38/06/05


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

المورد الثاني:- المسؤول عن اصدار الجوازات.

قد لا يمنح المسؤول عن اصدار الجوازات الجواز للشخص – وهكذا غير الجواز من هذه الأمور - إلا مقابل مبلغ معيّن من المال ، وقد أشرنا سابقاً إنه في كلّ هذه الموارد التي نذكرها دليل لا يمكن التمسّك بدليل حرمة الرشوة لما أشرنا إليه من النكتة وهي كون ذلك من التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المفهومية إذ يحتمل أنَّ مفهوم الرشوة يختصّ بباب الحكم ولا يعمّ غير باب الحكم فهذا معناه أنَّ مفهوم الرشوة يدور بين السعة والضيق فلا يجوز التمسّك بإطلاق دليل حرمة الرشوة لإثبات حرمة دفع المال في هذه الموارد التي سنذكرها وهكذا في المورد السابق ، وهذه قضية ينبغي أن يكون مفروغاً عنها ولا نكررها مع كلّ موردٍ فينبغي الالتفات الى ذلك.

إذن إذا أردنا أن نثبت الحرمة إنما نثبتها من ناحيةٍ أخرى لا من ناحية أنها رشوة وأنَّ الرشوة محرّمة ، نعم قد نتسامح ونعبّر بالرشوة ولكن هذه قضية ثانية ، ولكن إذا أردنا أن نتكلم في مقام الاستدلال مع الدّقة فلا يجوز التمسّك بالإطلاق إلا اللهم أن أحداً يجزم بأنَّ معنى الرشوة لغةَ هو شيء وسيع يشمل حتى مقامنا ، ولكنَّ هذه قضية ثانية.

والكلام في هذا المورد تارةً يقع فيما إذا فرض أنَّ هذا الشخص الذي كان يطلب منح الجواز مشمولاً للقانون ويستحق الجواز لكن ذلك الموظّف لا يمنحه الجواز إلا بدفع مبلغ من المال له ، ومرّة يكون الطرف الذي يطلب الجواز ليس مشمولاً للقانون.

أما إذا فرض أنه كان مسمولاً للقانون:- فالكلام تارةً يقع بلحاظ نفس الموظف وأنه هل يجوز له التلكؤ عن منح الجواز ، وأخرى بلحاظ الشخص المراجع وأنه هل يجوز الدفع إلى الموظف أو لا ؟

أما بالنسبة إلى نفس الموظف:- وقد فرضنا أنَّ المورد مشمول للقانون فلا يجوز له أن يتمرّد فإنَّ التمرّد من هذه الناحية هو نحو من الاخلال بالنظام والنظام لابد من التحفّظ عليه حتى تسير الحياة الاجتماعية بشكلٍ غير مضطرب ، وبالأولى إذا كان تلكؤه طالباً به الأجرة فالمخالفة والفساد يكون حينئذٍ أوسع وأشد ، فتلكؤه لا يجوز وطلبه للأجرة لا يجوز أيضاً ، ونستثني من لزوم محافظة النظام وتطليقه ما إذا فرض أنَّ المادة القانونية في هذا المجال لم تكن موافقة للشرع ، فإذا كانت غير موافقة للشرع فالتمرّد على القانون في هذه المادّة يكون شيئاً جائزاً لمن أمكنه أن يتمرّد على هذه المادّة ، أما إذا فرض أنَّ المادّة لم تكن مخالفة للشرع فلابد من تطبيقها لما أشرنا إليه من ضرورة أن يعيش الناس في نظام مستقر.

وأما بالنسبة إلى الشخص الذي يريد منح الجواز له:- فهو أيضاً لا يجوز له أن يدفع الأجرة ، لأنَّ دفعه للأجرة هو نحو مساعدة وتشجيع على المخالفة ، فلابد وأن لا يساعد على ذلك ، وقد قلنا فيما سبق إنَّ أدلة النهي عن المنكر هي تدل بالدلالة المطابقية على أنَّ المنكر إذا ارتكبه شخص يلزمك أن تنهاه ، وبالدلالة الالتزامية هي تدلّ على أنه يلزمك أن لا تساعده في ارتكاب المنكر وإلا يحصل تدافع عرفي فإنه كيف يقال أنت عليك أن تنهاه عن المنكر ولكن أعطه مالاً على المنكر ؟!! فإنَّ بينهما تدافع عرفي ، فنفس دليل النهي عن المنكر هو يدل بالدلالة الالتزامية على عدم جواز دفع الأجرة له.

