33/12/28


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 28 ذ ح 1433 هـ 195)
 الموضوع : تكملة الكلام في المسألة السابعة والخمسين : الأمر السابع والثامن والتاسع من الأمور المهمة المتعلقة ببحث المقاصة مما لم يذكره السيد الماتن / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 ذكرنا في آخر الأمر السادس من الأمور التي قلنا إنه ينبغي التنبيه عليها رواية إسحاق بن إبراهيم وينبغي أن يُعلم أنه لا يفرق في الاستشهاد بها كيفية تفسيرها فسواء فُسّرت بأن هذا الشخص دفع لذاك الآخر مالاً ليصرفه في وجوه البرّ فتعذّر عليه صرفه فيه فبقي المال لديه وهذا القابض له دين في ذمة الدافع بمقدار المال المدفوع له فيسأل الدافع أنه هل يجوز لي أن اقتصّ فاحتسب ما عندي له بما له عندي أم يجب عليّ أردّ له ماله الذي في ذمتي له وأقتضيه ، أو فُسّرت بالعكس بأن يقال بأن القابض هو الذي يسأل أن لي عند هذا الدافع مقداراً من المال فهذا المال المدفوع من قبله لي والذي هو عندي هل يجب عليّ أن أردّه له وأقتضيه ديني أم يجوز لي أن أحتسب هذا المال المدفوع في مقابل مالي الذي في ذمته لي ، والاستشهاد بهذه الرواية على أيّ من التفسيرين من جهة أنها إذا كانت خالية من عبارة : (فأقتضيه) أو كانت متضمّنة لهذه العبارة وفُسّرت بالمطالبة الشخصية فحينئذ يتم الإطلاق فيها لأنها تدل على جواز التقاصّ من دون إشارة إلى مسألة الجحود والامتناع لا في كلام السائل ولا في جواب الإمام (عليه السلام) ، وأما إذا كانت متضمّنة لهذه العبارة ولكن فُسّرت بمراجعة القاضي والوصول إلى الحقّ عن طريقه فالرواية حينئذ يشكل الاستدلال بها على الإطلاق باعتبار أنه إشارة إلى أن الوصول إلى الحق إنما يكون عن طريق التقاضي وهو لا يخلو من إشعار بامتناع الطرف الآخر إن لم يكن مشعراً بجحوده [1] ، هذا .. مضافاً إلى ضعفها السندي فالعثور على رواية مطلقة تدلّ على جواز التقاصّ في غير صورتي الجحود والامتناع مشكل .
 الأمر السابع : إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل دين على صاحب الحقّ فهل يجوز لصاحب الحقّ المقاصّة من دينه [2] ؟
 الظاهر أنه يجوز له ذلك فيحتسب عمّا عليه مقاصة سواء كان بقدره أو كان أزيد منه غاية الأمر أنه في فرض الزيادة يُرجع الزائد إلى الغريم وعلى ذلك فإذا فُرض أن هذا الغريم رفعه إلى الحاكم باعتبار أن له ديناً عليه - وقد جاز شرعاً لصاحب الحقّ أن يقتصّ من دين الغريم باعتبار ما له من الحق عليه - فحينئذ هل يجوز للمدين الذي هو صاحب الحقّ أن يجحد دين الغريم مع أنه واقعاً موجود غاية الأمر أنه احتسبه في مقابل ما له عليه [3] أو لا ؟
 الظاهر أنه يجوز له ذلك فيجحد ويحلف على أن ليس في ذمته لهذا الطرف شيء [4] وهذا ما تدل عليه بعض الروايات المتقدمة [5] ، والسرّ فيه أنه واقعاً قد برئت ذمته من الدين لأنه احتسب ما له عليه من الحقّ في مقابل ما لذاك من الدين عليه فإن لازم التقاصّ هو براءة الذمة بمقدار المال المقتصّ المساوي للحقّ .
 الأمر الثامن : في أن المقاصّة هل هي من باب المعاوضة بحيث تتحقق بها المبادلة بين ما أخذه مقاصّة وبين حقّه الموجود عند ذاك الذي يمتنع من أدائه بحيث يكون ما يأخذه عوضاً عن حقّه الثابت عند ذاك والمراد بالحقّ هنا أعم من أن يكون ديناً أو يكون عيناً فإن كان ديناً وثبتت المعاوضة تبرأ ذمة الغريم من هذا الدين لأن صاحب الحق قد أخذ من امواله ما يكون عوضاً عمّا في ذمته له [6] ، وأما إذا كان المال عيناً كما لو غصب منه كتاباً فأخذ من أمواله ما يساوي الكتاب المغصوب في القيمة فمقتضى المعاوضة هنا هو أن الغريم يملك ذلك الكتاب فالسؤال هنا : هل الأمر كذلك بمعنى كون المقاصّة من باب المعاوضة أم أنها بمعنى آخر ؟
 قد يقال بالأول ويُستدلّ له بأمرين :
 الأول : أن هذا هو ظاهر النصوص أي أن المقاصّة هي من باب المعاوضة .
