33/11/08


تحمیل
  (بحث يوم الثلاثاء 8 ذو القعدة 1433 هـ 171)
 الموضوع : الكلام في المسألة الخامسة والأربعين : ذكر أدلة القائلين بعدم اشتراط القرعة في القسمة والاكتفاء بالتراضي / تكملة الكلام في الدليل الخامس : الاستدلال على الدعوى الثانية / الرأي الثاني من الخلاف الأول / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 كان الكلام في الدليل الخامس وقلنا إنه يتضمن دعويين وقد تقدم الكلام في الاستدلال على الدعوى الأولى منهما .
 أما بالنسبة إلى الاستدلال على الدعوى الثانية [1] :
 فيقال في مقام إثباتها بأن هذه الدعوى تتّضح من خلال معاينة طريقة العرف في باب التقسيم فإن المشاهد أن الناس عندما يقسّمون الميراث في ما بينهم في حالة التراضي ويفرزون حصة الزوجة عن باقي الحصص أو يعطون للصغير القاصر حصته من التركة أو يُخرجون الثلث من التركة تنفيذاً لما أوصى به الميت فإن الملاحظ في هذه الموارد وغيرها مما يتحقق فيه التقسيم أنهم يبنون على تحقق القسمة اسماً ومعنى من دون توقف على القرعة بل قد يستنكفون عن الامتناع عن التقسيم إلا بالقرعة ولا يعدّونه أمراً مناسباً [2] بل قد ينكرون على من يُصرّ على استخدام القرعة في القسمة ، نعم .. قد يختلف الأمر في صورة التنازع فيصار إلى إجراء القرعة في القسمة ولكن هذا غير محلّ الكلام فإن ما نحن هو صورة التراضي بين الورثة وكون القسمة مفهوماً وآثاراً وشرائط لا تتحقق بالقرعة وقد عرفت أنها غير متوقفة عليها مطلقاً .
 هذا بالنسبة إلى العرف ، وأما بالنسبة إلى اللغة فلعل الأمر فيها أوضح حيث لم يذكر أحد من اللغويين في بيان معنى القسمة - بمقدار ما راجعته - اعتبار القرعة في ذلك ، نعم .. تقدم سابقاً أن الشيخ صاحب الجواهر (قده) هو الذي طرح احتمال أن تكون القرعة معتبرة في حقيقة القسمة ومفهومها ولكن هذا مما لا نوافق عليه بل كل من تعرّض الى هذا الكلام لم يكن عنده بموضع الرضا ولم يَحْضَ منه بالقبول .
 هذا هو الدليل الخامس [3] وهو مما لا بأس بالاستناد إليه في حال عدم وجود معارض له .
 وما تقدّم كله كان في الرأي الأول من الخلاف الأول وهو في كون القرعة معتبرة في القسمة أو غير معتبرة فيها وذكرنا أن المعروف وإن كان هو اعتبار القرعة في القسمة ولكن ذهب الى خلاف ذلك بعض الفقهاء (رض) منهم الشهيدان والعلامة وصاحب الحدائق ومعظم المتأخرين فقالوا بعدم اعتبار القرعة في القسمة وكان هذا هو الرأي الأول في هذا الخلاف .
 الرأي الثاني : وهو اعتبار القرعة في القسمة وعدم تحققها بدونها وهو الرأي المعروف كما ذكرنا - ، والمنقولُ عن المحقق صاحب الكفاية والمحقق السبزواري نسبته الى الاكثر ، واستُدلّ عليه بعمومات أدلة اعتبار القرعة وإطلاقاتها بدعوى شمولها لمحل الكلام فلا تصحّ القسمة من دون إجراء القرعة .
