33/06/29


تحمیل
  (بحث يوم الاثنين 29 جمادى الثانية 1433 هـ 138)
 الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التي وقع الكلام في نفوذ الحكم فيها وعدم نفوذه / استدراك على الصورة الثانية من النحو الثاني وطرح رأي الشيخ صاحب الجواهر (قده) وتوجيهه مع الردّ وذكر فروع متمّمة لمحل الكلام / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
 
 ذكرنا في البحث السابق صورة أخرى للنحو الثاني [1] وهي نقض الحاكم لحكم نفسه عندما يتبدّل اجتهاده حيث قلنا إن مقتضى الأدلة أنه لا يجوز له النقض وننبّه هاهنا على مطلب ذكرناه سابقاً وهو اعتراض الشيخ الأنصاري الذي قلنا إنه يرد أيضاً على هذه الصورة وحاصله :
 أن الحكم الأول ليس حكمهم (عليهم السلام) بل الثاني هو حكمهم فإذاً المقبولة لا تشمل الحكم الأول لتدلّ على نفوذه ، واستدل على ذلك بأنه لا يجوز له أن يحكم بحكمه الأول في الزمان الثاني [2] .
 وأقول : يمكن أن يُلاحظ على هذا الاعتراض بأن عدم جواز الحكم بالحكم الأول في الزمان الثاني لا يصلح أن يكون دليلاً على عدم كونه حكماً لهم (عليهم السلام) وقت صدوره من الحاكم الأول ، نعم .. هو دليل على أنه ليس هو حكمهم الآن لفرض تبدّل الاجتهاد وأما وقت صدوره فقد كان واجداً للشرائط فكان في حينها حكمهم (عليهم السلام) .
 ويمكن تطبيق هذا على بعض الموارد المتقدّمة من قبيل ما إذا حكم الحاكم استناداً إلى يمين المُدّعى عليه من جهة أن المدّعي ليس له بينة ثم جاء المدّعي بالبينة فهنا يقال بأن الحكم الأول استناداً إلى اليمين يكون نافذاً ولو أظهر بعد ذلك المدّعي البيّنة [3] مع أنه لا إشكال في عدم إمكان أن يحكم بالحكم الأول في الزمان الثاني [4] .
 والحاصل أن عدم جواز الحكم بالحكم الأول في الزمان الثاني ليس دليلاً على أن الحكم الأول لم يكن حكمهم بل هو حينما صدر كان حكماً لهم غاية الأمر أنه بتبدّل الاجتهاد لا يكون حكماً لهم في في القضايا الحاصلة في الأزمنة اللاحقة .
 هذا وقد ذكر السيد صاحب العروة (قده) في ملحقاتها ما يمكن جعله من موارد الصورة الثانية للنحو الثاني حيث قال :
 " إذا استفرغ الحاكم وسعه في الاجتهاد ولم يكن مقصّراً في الفحص عن الدليل وكان هناك خبر معتبر بلا معارض أو دليل ظني آخر [5] وكان بحيث لو عثر حين الحكم عليه [6] لحكم على طبقه لكنه لم يعثر عليه فحكم بخلافه فالظاهر نفوذ حكمه مع عدم العلم بكونه خلاف الواقع وإن كان مخالفاً لذلك الخبر أو الدليل الظني فلا يجوز له ولا لغيره نقضه لأن ما أدّى إليه اجتهاده مع فرض عدم تقصيره حجة شرعية وحكمه حكم الله تعالى " .
 ثم إن الشيخ صاحب الجواهر (قده) [7] كان قد ذهب إلى جواز الترافع إلى حاكم آخر إذا تراضى المتخاصمان فيكون نظر الحاكم الثاني إذا رُفعت إليه القضية جائزاً ونقضه لحكم الحاكم الأول لو فُرض أنه أدّى نظره إلى ما يخالف حكم الحاكم الأول جائزاً أيضاً بالشرط المتقدّم [8] وذكرنا في محلّه أن السيد صاحب العروة (قده) استدلّ له بعد أن رجّحه واختاره بعدم صدق الردّ عليه حتى مع كون الحكم الثاني على خلاف الأول لاسيما مع احتمال خطأ الحاكم الأول أو إرادته تجديد النظر في مقدمات حكمه .
