39/03/21


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم مجهول المالك - مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

ذكرنا أنَّ الشيخ الأعظم(قده) ذكر أنَّ كون المدار على اليأس دون التصدّق هو مقتضى الأصل .

وما هو المقصود من مقتضى الأصل ؟

لعلّ المقصود ما أشرنا إليه:- حيث إنَّ رواية يونس على الأقل[1] يستفاد منها أنَّ المدار على اليأس فما زاد على ذلك - وهو أن يكون الفحص إلى سنة - يكون منفياً بالأصل كما هي العادة ، فإنَّ العادة هي حصول اليأس قد يحصل عادة قبل نهاية السنة ، فإذا حصل ليأس فمقتضى رواية يونس هو الاكتفاء وما زاد على ذلك - أي كون الفحص واجبا ًإلى فترة سنة - إذا شككنا فيه فهو منفي بالأصل.

بقي شيء:- وهو أنه هل التصدّق بعد اليأس من العثور على المالك يلزم أن يكون فوراً يعني يئست اليوم فالآن يلزم أن أتصدّق أو لا يلزم الفورية ، فهل الفورية معتبرة وأنه يجوز التأخير بالمقدار المتعارف كيوم أو يومين ؟

والجواب:- المناسب عدم اعتبار الفورية ، وذلك لأجل أنها لو كانت معتبرة بحيث إذا حصل اليأس الآن فالآن يجب التصدّق فهذا يحتاج إلى بيان فإنَّه خلاف العادة العرفية ، فإنَّ العادة العرفية هي التواني بمقدارٍ متعارف كيوم أو يومين خصوصاً إذا كان لاحتمال العثور على المالك ولو كان احتمالاً ضعيفاً لا يتنافى مع اليأس فهذا التواني بيوم أو يومين شيء متعارف عرفاً ، فلو كان مقصود الامام عليه السلام الفورية بحيث لا يجوز هذا التواني احتاج ذلك إلى تنبيهٍ وعدم التنبيه يرشد على أنَّ المقصود هو التصدّق بالنحو العرفي ولو بعد يوم أو يومين ، نعم التماهل وترك المال مهملاً هذا تهاون وتساهل وهو لا يجوز ، لأنَّ هذا نحو من التصرّف في مال الغير وهو إبقاءه من دون احراز رضاه ولا رضا الولي الشرعي وهو لا يجوز ويحتاج إلى دليل على جوازه.

فإذن التماهل بهذا المقدار لا مثبت لجوازه ولا يعلم طيب نفس المالك ولا وليّ المالك به ، فالتماهل إذن لا يجوز ، وأما التأخير بالمقدار المتعارف العرفي فلا محذور فيه وقد بيّنا النكات في ذلك.

وقد يبرز احتمال:- أنَّ التصدّق قد ذكر من باب دفع توهم الحضر فيجوز لك أن لا تتصدّق.

ولكن:- في الحقيقة إذا جمعنا بين الأخبار بهذا الشكل وأنَّ المكلّف مخيّر بين الأمرين بين أن يتصدّق وبين أنه يبقيه ويوصي به فهذا لطيف ، أما إذا فهمنا أنَّ التصدّق هو وظيفة فعلية وأنَّ ذاك يختص بخصوص الحقوق الكلّية الذمّية أما الحق الخارجي فيجب التصدّق به فحمله على هذا قد يكون خلاف الظاهر.

الفرع الثالث:- جواز التسليم بلا مثبت ، فهل يجوز التسليم بلا مثبت أو لا ؟

والمقصود أنه لو فرض أنَّ شخصاً عنده مجهول المالك وقد وضع اعلانات[2] فإذا جاء شخص وقال إنَّ هذه الحاجة لي فهل يجوز دفعها إليه من دون أن نتأكد من كونه هو المالك - ومن الواضح أنَّ التأكد يصير من خلال الأوصاف المورثة للاطمئنان - أو أنه لابد من حصول الاطمئنان العرفي فآنذاك يجوز الدفع إليه ؟

والجواب:- ربما يقال بجواز الدفع إليه بلا حاجة إلى مثبت ، وذلك لوجهين:-

الوجه الأوّل:- التمسّك بفكرة الدعوى بلا منازع حيث نقول ، إنه توجد قاعدة وهي أنه من ادّعى شيئاً ولا يوجد له منازع كما لو وجدت مسبحة وقال شخص هي لي ولا يوجد شخص آخر ينازعه فيقبل منه هذا ولا يعارَض ، فحينئذٍ نطبّق فكرة قبول الدعوى مادام لا منازع في ذلك ، ومستند هذه القاعدة مران:-

الأمر الأوّل:- السيرة العقلائية أو العرفية على ذلك كما مثلنا بهذا المثال ، وحيث إنَّ هذه السيرة لا يحتمل تجدّدها في زماننا - يعني فيما بعد عهد المعصوم - وإنما هي سيرة اجتماعية عرفية وعادةً السير الاجتماعية هي مقتضى لوازم الاجتماع والمجتمع فهي ثابتة في ذلك الزمان ، وحيث لا درع عنها فيدل ذلك على الامضاء.