 واعتُرض عليه :
 أولاً : بمنع شمول أدلة اعتبار القرعة للمقام إما بدعوى اختصاصها بصورة التنازع والمفروض في محلّ الكلام هو صورة التراضي ، أو اختصاصها بما اذا كان الحق معيّناً في الواقع مجهولاً عندنا كما مُثّل له بالشاة الموطوءة في ضمن قطيع من الغنم فإن هذه الشاة وإن كانت مردَّدة ظاهراً إلا أن لها تعيّناً في الواقع فيُستعان بالقرعة لرفع هذا التردّد والحكم بكون ما خرجت عليه القرعة هو الفرد المجهول عندنا ، وأما إذا كان الشيء مردّداً ظاهراً وواقعاً أي ليس له تعيّن في الواقع فلا يكون مورداً لجريان القرعة ، والمقام من هذا القبيل كما لو ورث اثنان داراً من أبيهما على نحو الاشاعة والاشتراك فحصة كل منهما لا تعيّن لها حتى في الواقع لأن سبب الملكية وهو الإرث في المثال - لا يعيّن حصة أيّ من الورثة بل تكون حصة كل منهم مشاعة في المجموع ، وكما لو كان صداق الزوجة عيناً خارجية وطلّقها قبل الدخول فإنه يكون شريكاً معها في تلك العين على نحو الاشاعة أيضاً وليس لحصته أو حصتها تعيّن وامتياز في الواقع فلا يكون ثمة محلّ لإجراء القرعة .
 وثانياً : بما تقدم سابقاً من أن عمومات القرعة موهونة بكثرة الخارج منها فلا يصح التمسك بها في مورد إلا بعد إحراز عمل الأصحاب به .
 وأجيب عن الوجهين :
 أما عن الثاني : فبما تقدم ذكره في بحث سابق من أن ما ذُكر ممّا لا تساعد عليه الصناعة .. فراجع تفصيله .
 وأما عن الأول : فبما تقدم أيضاً من أن أدلة القرعة ليست كلّها على هذا النحو من كونها واردة في صورة التنازع فإن هذا لا يعدو عن كونه مورداً لها وهو لا يوجب اختصاص جريان القرعة به وقد تقدّم ذكر الروايات التي يمكن أن يستفاد منها الاطلاق أو التعميم وإن كان قد تقدّمت منّا المناقشة في هذا أيضاً .
 وأما دعوى أن القرعة تختصّ بما له تعيّن في الواقع وتردّد في مقام الظاهر فقد منع منها جماعة قائلين بأن روايات القرعة بعد استقرائها يتبيّن أن لها موردين :
 الأول : ما كان له واقع معيّن في نفسه ولكنه كان مجهولاً عندنا من قبيل الشاة الموطوءة - كما تقدّم التمثيل به - ، وهذا المورد مما لا إشكال في جريان القرعة فيه .
 المورد الثاني : ما ليس له تعيّن في الواقع أو قل ما كان واقعه في حدّ ذاته مجهولاً كما في صداق الزوجة المطلّقة قبل الدخول إذا كان من الأعيان الخارجية - كما تقدّم التمثيل به أيضاً - .
 فالقرعة بحسب الروايات تجري في هذا المورد أيضاً ولا تختصّ بالمورد الأول والسيد الماتن (قده) ذكر ثلاث روايات واضحة في جريان القرعة في مثل هذا المورد - أي في ما ليس له تعيّن في الواقع - :
 الأولى : معتبرة إبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " في رجل قال : أول مملوك أملكه فهو حرّ فورث ثلاثة ، قال : يُقرع بينهم فمن أصابته القرعة أعتق ، قال : والقرعة سنة " [4] .
 والملاحظ هاهنا أنه لا يوجد تعيّن واقعي لمن تخرج عليه القرعة فلا امتياز لأيّ مملوك عن الآخر في الواقع قبل إجراء القرعة .
 الثانية : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " في رجل قال : أول مملوك أملكه فهو حرّ فورث سبعة جميعاً قال : يقرع بينهم ، ويعتق الذي خرج سهمه " [5] .
 والحال في الاستدلال بهذه الرواية كالحال في سابقتها .
 الثالثة : صحيحة منصور بن حازم :
 " قال : سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة ، فقال له : هذه تخرج في القرعة ، ثم قال : وأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فُوّض الأمر إلى الله عز وجل ؟! أليس الله يقول تبارك وتعالى : (فساهم فكان من المدحضين) " [6] .