 لكن يمكن أن يقال إن التراضي ليس له دخل في تغيير الحكم بعد صدوره بحيث يرتفع عند وجوده ويثبت عند عدمه كيف !! وقد دلّت الأدلة على نفوذه وحرمة نقضه والردّ عليه فأيّ علاقة للتراضي بثبوت الحكم وارتفاعه .
 هذا .. ولكن يمكن أن يُذكر بعض ما يُعدّ توجيهاً لما ذهب إليه الشيخ صاحب الجواهر (قده) :
 الوجه الأول : أن يكون مقصوده (قده) أن الحكم بحرمة الترافع وتحريم النقض على الحاكم الآخر هو من قبيل الأحكام الاحترامية التي يُراد بها في ما نحن فيه مراعاة جانب المحكوم له - مدّعياً كان أم منكراً - فيُلتزم بأنه حكم نهائي لا يجوز نقضه ولا يجوز تجديد النظر فيه عند حاكم آخر فهو حكم من أجل المحكوم له فإذا فُرض رضاه بتجديد النظر عند حاكم آخر [9] فلا مانع حينئذ من أن يرتفع هذا الحكم لأنه إنما كان لأجله ومراعاة لجانبه فهو من قبيل الأحكام الاحترامية التي تكون قابلة للإسقاط عندما يتنازل من جُعل الحكم لأجله .
 ولكن هذا ليس بذلك الوضوح لأن الذي نفهمه من الأدلة - كما تقدّم مراراً - أن الغرض من الحكم إنما هو إنهاء الخصومة وحلّ النزاع لأن الشارع المقدّس يرى في إبقاء الخصومات والنزاعات مفتوحة فساداً كبيراً ولا يُفهم من الأدلة أن هذا حكم احترامي للمحكوم له وأنه حُكم لمراعاة جانبه في قبال المحكوم عليه .. وحينئذ نقول إن تجويز تجديد رفع القضية عند حاكم آخر حتى برضا المحكوم له لا يُحقق هذا الغرض بل مقتضى إطلاق الأدلة هو الحكم بالنفوذ وحرمة النقض والردّ مطلقاً سواء أرضي المتخاصمان بتجديد الدعوى أم لم يتراضيا بذلك .
 الوجه الثاني : ما أشار إليه الشيخ الأنصاري (قده) من أن معنى تراضي المتخاصمين هو رفع اليد عن الحكم الأول وبهذا يصبح بحكم العدم فلا مانع حينئذ من تجديد الدعوى ونظر الحاكم الثاني فيها وحكمه بحكم آخر مخالف للحكم الأول .
 وأورد عليه بعدم الدليل على دوران الأمر مدار تشهّي المترافعين وتراضيهما حيث يكون لهما أن يُبطلا الحكم إن شاءا فيكون كأنه لم يكن أو يُبقياه فيثبت ، ومقتضى الأصل بقاء أثر الحكم الأول ونفوذه حتى بعد رضا المتخاصمين بتجديد الدعوى عند حاكم آخر .
 هذا .. ويُذكر في المقام فروعاً متمّمة لمحلّ الكلام :
 الفرع الأول : في وجوب النظر على الحاكم الثاني في الحكم الصادر من الحاكم الأول ، وعلى تقدير عدم الوجوب هل يُحكم بالجواز أم لا ؟
 وهذا الفرع يمكن أن يُطرح على نحو مسألتين :
 الأولى : في أنه هل يجب على الحاكم النظر في حكم الحاكم الأول ؟
 وهذه المسألة قد افتُرضت في القاضي الذي حلّ مكان القاضي المعزول فقيل إنه هل يجب عليه أن ينظر في الأحكام التي أصدرها القاضي الأول ؟
 المسألة الثانية : بعد الذهاب إلى عدم الوجوب فقيل هل يجوز للحاكم الجديد النظر في القضايا التي حكم بها الحاكم الأول أم عليه أن يُمضيها كما هي ؟
 أما بالنسبة إلى المسألة الأولى فالظاهر أنه لا إشكال عندهم في عدم الوجوب وقد علّل هذا في كلماتهم :
 تارة بحمل قضاء الحاكم الأول على الصحة فإن مقتضاها أن الحكم الأول حكم صحيح صادر على وفق الموازين ، والمراد بالنظر هنا هو النظر الذي يتعقّبه الحكم على خلاف الحكم المنظور لو فُرض اختلاف الرأي وهذا ليس بجائز لأنه نقض للحكم الأول المُمضى شرعاً لأن هذا هو مقتضى حمل فعل المسلم على الصحة فإنه قضاء صدر من أهله فيُحكم بصحته ونفوذه .
