33/12/19


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 19 ذو الحجة 1433 هـ 188)
 الموضوع : الكلام في المسألة الرابعة والخمسين : في مدى جواز استقلال المدّعي بانتزاع ماله أو التقاصّ من مال آخر في صورة ما إذا كان المال عيناً / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في المسألة الرابعة والخمسين ولا بد من إعادة شرحها استدراكاً على ما تقدّم في البحث السابق فأقول :
 موضوع هذه المسألة ما إذا كان الحقّ - الذي يريد صاحبه التوصّل إليه والموجود بيد شخص آخر مالاً [1] فالكلام يقع في أن من يدّعي كون المال الموجود بيد شخص آخر هو له فهل يجوز له الاستقلال بانتزاعه أو التقاصّ من مال آخر لذلك الشخص أم أن هذا التصرف بحاجة إلى مراجعة الحاكم الشرعي ، وقلنا إن الكلام تارة يقع في ما إذا كان المال عيناً وأخرى في ما إذا كان ديناً :
 أما إذا كان المال عيناً فالكلام يقع في أنه هل يجوز لمن يدّعي ملكية عين أن ينتزعها ممن هي بيده أو يُقاصّه من مال آخر لو وقع بيده ؟
 هاهنا صور :
 الصورة الأولى : ما إذا تمكّن من انتزاع العين ولم يلزم من ذلك محذور شرعي أو أيّ تصرف محرّم في أموال الشخص الذي بيده العين .. وهنا لا إشكال في جواز الانتزاع .
 الصورة الثانية : ما إذا تمكّن من انتزاع العين ولكن لزم من ذلك وقوع فتنة عظيمة تراق فيها الدماء وتُهتك فيها الأعراض ونحو ذلك .. وهنا لا إشكال في عدم جواز الانتزاع .
 الصورة الثالثة : ما إذا تمكّن من انتزاع العين ولزم من ذلك تصرّف محرّم بإلحاق الضرر بمن في يده العين كتمزيق ثيابه أو كسر بابه ونحو ذلك فهنا هل يكون الانتزاع حينئذ جائزاً أو قل هل لهذا الشخص أن يستقل بانتزاع العين وإن لزم من ذلك التصرف المحرم أم ليس له ذلك ؟
 وفي هذه الصورة فرضان :
 الأول : أن يكون المدّعي متمكناً من الوصول إلى حقّه عن طريق الترافع إلى الحاكم الشرعي وإثبات حقّه عنده .
 وهنا تارة يُفترض أنه لا يلزم من ذلك لحوق ضرر به والظاهر أنه في هذه الحالة لا يجوز له الاستقلال بالانتزاع بل المتعيّن له الترافع إلى الحاكم الشرعي وذلك لعدم كونه مضطراً إلى ارتكاب الحرام ولأجله لا ترتفع حرمة التصرف الذي يلزم من الانتزاع بحسب الفرض .
 وأخرى يُفترض أنه يلزم من ذلك لحوق ضرر به ولو من جهة التأخير في استحصال حقّه ممن هو بيده ، وفي هذا الفرض هل يجوز له الانتزاع المستلزم للتصرف المحرّم أم لا ؟
 قد يقال بالجواز بناءً على عدم وجوب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير لأن المفروض أنه يتضرر من الترافع إلى الحاكم فلا يجب عليه الن يتحمل هذا الضرر لدفع الضرر المفروض لحوقه للغير ككسر بابه أو تمزيق ثيابه .
 وإن نوقش في الجواز فلا أقل من تعارض الضرران وتساقطهما فيُرجع إلى عمومات السلطنة التي تقتضي جواز الانتزاع .. ولكنه لا يخلو من إشكال وإن لزم من الترافع كما هو المفروض لحوق الضرر على الشخص الذي يدّعي الحقّ وذلك باعتبار أن المفروض في محلّ الكلام أن المسألة داخلة في باب الدعوى والمرافعة وأن من بيده العين يُنكر أن تكون للمدّعي ولا بد في باب الدعوى لأجل الوصول إلى الحقّ المدّعى به من حكم الحاكم ومجرد اعتقاد الشخص أن العين له لا يسوّغ ارتكاب الحرام شرعاً .
