38/03/25


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 28 ) الاجارة على الواجبات المكاسب المحرمة.

الوجه التاسع: ما قد يخطر الى الطعن أو يقال: إن الأجير لا يجوز له أخذ الأجرة على الواجب ، باعتبار أنّ الشيء إذا كان واجباً ففي فعله مصلحة ، فإذا فعله الأجير وصلّى على الميت مثلاً دخلت في كيسه مصلحة فإنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ومع دخول المصلحة في كيسه تكون المطالبة بالأجرة أكلاً للمال بالباطل ، باعتبار أنه قد حصل على العوض وهو المصلحة وبعد حصولها تكون المطالبة بالأجرة أكلاً للمال بالباطل.

وفيه:

أولاً: إن صدق عنوان الأكل بالباطل فرع ما إذا ثبت بالمرحلة السابقة أن العوض لفعل الواجب لا يكون إلا المصلحة ولا يمكن أن يكون العوض المادي أو الأجر أن يكون عوضاً فإذا ثبت في المرحلة السابقة ذلك فنعم يكون أكلاً بالباطل ، أما إذا فرض أنه يجوز أخذ الأجرة على الواجب رغم الحصول على المصلحة ففيه مصلحة والشارع أيضاً يجوز لك أخذ الأجرة عليه فلا يكون الأكل أكلاً بالباطل بعد تحويز الشارع . إذن هذا الدليل يتوقف على مقدّمة هي عين المتنازع فيه ، فلا يمكن التمسك بهذا الدليل إلا بنحو المصادرة ، يعني هو قد أخذ مقدمة هي عين المتنازع فيه.

ثانياً: إنَّ الأجير حينما يفعل الفعل كالصلاة على الجنازة هو قد حصل على العوض يعني المصلحة ونحن سلّمنا بهذا ولكن في نفس الوقت المستأجر أيضاً قد استفاد بفعل الأجير ، ففعل الأجير صنع شيئين وحصّل شيئين وسبب الى شيئين سبب الى حصول المصلحة له وسبب الى حصول فائدة للمستأجر حيث إنه سقط الوجوب عنه مثلاً ، فإذن هذه فائدة عادت الى المستأجر سببها فعل الأجير ، وعلى هذا الأساس يتمكن الأجير أن يطالب بالأجرة من المستأجر باعتبار انه قد نفعه فلا يكون الأكل حينئذ أكلا بالباطل وإنما يكون كذلك لو فرض أن المستأجر لم يحصل على شيء بفعل الأجير والنفع فقط وفقط صار للأجير ولم ينتفع المستأجر بسبب فعل الأجير ، فإذا لم ينتفع المستأجر فقد يقال نعم هذا أكل للمال بالباطل ، أما بعد أن انتفع المستأجر بفعل الأجير فالمطالبة بالأجرة حينئذٍ لا تكون أكلاً للمال بالباطل؛ إذ لو قيل للأجير إنك قد حصلت على المصلحة فلا معنى لأخذ الأجرة ، فيقول أنا آخذ الأجرة لأني نفعت المستأجر حيث سقط عنه الوجوب ، فإذن لا تكون المطالبة من هذه الزاوية أي من زاوية انتفاع المستأجر بفعل الأجير بالأجرة أكلاً للمال بالباطل ، وإنما تكون أكلا بالباطل لو اقتصرنا على انتفاعه هو ، أما إذا نظرنا الى انتفاع المستأجر وأدخلناه في الحساب فلا يكون الأكل أكلاً للمال بالباطل.

هذه تقريبات لعدم صحة الاجارة على الواجب يعني لإثبات المنافاة بين حيثية الاجارة وحيثية الوجوب بقطع النظر عن كون الوجوب توصلياً أو عبادياً فنفس حيثية الوجوب تمانع حيثية الاجارة والأجرة ، وقد اتضح من خلال كل ما عرضناه أن جميع هذه الوجوه قابلة للمناقشة ، وبالتالي لم تثبت منافاة بين حيثية الاجارة وحيثية الوجوب.