الأمر الثاني:- رواية منصور بن حازم ، ونصّها:- ( عن أبي عبد الله عليه السلام ، قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضاً ألكم هذا الكيس ؟ فقالوا كلّهم: لا ، وقال واحد منهم هو لي ، فلمن هو ؟ قال: للذي ادّعاه )[3] .

ودلالتها واضحة على قبول المدّعي مادام لا منازع له ، نعم رواها الحرّ العاملي عن الشيخ الكليني هكذا ( محمد بن يعقوب عن علي عن أبيه عن بعض أصحابه عن منصور بن حازم ) ومادام قد ورد في سندها تعبير ( عن بعض أصحابه ) فسوف تكون مرسلة ، لكن الذي يهوّن الخطب أنَّ صاحب الوسائل بعد ذلك قال ( ورواه الشيخ بإسناد عن محمد أحمد بن يحيى[4] عن محمد بن الوليد عن يونس عن منصور بن حازم ) وكل رجال السند ثقات ، فلا توجد مشكلة في الرواية بطريقها الثاني ، فإذن دلالتها تامّة وسندها تام فنأخذ بها.

ويردّ عليه[5] :- إنَّ هذا وجيه في غير الأمانات ، يعني بتعبيرٍ آخر: إذا لم يكن الشيء عندي من باب الأمانة كما هو في مجهول المالك فإنه أمانة عندي ، فصحيح أنه ليس أمانة مالكية ولكنه أمانة شرعية قد جعلها الشارع عندي لأنه وليّ من لا وليّ له ، وحينئذٍ نأتي ونقول: إنَّ الدليلان اللذان ذكرناهما واللذان كان أوّلهما السيرة هل تشمل مثل هذه الحالة ؟ إنَّ هذا أوّل الكلام فإنَّ القدر المتيقن من السيرة ما إذا فرض أنا وجدنا ذلك المال في الأماكن العامة وقال شخص هذا لي وكان من دون منازع ، أما إذا فرض أنه كان أمانة بيدي فانعقاد السيرة على ذلك أوّل الكلام ، ويكفينا الشك في انعقادها لو لم نجزم بعدم انعقادها[6] .

وأما رواية منصور بن حازم:- فتلك قضية في واقعة ، يعني بتعبير آخر: لعلّه من الأشياء التي هي من غير قسم الأمانات وإنما هو مطروح على الأرض كالمسبحة المطروحة على الأرض كيف أنَّ هذا ليس بأمانة فمورد رواية منصور لعلّه ليس من باب الأمانة ، فعلى هذا الأساس لا نجزم بأنَّ إطلاق رواية منصور يشمل حتى مورد الأمانة فإنها قضيّة في واقعة من هذه الناحية فلا يمكن التمسّك بإطلاقها.

هذا كلّه بالنسبة إلى الوجه الأوّل لإثبات قبول قوله بلا منازع من دون حاجة إلى اثبات وقد تبيّن مناقشة ذلك.

الوجه الثاني:- التمسّك بأصالة الصحة فنقول: إنَّ هذا مؤمن[7] وحينئذٍ إذا شككنا في صدقه فنحمل ذلك على الصحة ، فيثبت بذلك أنه هو صاحب الحاجة حقاً فندفعها إليه بلا حاجة إلى ذكر أوصافٍ واثبات وإنما تكفينا أصالة الصحة.

وفيه:- إنَّ أصالة الصحة تستعمل بمعنيين ، فتارةً تستعمل بمعنى صحة العقود وصحة ما وقع ، فعقدٍ أو ايقاعٍ وقع ونشك أنه صحيح أو ليس بصحيح فنقول الأصل هو الصحة ، ومستند أصالة الصحة في هذا المورد - أي أصالة الصحة بمعنى صحة العقد وأنه واجدٌ للشرائط - هو السيرة العقلائية على ذلك فإننا نشتري من الأشخاص ونبيعهم ولا نسأل أنَّ هذا الثمن هو ملكك من بيعٍ وشراء صحيح أو باطل ، وإذا أردت أن أعقد على امرأةٍ فلا أقول هل كان زواج أمها وأبيها صحيح أو ليس بصحيح ، أو شككت بعد عشرين سنة أنَّ زواجي صحيح أو لا فهل قلت ( قبلت ) بشكل صحيح أو لا ، فلعلّي قلت في البيع ( بَعْتُ ) ولم أقل ( بِعْتُ ) وما شاكل ذلك ، فكل هذه الأمور لا يعتنى بها ، لذلك هذه قاعدة واضحة على أنَّ كل عقدٍ أو إيقاعٍ يبنى على صحّته ، وأصالة الصحّة في باب العقود والايقاعات لا تنفعنا هنا.

