1440/04/16


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

40/04/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- شرطية العقل - شروط المتعاقدين - مسألة ( 58 ).

الكلام يقع في الشرط الثاني:- قال(قده):-

( الثاني:- العقل فلا يصح عقد المجنون وإن كان قاصداً إنشاء البيع ).

..........................................................................................................

في هذا المتن ذكر أن عقد المجنون باطل ولا كلام فيه تقريباً ، ولكن أضاف إضافة ويه أنه قال ( وإن كان قاصداً إنشاء البيع ) ، فهذه الاضافة هي أنسب بالكتب العلمية الاستدلالية منها بكتب الفتوى ، إذ من أين نعرف أن المجنون قد قصد ؟!! إلا اللهم إذا فرضنا أنه عقل بعد ذلك والتفت إلى نفسه وأراد أن يرتّب الأثر ، ولكن هذه قضية ليست عمليّة ، ولذلك قلنا هذا البحث أولى بالكتب العلمية منه بالرسالة العملية.

وتوجد قضية جانبية أخرى:- وهي أنَّ غير واحد من الأعلام لم يتعرضوا إلى هذا الشرط بعنوان شرط ثانٍ وكلام وبحث فيه ومنهم الشيخ الأعظم(قده) في المكاسب ، فإنه ذكر شرطية البلوغ ولكنه لم يعنون عنوان ثانٍ بعنوان ( الشرط الثاني هو العقل ) نعم يظهر من كلامه حينما يستدل بالروايات التي تذكر شرطية البلوغ بعضها تذكر العقل فمن كلامه واضح ، ولن أقول هو لم يعقد بحثاً وشرطاً بعنوان الشرط الثاني وهو العقل ، بل لم يذكر ذلك غير واحد من الفقهاء حتى مثل صاحب الحدائق(قده) الذي من عادته التعرض للفروع أيضا ، نعم تعرّض صاحب الجواهر(قده) إلى ذلك وذكر ما حاصله أنَّ عقد المجنون باطل حتى إذا فرض أنه تحقق منه القصد فإنَّ بعض أفراد الجنون قد تجتمع مع القصد بيد أنَّ قصده كلا قصد وكقصد النائم وقد رفع عنه القلم ، قال(قده):- ( لا أجد فيه خلافاً ، بل الاجماع بقسميه عليه بل الضرورة من المذهب بل الدين لا لعدم القصد فإنه قد يفرض في بعض أفراد الجنون بل لعدم اعتبار قصده وكون لفظه كلفظ النائم بل أصوات البهائم وهو المراد من رفع القلم عنه وعن الصبي في الخبر )[1] .

وما ذكره هو أقرب منه إلى الخطابة بالدليل العلمي ، لأنه يقول إنَّ قصده كلا قصد ، وهذا هو عين المتنازع فيه ، فإنه إذا كان عنده قصد فلماذا هو كلا قصد أو كقصد النائم ؟ ، فهو لم يأتٍ بكلام علمي ، وهذا غريب.

والمناسب أن يقال:- إنَّ مقتضى الاطلاقات الأولية مثل ﴿ أحل الله البيع ﴾ الصحة فيما إذا فرض تحقق القصد ، وهكذا يشمله ﴿ أوفوا بالعقود ﴾.

ولكن قد يستدل على عدم صحته ببعض الوجوه رغم تحقق القصد:-

الدليل الأول:- الاجماع ، حيث انعقد على نطلان عقد المجنون ولا ينبغي التشكيك في ذلك ، فإذاً الاجماع بمعنى عدم المخالفة لا إشكال فيه.

إلا أنه كما تراه ، فهو محتمل المدرك ، فالمناسب مراجعة المدرك وهو مثل حديث رفع القلم وما شاكل ذلك.مضافاً إلى أنه يمكن أن يقال:- إنَّ المجنون منصرف إلى الحالة العادية ، والقدر المتيقن هو الحالة العادية التي ليس فيها قصد ، فعلى هذا الأساس لا نتمكن أن نقول إنَّ هذا الاجماع فيه اطلاق يشمل حتى المجنون الذي له قصد ، فيؤخذ بالقدر المتيقن.

الدليل الثاني:- حديث رفع القلم الذي رواه ابن ظبيان وقد وردت فيه هذه العبارة ( أما علت أن القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ )[2] ، وقد تقدم منّا في شرطية البلوغ أنه يمكن أن يقال إنَّ هذا الحديث من الأحاديث المعروفة ، وبذلك يحصل الوثوق بصدوره كما ادّعى الشيخ المفيد(قده) في الارشاد فمن حيث السند نغض النظر.

