18-07-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/07/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:-مسألة ( 428 ) / الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
وقد يقال:- إنها تدلّ على لزوم الاشتغال بالعبادة تمام الليلة ولا يكتفى بأحد النصفين باعتبار أنه عليه السلام قال:- ( فلا تبت إلا بمنى )، وحيث إنّ المبيت عرفاً عبارة عن اللبث كامل الليل فيكون المبيت المأمور به هو ذلك . ثم ذكر عليه السلام البدل فقال:- ( إلّا أن يكون شغلك نسك )، إنَّ هذا بديلٌ عن المبيت الواجب وحيث أنَّ المبيت الواجب هو مجموع الليل فالبدل يلزم أن يكون تمام الليل أيضاً . هكذا قد تقرّب دلالة الرواية على لزوم الاشتغال بالعبادة كامل الليل ولا يكفي أحد نصفيه.
ولكن يرد عليه:- إنَّ هذا الأصل الموضوعي لهذا التقريب لو تمّ - وهو أنّ المبيت عرفاً أو لغة عبارة عن البقاء ليلاً في المكان من أوّله حتى طلوع الفجر - ولكن هنا لا يقصد من المبيت ذلك وإنما يقصد منه البقاء في أحد النصفين وذلك بقرينة الفقرة الأخرى حيث قال عليه السلام بعد ذلك:- ( وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى ) . إذن بقاء النصف الأوّل يكفي في تحقّق المبيت الواجب ومعه تعود الرواية مجملةً، ولا نريد أن ندّعي أنها ظاهرة - إذ أنّ تصعيد اللهجة لا داعي إليه - في أن البدل هو الاشتغال في العبادة في أحد النصفين بل الرواية ليست واضحة في أحد الأمرين فإن هذا الاحتمال الثاني وجيه، فكلا الاحتمالين وجيه فتعود الرواية آنذاك مجملة ومعه نرجع إلى الأصل الذي أسسناه فيما سبق.
الرواية الثانية:- صحيحته الثانية عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( لا تبت ليالي التشريق إلّا بمنى فإن بتَّ في غيرها فعليك دمٌ فإن خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلّا أن يكون شغلك نسكك ) ،إنَّ هذه الرواية كسابقتها فإنها دلّت على أنه يكفي النصف الثاني من الليل فمن لم يبت في منى النصف الأوّل فعليه أن يبيت النصف الثاني ثم قالت:- ( إلا أن يكون شغلك نسكك ) يعني من المحتمل أن يكون المقصود هو في النصف الثاني، إنَّ هذا محتملٌ وذاك محتملٌ أيضاً - يعني أنَّ المقصود هو من أوّل الليل إذا كان شغله ذلك - فكلا الاحتمالين وجيهان ولا يمكن أن نستظهر منها أنَّ الشغل لابدّ وأن يكون من أوّل الليل إلى الفجر.
الرواية الثالثة:- وهي أيضاً لمعاوية:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال:- ليس عليه شيءٌ كان في طاعة الله عز وجل )، إنَّ هذه الرواية قد يتمسّك بها فإنه قد فرض أنَّ الاشتغال بالعبادة كان ممتدّاً من أوّل الليل إلى طلوع الفجر والإمام عليه السلام اكتفى به فيدّل على أنّه يلزم الاشتغال كامل الليل.
وجوابه واضح:-
أوّلاً :- هذا قد ورد في كلام السائل ولم يرد في كلام الإمام عيه السلام، فالسائل قد افترض أنَّ المكلف مشغولٌ من أوّل الليل حتى الفجر والإمام قال ( يكفي ) وهذا يكفي بلا إشكال ولكن هذا لا يدلّ على أنّه لو كان يشتغل بمقدار النصف فلا يكفي . إذن هذا الكلام حيث إنّه ورد في كلام السائل فلا دلالة له على المفهوم كما هو واضح.
