جلسة 129

كفارة الصوم

وجوابه: أن المكلف لو كان يعلم سابقاً المقدار الذي فاته فنسلم أن الذمة سوف تشتغل بذلك المقدار المعلوم، ولكن نقول: إن العلم إنما يوجب الاشتغال بالمقدار المعلوم فيما لو كان ثابتاً، أمّا إذا زال فسوف يزول ذلك الاشتغال بذلك المقدار المعلوم، إذ الموجب للاشتغال هو العلم والمفروض زواله فيلزم زوال الاشتغال أيضاً، والشبهة مبنيّة على تصور أن العلم بحدوثه يوجب مطلبين: حدوث الاشتغال، وبقاءه، ولكنه باطل، فأنه يوجب حدوث الاشتغال فقط، وأمّا بقاء الاشتغال فهو بحاجة إلى بقاء العلم؛ لما أشرنا إليه من أن الموجب للاشتغال هو العلم فإذا زال العلم زال الاشتغال، ولا معنى لتصور أن حدوث العلم موجب لحدوث الاشتغال وبقاءه معاً، إنه توهم باطل بعد الالتفات إلى النكتة التي أشرنا إليها.

النقطة الثالثة: إذا علم المكلف بأنه أفطر يوماً من شهر رمضان؛ ولكنه شك في كونه بالمحلل حتى تجب كفّارة واحدة أو بالمحرم حتى تجب عليه ثلاث كفارات، كفاه في مثل ذلك كفارة واحدة؛ باعتبار أن وجوب واحدة معلوم تفصيلاً ويشك في وجوب الزائد فينفي ذلك بالبراءة.

وإن شئت قلت: إن الأمر في المقام يدور في كل خصلة بين أن تكون واجبة تعييناً أو واجبة بنحو التخيير فتجري البراءة عن الوجوب التعييني، ولا يعارض ذلك بالبراءة عن الوجوب التخييري، إذ ما هو الغرض المنشود من وراء ذلك؟ فإما أن يكون الغرض هو إثبات الوجوب التعييني لكل خصلة، أو يكون الغرض هو نفي الوجوب رأساً، وكلاهما باطل:

أمّا الأول؛ فلأن أصل البراءة قد شُرّع لأجل التوسعة على العباد، حيث قيل: «رفع عن أُمّتي تسعة أشياء... وما لا يعلمون...»[1]، وليس الغرض التضييق، ومن المعلوم أن رفع الوجوب التخييري لإثبات الوجوب التعييني يوجب التضييق وخلاف المنّة، فلا يمكن التمسك بحديث البراءة لإثبات ما ذكر.

وأمّا الثاني ـ نفي الوجوب رأساً ـ فباعتبار أن أصل الوجوب معلوم الثبوت بنحو الجزم واليقين، فلا يمكن نفيه بالبراءة بعد العلم به.

النقطة الرابعة: إذا شك المكلف في أن اليوم الذي أفطره هل كان من قضاء شهر رمضان قبل الظهر حتى لا يجب عليه شيء، أو هو من شهر رمضان ـ حتى تجب عليه الكفارة ـ فلا تجب عليه الكفارة للشك في أصل وجوبها فينفى بالبراءة، وأما وجوب قضاء يوم فهو معلوم الثبوت جزماً فيثبت وجوب قضاء يوم بلا كفارة.

النقطة الخامسة: إذا تردد المكلف بين أن يكون قد أفطر في القضاء بعد الظهر فيجب عليه إطعام عشرة مساكين، أو أنه أفطر يوماً من شهر رمضان فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً بنحو التخيير بينه وبين الخصلتين الأُخريين، لزمه إطعام ستين مسكيناً ولا حاجة إلى إطعام عشرة إضافية بحيث يكون اللازم إطعام سبعين.

وهذا المقدار ـ وهو عدم لزوم إطعام سبعين ـ ينبغي أن يكون واضحاً، وإنما الكلام في أنه هل يمكن أن يكتفي المكلف بإطعام عشرة مساكين أو لا؟

اختار السيد اليزدي[2] ـ قدّس سرّه ـ ذلك ووافقه كثير من المحشين على (العروة الوثقى)، ووجّه السيد الحكيم[3] ـ قدّس سرّه ـ ذلك: بأن المكلف يعلم إجمالاً إمّا بوجوب إطعام عشرة بنحو التعيين ـ وذلك على تقدير الإفطار في القضاء بعد الزوال ـ أو بوجوب إطعام ستين بنحو التخيير ـ وذلك على تقدير الإفطار في شهر رمضان ـ وبذلك يكون إطعام العشرة معلوماً بنحو الجزم، إذ على التقدير الأول يكون الأمر واضحاً، وأمّا على التقدير الثاني؛ فلأن في ضمن الستين تكون العشرة ثابتة، فوجوب الإطعام بقدرها معلوم على كلا التقديرين، فعلى هذا الأساس يكتفى بإطعام العشرة، والزائد على ذلك ينفى بالبراءة، ومن هنا اختار ـ قدّس سرّه ـ كفاية إطعام العشرة.

وأجاب السيد الخوئي[4] ـ قدّس سرّه ـ بأن الوجوب التخييري بناءً على تعلقه بالجامع ـ أي بعنوان الأحد ـ فلا يمكن إجراء البراءة عن الزائد، بل يكون المقام من التردد بين المتباينين وليس من الأقل والأكثر، فعلى تقدير الإفطار في القضاء يكون الوجوب متعلقاً بإطعام العشرة، بينما على تقدير الإفطار في شهر رمضان يكون الوجوب متعلقاً بالجامع، أي بأحد الخصال الثلاث وليس بإطعام الستين، ومن الواضح أن النسبة بين إطعام العشرة والجامع بمعنى الأحد نسبة التباين دون الأقل والأكثر، ونحن نشك هل تعلق الوجوب بهذا العنوان ـ إطعام العشرة ـ أو بذلك العنوان ـ الجامع ـ ولا قدر متيقن في البين، فتكون البراءة عن تعلق الوجوب بهذا معارضة بالبراءة عن تعلقها بذاك، ومعه فيجب الاحتياط بعد عدم انحلال العلم الإجمالي المذكور، ويتحقق الاحتياط بإطعام الستين.

وإن شئت قلت: إن العلم الإجمالي المذكور ـ العلم بتعلق الوجوب إمّا بإطعام العشرة أو الجامع ـ إمّا أن يُدعى انحلاله الحكمي، أو يُدعى انحلاله الحقيقي، وكلاهما باطل.

________________________

[1] الوسائل 15: 369، أبواب جهاد النفس، ب56، ح1.

[2] حواشي العروة الوثقى ج3 ص597.

[3] مستمسك العروة الوثقى ج8 كتاب الصوم ص358.

[4] مستند العروة الوثقى ج1 كتاب الصوم ص325.