ولكن يمكن أن يناقش ويقال:-أوّلاً:- قد تقدم أنَّ حديث رفع القلم هو امتناني ، وعلى هذا الأساس هو يرفع ما فيه منّة ، والذي فيه منّة هو رفع قلم المؤاخذة ، أما إبطال بيعه مع فرض وجود القصد له فهذا قد يشكل على أنه امتناني ، بل هو عكس المنَّة ، فمن هذه الناحية يشكل التمسّك به وإن تمسّك به الشيخ الأعظم(قده) فيما سبق.

ثانياً:- لا يبعد أن يكون المقصود من المجنون هو المجنون المتعارف ، والحالة المتعارفة عن المجنون الذي يقول عنه الحديث ( رفع القلم عن المجنون حتى يفيق ) هو الذي لا قصد له ، وهذا نقوله إما بالانصراف ، وإذا أشكل شخص على الانصراف وقال: إنَّ هذا الانصراف ليس ناشئاً من حاق اللفظ ، فنقول: إنه يشترط في صحة الاطلاق استهجان عدم ذلك القيد لو كان المراد واقعاً هو المقيد ، وهنا لو كان المراد واقعاً حالة المقيّد - يعني المجنون الذي لا قصد له - لا يستهجن ذلك ، لأنَّ الحالة المتعارفة هي هذه ، فعدم التقييد يكون اتكالاً على الحالة المتعارفة ، يعني بمعنى أنَّ العرف لا يرى حاجةً إلى ذكر القيد بعدما كان ذلك حالة متعارفة ، فإذاً لا يمكن التمسّك بهذا الحديث من ناحيتين.

الدليل الثالث:- رواية الخادم المتقدمة ، فإنه ورد فيها:- ( إذا بلغ وكتب ليه الشيء جاز عليه أمره إلا أن يكون سفيها او ضعيفاً )[3] ، والمقصود من السفيه غير الرشيد ، والضعيف إذا فسّرناه بالمجنون فحينئذٍ تكون الرواية دالة على أنه لا يجوز أمره.

ولكن يأتي ما أشرنا إليه في حديث رفع القلم:- من أنه بعدما كانت الحالة المتعارفة في المجنون - المعبّر عنه بالضعيف - هي حالة عدم وجود القصد فعلى هذا الأساس يمكن أن نفترض أنه أطلق الحديث ولم يقيّد بما إذا لم يكن قاصداً - والحال أن المقصود هو إذا لم يكن قاصداً - باعتبار أنَّ ذلك هو الحالة المتعارفة ، وقد ذكرنا أنَّ من أحد مقدمات الحكمة استهجان الاطلاق إذا كان المراد هو المقيد واقعاً ، وقد قلنا إنَّ هذا الشرط الذي ذكرناه هو من قبيل قضايا قياساتها معها ، ولا تقل ما هو الدليل على ذلك ، فنحن نقول أنت تقول ( لا يستهجن إذا لم يقيد ) فأنت إذا فترضت عدم الاستهجان فكيف إذاً تتمسّك بالاطلاق ؟!! ، فلعل مراده هو المقيد - يعني المجنون الذي لا قصد له - وإنما هو لم يقيد لأنه ليس بمستهجن وأنت تقول هو ليس بمستهجن ، فإذاً هذه المقدمة ينبغي أن تكون من أوضح الواضحات.

إذاً هذه ثلاثة وجوه وقد اتضح أنها محل تأمل بأجمعها.

والأنسب أن يتمسّك بوجهٍ رابع وذلك بأن يقال:- إنَّ المجنون لا رشد له ، فالبطلان حينئذٍ يصير لا من حيث أنه مجنون بل من حيث فقدان شرط الرشد حيث قالت الآية الكريمة ﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغو النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ، فالرشد من الشراط ، والمجنون حيث أنه لا رشد له فيقع عقده باطلاً من ناحية فقدان صفة الرشد.

إن قلت:- كما يمكن أن يكون المجنون قاصداً يمكن أن يكون له رشد وبالتالي يكون عقده صحيحاً.

قلت:- هذا خلف الفرض فإنه لو كان عنده قصد وكذلك كان رشيداً فهذا عاقل وليس بمجنون ، فأنت حينما تفترضه أنه مجنوناً فصحيح أنه قد يتصور في بعض الحالات أنَّ له قصد ولكن لا يمكن أن يكون رشيداً وإلا كان عاقلاً ، فعلى هذا الأساس لأجل فقدان شرط الرشد يمكن أن يقال ببطلان معاملته بعد وضوح كون الرشد من أحد شرائط صحة المعاملة.