 وأخرى بأن الغرض هو إنهاء الخصومة وفصل النزاع وحينئذ يقال بأن الدعوى التي حكم فيها الحاكم الأول انتهت فيها الخصومة وفُصل بها النزاع فلا دليل على وجوب أن ينظر فيها الحاكم الثاني ثانية ويُبدي رأيه فيها .
 وثالثة بالأصل فإن مقتضاه عدم وجوب النظر في دعاوى الحاكم الأول .
 والحاصل أن مسألة عدم وجوب تجديد النظر مسألة مسلّمة لا إشكال فيها وإنما الكلام وقع في جواز ذلك فأقول :
 إذا كان المراد من النظر مجرد تقييم حكم الحاكم الأول ومعرفة مدى صحته فالظاهر عدم المنع منه ويمكن التمسّك له بالأصل - أعني أصالة عدم الحرمة - بعد وضوح عدم صدق الردّ على هذا المقدار منه [10] .
 وأما إذا كان المراد منه هو إعادة النظر في الدعوى لكي يحكم فيها بما يراه - وقد يكون ما يراه مخالفاً للحكم الأول - فحينئذ يكون وجوب النظر مشكلاً جداً لاحتمال صدق الردّ عليه بل قد لا يبعد صدق الردّ وعدم قبول الحكم على أصل النظر في الدعوى لذلك الغرض ولو قبل الحكم فيها مجدّداً فإن الوارد في الرواية : (إذا لم يُقبل منه فقد استُخفّ بحكم الله سبحانه وتعالى -) .
 الفرع الثاني : في طلب الاستئناف وتجديد النظر من قبل المحكوم عليه في القضية عند حاكم آخر.
 وهذا يُفرَض إما لكون المحكوم عليه يدّعي - مثلاً أن الحاكم الأول ليس مجتهداً فهو يدّعي عدم أهليته من جهة عدم اجتهاده أو يطعن في أهليته من جهة الطعن في عدالته أو يدّعي أنه مقصّر في مقدمات حكمه من جهة عدم مراجعته للأدلة - مثلاً أو يدّعي جوره في الحكم أو يدّعي فسق الشهود الذين اعتمد عليهم في حكمه ففي هذه الحالات وأشباهها يطلب المحكوم عليه إعادة النظر في الدعوى فهل يُسمع منه ذلك أم لا ، وعلى فرض جواز السماع فهل يُطلب منه البيّنة لكي يثبت بها ما يدّعيه فيكون في ذلك مدّعياً ويكون الحاكم الأول مدّعى عليه أم لا ؟
 سيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى .


[1] وهو أن يتبيّن الخطأ في الاجتهاد على نحو الظن المعتبر .
[2] أي بعد تغيّر اجتهاده ، أي أنه (قده) جعل عدم جواز أن يحكم الحاكم بحكمه الأول في الزمان الثاني دليلاً على أن الحكم الأول ليس حكمهم (عليهم السلام) فلا تشمله أدلة النفوذ فلا يكون نافذاً .
[3] وهو مورد معتبرة ابن أبي يعفور المتقدّمة حيث ورد فيها أن اليمين أسقطت حقّ المدّعي فلا دعوى له .
[4] أي بعد ظهور البيّنة .
[5] أي بلا معارض أيضاً .
[6] أي على ذلك الخبر المعتبر .
[7] وهذا مطلب أشار إليه سابقاً شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) وذكره هنا أيضاً لدخالته في محلّ الكلام .
[8] يعني تراضي المتخاصمين .
[9] وهو معنى تراضي المتخاصمين لأن المحكوم عليه عادة يرضى بتجديد الدعوى وإنما الكلام في المحكوم له (منه دامت بركاته) .
[10] أي من النظر .