ثانياً:- إنه حتى في كلام السائل لا دلالة له على أنّ الشروع في العبادة كان من أوّل الليل وإنما قال:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه ... حتى طلع الفجر ) وهذا كما يلتئم مع الاشتغال من بداية الليل يلتئم مع من زار البيت بعد دخول الليل بساعة مثلاً وبقي مستمرّاً حتى طلع الفجر والإمام عليه السلام لم يستفصل وعدم استفصاله قد نستفيد منه أنّه لا يلزم أن يكون ذلك بتمام الليل وفي تمام الليل.
الرواية الرابعة:- وهي لصفوان قال:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجلٍ بات ليالي منى بمكة فقلت لا أدري، فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال عليه السلام:- عليه دم شاة إذا بات، فقلت:- إن كان إنّما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنومٍ ولا لذةٍ أعليه مثل ما على هذا ؟ قال:- ما هذا بمنزلة هذا وما أحبّ أن ينشقّ له الفجر إلّا وهو بمنى ) ، وهذه كسابقتها لا تدلّ على أنّ الاشتغال كان من أوّل الليل حتى طلوع الفجر فإنّه لم يفرض فيها ذلك، وعلى تقدير التسليم فهذا مفروضٌ في كلام السائل دون كلام الإمام فلا ينعقد مفهومٌ، بل يمكن أن نترقى ونقول:- إنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ الاشتغال بالعبادة لا يلزم تمام الليل لوجود قرينةٍ وهي ذيل الرواية حيث جاء فيها:- ( وما أحبّ أن ينشقّ له الفجر إلّا وهو بمنى ) فهذه واضحة في أنّه لا يلزم الانشغال بالعبادة تمام الليل.
وعلى هذا الأساس يكون الفتوى بلزوم الاشتغال بالعبادة تمام الليل ولا يكفي أحد النصفين أمرٌ مشكلٌ وإن كان الأحوط ذلك تحفظاً من مخالفة ما هو المعروف.
الأمر الخامس:- نحن فيما سبق ذكرنا أنه يلزم الاشتغال بالعبادة تمام الفترة سواء كانت الفترة هي تمام الليل أو كانت أحد النصفين إنه يلزم في تمامها أن يشتغل بالعبادة ويستثنى من ذلك الامور الضرورية وذكرنا توجيه استثناء الأمور الضرورية بتخريجاتٍ ثلاثة، والآن نقول:- إنَّ ما ذكرناه فيما سبق كان كلاماً مؤقتاً يعني من باب التجاري والتماشي مع المبنى المعروف من أنَّ الاشتغال بالعبادة يلزم في تمام الفترة فإنه بناءً على هذا نستثني الأمور الضروريّة، ولكن الآن نريد أن نعمّق البحث ونسأل ونقول:- هل الاشتغال طيلة الفترة بالعبادة - أعمّ من كونه بتمام الليل أو أحد النصفين - شيء لازم أو أنه يكفي الاشتغال بالنسك في بعضها ولا يلزم في البعض الآخر الانشغال بالعبادة ؟
يظهر من صاحب الجواهر(قده)[1] التوقّف في وجوب استيعاب الفترة بالعبادة.
والمناسب الرجوع إلى الروايات لنلاحظ ماذا تقتضي، والمقصود من الروايات هي الروايات الأربع المتقدّمة وهل تدلّ على أنه يلزم طيلة الفترة أو لا ؟
أما بالنسبة إلى الرواية الأوّلى فقال:- ( فلا تبت بمنى إلا أن يكون شغلك في نسكك )، والنسك كما نعرف عبارة عن الطوافين مع السعي وهو لا يحتاج إلى كامل هذه الفترة فما المانع من أنّ نقول إنّ الاشتغال بالنسك في مكة ولو بهذا المقدار هو يقوم مقام المبيت في منى ؟!! والرواية لا يظهر منها شيء بل هي مجملة من هذه الناحية - ويكفيني الاجمال - ومادامت مجملة فنرجع إلى الأصل الذي اسسناه سابقاً وهو البراءة.
