1440/05/27


تحمیل

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/05/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب الإعتكاف، شروطه

 

كان الكلام في المكان الذي يصح فيه الاعتكاف، وقلنا ان هناك قولين رئيسيين في المسألة وذكرنا دليل كل منهما، الا اننا نضيف رواية اخرى وهي ما ينقلها الشيخ صاحب الوسائل عن الحسن بن المطهر العلامة في (المنتهى) نقلاً من جامع البزنطي (أحمد بن محمد بن أبي نصر)، عن داود بن الحصين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا اعتكاف إلا بصوم، وفي المصر الذي أنت فيه)[1]

وقد نقل المحقق في المعتبر هذه الرواية عن جامع البزنطي ايضاً باختلاف، إذ قال: وقد روى أحمد بن أبي بصير[2] في جامعه عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا اعتكاف إلا بصوم وفي مسجد المصر الذي أنت فيه)[3]

هذه الرواية بناءاً على نقل المحقق لها يمكن جعلها من ادلة القول الثاني، اذ المراد من مسجد المصر مسجد الجامع في مقابل مسجد القبيلة او مسجد السوق، أما بناءاً على نقل العلامة لها فقد لا تكون لها دلالة على محل الكلام، لانها قد تكون اشارة الى ان الاعتكاف يشترط فيه الصوم، والصوم لا يجوز في السفر، فلابد ان يكون الاعتكاف في المصر الذي يكون فيه المكلف.

 

استدل على القول الأول -مضافاً الى مرسلة المفيد وصحيحة عمر بن يزيد المتقدمتين- أولاً بالاجماع، فقد ادعى جماعة الاجماع على ذلك منهم الشيخ في الخلاف والتبيان، والسيد ابن زهرة في الغنية، والسيد المرتضى في الانتصار، وفي مجمع البيان هناك دعوى تشبه دعوى الإجماع على القول الأول. وثانياً بأن الاعتكاف عبادة توقيفية كسائر العبادات الشرعية، فلابد ان يقتصر فيه على موضع الوفاق، وموضع الوفاق هو ما يقتضيه القول الأول.

 

مناقشة ادلة القول الأول

بالنسبة الى الإجماع فانه من الصعوبة الإلتزام بتحقق صغراه، باعتبار ان هناك مخالفة من قبل المتقدمين والمتأخرين، خصوصاً ان المحقق في المعتبر -كما نقلنا عنه في الدرس السابق- قال -في مقام مناقشة ادعاء الإجماع على القول الأول-: كيف يدعى الإجماع والحال ان اعيان فضلاء الأصحاب ذهبوا الى ما يخالفه؛ فلابد من ان يكون هناك جماعة يعتنى بهم من الأصحاب كان المحقق ناظراً لهم في عبارته، وهذا يقدح في تحقق صغرى الإجماع.

اما مسألة توقيفية العبادة فهي تامة لكن فيما اذا لم يكن هناك دليل على التعميم، وقد تقدمت الادلة الكثيرة المستفيضة المعتبرة على التعميم فلا مجال لهذا الوجه.

اما مرسلة المفيد فهي وان كانت دالة على القول الأول لكنها ضعيفة سنداً، ونفس الشيخ المفيد لم يعمل بها، لأنه من القائلين بالقول الثاني.

والمهم من أدلة القول الأول هو صحيحة عمر بن يزيد التي ورد فيها قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة قد صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة.

هذا بحسب نقل الشيخ الكليني في الكافي، وبحسب نقل الشيخ الصدوق ورد فيها (قد صلى فيه امام عدل جماعة)

والكلام فيها يدور حول المراد من قوله (عليه السلام) (إمام عدل)، فان اصحاب القول الاول فسروه بالإمام المعصوم، لكن اصحاب القول الثاني فسروه بمعنى يشمل المعصوم وغيره، فلابد من ملاحظة ان هذا التعبير هل هو من باب التوصيف -أي الإضافة التي تكون بمعنى التوصيف- او من باب الإضافة، والمعنى على التوصيف انه امام موصوف بانه عدل فيكون كشاهد عدل أي شاهد عادل فيعم غير المعصوم، وقد اصر صاحب المدارك على هذا المعنى وغيره ذكر ذلك ايضاً، والمعنى على الإضافة انه امام العدل من قبيل امام الحق وامام الجور وامام الضلال بمعنى انه امام للعدل وللجور وللضلال فيختص بالمعصوم.

الذي يلاحظ على التفسير الثاني أن الرواية لم يرد فيها تعبير (إمام العدل) وإنما الوارد فيها (إمام عدل) بدون الألف واللام، والحال أن المناسب لما ذكروه أن يقال (إمام العدل)، فهذا يقرب أن المراد بها هو التوصيف فلا يختص بالمعصوم.

ويرد عليه (التفسير الثاني) من جهة أخرى أن التعيير الوارد في الرواية (صلى فيه إمام عدل جماعة) أو (صلاة جماعة) إن لم يكن ظاهراً في أنه صلى فيه إمام جماعة عادل، فلا أقل من الإجمال، إذ من المحتمل أن يكون المقصود منه هو إمام الجماعة، فيشير التعبير إلى أن المعتبر في الإعتكاف أمران: الأول: أن يكون مسجد جماعة -وسيأتي تفسير ما هو المقصود منه-. الثاني: أن يكون قد صلى فيه إنسان عادل في مقابل مساجد بغداد التي يصلى فيها إمام غير عادل.

فيتعذر الإستدلال بهذه الرواية على ما ذكروه في القول الأول.