 الثاني : ما ذُكر من أن المفروض في محلّ الكلام أن ما يأخذه المقاصّ [7] هو عوضٌ عن ماله وحقه الموجود عند الطرف الآخر ولازم ذلك أن لا يبقى المعوّض في ملكه وإلا لزم الجمع بين العوض والمعوّض عند المقاصّ وهو غير جائز .
 وقد يقال بالثاني [8] ويُستدلّ له بما ادّعي من أن الأدلة لا يُستفاد منها أن ما يأخذه المقاصّ هو من باب المعاوضة وإنما هو أمر جوّزه الشارع من باب العقوبة فلا مانع معه من أن يبقى حقّه على ملكه وما أخذه إنما اخذه من باب العقوبة بحكم الشارع ولا موجب لخروج حقّه عن ملكه بمجرد التقاصّ بعد منع كون المقام من باب المعاوضة ليقال بلزوم الجمع بين العوض والمعوّض .
 وأقول : الظاهر أن تملّك المقاصّ لما يأخذه مما لا خلاف فيه بين القولين وهذا هو ظاهر النصوص
 وإنما الخلاف بينهم في أن هذا هل هو من باب المعاوضة أم هو من باب العقوبة كما عن صاحب المستند فإذا التُزمنا بأن ما يأخذه ويتملكه هو من باب المعاوضة فلا إشكال حينئذ في أنه لا بد من الالتزام بخروج ما يقابل العوض عن ملكه وإلا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض وهذه قضية لا يمكن إنكارها [9] فإنه لا يُعقل أن يكون من باب المعاوضة وأن لا يخرج ما يقابل العوض عن ملكه فإن هذا لازم لذاك ولا يمكن التفكيك بين المتلازمين وإلا خرجت المعاوضة عن حقيقتها فإن حقيقة المعاوضة متقوّمة بأن يدخل في ملكه العوض ويخرج عن ملكه ما يقابل العوض أعني المعوض فإذا افترضنا أن هذا الذي يأخذه ويملكه هو من باب المعاوضة فلازمه أن نقول إن ما يقابل العوض وهو المعوَّض - يخرج عن ملكه ويدخل في ملك من خرج العوض عن كيسه وهو الغريم فإذا كان ما يقابل العوض ديناً فحينئذ تبرأ ذمة الغريم منه وإذا كان عيناً فهو يملكها حينئذ فليس ثمة مناص إذا أُذعن أن التقاصّ هو من باب المعاوضة من القول بأن ما يقابل العوض يدخل في ملك الطرف الآخر حتى لا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض .
 وأما إذا التزمنا أنه من باب العقوبة فحينئذ يتعيّن الالتزام بعدم خروج ما يقابل ما يأخذه عن ملكه إذ لم يحصل ما يوجب خروجه عن ملكه ودخوله في ملك الغريم .
 هذان إذاً فرضان في المقاصّة والكلام هنا في أيّ الفرضين هو الصحيح ؟
 الذي يبدو من النصوص أن المقاصّة هي من قبيل الأول أي من باب المعاوضة وفاقاً للمشهور والمعروف ويمكن الاستدلال على ذلك بما تقدّم ذكره والاستئناس له بما ورد في روايات كثيرة من أنه يأخذه مكان ماله الذي ذهب به وهو معنى المعاوضة إذ لا يُراد منها أكثر من ذاك وبما ورد في ذيل معتبرة الحضرمي من قوله (عليه السلام) في مقام تعليم المقاصّ ما يقوله قبل التقاصّ : (اللهم إني آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني ولا آخذه ظلماً ولا خيانة ..) فظهور كون المقاصّة من باب المعاوضة في مثل هذه النصوص واضح .
 هذا .. مضافاً إلى ما هو المشاهد خارجاً من عمل المتشرّعة إذا أرادوا التقاصّ فإنهم لا يأخذون ما يأخذونه بعنوان العقوبة وإنما يأخذونه من باب المعاوضة فالمعاوضة أمر مركوز في أذهانهم وتساعد عليه الأدلة كما عرفت .
