39/03/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم مجهول المالك - مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

فروع قد تقدمت:-

مسألة مجهول لمالك بحثناها مرتين مرّة هنا في جوائز السلطان ومرّة قبل ذلك في أوراق اليانصيب ، وذكرنا بعض الفروع المرتبطة بهذه الفكرة ولكن بشكل مجمل، وما ذكرناه سابقاً من فروع[1] لم تتقدم سابقاً ، ولكن ما سنذكره الآن فهو قد تقدم بشكلٍ موجز لكن الآن نذكره بشيءٍ من التفصيل.

الفرع السادس:- هل يلزم التصدّق على الفقير ؟

تعرّض الشيخ الأعظم(قده) إلى ذلك وذكر أنه يجب أن يكون التصّدق للفقير ، واستدل بالتبادر وختم هذا الفرع ولم يزد عليه شيئاً ، ونصّ عبارته:- ( ثم إنَّ مستحق هذه الصدقة هو الفقير لأنه المتبادر من اطلاق الأمر بالتصدّق )[2] .

هذا ويمكن أن يقال:- إنَّ التصدّق لا يختصّ بالفقير فإنَّ بعض استعمالاته تشهد بكون المقصود منه مطلق الاحسان ، فـ ( تصدّق عليّ ) بمعنى أحسن إليٍّ لا أنه الصدّقة المعهودة التي تكون لخصوص الفقير ، كما نقرأ ذلك في قصّة يوسف عليه السلام ﴿ يا أيها العزيز قد مسّنا وأهلنا الضرّ فجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدّقين ﴾[3] فليس من البعيد أنَّ القصود من ( تصدّق علينا ) هو أنه أحسِن إلينا فإنَّ الله يجزي المحسنين.

وعلى هذا المنوال ورد في بعض الأحاديث أيضا ، كما في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنّة هدىً سنّها فهي يعمل بها بعد موته أو ولد صالح يدعو له )[4] ، فهنا المقصود من ( صدقة أجراها في حياته ) ليس هذه الصدقة جزماً وإنما الصدقة هي عمل الاحسان والذي من مصاديقه أن يوقف برّاد ماءٍ أو يوقف مكاناً للزوّار وغير ذلك ، فإذن هذه تتلاءم مع هذا .

وأيضاً ورد في حديث ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بدارٍ له في المدينة في بني زريق فكتب " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدّق به عليّ بن أبي طالب وهو حيّ سوي تصدّق بداره في بني زريق صدقة لا تباع ولا تورث " )[5] ، فصحيح أنَّ المقصود هنا هو الوقف فإنه أوقف الدار ولكن بما هو مصداق من مصاديق الاحسان.

وعلى أيّ حال إن الصدقة والتصدّق يأتي بمعنى الاحسان ، وإذا كان بمعنى الاحسان فلا يختصّ بالفقراء بل يعمّ الجميع ، وربما يؤكد ذلك بعض كلمات أهل اللغة ، من قبيل ما ذكره الشيخ الطريحي في مجمع البحرين حيث قال:- ( الصدقة ما أعطى الغير به تبرّعاً بقصد القربة غير هدية فتدخل فيها الزكاة والمنذورات والكفار وأمثالها وعرّفها بعض الفقهاء بالعطية المتبرّع بها من غير نصاب للقربة وتصدّقت بكذا أعطيته ) ، فإذن هذا يدل على أنَّ المقصود ليس خصوص هذا المتداول المعروف بيننا لمعنى الصدقة بل هو أوسع ، فمن هذه الناحية يمكن أن يقال إنَّ القضية أوسع وليس المقصود من الصدقة هذا المعنى الضيّق المتداول هذا اليوم.

وفي مقابل ذلك قد تبرز بعض الوجوه لإثبات أنَّ المقصود خصوص هذا المعنى وهو أنه يلزم أن تعطي هذا للفقير:-

من قبيل أن يقال:- إنَّ الآية الكريمة تقول ﴿إنما الصدقات للفقراء ﴾[6] ، فهي حصرت الصدقات والصدقة بالفقراء ، وقد جاء في بعض كلمات اليد الخوئي التمسّك هذه الآية.

