحديث فاللهو يصير مظروفاً وظرفه الحديث ، يعني يصير المعنى هكذا:- ﴿ ومن الناس من يشتري اللهو الذي ظرفه الحديث ﴾ والإمام عليه السلام قال ( ومن مصاديق اللهو هو الغناء ) فيتمّ الاستدلال بالآية مع ضمّ الرواية لأنّ الغناء سوف يصير من مقولة اللهو وليس من مقولة الحديث ، وحيث إنّ الآية الكريمة بضمّ الرواية مردّدة بين الاحتمالين فلا يمكن أن نثبت حرمة الغناء بمعنى الكيفيّة لاحتمال أنّ المقصود هو حرمة الغناء من الحديث والكلام.

هذا ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) تبياناً لنفس ذلك الإشكال لكن بمفرداتٍ أخرى ، ولأجل هذا عقدت كلاماً في الآية الأولى وكلاماً آخر في الآية الثانية لأنّ عرض الإشكال يختلف.


[2] وهذا ليس جواباً ورداً وإنما هو بيان واقع ومطلبٌ علمي.