ولكن يبقى على القائلين بالمنافاة ونحن لا نقول بها إشكال لابد وأن يدفعوه ونبيّن هذا تحت عنوان إشكال في المقام.

والاشكال الوارد على من يرى عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب يعني يرى المنافاة بين حيثية الوجوب وبين حيثية الاجارة: هو أنه ثبت في الشرع واجبات يجوز أخذ الأجرة عليها ونذكر لذلك موردين:

المورد الأول: الوجبات النظامية ، أي الواجبات التي تتوقف عليها النظام الاجتماعي للمسلمين كالطبابة والبناء والخبازة والنجارة والكهرباء وغير ذلك ، فالنظام إذن يحتاج إلى هذه الحرف ، وهذه يمكن أن يصطلح عليها بالواجبات النظامية ، وحينئذٍ نقول كيف هي واجبات وفي نفس الوقت يجوز أخذ الأجرة عليها ، فالطبيب مثلاً بأخذ الأجرة وهل يحتمل أن يقول فقيه لا يجوز للطبيب أخذ الأجرة ؟! كلا بل يجوز أخذ الأجرة عليها ، إذن على هذا الاساس نقول للقائلين بالمنافاة بين حيثية الوجوب وبين حيثية الاجارة ماذا تصنعون إزاء هذا المورد فإذا هنا توجد منافاة فهي منافاة ثبوتية ، فكيف ثبت في الشرع جواز أخذ الأجرة في الواجبات النظامية ؟ إنّ هذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلّ على عدم المنافاة بين حيثية الوجوب وحيثية الاجارة.

المورد الثاني: اللباء فالأم إذا ولدت طفلها فيجب عليها أن ترضعه اللباء ولكن في نفس الوقت قال الفقهاء بجوز لها أن تطالب بالأجرة عليه ، حينئذٍ هذا مورد ثاني فإذا كانت هناك منافاة كيف جاز أخذ الأجرة عليه.

ورب قائل يقول كما قال الاردبيلي(قده)[1] : إنه إنما حاز هذا من باب الاجماع والسيرة فقد خرج هذان الموردان بالإجماع والسيرة ، فالمخصص موجود أي قد دل الدليل على ذلك وحينئذٍ تنحل المشكلة.

وهذا فد اتضح جوابه من خلال ما ذكرناه: فإن المشكلة إذا كانت اثباتية يمكن أن تنحل بما أفيد أنا إذا كانت ثبوتية يعني هناك منافاة واقعية بين حيثية الوجوب وحيثية الاجارة ففي مثل هذه الخالة لا يمكن أن يأتي دليل يدل على جواز أخذ الأجرة في واجب من الواجبات وإذا جاء دليل فهو في الحقيقة بكشف عن عدم ثبوت المنافاة واقعاً إذ لو كانت ثابتة فكيف جوز أخذ الأجرة.

وربما يجاب أيضاً: بأن هذه الامور وجبت في الحقيقة لا مجاناً بل مع العوض فصحيح واجب على الطبيب الطبابة وعلى الخباز الخبازة وغير ذلك لكن يجب عليه ذلك مع العوض لا أنها وجبت مجاناً ، فإذا كانت واجبة مع العوض فإذن وجوبها سوف يصير بهذا الشكل ، فأخذ الأجرة حينئذٍ يكون جائزاً ، لأنَّ هذا الوجوب هو سنخ وجوب من البداية أوجبها الشرع بشرط بذل الأجرة من باب أنَّ النظام لا يستقيم إلا بذلك يعني أن بجوز الشارع الأجرة وإلا إذا لم يجوّز أخذ الأجرة فالطبيب لا يعالج الناس وهكذا الخباز والنجار وغيرهم ، فالنظام إذن يختل ، فإذن هي مادام وجبت هذه الأعمال لحفظ النظام فنقول حفظ النظام يقتضي أن وجوبها يختص بحالة أخذ الأجرة فوجوبها إذن هو من هذا القبيل أي بشرط أخذ الأجرة ، وبناءً عليه لا تحصل المنافاة ، إنما المنافاة هي ثابتة بين ذات الوجوب وأخذ الأجرة أما الوجوب المقيد بالأجرة لا يتنافى مع أخذ الأجرة لأنه من الأوّل مقيّد بأخذ الأجرة.

