33/03/12


تحمیل
  (بحث يوم الأحد 12 ربيع الأول 1433 ه 68)
 كان الكلام في ذكر أدلة القول الثاني وهو عدم الاشتراط مطلقاً الذي يفيد سماع الدعوى سواء كانت جزمية أو لم تكن وذكرنا أن عمدة أدلته التمسّك بالمطلقات والعمومات الدالة على وجوب الحكم والقضاء التي يكون مفادها سماع الدعوى مطلقاً حيث لم يرد فيها تقييد بأنه يُشترط في السماع والحكم أن تكون الدعوى جزمية فيكون موضوع القضاء في الحقيقة ما يصدق عليه عنوان المخاصمة والمنازعة بغضّ النظر عن تضمّنها للجزم وعدمه .. ومن هنا يُلتزم بمساوقة الدعوى لهذا العنوان [1] .
 ويُلاحظ على ما تقدّم :
 أولاً :

منع انعقاد الإطلاق في هذه الأدلة بناءً على ما تقدّم من أن أدلة الحكم والقضاء مختّصة بالدعوى التي قد أُخذ في مفهومها الجزم بحيث لا تصدق في غير مورد الجزم إلا بالعناية والمجاز وحينئذ فلا محالة تكون هذه الأدلة الدالة على وجوب الحكم والقضاء مختّصة بالدعوى الجزمية .
 وثانياً :

إنه على تقدير التسليم بتمامية الإطلاق في أدلة الحكم والقضاء - فتكون شاملة للدعوى مطلقاً جزمية كانت أو غير جزمية كما لو فرضنا أن موضوع تلك الأدلة هو المخاصمة والمنازعة التي من الواضح عدم أخذ الجزم في مفهومها - فحينئذ يقال إنه لو ورد دليل يدلّ على اشتراط الجزم فسيكون مقيّداً لذلك الإطلاق فتكون تلك الأدلة مختّصة حينئذ بالدعوى الجزمية .
 وأما القول الثالث : - وهو التفصيل بين صورتي التهمة وعدمها فإذا تضمّنت الدعوى اتّهاماً للمدّعى عليه فتُسمع وإن لم تكن جزمية وإن لم تتضمّن فلا تُسمع إلا إذا كانت جزمية فقد استُدلّ له بأدلة ثلاث :
 الأول :

كونه مقتضى القاعدة .
 الثاني :

جريان السيرة العقلائية .
 وحاصل هذين الدليلين دعوى أنه في صورة كون المدّعى عليه متّهماً فإن القاعدة تقتضي أن من حقّ صاحب الدعوى أن يقيم دعواه ولو لم يكن جازماً بها [2] والسيرة العقلائية جارية أيضاً على ذلك كما في قضايا القتل - مثلاً - فإن المدّعي قد لا يكون جازماً بأن القاتل هو هذا الشخص وإنما كان محتمِلاً لكونه كذلك لبعض القرائن الخاصة الموجبة لاتّهامه ومع ذلك فإن من حقّه أن يقيم الدعوى وتكون دعواه مسموعة كما هو المشاهد خارجاً من قيام السيرة على ذلك .
 وهذا الكلام إن تمّ - سواء استُدلّ له بالروايات كما سيأتي أو ببناء العقلاء وسيرتهم - فلا إشكال في أنه يكون موجباً للتفصيل في موارد الدعوى فتُسمع مع التهمة ولو لم تكن جزمية ولا تُسمع مع عدم التهمة إلا إذا كانت جزمية .
 وبعبارة أخرى : إن صورة التهمة لا بدّ من استثنائها من القول باشتراط الجزم لقيام الدليل الخاص في موردها إما للروايات الآتية أو لكونها مقتضى القاعدة أو لقيام السيرة العقلائية الممضاة شرعاً بعدم الردع فيكون هذا تخصيصاً لما دلّت عليه الأدلة السابقة من اشتراط الجزم واستثناءً منها فتكون النتيجة صحة هذا القول من التفصيل في الدعوى بين صورتي التهمة وعدمها .
 الثالث :

الروايات ، وقد ذكر السيد الخوئي (قده) ثلاث روايات في المقام :
 الأولى :

صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمّن القصّار والصائغ احتياطاً للناس وكان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً " [3]
  [5] .
 وتقريب الاستدلال بها هو أنه يُفهم منها أنها تتحدث عن دعوى لدى الحاكم بين صاحب المال والقصّار - أو الصائغ فالطرف الأول يدّعي على الثاني إتلاف ماله وهذا الآخر يُنكر ذلك والحاكم في دعوى من هذا القبيل يحكم لصاحب المال على القصّار - أو الصائغ ويضمّنه ما تلف عنده مطلقاً [6] مع أنه لم يُفترض أن صاحب المال كان جازماً بدعواه وبقرينة مفهوم الذيل من تضمين الإمام (عليه السلام) له إذا كان غير مأمون [7] تكون الرواية دالة على سماع الدعوى غير الجزمية إذا كان الطرف الآخر متّهماً .
 ولكن يُلاحظ على هذا الاستدلال أن الرواية غير ناظرة إلى مسألة إقامة الدعوى وسماعها وليس فيها ما يشير إلى ذلك إطلاقاً وإنما هي ناظرة إلى مجرّد إيجاب الضمان مطلقاً على القصّار والصائغ وأمثالهما احتياطاً لأموال الناس [8] فتكون أجنبية عن محل الكلام ولا يمكن أن نستفيد منها ما ذُكر من أن الدعوى في موارد الاتهام تُسمع من قبل القاضي ولو لم تكن جازمة حتى نقيّد بها ما دلّ على اعتبار الجزم مطلقاً .
 الرواية الثانية :

معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : سألته عن قصّار دفعتُ إليه ثوباً فزعم أنه سُرق من بين متاعه ، قال : فعليه أن يُقيم البيّنة أنه سُرق من بين متاعه وليس عليه شيء ، وإن سُرق متاعه كله فليس عليه شيء " [9] .
 هذه الرواية رواها الشيخ الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عمن ذكره عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، والظاهر أن المراد بـ (من ذكره) هو علي بن نعمان بقرينة ما في سند الشيخ الطوسي من روايتها عن أحمد بن محمد عن علي بن النعمان عن ابن مسكان عن أبي بصير فيرتفع الإرسال عن سند الكليني ، ولو مُنع من ذلك فسند الشيخ الطوسي معتبر فتكون الرواية معتبرة ولا يضرّ وجود الإرسال حينئذ في سند الكليني .
 وتقريب الاستدلال بهذه الرواية من جهة أنها تفرّق بين حالتين : حالة ما إذا كان المدّعى عليه موضع تهمة بأن ادّعى أن الثوب سُرق من بين متاعه فهاهنا تجب عليه إقامة البيّنة فإن أقامها فليس عليه شيء ويُفهم منه أنه إذا لم يُقِمْها يكون ضامناً ، وحالة ما إذا لم يكن موضع تهمة بأن كان قد سُرق متاعه كله فليس عليه شيء فيقال إن هذه الرواية تدلّ على المطلوب من حيث إنها تُفصّل بين صورة الاتهام مع كون المدّعي غير جازم فتُسمع الدعوى حينئذ وصورة عدم الاتهام فلا تُسمع الدعوى إلا إذا كانت جزمية [10] ويقال إنها تدلّ على محلّ الكلام باعتبار أن هذا الطرف يتّهم الآخر في صدق دعواه من أن الثوب سُرق من بين متاعه فيقيم عليه الدعوى لدى القاضي مع كونه غير جازم بأن المدّعى عليه قد استولى على ثوبه وهو لا يريد إرجاعه بل يحتمل ذلك من جهة تخصيص الطرف الآخر للسرقة بخصوص الثوب والقاضي يسمع هذه الدعوى وإن لم تكن جزمية .
 ولكن ليس من الواضح ظهور الرواية في ما هو محلّ الكلام من سماع الدعوى في مورد التهمة وإن لم تكن جزمية فإن الرواية وإن ذُكرت فيها البيّنة وبهذا تختلف عن الرواية السابقة حيث لم يُذكر فيها ذلك إلا أنه لا ينحصر تفسيرها بما ادُّعي بل من الممكن تفسيرها بنحوٍ لا يكون لها ارتباط بمحلّ الكلام وهو أن الرواية إنما تتحدّث عن حكم شرعي بتضمين القصّار قيمة ما تلف من المال الذي عنده إذا كان متّهماً ولم يأت ببيّنة تشهد لصاحب المال على صحة زعمه أنه سُرق بخصوصه من بين متاعه وبعدم تضمينه إن لم يكن متّهماً كما لو كان المتاع جميعه بما فيه ذلك الثوب قد سُرق .. وهذا لا علاقة له بمحلّ الكلام من الدعوى وسماعها وكونها جزمية أو غير جزمية ، ويكفي في مقام ردّ الاستدلال مجرّد كون ذلك التفسير محتملاً .
 الرواية الثالثة :