 وأما مسألة إدخال المقام في كبرى عدم وجوب تحمّل الضرر لدفع الضرر عن الغير فالظاهر أنه ليس صحيحاً فإن المقام لا يدخل تحت هذه الكبرى وإنما يدخل تحت كبرى عدم جواز دفع الضرر عن النفس بإلحاق الضرر بالغير وفرق شاسع بين الكبريين فإن الأولى إنما تُتصوّر في ما لو توجّه الضرر ابتداء إلى الغير فيقال إنه لا يجب على الشخص أن يتحمل الضرر لكي يندفع الضرر عن الغير ، وأما الكبرى الثانية فمفادها أنه لا يجوز أن يدفع الشخص الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير وهذا إنما يُتصور كما قلنا عندما يكون الضرر متوجهاً ابتداء إلى الإنسان نفسه فيدفع هذا الضرر عنه بإلحاقه بالغير وهذا غير جائز ، والمقام يدخل في هذه الكبرى الثانية وذلك لأن الضرر في محلّ الكلام الحاصل من الترافع ولو باعتبار التأخير متوجه ابتداء إلى هذا الشخص المدّعي فهو يريد أن يدفع هذا الضرر عن نفسه بأن لا يترافع بل ينتزع العين من يد المُدّعى عليه ويُلحق به الضرر وهذا غير جائز .
 وعلى كل حال فالأحوط في هذا الفرض إن لم يكن أقوى عدم الاستقلال بالانتزاع بل لا بد من الترافع إلى الحاكم الشرعي وإن لزم الضرر من جرّاء ذلك كالتأخير ، والسرّ فيه أن المسألة تدخل في باب الترافع والدعوى وفي هذا الباب لا يمكن التوصّل إلى الحق إلا عن طريق حكم الحاكم الشرعي وإلا فإن كل مدّع هو يعتقد أن المال له فلو أُجيز لكل مدّع أن ينتزع المال ممن هو بيده مع كونه منكراً لاستحقاق المدّعي له لاعمّت الفوضى واختلّ النظام فلا بد إذاً من الترافع وإن لزم منه الضرر على المدّعي كالتأخير في استحصال حقّه .
 الفرض الثاني : ما إذا كان غير متمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي سواء لم يتمكن من ذلك أصلاً أو تمكن منه لكنه كان عاجزاً عن إثبات حقّه عنده ففي هذه الحالة هل يجوز الانتزاع أم لا ؟
 قد يقال هنا بالجواز باعتبار انحصار الوصول إلى حقّه بالانتزاع فالمحكّم حينئذ التمسّك بعمومات السلطنة القاضية بالجواز .
 ولكن يسري هنا الإشكال السابق وهو أن كلامنا في ما إذا كان من بيده العين يُنكر ما يدّعيه عليه المدّعي وهذا غير ما لو كان الغاصب معترفاً بأن العين للشخص الذي يدّعيها ولكنه يمتنع عن إرجاعها له فإن لهذه الصورة حكمها الخاص وهو أنه يدخل في باب الدفاع عن الأموال فيجوز له انتزاع ماله بأيّة كيفية كانت كما تقدّمت الإشارة إليه في البحث السابق وتدل على ذلك نفس روايات الدفاع عن الأموال بعد تعميمها لاسترداد المال بعد أخذه حيث إن هذه الروايات لا تختص بالدفاع عن الأموال قبل أخذها ومنع الغير من الاستيلاء عليها وإنما تشمل بتنقيح المناط والاستظهار العرفي أخذ المال ولو بالقوة ممن غصبه ، وأما إذا كان من بيده المال يُنكر لاسيما إذا كان إنكاره عن حقّ فحينئذ تدخل المسألة في باب الدعوى والمرافعة وأما كون المدّعي لا يتمكن من الترافع إلى الحاكم الشرعي فلا يُبرر بحدّ ذاته الانتزاع المستلزم للتصرف المحرّم بالإضرار بالغير والأدلة لا يظهر منها الجواز فالقول به لا يخلو من إشكال .. مضافاً إلى ما يلزم من الجواز من انتشار الفوضى واختلال النظام إذ أن كل من يدّعي شيئاً يرى أن الحقّ له فإذا فُرض أنه ليس له بيّنة ليتمكن من إثبات حقّه عند الحاكم الشرعي أو كانت عنده بيّنة ولكنه لم يكن متمكناً من الوصول إليه وأجيز له مع ذلك أن ينتزع المال ممن كان بيده مع كون هذا منكراً لما يدّعيه عليه لزم من ذلك المحذور المشار إليه من اختلال النظام فالظاهر أن القول بالجواز ليس بمنأى عن الإشكال .