هكذا قد يخطر الى الذهن ، وربما ينسب ذلك إلى كاشف الغطاء(قده).

ولكن يرد عليه: إن الالتزام بوجوبها بشرط أخذ الأجرة صعب ، فلو فرضنا أنه حصل وباء وقال الطبيب أريد أجرة فنحن نجبره على معالجة الناس من دون أجرة للحفاظ على حياة المؤمنين ، فإذن لا يمكن أن تكون هذه واجبات مع الأجرة ، فإذا فرضنا أن الشخص قد بذل نفسه ويوجد أطباء كثيرون فصحيح ، أما إذا فرض أن الموجود هو طبيب واحد والآن صارت الحاجة إليه ماسة فلا يمكن أن نقول هي تجب بشرط الأجرة ، كلا بل هي تجب عليه ولو لم تكن أجرة فهؤلاء الناس الذين أشرفوا على الموت مادام لا توجد عندهم أجرة فيلزمه أن يعالجهم.

من هنا تصدى الشيخ النائيني(قده)[2] للجواب عن هذه المشكلة فقال ما حاصله: إنه في الحقيقة يوجد عندنا عنوانان ، عنوان بذل العمل ، وعنوان نفس العمل ، يعني بذل الطبيب للطبابة بأن يفتح عيادته ونفس الطبابة أي نفس العمل والواجب هو بذل العمل لا نفس العمل ، فإذا اتضح هذا فسوف نضم مقدّمة ثانية ونقول دفع الأجرة يكون مقابل نفس العمل الذي قلنا هو ليس بواجب وليس مقابل بذل العمل الذي هو واجب فارتفع الاشكال.

ونحن نسأل الشيخ النائيني(قده) سؤالين:

الأول:كيف تصبت أن بذل العمل هو الواجب لا نفس العمل ؟

الثاني: كيف تثبت أن الأجرة مقابل نفس العمل لا بذل العمل ؟

قال: أما بالنسبة جواب السؤال الأول: فباعتبار أن النظام يتوقف على بذل العمل ، فلابد وأن يأتي هذا الطبيب ويفتح عيادته ويهيئها للمراجعين وذاك الطبيب الثاني يفعل كذلك ، فهذا بذل العمل لا على نفس العمل ، فإذا كان يتوقف على بذل العمل فيكون الواجب هو بذل العمل دون نفس العمل.

وأما جواب السؤال الثاني: فباعتبار أن الأجرة تبذل مقابل ما يكون مالاً ، والذي يكون مالاً هو نفس العمل لا بذل العمل ، فعلى هذا الاساس لا مشكلة.

ولكن يبقى شيء واحد: وهو أنه نفس العمل وبذل العمل لا مغايرة حقيقية بينهما ، بل هما واحد والمغايرة اعتبارية ، ومجرّد أنه يفتح العيادة ويهيئ الأمور ليس هو بذل العمل بل بذل العمل هو حينما يمارس المهنة ويشرع بفحص المريض فإن هذا هو بذل العمل ، وهذا أيضاً هو نفس العمل ، فلا مغايرة بينهما .أجاب بأنه نعم صحيحٌ بأنه لا مغايرة بينهما ولكن اعتباراً توجد مغايرة بينهما ،فانحل الاشكال.


[2] منية الطالب، النائيني، ج1، ص46، 47.