16-08-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/08/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-  الواجب الثالث عشر من واجبات حج التمتع ( رمي الجمار ).
النقطة الثانية:- إن وجوب الرمي ثابت في اليومين - أعني اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر وأما الثالث عشر لمن بات فيأتي في نقطةٍ مستقلةٍ - لم يعرف فيه خلاف بين القائلين بوجوب الرمي[1]، والذي نريد أن نقوله:- هو أنّه بالنسبة الذين قالوا بالوجوب فالمعروف بينهم أنّ الوجوب ثابتٌ في يومي الحادي عشر والثاني عشر .
ولكن ما هو الدليل على أنّ الرمي واجبٌ في اليومين المذكورين ؟
والجواب:- قد يستدل على ذلك ببعض الروايات المتقدمة في النقطة الاولى.
من قبيل:- صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إرم في كلّ يومٍ عند زوال الشمس وقل كما قلت حبن رميت جمرة العقبة )، بتقريب أنها قالت:- ( إرم في كل يومٍ ) وعنوان ( كل يوم ) إنما يصدق على ما بعد يوم العيد ولا يدخل في ذلك يوم العيد بقرينة أنّه قال:- ( وقل كما قلت حين رميت جمرة العقبة ) ورمي جمرة العقبة وحدها يكون في اليوم العاشر فلابد وأن يكون المقصود هنا من قوله:- ( إرمِ في كلّ يوم ) يعني ما بعد اليوم العاشر، والقدر المتيقن من صدق عنوان ( كلّ يوم ) هو صدقه على يوم الحادي عشر والثاني عشر إن لم نُضِف له اليوم الثالث عشر لمن بات أو لم يتّق النساء، فعلى هذا الأساس تكون دلالة الرواية واضحة من هذه الناحية وأنّ الرمي لا يختصّ باليوم الحادي عشر بل هو ثابتٌ في اليوم الثاني عشر أيضا، وهو مطلوبنا.
ولكن قد تقدّم الاشكال في دلالة هذه الرواية على أصل الوجوب:- حيث قلنا إنّ تقييد الرمي بعندّيّة الزوال - أي ( إرمِ عند الزوال ) - يحتمل أنه نظير قوله:- ( توضأ بالماء الطاهر ) فإنه لا يدلّ على أنّ أصل الوضوء واجبٌ وإنما يدلّ على أنّ الوضوء لو أردته فلابد وأن يكون بالماء الطاهر، يعني أنّ الوجوب المستفاد هو وجوبٌ شرطيٌّ وليس وجوباً تكليفياً فتعود  الرواية بذلك مجملة.
ومن هذا القبيل صحيحة معاوية بن عمّار:- ( قلت:- رجل نسي الجِمار حتى أتى مكة، قال:- يرجع فريميها يفصل بين كلّ رميتين بساعة، قلت:- فاته ذلك وخرج ؟ قال:- ليس عليه شيء )[2]، ونظيرها صحيحته الأخرى[3]، بتقريب:- أنّ المفروض فيها أنّ الرجل نسي رمي الجمار لا أنه نسي رمي الجمرة - أي جمرة العقبة - حتى تكون الرواية ناظرة إلى اليوم العاشر بل قال:- ( نسي رمي الجمار ) وهذا معناه النظر إلى ما بعد اليوم العاشر وقد حكم عليه السلام بأن يرجع ويفصل بين كلّ رميتين بساعةٍ، وما المقصود من الرميتين ؟ المقصود هو أن يكون رمي هذا اليوم الذي يكون الرمي فيه أداءً ورمي اليوم السابق الذي يكون قضاءً، وهذا إنما يتصوّر لو نسي رمي اليوم الحادي عشر والتفت في اليوم الثاني عشر حتى يصحّ أن يقال ( يفصل بين كلّ رميتين بساعة ) أي رمية اليوم الماضي ورمية هذا اليوم، وهذا معناه أنّ رمي الجمار واجبٌ في يومين على الأقل  - أعني اليوم الحادي عشر والثاني عشر - . نعم لا نستفيد منها أنّ الرمي متعدّد بعدد الجمرات الثلاث ولكن الكلام الآن ليس بصدد إثبات أنّه يجب رمي الجمار الثلاث وإنما نحن الآن بصدد أصل وجوب الرمي في اليوم الحادي عشر والثاني عشر فنحن نريد أن نثبت أنّ الواجب يعمّ هذين اليومين ولا يختصّ بأحدهما - أعني مثل اليوم الحادي عشر - أمّا مقدار الرمي وأنّه كلّ الجمار أو بعضها فهذه قضيّة ثانية . هذا مضافاً إلى أنّ كلمة ( جمار ) لعله يستفاد منها التعدّد، يعني أنّ الجمرات الثلاث يلزم رميها ولكن كما قلنا نحن الآن لسنا بصدد ذلك.