إنما الذي ينفعنا هو أصالة الصحة بالمعنى الثاني وهو أنه لو صدر من المسلم شيء وشككنا أنه هل صدر منه حراماً أو لم يصدر منه حراماً كما لو فرض أننا رأينا شخصاً من بعيد أخذ يحرّك شفتيه ولا ندري هل سلّم وقال ( سلام عليكم ) أو أنه سبّنا فأصالة الصحة هنا تقول هو لم يفعل حراماً ، فهي بهذا المقدار أي تقول هو لم يفعل حراماً وأما أنه سلّم فلا فلذلك أنت لا يلزمك أن ترد عليه السلام لأنك تشك أنه سلّم أو لا فإنَّ أقصى ما تقوله قاعدة الصحّة هو أنه لم يفعل حراماً ، ومستند أصالة الصحّة بهذا المعنى هو بعض الروايات ، من قبيل:- ما ورد عن أمير المؤمنين ( ضع أمر أخيك على أحسنه حتى أتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من اخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً )[8] ، وتوجد مستندات أخرى الآية الكريمة الناهية عن اتباع الظن بالإثم وروايات أخرى هذا من الأمور المسلّمة ، فإذن أقصى ما يثبت بذلك أنه لم يفعل حراماً هذه هي أصالة الصحة بالمعنى الثاني.

وبعد اتضاح هذا نقول:- أنت حينما تطبّق أصالة الصحة[9] فقد قلت نحن نقبل دعواه بلا حاجة إلى اثبات لأصالة الصحّة ، وأصالة الصحة هي بالمعنى الثاني وليس بالمعنى الأوّل فإنه بالمعنى الأوّل لا معنى له حيث إنه لا يوجد عندنا عقدٌ بحيث يتّصف بالصحة والفساد وإنما موردنا يدور الأمر فيه بين الصحة وعدم الحرمة بمعنى الحرمة والتجاوز على الشرع وعدم ذلك وأصالة الصحة أقصى ما تقوله هو إنه لم يتجاوز على الشرع ولم يخرج عن عدالته أما أنه هو مالك فهي لا تقول ذلك حتى ندفع إليه الحاجة بلا حاجة إلى اثبات ، كما قلنا إذا رأينا شخصاً هل قال ( سلام عليكم ) أو أنه سبّنا فأقصى ما نقول إنه لم يصدر منه كلام محرّم لا أنه صدر منه سلام حتى ننردّ عليه السلام ، ولكن إذا أردنا أن نردّ عليه السلام من باب الاحتياط فهذا لا بأس به ولكنه ليس بلازم ، وهذا أيضاً كذلك ، فأقصى ما يثبت بأصالة الصحة بهذا المعنى هو أنه لم يرتكب حراماً ، فعلى هذا الأساس لا يثبت أنه مالك بمقتضى هذا الدليل.

والنتيجة من خلال هذا كلّه:- إنَّ المناسب هو السؤال عن المثبتات من الأوصاف وغيرها بحيث يحصل للشخص الاطمئنان بأنه هو المالك ، والمستند لإثبات ذلك[10] هو أني أمين ومقتضى الأمانة أن يتصّرف الشخص في المال بما يتناسب والأمانة ، والأمانة تقتضي التأكد من كون هذا الشخص مالكاً حتى يدفع إليه وإلا كان ذلك خلف الأمانة.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك سيرة المتشرعة العقلاء فإنها جارية على أنَّ الشخص إذا جاء لا تدفع إليه الحاجة من دون إثبات وإذا فعل شخصٌ ذلك فسوف نؤنبه ولا نرضى عليه ونقول له لعلّ هذا يكذب فيستنكر منه ذلك ، فعلى هذا الأساس السيرة جارية أيضاً على عدم جواز الدفع والتسليم من دون إثبات ، مضافاً إلى فكرة الأمانة ، وبالتالي لا يجوز الدفع من دون ذكر ما يوجب الاطمئنان بأنه مالك.


[1] فإذا كان الشيخ الأعظم لم يوجه نظره إلى الاطلاق المقامي فلا أقل رواية يونس.
[2] وسياتي أنّ الاعلانات في كل زمان وفي كل مكان تختلف باختلافها وهذا من أحد موارد تأثر الحكم الشرعي أو موضوعه باختلاف الزمان والمكان.
[4] ومحمد بن أحمد بن يحيى هو صاحب نوادر الحكمة وطريق الشيخ إليه صحيح.
[5] أي على الوجه الأوّل الذي تمسكنا به لإثبات أننا نقبل الدعوى بلا منازع.
[6] فإنه قد يصعّد شخص اللهجة ويقول أنا جزم بعدم انعقادها.
[7] ومؤمن بمعنى مسلم.
[9] وهذا جواب الوجه الثاني.
[10] فنحن أقصى ما فعلناه الآن هو أننا نفينا ما يثبت جواز الدفع بلا حاجة إلى اثبات، أما أنه تعال واثبت انه لا يجوز الدفع من دون اثبات.