32/11/16


تحمیل

 وهذا المطلب - أعني أن يكون المأتي به من قبل الكلف فعلاً اختيارياً فإذا لم يكن اختيارياً فلا يكفي - وان كان وجيهاً ولكن ما هو توجيهه الفني ؟

يمكن أن يوجه بأحد البيانين التاليين:-

البيان الاول:- إن التكليف لا يتعلق إلا بالحصة الاختيارية ، فإذا فرض أن المأتي به لم يكن مقصوداً - أي اختيارياً للمكلف - فلا يكون مصداقاً لمتعلق التكليف وبالتالي لا يجزي ، فمن رفعه الزحام وتحقق منه الطواف كلاً أو بعضاً فلا يكتفى به لأنه ليس متعلقاً للتكليف إذ المتعلق خصوص ما كان اختيارياً ومقدوراً.

 وهذا البيان تام على من يرى أن التكليف لا يتعلق إلا بالمقدور.

 أما من ينكر ذلك - من قبيل السيد الخوئي(قده) فانه يرى أن التكليف اعتبار نفساني ولا محذور في تعلقه بالشيء غير المقدور فلا محذور في أن أعتبر الطيران في السماء في ذمتك فان الاعتبار أمر سهل ولا محذور فيه . نعم القدرة شرط في استحقاق العقوبة فمن دونها لا عقوبة لا أنه لا تكليف بمعنى لا اعتبار ، كلا بل هناك اعتبار في الذمة رغم كون الشيء ليس بقدورٍ ولكنه لا عقاب . وممن بنى على ذلك السيد الخميني(قده) ، في مقابل الشيخ النائيني(قده) فانه ذهب إلى اعتبار القدرة في متعلق التكليف فان التكليف وان كان اعتباراً ولكنه صادر بداعي التحريك والإرسال والبعث ولا يمكن تحريك غير القادر ، فنحن إذا نظرنا إلى كون التكليف مجرد اعتبار وقطعنا النظر عن كونه بداعي التحريك فالحق مع العلمين أما بعد أن كان ناشئاً بداعي التحريك فالحق مع الشيخ النائيني(قده) - فلا يتم هذا البيان بلحاظه فان الحركة الناشئة من الزحام التي ترفع المكلف هي وان لم تكن اختيارية ولكن لا يلزم في متعلق التكليف أن يكون اختيارياً.

 إذن هذا البيان يتم على مبنى الشيخ النائيني(قده) ولا يتم على مبنى العلمين ، وهو ليس مقصوداً للسيد الخوئي(قده) هنا.

 بل يمكن أن يقال:- حتى لو اشترطنا القدرة في متعلق التكليف - كما هو مبنى الشيخ النائيني(قده) - فلا يتم البيان المذكور ، والوجه في ذلك هو أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور خلافاً لما نسب إلى الشيخ النائيني(قده) فانه قد نسب إليه أن الجامع بين المقدور وغير المقدور ليس بمقدور في مقابل المحقق الثاني الذي يرى أنه مقدور ، فمثلاً لا يمكن أن يقال لشخص ( طر إلى السماء ) ما دام لا يتمكن على الطيران لأنه تكليف بغير المقدور وبناءاً على اشتراط القدرة لا يصح هذا التكليف ولكن هل يمكن أن يقال له ( يجب عليك إما أن تطير إلى السماء أو تجلس في المسجد وتدعو الله عز وجل ) فان الثاني مقدور والأول ليس بمقدور والمطلوب منه هو أحد الأمرين لا هذا بخصوصه ولا ذاك بخصوصه بل الجامع - أعني الأحد - وهل هو مقدور أو لا ؟

 ربما ينسب إلى الشيخ النائيني(قده) - كما قرأنا ذلك في الحلقة الثالثة - أنه غير مقدور وسوف يختص التكليف بالحصة المقدورة ، وأما المحقق الكركي(قده) فقال انه مقدور إذ يكفي في القدرة على الشيء القدرة على بعض أفراده . وهذا من الأشياء الظريفة التي التفت إليها المحقق الكركي(قده).

 فإذا قلنا أن الجامع مقدور ما دام بعض أفراده مقدوراً ففي مقامنا نقول صحيح أن الذي تحقق من المكلف هي الحركة غير الاختيارية - أي بسبب رفع الطائفين - وهي لا يتعلق بها التكليف بخصوصها لأنها ليست مقدورة ولكن المطلوب منه ليس خصوص هذه الحركة حتى يقال هي ليست مقدورة وإنما المطلوب هو الجامع بين هذه الحركة وبين تلك التي تكون اختيارية والجامع المذكور مقدور بسبب القدرة على ذلك الفرد ، فإذا أتى المكلف بالحصة غير الاختيارية كانت مصداقاً للواجب وبالتالي يلزم أن تكون مجزية ، وهذا مثال ظريف لثمرة هذا النزاع فان الطالب أو المدرس قد يتحير في ذكر مثال لهذا النزاع.

 فمثل هذا الطواف الذي يرفع فيه المكلف من الأرض يكون قد صدر منه وان كان غير مقدور ولكنه يكون مصداقاً للواجب فيجزي.

 أما على مبنى الشيخ النائيني(قده) فنقول له ان التكليف ما دام مجعولاً بداعي التحريك فيلزم أن يختص بخصوص الحصة المقدورة وهذه ليست مقدورة فلا تكون متعلقة للتكليف وبالتالي لا تكون مجزية.