ولكن الاشكال فيه واضح إذ يرد عليه:- إنَّ هذه الآية الكريمة ناظرة إلى باب الزكاة الواجبة ، فإنَّ الزكاة الواجبة لا تدفع إلا إلى الفقراء ، ولا تثبت أنَّ مطلق الصدقة والتصدّق يختصّ بالفقير.

هذا مضافاً إلى أنَّه لو قرأنا الآية الكريمة بتمامها فقد يفهم منها المعنى الأوسع لأنها قالت:- ﴿ إنما الصدقات وللفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله ﴾ ، وقد يكون المؤلّف قلبه غنياً ولكن لأجل أن تؤلف قلبة تعطيه منها ، فإذن هي غير خاصّة ، وأيضاً ( سبيل الله ) لا يختصّ بالفقير ، ويكفينا ﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ فإنه لا يلزم أن يكونوا فقراء والآية قد جوزت اعطاءهم واستعملت التصدّق في حقهم أيضاً ، فإذن هذا الوجه قابل للتأمل.

وقد يتمّسك أيضاً:- بأنَّ صاحب المال[7] لا يرضي بالدفع إلى الأغنياء ، فرضاه بالدفع للأغنياء لعلّه محرز العدم ، وعلى هذا الأساس لا يجوز دفعه إلى الأغنياء بل الدفع إلى خصوص الفقير.

والجواب عليه:- إنَّ المدار ليس على رضاه فإنه ربما لا يرضى حتى بالدفع إلى الفقير ، فإذا صار البناء على رضاه فيلزم أن لا ندفعه إلى الفقير أيضاً.

وأيضاً بعد أن فرض أنَّ الولي الشرعي قد حكم بالدفع ورضي بالدفع إلى مطلق الاحسان[8] فلا معنى حينئذٍ للدوران مدار رضا المالك ، إنما يتّبع رضا المالك فيما إذا لم يحكم وليّه بشيء ، أما إذا حكم وليّه بشيءٍ فيتّبع ما حكم به وليّه ، فإذن هذا الدليل قابل للتأمل أيضاً.

وقد يتمسّك لذلك بوجه ثالث لإثبات أنه يلزم التصدّق على خصوص الفقير:- وهو الانصراف ، فيقال صحيح أنَّ كلمة صدقة وتصدّق مطلقة ولكن المنصرف منها هو خصوص ما كان للفقير ، والعرف في يومنا ببابك ، ونحن لعلنا انفهم منها هذا المعنى الضيق أيضاً وهو خصوص ما كان للفقير ، فعلى هذا الأساس يلزم التصدّق على الفقير من هذه الناحية.

وليس من البعيد أنَّ الشيخ الأنصاري(قده) يشير إلى هذا ولكنه عبّر بكلمة التبادر ولعلّ التعبير بكلمة الانصراف أولى ، لأننا نريد أن نقول صحيح أنَّ المعنى وسيع ولكن يوجد انصراف إلى خصوص الفقير.

وفيه:- إنَّ هذا الانصراف من المحتمل بدرجة وجيهة أن يكون ناشئاً في زماننا المتأخر ومن محيطنا الخاص ، ونحن وإن كنّا نتمسّك بالانصراف وبالتبادر في زماننا ونقول إذا حصل التبادر أو الانصراف في زماننا يثبت أنه كذلك في الزمن السابق فإنَّ سيرة العقلاء قد جرت على ذلك[9] ، فإذا ثبت الانصراف الآن فسوف يثبت أنَّ هذا المعنى موجود أيضاً في الزمن السالف فإنَّ سيرة العقلاء قد جرت على ذلك ، ولذلك نحن نفهم الكتب القديمة على طبق فهمنا اليوم ، وإذا كان فهمنا اليوم وانصرافاتنا اليوم غير معتبرة يلزم عدم امكان الاستفادة من الكثير من الكتب القديمة ، فالعقلاء جرت سيرتهم على أنَّ ما يتبادر إلى الذهن الآن وما ينصرف يحكم بأنه كذلك في السابق.