وعلى أيّ حال قد يستدلّ بهذه الرواية على كون الرمي الواجب هو في يومين ولا يختصّ بأحدهما.
ولكن تقدّمت الاشارة إلى أنّ هذه الرواية لا يستفاد منها أصل الوجوب فلعلّها من قبيل:- ( إذا نسيت القنوت قبل الركوع فأت به بعده ) بأن يقصد أنّ المحل الأصلي وإن فات ولكن لمن نسي وغفل يتوسّع المحلّ إلى ما بعد الركوع إذا أردت الاتيان به، فهو بيانٌ لتوسعة المحلّ وليس بياناً لأصل الوجوب، فكما في القنوت وغيره نقول ذلك ففي مقامنا يمكن أن يكون المورد من هذا القبيل، يعني إذا نسيت وأردت الرمي فالمجال بَعدُ مفتوحٌ فيمكن الرمي في اليوم الثاني عشر، كمن نسي غسل الجمعة في يوم الجمعة فله أن يغتسل في يوم السبت . إذن هذه الرواية لا يستفاد منها الوجوب.
وعلى هذا المنوال بقيّة الروايات فإنّا فيما سبق ناقشنا في جميع دلالة الروايات على أصل الوجوب.
إذن كيف نثبت الوجوب في اليومين بعد التسليم بأصل الوجوب بالجملة ؟
إنه يمكن أن نتمسّك ببيانين:-
البيان الأوّل:- ما تقدّمت الاشارة إليه في النقطة السابقة فإنه يمكن سحبه إلى هذه النقطة أيضا وذلك بأنه يقال:- إن المسلمين في عهد المعصومين عليهم السلام كانوا يأتون برمي الجمار في اليومين المذكورين جزماً وهذا أمرٌ مسلّم غير قابل للتشكيك، وإذا سأل سائل وقال:- من أين نعرف أنّ هذا شيء مسلّم ؟ نقول:- إن السيرة إلى يومنا هذا جارية على الاتيان بذلك بنحو الزوم، فإذا كانت هناك سيرة ثانية مغايرة لهذه السيرة فهو مضافاً إلى أنّه شيءٌ مستبعدٌ في حدّ نفسة إذ أنَّ تبدّل السِّيَر المتشرعية بما هي متشرعيّة شيءٌ مستبعدٌ في حدّ نفسه لأنها نابعة من الشرع والشرع واحدٌ فكيف تتبدلّ ؟!! نعم السِّيَر التي لم تنبع من الشرع وإنما من العادة والعرف الاجتماعي فيمكن أن يتغيّر العرف من زمانٍ إلى آخر تبعاً لبعض الأمور وأّما العادات والسِّيَر النابعة من الشرع بما هو شرع فمثل هذا بعيدٌ ولو كان هناك تبدّل لكان ذلك شيئاً مشهوراً ومنقولاً لأنه ظاهرة غريبة تستدعي الالتفات والتسجيل والنقل . وعلى أيّ حال كلنّا مسلّمون بأن المسلمون في عهد المعصوم عليه السلام كان يأتون بالرمي في اليومين بلا إشكال .
وبعد هذا نقول:- إن الاحتمالات ثلاثة، فيحتمل إنهم كانوا يأتون برمي الجمار في هذين اليومين بنيّة الوجوب - وهذا هو الذي نريد إثباته -، كما يحتمل أنهم كانوا يأتون به جمعاً بنيّة الاستحباب، ويحتمل ثالثاً أنّ بعضهم كان يأتي به بنيّة الوجوب والبعض الآخر كان يأتي به بنيّة الاستحباب، ولا شق رابع في البين، فإن كان الأوّل هو الصحيح فذاك مطلوبنا وبه يثبت ما نريد، فإذا تمكّنا من ابطال الاحتمالين الأخرين ثبت بذلك الاحتمال الأوّل الذي هو المقصود والمطلوب.