 وقد يقال في مقابل ذلك بجواز التقاصّ لا الانتزاع فيجوز للمدّعي إذا ما وقع عنده مال الشخص الآخر أن يأخذ منه بمقدار حقّه من العين وهذا يستند في المقام إلى إطلاق بعض الروايات كصحيحة البقباق وصحيحة داود بن رزين أو زربي على ما تقدّم - :
 أما الأولى فهي عن أبي العباس البقباق : " أن شهاباً ماراه في رجل ذهب له ألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الألف الذي أخذ منك فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر له ذلك فقال : أما أنا فأحبّ إلي أن تأخذ وتحلف " [2] أي تأخذ بمقدار العين وتحلف على أن لك الحقّ .
 والاستدلال بهذه الصحيحة مبني على افتراض إطلاقها وشمولها لمحلّ الكلام وهو ما إذا كان المال عيناً .
 وأما الثانية فهي عن داود بن رزين : " قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إني أخالط السلطان فيكون عندي الجارية فيأخذونها أو الدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ثم يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه ؟ قال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه " [3] .
 وهذه الرواية صريحة في أن المال عين لأجل ذكر الجارية والدابة فيها ويُستدلّ بها على جواز التقاصّ بمقتضى إطلاقها سواء تمكن من الترافع أم لم يتمكن منه ولا أقل من أن القدر المتيقَّن منها هو عدم التمكن الذي هو محلّ الكلام فعلاً .
 والاستدلال بهاتين الروايتين ناقشنا فيه في البحث السابق :
 أما بالنسبة إلى صحيحة داود فالظاهر أنها ناظرة في تجويزها للمقاصة إلى صورة عدم التمكن من الانتزاع بقرينة أن الآخذ للجارية والدابة الفارهة هو السلطان ولذا انتقل الراوي إلى ما يقدر عليه من الأخذ من أموالهم التي تقع بيده في حين أن محلّ الكلام إنما هو التمكن من الانتزاع مع عدم التمكن من الوصول إلى حقّه بالترافع إلى الحاكم الشرعي .
 ومع الغضّ عن ذلك فالرواية ليس فيها إطلاق يشمل صورة التمكن من الانتزاع فلعله في هذه الصورة لا يجوز التقاصّ ولذلك لا يصح الاستدلال بهذه الروايات على جواز التقاصّ لأن المتيقن منها هو صورة عدم التمكن من الانتزاع ولعل جواز التقاصّ مختص بهذه الصورة دون غيرها .
 وأما بالنسبة إلى صحيحة البقباق فقد شكّكنا - في البحث السابق - في إطلاقها لمحل الكلام حيث قلنا إن الظاهر أنها لا تشمل العين لأن المأخوذ فيها عبارة عن نقد وهو ألف درهم وهو عادة لا يبقى متميزاً حيث يتصرّف فيه الآخذ إما بالتبديل أو الاختلاط بأمواله وهذا بحكم التلف للعين المأخوذة فحينئذ تنتقل الألف درهم إلى الذمة فتصبح ديناً فليس ثمة عين في البين حتى تُنتزع ممن هي بيده مع أن محلّ الكلام في ما إذا كانت العين متميزة فيقع الكلام حينئذ في أنه هل له أن ينتزعها بدون مراجعة الحاكم الشرعي أم لا يجوز له ذلك .. إذاً فالرواية ليس فيها إطلاق ليشمل العين والدين بل هي ناظرة إلى خصوص الدين حتى مع افتراض أن المأخوذ هو الدراهم .
 ويمكن أن يقال إن هذه الرواية لعلها ناظرة أيضاً إلى صورة عدم إمكان الانتزاع ولكن باعتبار عدم بقاء المأخوذ متميزاً بنفسه ، وجواز التقاصّ مع عدم إمكان الانتزاع لا يستلزم جواز التقاصّ مع إمكان الانتزاع الذي هو محلّ الكلام فالالتزام بجواز التقاصّ استناداً إلى إطلاق هذه الروايات ليس واضحاً .
 هذا كلّه في ما إذا كان المال عيناً ، وأما إذا كان ديناً فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .


[1] وأما إذا كان الحقّ من قبيل العقوبة فقد تقدّم بيانه سابقاً فلا نعيد (منه دامت بركاته) .
[2] الاستبصار مج3 ص53 ، الوسائل مج17 ص272 .
[3] التهذيب مج6 ص338 ، الوسائل مج17 ص214 .