والخلاصة:- ان البيان الاول يتم على مبنى الشيخ النائيني(قده) القائل باعتبار القدرة في متعلق التكليف ولا يتم على مبنى العلمين ، بل صعدنا اللهجة وقلنا حتى لو اشترطنا القدرة في متعلق التكليف فمادمنا نبني على أن الجامع بين المقدور وغيره مقدور فهو لا يتم أيضاً . وهذا مطلب ظريف ينبغي الالتفات إليه.

 وعلى مبنى السيد الخوئي(قده) هذا البيان ليس بتام لأنه لا يشترط في متعلق التكليف القدرة.

البيان الثاني:- أن يدعى أن ظاهر الطلب المُنشأ بالهيئة كما في هيأة ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) هو أن المطلوب هو المادة المنتسبة إلى المكلف ، وأقصد من المادة هي ( الطواف ) فالمطلوب هو الطواف الذي ينتسب إلى الشخص ، وإنما ينتسب إليه فيما إذا فرض أنه سار بخطوات اختيارية أما إذا رفع أثناء الزحام فلا ينتسب إليه ، أي لا يقال ( هو طاف ) أو ( تطوَّف ) إنما يقال ( طيف به ) إن صح التعبير ، وعلى هذا الأساس يكون ظاهر الطلب المُنشأ بالهيئة هو خصوص الحصة الاختيارية .

 وهذا مطلب سيَّال يمكن أن يذكر في سائر الموارد أيضاً ، فحينما يقال ( يلزم على الولد الأكبر القضاء عن والده ) فظاهره أن المطلوب هو القضاء المنتسب إليه ولا يكفي القضاء من شخص آخر ، وهكذا في باب الكفارة فان من أفطر في شهر رمضان عليه أن يكفر فلو تبرع الولد عن أمه مثلاً فلا يجزي ذلك فان التكفير لا ينتسب إلى الأم ولا يقال ( هي قد كفرت ) .

 أجل إذا فرض أنها طلبت من ولدها ذلك فنفس الطلب وقبول الولد يمكن أن يصحح النسبة عرفاً فينتسب إليها التكفير ، وعلى هذا الأساس يلزم في مثل الزوجة أو الأم أو ما شاكل ذلك أن يطلبوا من غيرهم ذلك ، أما من دون طلبه فلا يكفي ما يصدر من الآخر لأن المطلوب هو الحصة المنتسبة إلى الفاعل بحيث يقال ( انه كفر ) وذلك لا يصدق من دون طلب مسبق.

 وعلى أي حال انه في مقامنا لا يكفي مثل هذا الطواف الذي يرفع فيه المكلف عن الأرض لأنه لا ينتسب إلى الفاعل فانه لا يقال انه قد طاف أو تطوَّف.

 إذن اتضح أن القصد بمعنى الاحتيار في الطواف هو شيء مطلوب لكن لهذا البيان لا للبيان الاول أي أن المطلوب هو الحصة المنتسبة إلى الفاعل ولا يتحقق الانتساب إلا إذا كانت الخطوات خطوات اختيارية.

الاحتمال الثالث:- أن يكون المقصود منها قصد القربة ، وهذا هو لعله عبارة السيد الماتن(قده).

 وهذا شيء صحيح فان الطواف يعتبر فيه قصد القربة ، ولكن لماذا ؟

قد يعلل ذلك:- بأنه أمر عبادي فيلزم فيه قصد القربة باعتبار كونه أمراً عبادياً.

وجوابه واضح:- فان هذا تعليل للشيء بنفسه ، إذ كونه أمراً عبادياً هو أول الكلام فان العبادية تعني اعتبار قصد القربة ، فحينما تعلل بالعبادية فذلك يعني أنك عللت باعتبار قصد القربة ، فتكون قد عللت اعتبار قصد القربة بنفس قصد القربة وليس بشيء آخر.

فالأنسب التعليل بشيء آخر وذلك بأن يقال:- ان المرتكز في أذهان المسلمين - بلا فرق بين العالم والجاهل والرجل والمرأة والصغير والكبير - اعتبار قصد القربة في الطواف ، وهذا الارتكاز لا يحتمل نشوؤه من مدارك لفظية ، فلو كانت هناك مدارك لفظية - كما سوف نبين - فهي أضعف دلالة من الارتكاز فلا يحتمل استناد ارتكاز الذي هو ثابت بدرجة قوية إليها فان القوي لا يحتمل نشوؤه من الضعيف ، كما لا يحتمل نشوؤه في الأذهان صدفةً فان ذلك يعني صدور المعلول بلا علة ، فلابد له من علة ولا علة له سوى التوارث يداً بيد من معدن العصمة والطهارة ، فالأصحاب في الطبقة الأولى تلقوا جواً واضحاً في اعتبار قصد القربة في الطواف ولأجل هذا لم يسألوا ولم ينقل في رواية لفظية عنهم وانتقل هذا الوضوح والارتكاز يداً بيد إلى أن وصل ألينا.

 وبهذا الطريق يمكن أن نثبت عبادية جملة من العبادات كاعتبار قصد القربة في الوضوء والصلاة والصوم وغير ذلك فإن المنشأ هو الارتكاز بالشكل الذي ذكرناه . هكذا ينبغي أن يوجه اعتبار القربة في الطواف.