ولكن نقول:- إنَّ هذا شيء صحيح إن لم يلُح من القرائن أنَّ احتمال التبدّل والاختلاف شيء وجيه ، وهنا يمكن أن يقال إنَّ القرائن قد يلوح منها ذلك ، فإنَّ الصدقة في المعنى القديم أوسع منها في يومنا هذا ، فجزماً كانت تستعمل بمعنى أعمّ أما في يومنا هذا فهي ليست كذلك ، فإذن هذا تغيّر طارئ لا أنَّ الاستعمال القديم هو كذلك ، فلأجل وجود ما يحتمل قرينيته من احتمال التبدّل بدرجةٍ وجيهةٍ يشكل التمسّك بهذا الانصراف ، فإذن ماذا نفعل ؟

ومن الواضح إنه لو حصل عندك اطمئنان أو شبه الاطمئنان بالأوّل - وهو السعة وأنها مطلق الاحسان - فتسير عليه فإنَّ هذه قضايا استظهارية ونفسية أحياناً ، وإذا حصل عندك اطمئنان بالثاني - أي بالانصراف أو بغيره - فتسير على طبقه.

أما إذا بقينا متردّدين فنرجع حينئذٍ إلى الأصل ، وهو ماذا يقتضي ؟

يمكن أن يقال:- إنه يقتضي البراءة، إذ نشك في أنَّ ذمتنا هل اشتغلت بالتصدّق مع قيد الفقر أو أنها اشتغلت بالتصدّق فقط ؟ واشتغالها بمقدار التصدّق جزمي أما أنه يلزم يكون المتصدّق عليه فقيراً فهذا شكّ في تقييدٍ واشتغالٍ زائد للذمّة فتجري البراءة عنه.

إذن هناك اشتغال متيقن وهناك اشتغال مشكوك ، والاشتغال المتيقن هو أن يحصل تصدّقٌ ، والاشتغال المشكوك هو أن يكون على الفقير ، وحيث إنَّ هذا مشكوك فننفيه بأصل البراءة ، وبذلك تكون النتيجة هي عدم اعتبار الفقر ، إذا أترددنا وصلت النوبة إلى الأصل.

اللهم إلا أن يقول قائل:- إنَّ موردنا من موارد الاشتغال دون البراءة ، ببيان:- إنَّ ذمتنا قد اشتغلت بالتصدّق جزماً ونحن نشك في صدق مفهوم التصدّق والصدقة إذا لم يكن المعطى له فقيراً ، فالفقر ليس بمثابة قيد زائد على التصدّق بل هو مأخوذ في حشايا ومفهوم التصدّق ، فالتصدّق أصلاً لا يكون إلا على الفقير ، فإذا افترضنا هذا[10] فالمورد يصير من الاشتغال اليقيني بمفهوم التصدّق والشك في تحقق الفراغ بالدفع إلى غير الفقير ، فالذمّة جزماً قد اشتغلت بالتصدّق وإذا دفعت إلى غير الفقير أشك في صدق عنوان التصدّق فبالتالي أشكّ في تحقّق الفراغ فيكون المورد من موارد الاشتغال دون البراءة.

إذن لابد وأن نفرّق بين ذهين الاحتمالين ، فإذا قلنا إنَّ الفقر قيدٌ معتبر ولكن بنحو القيد الزائد الاضافي فالمورد يصير من مصاديق البراءة ، أما إذا افترضنا أنه مأخوذ في مفهوم الصدقة والتصدّق فيكون المورد من موارد الاشتغال.

إذن لم ينفعنا التمسّك بالأصل لاحتمال أنَّ الفقر مأخوذٌ في مفهوم التصدّق.