 ومورد الاستدلال هو استشهاد الامام (عليه السلام) بقضية نبي الله يونس (عليه السلام) من جهة أن الحوت كان يطلب واحداً غير معيّن واقعاً ممّن في السفينة وأُجريت القرعة لتحديد هذا الواحد غير المعيّن فتكون هذه الرواية دليلاً على أن القرعة تجري حتى في ما لا تعيّن له في الواقع .
 وما يمكن أن يقال تعليقاً على هذا الاستدلال أن هناك بعض الأخبار التي تدل على أن قضية يونس (عليه السلام) ليس من مورد ما لا تعيّن له واقعاً بل من مورد ما له تعيّن في الواقع وإن كان في الظاهر مجهولاً ففي تفسير القمي في رواية صحيحة عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) : (أن أهل السفينة لما توسّطوا البحر بعث الله حوتاً عظيماً فحبس عليهم السفينة من قُدّامها فنظر إليه يونس ففزع منه وصار إلى مؤخّر السفينة فدار إليه الحوت وفتح فاه فخرج أهل السفينة فقالوا فينا عاصٍ فتساهموا فخرج سهم يونس وهو قول الله عز وجل : " فساهم فكان من المدحضين " فأخرجوه فالقوه في البحر فالتقمه الحوت ومرّ به في الماء) [7] .
 فبحسب هذه الرواية كان بينهم عاصٍ يطلبه الحوت باعتقادهم فله إذاً تعيّن في الواقع فأجروا القرعة لتعيينه من بينهم فتساهموا فخرج سهم يونس .
 وعلى ذلك فلا مجال للاستدلال بصحيحة منصور بن حازم من جهة استشهاد الامام (عليه السلام) بقضية يونس لوجود هذه الرواية المعارضة لها .
 أما الصحيحتان الأولى والثانية فيمكن محاسبتهما كرواية واحدة وموردهما وإن كان مما لا تعيّن له واقعاً لأن الوارد فيهما قوله : (أول مملوك أملكه فهو حرّ) ومن الواضح أنه مما لا تعيّن له في الواقع بعد أن كان ما ورثه أكثر من مملوك واحد ولكن موردهما هو صورة التنازع ولو كان هو التنازع الشأني فإنه وإن لم يُصرَّح فيهما أن العبيد تنازعوا في ما بينهم في أيّ منهم يكون هو الحرّ إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذا الوضع يستدعي التنازع ولو في نوع هذه القضية ومن هنا ذهب الشيخ الانصاري (قده) إلى أن روايات القرعة الواردة في ما ليس له تعيّن واقعي مختصة بصورة التشاحّ والتنازع ولذا منع من إجراء القرعة في محلّ الكلام أعني صورة التراضي - .
 وعلى ذلك فهل يمكن ردّ الاستدلال بهاتين الروايتين بما ذُكر من كون موردهما هو التنازع ولو الشأني ؟
 هذا ما يأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى .


[1] وهي دعوى أن اللغة والعرف هما المرجع في تحديد معنى القسمة وما هو المراد بها وماذا يُعتبر فيها وتعيين موارد صدقها مع القرعة وموارد صدقها بدونها .
[2] والكلام في صورة التراضي .
[3] وهو آخر الأدلة في المقام .
[4] التهذيب مج6 ص240 .
[5] الفقيه مج3 ص94 .
[6] المحاسن للبرقي مج2 ص603 .
[7] تفسير القمي مج1 ص318 ، وفي الكشّاف : (أنه حين ركب في السفينة وقفت فقالوا : ههنا عبد أبِقَ من سيّده، وفي ما يزعم البحّارون أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجرِ فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق [أي حيث لم يبقَ في قومه وينتظر أمر ربّه] وزجّ بنفسه في الماء " فالتقمه الحوت " ) الكشاف للزمخشري مج3 ص353 .