بل قلنا:- يمكن التمسّك لذلك أيضاً بنفس دليل الحرمة بقطع النظر عن أدلة النهي عن المنكر ، بل نفس دليل حرمة الشيء - مثلاً دليل حرمة الشيء في موردنا هو الفساد وعدم انتظام أمر البلاد - هو بنفسه يدل على حرمة هذا العمل ، يعني يوجد طريقان فمرّة نتمسّك بدليل ( وجوب النهي عن المنكر يدل بالالتزام على حرمة الدفع ) ، ومرّة نتمسّك بنفس دليل حرمة الفساد في أيِّ مجال هو يدل بالالتزام على حرمة الدفع ، فإذن لا يجوز ذلك ، اللهم إلا إذا فرض أنَّ المكلّف كان محتاجاً إلى الجواز كأن كان مريضاً ويريد العلاج في الخارج يعني توجد عنده ضرورة ، فمن باب قاعدة لا ضرر أو لا حرج أو غير ذلك يجوز له أن يدفع الأجرة حينئذٍ ، فبالعنوان الأوّلي لا يجوز له أن يدفع للموظف الأجرة ، ولكن بالعنوان الثانوي يجوز الدفع إليه ، وهذا يختلف من شخصٍ إلى آخر ، فربَّ شخصٍ نجوّز له دفع الأجرة وأما الثاني لا نجوّز له ذلك ، فنحن نجوّز للأوّل منهما لأنه يوجد لديه علاج في الخارج ، أو كان يريد الاصطياف ولكن وضعه النفسي متأزم فهذا نجوّز له الدفع من باب الحرج ، أما لو جاء شخص وقال إني أريد السفر خارج البلاد لأجل النزهة فهنا لا نجوّز له ذلك ، فإذن لابد وأن نفرّق بين الاشخاص لهذه النكتة التي أشرنا إليها.

وأما إذا فرض أني كنت أطلب الجواز والموظف يتلكأ لأني لم أكن مشمولاً للقانون:- ففي مثل هذه الحالة يكون تلكؤ الموظّف شيئاً في محّله ولا يجوز له أن يمنحني الجواز ، ولا يجوز لي أن أدفع له المال حتى يعطيني الجواز فإنَّ هذا تشجيع على ارتكاب الفساد ومخالفة النظام فلا يجوز ذلك ، اللهم إلا إذا فرض أنَّ خروجي كان ضرورياً كما لو كان لأجل العلاج أو أنَّ السلطات تطاردني ظلماً فإما أن تحبسني أو تقتلني ففي مثل هذه الحالة يجوز حينئذٍ أن آخذ الجواز ولو بدفع مقدارٍ من المال إلى الموظف ، والوجه في ذلك هو أنَّ المورد يدخل تحت باب التزاحم ، يعني هناك حكمان إلزاميان أحدهما أنَّ مخالفة النظام لا تجوز والحكم الثاني هو أنَّ التحفّظ على النفس لازم ، ففي مثل هذه الحالة حيث إنَّ الأهم هو التحفّظ على النفس فإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ يجوز لي أن اطلب منح الجواز ، بل يجوز لي أن أقدم الأجرة ، والموظف أيضاً يجوز له إصدار الجواز لي ، بل ربما يجب عليه ذلك ، لأنه أيضاً لديه تزاحم لأنه من جهةٍ يحرم عليه مخالفة النظام ، ومن جهةٍ ثانية يجب عليه أن يحافظ على نفس المؤمن من القتل ، فحينئذٍ هو يحصل في حقّه التزاحم فيجوز له حينئذٍ أن يخالف القانون ، بل ربما يجب عليه.

وهل يجوز له أن يطالب بالأجرة ؟

الجواب:- إنه لا بأس بذلك ، فإنه عملٌ جائز ومحترم فيتمكن من المطالبة بالأجرة ، اللهم إلا إذا فرض أنَّ المورد قد بلغ الأمر فيه إلى درجة الوجوب ، فبالتالي الموظف يجب عليه أن يمنح الجواز للشخص ويخالف القانون - هذا إذا لم يتضرّر الموظف أما إذا تضرّر فلا يجب عليه - ، فهنا يجب عليه المساعدة في هذا المجال ، فربما يقال إنه لا يجوز أخذ الأجرة من باب أنها سوف تكون أجرة على واجب.