إذن من هذه الرواية لا يظهر أنّ الاشتغال طيلة الفترة بالعبادة شيءٌ لازم.
وأمّا لرواية الثانية:- فأمرها كذلك حيث جاء فيها:- ( لا تبت ليالي التشريق إلّا بمنى فإن بتَّ في غيرها فعليك دمٌ، فإن خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلّا وأنت في منى إلّا أن يكون شغلك نسكك ) فإنها لا تدلّ على أنّه يلزم أن يكون شغلك في تمام الفترة هو النسك . بل يكفينا ما أشرنا إليه من أن النسك لا يستدعي هذه الفترة الطويلة فهذا قرينة على أنَّ الاشتغال في بعض الفترة يكفي.
وعلى هذا المنوال الصحيحة الثالثة التي تقول:- ( سألت أبا عبد الله عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي الدعاء حتى طلع الفجر، فقالك- ليس عليه شيء كان في طاعة الله عز وجل ) ، فلعله يتمسّك بعبارة ( حتى طلع الفجر ).
والجواب واضح:- فإن هذا مفروضٌ في كلام السائل لا أنَّ الإمام ذكره حتى نستفيد منه المفهوم.
وعلى منوال ذلك نقول في صحيحة صفوان.
إذن الفتوى بلزوم الاشتغال بالعبادة طيلة الفترة - أعمّ من كونها تمام الليل أو نصفة - أمرٌ مشكل وأن الاحتياط هو المناسب تحفّظاً من مخالفة ما هو المعروف.
الأمر السادس:- هناك عبارة للشهيدين(قده) ذكرها الشهيد الأوّل في الدروس[2] كما ذكر نفس المضمون في المسالك[3]، وقد ذكرا في هذه العبارة أنَّ من أكمل الطواف والسعي قبل الفجر وجب عليه إكمال الليلة بما شاء من العبادة، وعلّق صاحب المدارك(قده) على هذه العبارة بقوله:- ( الأخبار لا تعطي ذلك )[4].
وسؤالنا:- ماذا يقصد الشهيدان وماذا يقصد صاحب المدارك ؟
والجواب:- إن في ذلك احتمالات ثلاثة:-
الاحتمال الأوّل:- أن يكون المقصود هو أنَّ إكمال بقيّة الليلة لا يلزم أن يكون بخصوص الطواف أو السعي بل يكفي بما شاء من العبادة كقراءة القرآن وحينما قال صاحب المدارك:- ( الأخبار لا تعطي ذلك ) يعني لا تعطي الاكتفاء بمطلق العبادة بل خصوص النسك الذي هو خاصٌّ بالطواف والسعي، فالشهيدان عمّما العبادة للنسك ولغيره ولم يخصّصاها بخصوص النسك بينما صاحب المدارك يقول إنَّ الأخبار لا تعطي ذلك بل يعني أنّه لا يكفي مطلق العبادة بل يلزم خصوص النسك الذي هو عبارة عن الطواف والسعي.
وهذا الاحتمال هو الذي فهمه صاحب الحدائق(قده) حيث قال ما نصّه:- ( واعترضهما في المدارك بأن الأخبار لا تعطي ذلك وهو كذلك فإن الظاهر منها إنّما هو الاشتغال بمناسكه الموظّفة لا ما شاء من العبادات ) [5]، وإذا كان هذا هو المقصود فالحقّ مع الشهيدين فإن صحيحة معاوية الثالثة قد ورد فيها ما يدلّ على ذلك حيث جاء فيها:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال:- ليس عليه شيءٌ كان في طاعة الله عز وجل )، وهذا التوقف من المدارك والحدائق شيءٌ غريب.


[2]  الدروس، الشهيد الأوّل، ص134.
[3]  مسالك الافهام، الشهيد الثاني، ج1، ص125.
[5]  الحدائق الناظرة، البحراني، ج17، ص300.