 على أن القول الثاني [10] تلزم منه أمور يُستبعد الالتزام بها :
 منها : بقاء ذمة الغريم مشغولة لصاحب الحقّ بعد التقاصّ مع أن المفروض أن صاحب الحقّ قد أخذ ما يساوي حقّه .
 ومنها : أنه حتى بعد استيفاء صاحب الحقّ لما يساوي حقّه فله مع ذلك كامل التصرّف بما عند الغريم من عين أو في ذمته من دين فله أن يبيعه أو يهبه أو يؤاجره على الغير كما لو كان داراً أو عبداً خارجاً أو في الذمة لأن المفروض على هذا الوجه أنها باقية على ملكه يتصرّف فيها تصرّف المُلاّك في أملاكهم ويُستبعد أن يثبت له ذلك وقد استوفى ما بإزاء حقّه من أموال الغريم .
 الأمر التاسع : لا إشكال في جواز التقاصّ في ما إذا لم يكن يتوقف على تصرف أكثر من نفس التقاصّ كما لو وقع تحت يده مال للغريم ولم يكن يستلزم التقاصّ أكثر من أخذ الحقّ منه فإذا كان مال الغريم [11] مساوياً للحق فهو وإذا كان أزيد منه فلا إشكال في أنه يجب على صاحب الحق إيصال الزائد إلى مالكه كما ورد ذلك في بعض الروايات وقد عُبّر فيها أنه يُسلّم الباقي إليه ولكن لو فُرض أن استيفاء الحق من مال الغريم كان يتوقف على نحو من أنحاء التصرّف كبيع داره - مثلاً - فهل يجوز لصاحب الحقّ مثل هذا التصرف مقدمة لاستيفاء الحق منه أم لا ؟
 الظاهر أنه لا إشكال اتّفاقاً في جواز ذلك فله أن يبيع دار الغريم التي وقعت تحت يده ويستوفي ماله من ثمنها فإذا كان الثمن مساوياً لحقّه فهو وإن كان أزيد أرجع الباقي ، ويمكن استفادة هذا المعنى من إطلاق بعض الروايات كصحيحة داود المتقدّمة حيث ورد فيها قوله : (خُذ مثل ذلك) حيث جوّز له الإمام (عليه السلام) أخذ المثل في ما لو كان قد وقع في يده متاع يختلف عمّا أُخذ منه فإن تجويز أخذ المثل مع أن ما وقع بيده من أموال الغريم ليس مِثلاً لما أخذه الغريم منه يدل بدلالة الاقتضاء على أنه يجوز له بيعه والأخذ من ثمنه لأن الثمن يصح أن يقال إنه مثل المأخوذ من جهة تساويهما في القيمة فضلاً عمّا إذا كان ما وقع بيده مثل ما اُخذ منه فعلاً كما لو كان المأخوذ منه جارية وما وقع بيده من أموال الغريم جارية أيضاً مثلها فيأخذها بلا حاجة إلى تصرّف زائد أصلاً فكل ذلك مشمول للإطلاق .
 هذا تمام الكلام في مسألة المقاصّة وقد أعرضنا - اختصاراً - عن فروع كثيرة ذكرها الأصحاب في كتبهم .


[1] وجه الإشعار أن صاحب الحقّ لو لم ير أن الغريم سيمتنع او يجحد الحقّ لما سعى إلى مقاضاته عند الحاكم بل كان طالبه شخصياً .
[2] لا يبعد أن تكون رواية إسحاق بن إبراهيم المتقدّمة هي من هذا القبيل (منه دامت بركاته) .
[3] أي على الغريم .
[4] طبعاً هذا في فرض مساواة دين الغريم لحقّه وأما في فرض زيادته عليه فيحلف على أن ليس في ذمته إلا المقدار الزائد .
[5] كما في قوله (عليه السلام) : (أحبّ إليّ أن تأخذ وتحلف) .
[6] أي عمّا في ذمة الغريم لصاحب الحق .
[7] أي صاحب الحق وهو المدّعي .
[8] أي أن المقاصّة ليست من باب المعاوضة .
[9] وإن ورد هذا الإنكار في كلمات صاحب المستند (منه دامت بركاته) .
[10] أي كون المقاصّة من باب العقوبة .
[11] أي الذي وقع تحت يد صاحب الحق .