وجوابه ما تقدّم:- من أنَّ هذا مبنيّ على أن الواجبات لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، ولكن هذه القاعدة بعرضها العريض- وهي أن كلّ واجب بما هو واجب نفس حيثية الوجوب تمنع من الأجرة – لم تثبت بدليل ، فإن المطالبة بالأجرة شيء جائز للموظّف.

المورد الثالث:- لو فرض وجود مؤسسة للأيتام وهي تتقبل الأيتام لتربيتهم ، وهي تارةً تكون حكومية أخرى تكون أهلية ، وذهبت الأم بطفلها اليتيم إلى هذه المؤسسة فقال الموظّف لا اسجّله في هذه المؤسسة إلا بإعطائي مبلغاً من المال ، ففي مثل هذه الحالة هل يجوز له ذلك أو لا ؟

إذا فرض أنّ المؤسسة كانت حكومية ، والمفروض مرّة أنَّ هذا الطفل كان مشمولاً لقانون المؤسسة ، ومرّة لا يكون مشمولاً ، فإن كانت المؤسسة حكومية والطفل كان مشمولاً فقد اتضح الحال فإنه لا يجوز للموظف أن يتلكأ ، لأننا قلنا لا تجوز مخالفة القانون من دون أجرة فضلاً عن المطالبة بالأجرة ، وإذا كانت المؤسسة أهلية فلا يجوز للموظف أن يتكأ أيضاً ولكن لا نعلّل بمخالفة النظام ويلزم من ذلك الفساد ،بل نعلل بتعليلٍ آخر فنقول: ذلك لمخالفة الشرط الضمني ، لأنََّّ المؤسسة الأهلية قد اشترطت على الموظّف بأنَّ أي شخص يأتيك ويكون مشمولاً لشروط المؤسسة فعليك أن تكمل أموره ولا يجوز لك أن تتلكأ أبداً بأجرة أو من دون أجرة ، فيوجد شرط ضمنيّ ولعله لا يصرَّح به أحياناً لوضوحه ولذلك صار شرطاً ضمنياً فإنه لا يذكر لشدّة وضوحه ، هذا من ناحية الموظّف.

وأما من ناحية الأم التي ذهبت باليتيم إلى هذه المؤسسة:- فهل يجوز لها أن تدفع أو لا يجوز ذلك ؟

الجواب:- إذا لم تكن مضطرة إلى ذلك فلا يجوز لها أن تدفع الأجرة إلى هذا الموظّف فإنَّ ذلك تشجيع على ارتكاب الحرام ، وأما إذا كانت مضطرّة بان انحصرت المدرسة بهذه المدرسة ولا توجد مدرسة أخرى وكان الطفل بحاجة إلى ذلك فحينئذٍ يجوز لها أن تدفع الأجرة من باب أنها مضطرة إلى الدفع لعنوان الأجرة أو لعنوان آخر ، فبالتالي يجوز لها ذلك ، أما من دون أحد العناوين الثانوية فلا يجوز لها أن تدفع الأجرة.

وأما إذا لم يكن الطفل مشمولاً لقانون المؤسسة:- فلا يجوز للموظف أن يخالف القانون سواء كانت المؤسسة حكومية أو أهلية ، لأنه إذا كانت حكومية فهذا سوف يصير مخالفةً للنظام ، وإذا كانت أهلية فهذا سوف يكون مخالفة للشرط الضمني ، فمادام ليس مشمولاً لشروط المؤسسة فليزم رفض هذا اليتيم وعدم قبوله من دون أجرة أو مع الأجرة فإنَّ كليهما ليس بجائز ، إلا اللهم أنَّ هذا الموظف قد شخّص أنَّ هذا الطفل لابد من قبوله وإلا فسوف يتسيّب ، كأن كان شرط المؤسسة أن يكون عمر الطفل تسع سنين وهذا الطفل عمرة أقل بشهٍر مثلاً وتلزم بعض المحاذير الأخرى لو ترك ولم يدخل المؤسسة فهنا يجوز بهذا المقدار ، فإذا فرضنا أنه يوجد أحد العناوين الثانوية فربما يمكن فسح المجال بمقدار الضرورة.