وفي هذا المجال نقول:-
أمّا الاحتمال الثاني - أعني أنّ جميع المسلمين كانوا يأتون بالرمي في اليومين بنيّة الاستحباب - فهذا معناه أنّ السيرة المتشرعيّة قد تبدّلت من الاستحباب إلى الوجوب وهذا التبدّل لابد وأنه حصل بعد عصر الغيبة والحال أن المسلمين بعد عصر الغيبة كانوا يأتون بالرمي في اليومين بنيّة الوجوب فإذا فرض أنّه كان هناك تبدّلٌ فهو مضافاً إلى أنه بعيدٌ كما قلنا في السِّيَر الناشئة من الشرع فهو ظاهرةٌ ملفتةٌ للنظر فلو كان الأمر كذلك لنقل . إذن الاحتمال باطل.
وأما الاحتمال الثالث - يعني أن بعض المسلمين في عهد المعصوم عليه كانوا يأتون بالرمي في اليومين بنيّة الوجوب والبعض الآخر كان يأتي به بنيّة الاستحباب - فهو بعيد في حدّ نفسه ايضاً باعتبار أنّه مع وجود المعصوم لا يقع الاختلاف بين أصحابنا، مضافاً إلى أنّ لازم هذا هو وقوع الاختلاف بين أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام والحال أنّ المعروف بينهم هو الوجوب . نعم في زمن الشيخ الطوسي(قده) ذكر عبارة قد توحي بالاستحباب ولكن المعروف قبل الشيخ الطوسي هو الوجوب لا أنّ هناك من يقول بالاستحباب ولو كان هناك قائلٌ بالاستحباب لنقل . إذن نفس البيان السابق مع تغيير في بعض ألفاظه يمكن سحبه إلى هذه النقطة.
البيان الثاني:- لو فرض أنّ البيان الأول كان قاصراً عن إثبات التعدّد وأن رمي الجمار يجب في اليوم الحادي عشر والثاني عشر ولا يمكن إثبات التعدّد الواجب من خلاله فيمكن أن نقول:- يمكن التوصل إلى المطلوب من خلال الروايات بعد ضمّ السيرة المتقدّمة إليها، وذلك بأن يقال:- إذا رجعنا إلى الروايات نستفيد منها أنّ رمي الجمار لا يختصّ بيومٍ واحدٍ بل هو ثابتٌ في يومين حيث قال عليه السلام في صحيحة معاوية المتقدّمة:- ( إرم في كلّ يومٍ عند زوال الشمس )، فهذه تثبت التعدّد وأنّ رمي الجمار ثابتٌ في اليومين الحادي عشر والثاني عشر ولكنها قاصرةٌ من حيث إفادة الوجوب، فهي تثبت تعدّد ظرف الرمي وأمّا كون ذلك الرمي واجباً فهي قاصرةٌ عن إثباته فنتمسّك لإثبات أصل الوجوب بالسيرة المتقدّمة فقول إنّ السيرة المتقدّمة في عهد المعصوم عليه السلام كانت جارية على وجوب رمي الجمار فيما بعد اليوم العاشر، فأصل الوجوب مسلّم من خلال السيرة بالبيان المتقدّم ولكن بعدما افترضنا أنّ السيرة قاصرة عن إثبات تعدّد ظرف الواجب فظرف الواجب يمكن استفادته وأنه متعدّد من الروايات، فهذه الرواية حينما قالت:- ( إرم في كلّ يومٍ عند زوال الشمس ) استفدنا منها أنّ الرمي المطلوب لا يختصّ باليوم الحادي عشر بل يعمّ الثاني عشر ايضاً أمّا أنّ ( إرم ) يراد منها الوجوب التكليفي فالمفروض أنّها حياديّة ولا تدلّ على ذلك فنستعين لإثبات الوجوب التكليفي من خلال تلك السيرة المسلّمة على أصل الوجب فيكون مفاد ( إرم ) هو الوجوب التكليفي بقرينة تلك السيرة المتقدّمة وأما تعدّد ظرف الواجب - بعدما سلّمناه بقرية تلك السيرة - نستفيده آنذاك من فقرة ( في كلّ يومٍ )، فجزءٌ من المطلوب نؤمّنه بالسيرة والجزء الثاني نؤمّنه من خلال الروايات المذكورة وبهذا نتوصّل إلى المطلوب أيضاً.



[1]  وإنما عبّرتُ بذلك احترازاً عن مثل الشيخ الطوسي وغيره الذي نسب إليهم أنّ أصل الرمي مسنونٌ.