وعلى هذا الأساس يتضح أنَّ المناسب هو الاحتياط في المسألة وذلك بالدفع إلى خصوص الفقير ، بل نذكر زيادةً: وهي أنه يلزم أن يكون المدفوع إليه من المؤمنين ، وذلك لرواية يونس حيث قال عليه السلام:- ( إذا كان كذا فتصدّق بثمنه ، قال له: على من جعلت فداك ؟ قال: على أهل الولاية ) ، فإذن هذا قيد آخر معتبر ، فالقيد الأوّل هو الفقر ، والقيد الثاني هو أن يكون من أهل الولاية.

يبقى شيء جانبي:- وهو أنه هناك كلام في السهم المبارك للإمام عليه السلام ، وهو أنَّه أين يصرف سهمه عليه السلام ويكف نتصرّف ؟

هذه المسألة يذكرونها في كتاب الخمس ، ومن أحد الآراء التي تذكر أنه يقال: نحن نتعامل معه معاملة مجهول المالك ، يعني وإن كان المالك معلوماً إلا انه لتعذّر الوصول إليه والمفروض أنَّ الحفظ ليس ممكناً فيعامل معاملة مجهول المالك ، فإذن يتصدّق به على الفقراء ، هذا من أحد الاحتمالات التي ذكرت هناك.

ولكن يرد عليه:- صحيح أنه من مجهول المالك ولكنه إنما يتصدّق به إذا لم نحرز أنَّ صاحب المال يريد صرفه في تشييد الدين وتقويته ، وحتماً مولانا الامام عليه السلام يريد هذا المعنى ، فمالُ منصبه لابدّ وأن يصرف في تشييد الدين فهو جزماً يرضى بذلك ، ومن أحد موارد تشييد الدين هو الحوزات العلمية[11] ، فإذا قلنا هذا فحينئذٍ لا يكون خاصاً بالفقراء ، نعم قد يكون الفقراء هم بعض المصاديق التي نحرز رضا الامام عليه السلام بالصرف فيها ولكن لا أنه ينحصر فيها ، إذ نحن نعلم بأنه يريد صرفه في تشييد الدين ، فعلى هذا الأساس لا ينحصر بالتصدّق على الفقراء.

إن قلت:- نحن فميا سبق قلنا إنَّ رضا المالك وإرادته لا عبرة بها بعد أنَّ فرض أنَّ الولي الشرعي قد حكم بصرفه إلى الفقراء ، فما عدى مما بدى ؟

قلت:- حيث إننا نحرز رضاه في تشييد الدّين فالمدار على رضاه وعلى ما يريد وليس خصوص الصرف على الفقراء.

إن قلت:- إذن كيف رجعت إليه والحال أنَّ المدار على ما قرّره الولي الشرعي كما ذكرنا قبل قليل ؟

قلت:- إنًّ الولي الشرعي هو هو عليه السلام ، فهناك قال تصدّق به وفسّرنا التصدّق بالأعم مثلاً وحينئذٍ لا معنى للرجوع إلى رضا المالك بعد أن أجاز الولي الشرعي ، وهذا بخلافه في السهم المبارك فإنه هو الولي الشرعي وهو الذي يريد صرفه في تشييد الدّين ، فإذن لا يحصل تهافت بين ما مضى وبين ما ذكرناه في السهم المبارك.


[1] وهي خمس فروع.
[7] أي المالك المجهول.
[8] إذا فرض هكذا.
[9] وهل يعبر عنه باستصحاب القهقرى أو غير ذلك فهذه قضية ثانية.
[10] يعني قلنا ان العرف يفهم من التصدق المعنى الضيق وهو خصوص الاحسان والدفع إلى الفقير بحيث أن الفقر يكون مأخوذاً.
[11] ونحن الآن لا يهمنا المصداق ولكن بالتالي العنوان الكلي ما هو ؟ إنه كل مصرفٍ يرضي الامام عليه السلام، والقدر المتيقن منهما يوجب تقوية الدين وتشييده –.