المورد الرابع:- الدرجات الوظيفية .

تأتي أحياناً درجات وظيفية إلى هذه الدائرة ، يعني أنَّ هذه الدائرة يمكنها أن تمنح هذه الدرجات الوظيفية إلى الاشخاص الجامعين لهذه الشرائط والمواصفات ومسؤول تلك الدائرة يأتيه شخص فيقول له إني لا أقبلك إلا أن تدفع لي مبلغاً معيّناً من المال ، فهنا تارةً نفترض أنَّ الشخص المتقدّم مشمولاً لهذه الدرجة الوظيفية ، وأخرى نفترض أنه ليس مشمولاً لها .

فإذا كان المواصفات موجودة فيه:- فيلزم على الموظّف أن يمنحه الدرجة الوظيفية ولا يجوز له أن يطالب بشيءٍ من المال ، إذ لو كانت المؤسسة حكومية فهذا يكون مخالفةً للنظام ، لأنه من الأوّل القانون الحكومي فرض أنَّ الدرجات الوظيفية أن يمنحها من دون مقابل ، وأما إذا كانت أهلية فحينئذٍ يكون مخالفاً للشرط الضمني فلا يجوز ذلك .

إن قلت:- إنَّ المسؤول الاداري في تلك الدائرة حيث إنه غير مجبورٍ على قبول هذا الشخص أو قبول ذاك فهل يجوز له أن يقول لهذا الشخص إنَّ هذه الدرجة الوظيفية يمكن أن أمنحها ولك ويمكن أن أمنحها لغيرك فكلاكما جامع للشرائط ولكن إذا كنت تريد أن أقدّمك فعليك أن تدفع لي مبلغاً من المال وإلا فلا ، فهل تجوز هذه القضية أو لا ؟

ولعل نظير هذا يأتي في مسألة الصلاة الاستيجارية ، فربما تأتي شخص بصلاة استيجارية ذات مبلغ مرتفع فيأتي الشخص الذي وصلته هذه الصلوات فيقول لمن يريد صلاةً استيجارية أنا لا أعطيها لك وإنما سوف أعطيها لشخص ثانٍ ولكن إذا كنت تريد أن أعطيها لك فلابد وأن تعطيني مبلغاً من المال ، إنَّ هذه الحالة لا ينبغي ان نتعلّمها حتى لو كانت جائزة ولا تدعها تخطر في ذهنك ، فقد يقول شخص إنَّ هذا جائز من باب أنَّ هذا الشخص ليس بملزمٍ بالدفع لهذا الطرف فيجوز له أخذ الأجرة على هذا.

والجواب:- إنَّ ذلك الدافع قد اشترط شرطاً ضمنياً وهو أنك مجرّد واسطة في الايصال ، فأنت عليك أن توصل كلّ هذه الأموال إلى الطرف ومن دون أن تطلب منه المال ، وأنت جربّ نفسك في ذلك فلو كنت تدفع مالاً لأجل الصلاة عن والدك فمقصودك هو أنك تريده أن يوصلها إلى الطرف الذي سوف يؤدّي الصلاة لا أن يأخذ من الذي يؤدّي الصلاة مبلغاً من المال فإنه يوجد شرط ضمني على خلافه ، وإن لم نقل بذلك جزماً فلا أقل هو محتمل احتملاً وجيهاً ، فعلى هذا الأساس إذا كانت المؤسّسة حكومية فهذا سوف يصير جزءاً من النظام لأنه قد أخذ شرطاً ومخالفة النظام لا تجوز ، وإذا فرض أنَّ المؤسسة كانت أهليه فحينئذٍ لا يجوز ذلك من باب مخالفة الشرط الضمني.

إذن الدرجات الوظيفية لابدّ من توزيعها من دون أخذ شيءٍ من المال سواء كانت حكومية لما قلنا من أنه مخالفة للنظام ، أو كانت أهلية لما أشرنا إليه من مخالفة الشرط الضمني.

وربما بهذه الموارد التي ذكرناها سوف نتمكّن من ملاحظة موارد أخرى من هذا القبيل.