إن قلت:- إنَّ هذا وجيه إذا أراد أن يتصرّف في أمواله ، وأما إذا أراد أن يتصرف في أموال غيره فلا دليل على اعتبار الرشد ، فإنَّ ما دل على شرطية الرشد ناظر إلى التصرف في أموال نفسه أماب النسبة إلى أموال الغير فلا إطلاق في الدليل مثل الآية الكريمة لأنها قالت ﴿ فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ ، يعني جواز دفع أموالهم موقوف على الرشد أما أموال غيرهم فحينئذٍ لا دليل على اعتبار الرشد.

ولكن يمكن أن يجاب:- بأنَّ الشرع إذا اشترط الرشد في التصرف في أموال الشخص نفسه فينبغي أن يكون ذلك شرطاً في جواز التصرف في أمواله أيضاً بعدم الفرق من هذه الناحية ، والخصوصية لأموال نفسه ليس موجودة ، فعلى هذا الأساس مادام يخاف أنه يخسر في المعاملة لأنه ليس برشيد وهذا يوجب تضرره هو رغم أنه عاقل ويريد أن يتصرّف في ماله عن رضاه وإن خسر الشارع منعه من هذه الناحية ، فإذا صدر المنع فيمكن أن يقال لا فرق بين أن يكون هذا المنع بلحاظ نفسه أو بلحاظ غيره ، فالرشد وإن كان موردها هو بالنسبة إلى أموال نفسه ولكن يمكن أن نعمّم ذلك لأموال غيره لعدم الفرق عرفاً أو لإلغاء الخصوصية عرفاً من هذه الناحية ، وإنما قيدت الآية الكريمة بذلك باعتبار أنَّ الإنسان حينما يدفع إليه شيئا فماله هو الذي يدفع إليه ، فماله يدفع إليه إذا صار رشيداً ولكن إذا فرض أن أموال الغير موجودة عنده وفرض أنه لم يكن رشيداً فحينئذٍ نفس الكلام فإنَّ هذا تصرف في اموال الغير فلا يجوز وإن رضي صاحب المال كما لو رضي نفس غير الرشيد فإنَّ رضاه لا عبرة به ، فمن هذه الناحية يمكن أن يقال الرشد معتبر.

فإذاً عقد المجنون يصير باطلاً من ناحية فقدان شرط الرشد وليس من ناحية تلك الوجوه الثلاث التي أشرنا إليها. يبقى أنَّ المجنون وإن لم يمكنه اجراء المعاملة لنفسه أو لغيره لفقدان شرط الرشد ولكن إذا أراد أن يجري الصيغة فقط مع فرض وجود القصد له ، يعني اتفق الطرفان على خصوصيات المعاملة والمجنون اتفاقاً كان له قصد فأراد أن يجري الصيغة فإجراء الصيغة هل يكون صحيحاً مع فرض قصده أو لا ؟المناسب هو الجواز ، لأنه يوجد عنده قصد ولم يثبت أنَّ من شرائط اجراء الصيغة أن يكون الانسان عاقلاً أو رشيداً بل المهم أن يكون عنده قصد حتى يصدق إنشاء العقد ، فمادام قد فرض أنه يوجد له قصد فحينئذٍ يكون إنشاؤه للعقد وجيهاً.

وبذلك نرجع إلى عبارة المتن:- فإنه ذكر هكذا ( فلا يصح عقد المجنون وإن كان قاصداً إنشاء البيع ).

ونعلق ونقول:- إذا كان المقصود أنه ينشئ المعاملة بالكامل لا الصيغة فقط وإنما ندفع إليه الأموال وهو يذهب إلى السوق ويشتري فهنا لا يصح فهذا نوافق عليه ، باعتبار فقدان شرط الرشد ، وأما إذا كان المقصود هو أنه حتى لو أنشاء الصيغة فقط فهذا لا يكفي فهذا لا نوافق عليه ، فإنه بعد فرض وجود القصد يتحقق إنشاء الصيغة ولا محذور في ذلك.


[1] جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج22، ص265.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج1، ص43، ابواب مقدمة العبادات، ب4، ح11، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، العاملي، ج18، ص412، ابواب الحجر، ب2، ح5، ط آل البيت.