 

ثم إن النسخ في نقل الرواية مختلفة، فالموجود في الفقيه عبارة (لا يعتكف)، وفي الكافي عبارة (لا إعتكاف). بعض الفقهاء قال: أن التعبيرين يختلفان، فعبارة (لا إعتكاف) ظاهرة في نفي الحقيقة، فتكون الرواية صريحة في نفي المشروعية والجواز. أما تعبير (لا يعتكف) ليس صريحاً في نفي المشروعية والجواز، فيمكن حملها على الكراهة أو نفي الإستحباب. أما الشيخ الطوسي فنقل الرواية بنقلين، تارة عن الكافي وأخرى بسند خاص به، وفي كلا النقلين يوجد تعبير (لا إعتكاف).

والحاصل أن الظاهر من هذه الرواية شمولها لغير المعصوم وبالتالي تسقط عن قابلية الإستدلال بها على القول الأول، فيتعين الإلتزام بمضمون الروايات المتقدمة وهي روايات مستفيضة فيها صحيحة السند، وتدل على عدم الإختصاص بأن يكون المسجد من المساجد التي صلى فيها المعصوم.

 

ثم لو فرضنا تمامية دلالة صحيحة عمر بن يزيد فتكون في مقابل الروايات الدالة على القول الثاني ويحصل التعارض فيما بينها. قد يقال أنه لابد من الإلتزام بالتخصيص الذي ينتج القول الأول، وذلك لأن الصحيحة كأنها تقول لابد من أن يكون الإعتكاف في المساجد الأربعة أو مسجد صلى فيه المعصوم، أما روايات القول الثاني تقول أن المعتبر في المسجد الذي يصح فيه الإعتكاف أن يكون مسجداً جامعاً سواءاً أصلى فيه المعصوم أم لا، والنسبة بين الدليلن هي العموم والخصوص المطلق، فقد يقال أننا نلتزم بمقتضى الصناعة في مثل هذه الموارد وهو الإلتزام بالتخصيص، وعليه يلزم من هذا الجمع حمل روايات القول الثاني الكثيرة الواردة بعنوان عام وهو المسجد الجامع على خصوص المساجد الأربعة.

وفيه: أولاً أن هذا الجمع يلزم منه تخصيص الأكثر وحمل المطلق على الفرد النادر. وثانياً أن بعض روايات القول الثاني تأبى عن هذا الحمل، لأنها تصرح ببعض المساجد الأربعة كالمسجد الحرام ومسجد المدينة ثم تضيف إلى ذلك المسجد الجامع[4] ، ويظهر من هذا العطف أن المراد بالمسجد الجامع غير هذه المساجد، فحينئذ يكون حمل المسجد الجامع في بعض تلك الروايات على المساجد الأربعة خلاف الظاهر جداً. فهذا الجمع وإن كانت الصناعة تقتضيه لكن هذه المحاذير تجعل هذا الجمع جمعاً غير عرفي، فلا يمكن الإلتزام به، وإذا لم يمكن الجمع بالتخصيص فيقع التعارض بينهما.

قد يقال ثانياً بترجيح أدلة القول الأول لأنها مخالفة للعامة بخلاف أدلة القول الثاني فإنها موافقة لهم، بإعتبار أن العامة يرون عدم الإختصاص. وقد أجيب عنه بأن هذا صحيح لو كانت أدلة القول الأول تخالف جميع العامة أو معظمهم أو أصحاب الرأي في حين صدور هذه الروايات، وهذا غير ثابت، وقد صرح بعض المحققين -والعهدة عليه- أن ذهاب معظم العامة إلى التعميم غير ثابت.

على كل حال سواءاً أثبت ذهاب المعظم إلى التعميم أم لا، الذي يمكن أن يقال أن الترجيح يكون لأدلة القول الثاني، لأنها موافقة لإطلاق الكتاب بناءاً على أن الآيات ناظرة إلى الإعتكاف الشرعي، فإن آية (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) -التي لعلها هي الوحيدة الدالة على الإعتكاف الشرعي- مطلقة ولم تقيد المساجد بمسجد خاص. وموافقة الكتاب من المرجحات المنصوصة، بل هي تكون متقدمة على المرجحات الأخرى، وهذا يعني حتى لو ثبت أن أدلة القول الأول مخالفة لمعظم العامة فالترجيح يكون مع أدلة القول الثاني لأنها موافقة لظاهر الكتاب، وموافقة الكتاب مقدمة على مخالفة العامة. ولو تنزلنا ووصلت النوبة إلى الأصول العملية فالأصل الجاري هو أصالة عدم إشتراط ما زاد على المقدار المتيقن، أي ما زاد على ما ثبت إشتراطه، وما ثبت إشتراطه هو المسجد -إذ قلنا في بداية البحث أنه لا إشكال في أن الإعتكاف لابد أن يكون في المسجد، وإنما الخلاف كان في وجود شرط أزيد من ذلك-، فالأصل عدم هذا الشرط الزائد، فيقتصر على ما ثبت إشتراطه في الإعتكاف وهو المسجد، ومع التنزل نقول هو مسجد الجامع أو مسجد الجماعة.

 

والحمد لله رب العالمين


[1] وسائل الشيعة ج١٠، ص٥٤١، كتاب الإعتكاف، ب٣، ح١١، ط آل البيت.
[2] الظاهر ان المراد احمد بن ابي نصر.
[3] المعتبر ج٢ ص٧٣٣.
[4] كالحديث الخامس والسابع والعاشر من هذا الباب.