صحيحة جعفر بن عثمان :
 " قال : حمل أبي متاعاً إلى الشام مع جمّال فذكر أن حِمْلاً منه ضاع فذكرتُ ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام) قال : أتتّهمه ؟ قلت : لا ، قال : فلا تضمّنه " [11] .
 هذه الرواية تامة سنداً وهي ظاهرة في التفصيل في الضمان بين صورتي الاتهام وعدمه ففي صورة الاتهام يكون من حقّ صاحب المتاع أن يُضمّن الجمّال بعد عدم وجود بيّنة له بمقتضى الرواية السابقة ، وفي صورة الاتهام لا يكون من حقّه ذلك .
 ويرد عليها ما ورد على سابقتها من أنه ليس فيها ما يشير إلى محلّ الكلام من الدعوى وسماعها فإنها تتحدّث عن حكم شرعي بالتفصيل بين حالتين من غير افتراض دعوى ومرافعة .
 ومن هنا يظهر أن استفادة المستدلّ لمطلوبه من هذه الروايات الثلاث ليس واضحاً ، نعم .. هناك روايات أخرى استُدلّ بها على هذا القول من التفصيل في سماع الدعوى غير الجازمة بين صورتي الاتهام وعدمه وسيأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى .


[1] يعني عنوان المخاصمة والمنازعة .
[2] أقول : الوجه في ذلك حسب ما يتراءى في النظر القاصر أن الأمر يدور واقعاً بين كون المدّعي مصيباً في دعواه أو مخطئاً وعلى تقدير الإصابة فإما أن يثبت للقاضي ذلك - أي كون المدّعي مصيباً - فيحكم له فتكون الدعوى حينئذ سبباً لاستنقاذ حقّه أو لا يثبت له فلا يكون قد دخل ضرر معتدّ به على المُدّعى عليه بسبب الدعوى ومن هنا كان مقتضى القاعدة جواز إقامة الدعوى مع التهمة فإن احتمال ثبوت المُدّعى به في ذمة المُدّعى عليه يكون قويّاً مع التهمة فيكون هناك مبرّر لمراعاته ، وهذا بخلاف الحال مع عدم التهمة فإن الاحتمال لا يمتلك حينئذ سبباً للقوة يُبرّر مراعاته فلذا لا يكون مقتضى القاعدة في هذا الحال جواز إقامة الدعوى .
[3] الكافي مج5 ص242 ، الوسائل أبواب أحكام الإجارة الباب التاسع والعشرون الحديث الرابع مج19 ص142.
[4] قال (دامت بركاته) : " الظاهر أن لفظة (يتطوّل) اشتباه والموجود في المصدر هو (يتفضّل) وهو الأصحّ " .
[5] أقول : وجدت الرواية بلفظ (يتطوّل) في الكافي بطريق علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي ، وكذا وجدتها في الاستبصار بالطريق نفسه ، وأما في التهذيب فيوجد للرواية نقلان كل نقل بطريق : أحدهما : بالطريق المذكور في الكافي وبلفظ (يتطوّل) ، والآخر : بطريق الحسين بن سعيد عن فضالة وأبي المغرا عن أبي بصير بلفظ (يتفضّل) .
[6] أي ولو كان مأموناً ، غاية الأمر أنه يجوز للإمام (عليه السلام) بمقتضى الولاية أن لا يضمّنه تطوّلاً إذا كان مأموناً .
[7] أي كان متّهماً .
[8] وأما مسألة الالتزام بهذا الحكم أو لا فهي أمر آخر فإن لهذا الحكم معارضات ليس هاهنا محلّ بيانها .
[9] الكافي مج5 ص242 ، التهذيب مج7 ص218 ، الوسائل مج 19 ص142 .
[10] لا يخفى أن الرواية وإن كانت غاية ما تدلّ عليه في صورة عدم الاتهام هو عقد المستثنى منه [أعني عدم سماع الدعوى في حالة عدم التهمة] إلا أنه يُرجَع في الاستدلال على المستثنى [أعني سماع الدعوى في حالة عدم التهمة إذا كانت الدعوى جزمية] إلى ما دلّ على اشتراط الجزم مطلقاً فإن هذه الصورة من تطبيقاتها كما لا يخفى .
[11] الكافي مج5 ص244 ، الوسائل أبواب أحكام الإجارة الباب الثلاثون الحديث السادس مج19 ص50 .